الثلاثاء، 30 يناير 2024

السينما في تونس - 3

 


محمد عبيدو 

 اتبع الطيب الوحيشي دراسته "Goree, Grand Father’s Island" الذي صوره في السنغال عام 1987 بفيلم "مجنون ليلى" عام 1989 .

وسيمضي الناصر خمير خطوات أبعد باتجاه الفانتازيا في فيلمه الثاني "طوق الحمامة المفقود" عام 1990الذي يتضمن شخصيات خيالية تجسد تراث وأساطير الماضي.

وقام ناصر خمير باستكشاف جديد لثراء تقاليد الرواية الشفهية في "طوق الحمامة المفقود" . ، هو ملحمة بصرية وسمعية مدهشة تتكامل فيها عناصر التكوين في الصورة مع براعة النص المحكم إضافة إلى حالة من السرد الناعم للمشهد الأندلسي بكل ثرائه و روعته . ويلجأ المخرج في هذا الفيلم إلى تصوير مشاهد حديثة أسطورية، تستند إلى التصميم الفني والجماليات البصرية والتشكيلات الغرائبية المبهرة.. ولكن بدون اللجوء إلى الخدع والمؤثرات البصرية التي تحتاج إلى تقنيات معقدة.

الفيلم يطرح نموذجاً للمعادلة الصعبة التي يقول الكثيرون من المبدعين بأنها مستحيلة ، فهو يطرح قضية في غاية الجرأة ، وهي (( ماهية الحب )) منطلقاً من سطور في كتاب (( طوق الحمامة )) الفقيه الأندلسي الشهير " ابن حزم " ، وهو - أي الفيلم - يضعك وسط أزقة الأندلس ، ويدخل بك مساجدها دون أن ينفق جهداً كبيراً في تحديد العصر أو المدينة التي تجري بها الأحداث .

في الحقيقة أن المخرج تألق في استخدام أدواته الفنية ، ومعارفه المتنوعة من العمارة و الفلسفة و الفن التشكيلي ليرسم لك الصور مشهداً مشهداً ، ويضع المعاني متوالية تنفذ إلى العقل والقلب ، وهو يناقش مسألة الحب من منظور هذا العصر المجيد حين كانت المساجد هي مجالس العلم الذي يشمل كل معارف الدين و الدنيا ...

فتجد نفسك داخل درس للشيخ الذي يشرح الأسماء المختلفة للحب ، ومعانيها ولا يكتفي الفيلم بذلك ، بل يتضمن نقداً سياسياً لاذعاً للاستبداد و الفوضى في الصراع بين الطغاة و المستضعفين الذي يتكرر عبر مراحل التاريخ المختلفة .

ورغم أن الخيال يتداخل مع الواقع طوال حكايات الأحداث ، والشعر ينساب جنباً لجنب مع رواية الأحاديث الشريفة ، وتشكيلات الخط العربي تخطف بصرك و الموسيقى المصاحبة تشد أذنيك ، ورغم الاحتشاد المتلاحق للكلمات والمعاني ، والمفردات والأدوات الفنية فإنك لا يمكن أن تشعر بالتشويش أو التناقض أو التداخل ، بل ستشعر بتضافر كل هذه المفردات لتعيش الحالة الساحرة التي يصنعها هذا العمل المدهش .



فيلم (( خريف 86 )) للمخرج رشيد فرشيو 1990 يتحدث عن قصة حب بين صحفي وكاتب معروف وسكرتيرة يعينها لديه لتطبع له كاتباً على الآلة الكاتبة .. تجري بينهما قصة حب رقيقة لكن أحدهما لا يجرؤ بالبوح بها للآخر ، يمنعها حياؤها وكبرياؤها وهو يمنعه ذلك الصراع الداخلي الذي يعانيه بين بقايا الحب الذي يكنه لزوجته السابقة وبين فارق العمر الكبير بينهما .. ورغم أن المخرج أصر على أن فيلمه سياسي إلا أن ملامح قصة الحب تطغى على الفيلم .. والفيلم بعيد عن الشارع التونسي ولا لواقع الطلبة . وسمات المرحلة التي يعرض لها الفيلم والحوار كان أكثر حضوراً على حساب باقي العناصر الجمالية .



