الخميس، 11 يناير 2024

الغِنائيّة في الشّعْر العَربي - جمال الدين بن الشيخ

 ​


 

تقديم وترجمة: عبد اللطيف الوراري

جمال الدين بن الشيخ منْ فتنة الشّعر العربي القديم إلى القول الآسر في ألف ليلة وليْلة،مُروراً بالضّفاف الخصيبة الّتي تسْكنُها الشّعْرية العربيّة وروحانيّة الإسلام،قدّم جمال الدّين بن الشّيخ {1930ـ2005} عملاً مميَّزأً ولافتاً فتح فيه تراث العرب الأدبي والثّقافي على أسْئلة المنْهج الحديث ،وواجب المعْرفة وموردها،بغاية تهويته وإدْماجِه في سيرورة التّأْويل الّتي تُخْرجه منْ شرْنقة المنْع والتّقْديس،وتُحرّره من الرّؤْية الإسْتشراقية المُغْرضة.

هكذا،سوْف ينْكبّ ،بأريحيّة العارف،على الإخْلاص لدرْسٍ لنْ يتَوَانى في العمل على قضايا مركّبة ونُصوص إشْكاليّة ،وتفْكيكها بعْد إعادتها إلى ضوْء المعْرفة ،وتخْليصها من "اسْتراتيجيةالهيْمنة"في سياق العلاقة المُخْتلّة بين الذّات الغرْبية وموضوعاتها الوافدة من الشّرْق أساساً،بما فيه موْضوع الأدب الّذي تخصّص فيه اْبن الشّيخ ،الّذي لمْ تنْفصلْ قراءتُه له عن انْشغاله بأسْئلة التّحْديث في الفكر والتّاريخ والْمُجتمع .

وقد شكّل الشّعْر العربيّ ،بالنّسبة إلى جمال الدّين بن الشّيخ،صلة الوصْل الأولى لخوْض البحْث في الثّقافة العربيّة،ومرجع ذلك إلى عدّة أسْباب مِنْها أنّ خطاب الشّعْر كانت له أسْبقيّة داخلها لاْعتباراتٍ فكْريّة ،لغويّة وجماليّة.توجَّه، في بداية عمله النّقْديّ،إلى الإهْتمام بخمْريّات أبي نواس وأشْعار المتنبّي بحْثاً وترْجمة،مثْلما خصّ الأنْسكلوبيديا العالميّة بدراسة لمّاحة حول"الغنائيّة في الشّعْر العربيّ"1 تكْشف فجاجة التّصوُّر الذي يختزل تاريخ هذا الشّعْر في أنّه "شعْرٌ غِنائيٌّ" كما كرّستْ ذلك الدّراسات الإسْتشْراقيّة ،رافضاً أنْ يخْضعه للتّمرْكُز حوْل الذّات الغرْبيّة ،ولسلْطة التّسْميّة فيها،ضمْن الإهتمام الأوربّي بالتّعرُّف على آخرهم "الشّعْريّ"في