فيلم (الحلفاويين) أو (عصفور السطح) للمخرج فريد بوغديرالمنتج عام 1990 ، من أفلام السيرة الذاتية، كما أعتبره الكثيرون، أنه يتضمن مشاهد من ذاكرة مؤلفه ومخرجه أثناء طفولته في ذلك الحي الشعبي الشهير بالعاصمة التونسية حيث نشأ وتفتح وعيه وسط شخصياته وبين أسواره وظل يحمل الكثير من ذكرياته بين جوانبه.

أن فيلم بوغدير الأول هذا ينتمي لتيار السينما العربية الجديدة التي لا تعتمد على قصة محكمة الأطراف تتصاعد فيها الدراما وصولا إلى الذروة وأن طريقة البناء التي يستخدمها المخرج تعتمد على التداعي الحر الذي يصنع نسيجا شديد الحيوية، يدور حول شخصية محورية لصبي يتطلع إلى ما يحدث حوله من خلال نظرته الشخصية، ولعل الهاجس الجنسي هو أكثر الهواجس التي لم تطارد الصبي وحده، بل تملكت أكثر الشخصيات المحيطة به ويسعى الفيلم من خلال اختيار هذا الجانب المسكوت عنه في ثقافتنا العربية إلى سبر أغوار موضوعات راسخة في المجتمع العربي هي موضوع الجنس والعلاقة مع الأنثى والنظرة الذكورية للمرأة في مجتمع متخلف وقد نجحت كاميرا بوغدير في التسلل لتصوير أكثر المشاهد خصوصية داخل الحمام الشعبي للنساء. أن الحمام هنا هو معادل التحرر والحرية ولأن موضوع الفيلم الرئيسي يدور حول الكبت أو القمع الأبوي الذكوري، فإن البطل الصغير يسعى إلى التحرر من سيطرة الأب في معادل حسي جنسي بمحاولة قطف الثمرة المحرمة.

(الحلفاويين)يثير الاعجاب ليس فقط لتصويره الصادق لمجتمع الكبت الموروث والقهر الاجتماعي والنفسي ونفاق الذات، بل أيضا في سحره الخاص بإيقاعه الموسيقي الموزون، واكتشاف الأماكن الصحيحة واللقطات الشفافة والموسيقى الناعمة، ولهذا يعتبره أحد أهم الأعمال المهمة في السينما التونسية والعربية عموما التي تتعامل مع التعبير الذاتي للفنان

والحلفاوين هي منطقة شعبية في تونس، وعصفور السطح هو ذلك الصبي الصغير، ابن المخرج بالمناسبة، الذي تتشكل مخيلته عن الجنس الآخر، والعلاقة به عبر تفاصيل الحياة اليومية.

الأحداث طوال الفيلم مقدمات لحفل كبير سيقام في منزل هذا الصبي لختان أخيه الأصغر، والسرد ناعم، ولكنه شديد الجرأة يحاول استكشاف العالم الجنسي لطفل يعبر إلى مرحلة المراهقة في مجتمع تقليدي تتشابك فيه العلاقات بين الرجال والنساء.

إذا تجاوزت صدمة الانتقال فستجد الطفل ينضج وتتشكل مخيلته الجنسية تدريجيا عبر الحكايات والأساطير التي سمعها صغيرا، والمشاهد التي يختلسها أو الكلمات التي تصل إلى أذنيه، وتجارب الطفولة التي تجاهد لتعرف ما وراء الستار، وترتبك أمام تعريفات متنوعة وملتبسة للرجولة وماهيتها، وتبحث عن تأكيد هويتها الجنسية بالتعرف على هوية الطرف الآخر فيتضح الفارق، ويتأكد الاختلاف.

وهناك الخالة التي تأخر زواجها فتتشنج تارة، وتتدلل تارة أخرى راغبة في الشيخ صديق الأسرة، ولكنه معرض عنها، وهي ترفض إراقة ماء وجهها، فلا بد أن تكون الخطوة الأولى منه.

وهناك ابنة العم الناضجة المطلقة والتي جاءت للعيش مع الأسرة وهي متحررة نسبيا عن الباقيات، ورافضة للاستجابة لمحاولات الإغواء من الأب سيد الدار الذي لا يكف عن ملاحقة الحسناوات مع الحفاظ على مظهره الصارم القاسي أمام أهل بيته وولده.

وهناك الفتاة المراهقة التي تأتي للخدمة في الدار فتكون رافدا من روافد تشكيل مخيلة الطفل بطل الفيلم، وساحة من ساحات تجريبه وعبثه الطفولي.

صورة لعالم متشابك من الرغبات والحكايات لا يتعرى جهارا ، ويحب الستر، ويحرص على وجود ستار بين الرجال والنساء مهما كان هذا الستار رقيقا ليحافظ على حدود، غالبا ما تكون مرنة، وقابلة للتجاوز حسب الظروف.


و اتحد كل من محمود بن محمود و فاضل جيبي ليقدما "شيشخان" عام 1992 العنوان الغريب للفيلم ، " شيشخان " ، هو اسم سوار يتداوله الأبطال .. فمن المعروف أن لقطع الحلي الثمينة أسماء خاصة بها .. كأن يقال " زمردة تيمور " ، أو " جوهرة البنغال " ، أو " ماسة جبل النور " .. وليس لسوار " شيشخان " في الفيلم قيمة مادية فحسب ، بل هو ، في المحل الأول ، قيمة معنوية .. إنه يمثل النبل والأصالة والماضي العزيز .. ورثه عباس ، أو جميل راتب ، أباً عن جد .. وفي بداية الفيلم ، قبل ظهور العناوين ، يهجم شاب قوي الجسم ، ضليع في الإجرام ، مسرف في القسوة ، على العجوز " عباس " .. ينهال عليه لكما ، ويطرحه أرضاً ليركله بقدمه ، آمراً بأن يحضر له " شيشخان " .. ثم يتركه متورم الوجه ، يلتقط أنفاسه بصعوبة ... امرأة تقترب من العجوز ، تساعده على النهوض .. ينظر لها جميل راتب ، المتألق ، بعيون تمتلئ بالامتنان .

البحث في أسس الخلاف بينهما .. وهنا لا يمكن التعاطف مع طرف ضد الآخر, وعلى هذا النحـو يلتقي الغريبان , ثم تبدأ الأمور بالانكشاف تدريجياً , فالعجـوز ليس غريباً تماماً عن المرأة التي ساعدته ... تمنـو أمامنا مجموعة علاقات عاطفية و عائلية تدور حول " ارث " يحمل اكثر من معنى و دلاله , ونجــد أنفسنا امام لعبة مجازية , وشخصـيات تكشف لنا الكثير عن حاضـر " تونس " وجزء من ماضيها , ثم نغوص في الذاكرة وفي العلاقات التي تصيغ للذاكرة معانـيها .

لكن الواضح أن الروح المسرحية غلبت على طابع الفيلم ..فالأماكن المغلقة ، والديكورات التي تبدو وكأنها منصوبة على خشبة مسرح متعددة المستويات ، والحوارات الطويلة التي تتحدث عن أحداث لا تعرض على الشاشة ، كلها أمور جعلت كفة المسرحي أثقل من كفة السينمائي .. ولولا اقتراب المصور الطلياني ، غلبرتو أزفيديو ، من وجوه الأبطال ، في لقطات كبيرة ، لكان " شيشخان " مسرحية خالصة .


لكن الاسم البارز في هذا العقد كان هو المخرج نوري بوزيد خريج ال IDHEC الذي قدم موضوعات وطرق مجالات جديدة تماما على السينما العربية و قدم أول أفلامه الروائية عام 1986 { ريح السد } الذي حاز عنه التانيت الذهبي بقرطاج و يغمس (( ريح السد )) موضوعه هذا في خصوصية بيئة محلية أصيلة ، هي بيئة مدينة صفاقس التي ينتمي إليها مخرجه النوري بوزيد . ومن تفاصيل هذه البيئة وعناصرها المكانية ، وكذلك من طبيعة ملامحها الاجتماعية وطقوسها وعاداتها الموروثة ، ينسج بوزيد معالجة موضوع فيلمه ، فيعطيه كينونة اللحم والدم والأعصاب ، وبالتالي صدق الشهادة وقوة تأثير الخطاب . ثم { صفائح من ذهب }عام 1988 و {بزناس } 1992الذي يحكي عن نموذج من الشبان التونسيين الحائرين بين التقاليد وبين الحياة الاستهلاكية , فهذا الشاب " زوفا " يؤجر جسده الفتي للسائحات ويحلم بممارسة الحياة العصرية والسفر , بينما هو مشدود الى تقاليد العائلة والحي . .

وفي أواخر الثمانينات و أوائل التسعينات ظهر –بالإضافة إلى بوزيد- عدد آخر من صانعي الأفلام ، منهم:

المخرج حبيب مسلماني بفيلم "صبرا والوحش" عام 1986 .

نجيب زواوي بفيلم "42 درجة في الظل عام 1986 .

علي لبيدي بفيلم "برق الليل" عام 1990 مقتبسا من رواية لبشير خريف .

فيتوري بلهيبا بفيلم "رقية" عام 1990 .

المخرج محمد علي العُقبي بفيلم "الززوات" عام 1992 .

المخرج احمد جيماني بفيلم "ريح المصائر" عام 1992 .

المخرج منصف دويبي –الذي كان معروفا من قبل بأفلامه القصيرة- بفيلم "سلطان المدينة" عام 1993 . : في وكالة قديمة , يعيش عدد من الأسـر علاقات متشابكة تسيطر عليها طقوس و تقاليد عتيقة ... " رملة " العذراء الشابة التي تعيش حبيسة غرفة صغيرة في انتظار عودة خطيبها ليخلصها من هذا السجن العتيق _ " فرج " شقيق المعتوه الذي تؤمن النسـاء بقدراته السحرية , يقنع " رملة " بالهرب معه خارج سجنها , لكنهما يعجزانفي النهاية عن تجاوز الحدود المرسومة التي فرضت عليهما .

فيلم" كش مات " للمخرج رشيد فرشيو المنتج عام 1994 ، مسرحي الطابع .. يدور ، في مكان واحد ، قصر أقرب إلى القلعة.. في منطقة معزولة ، يستقر فيها الرئيس السابق ، ليجمع شتات نفسه ، ويعيد حساباته ويستعد للعودة مرة أخرى .. وفي هذا " المكان الواحد " ، الذي يشبه خشبة المسرح ، يتحرك إلى جانب الرئيس أربعة أفراد : زوجته " ياسمين " ، حيث تقوم بدورها فرانسواز كريستوف .. وهي ، وإن بدت ناعمة وملساء من الخارج ، فإنها ، في داخلها ، على قدر كبير من خشونة تصل إلى درجة الشراسة ، تجيد التخطيط للمؤامرات وتحتفظ دائماً بزمام المبادرة يساعدها على تحقيق مآربها ، مساعد زوجها ، رجل المخابرات " سعيد " أو مازيد لاكال ، المخاتل ، الذي لا يتورع عن تغيير ولائه من سيد لآخر ... ثم يأتي إلى " القصر – القلعة " ، " مهدي " ، نيلز تافرنير ، الشاب الرقيق ، ابن الرئيس ، المختلف دائماً مع والده .. ومعه ، صديقته الأثيرة " مايا " التي تقوم بدورها شيريهان ، صاحبة الشخصية المنطلقة التي يكتنفها الغموض .

بهذه الشخصيات الأربع ، في علاقاتهما المركبة ببعضهما ، تنهض " دراما " الفيلم ، والتي لا تعتمد على الأحداث ، بقدر ما تعتمد على الحوار .. بل ولا يكاد " كش مات " يتضمن أحداثاً متعددة ، أو كبيرة . ولكن ثمة سلسلة من مواقف متوالية ، بين شخصيتين أو أكثر ، يدور بينهما ، أو بينهم ، حوارات صاغها كاتب الحوار ، المشارك في كتابة السيناريو ، حسن . م . يوسف ، على نحو مميز بحق ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق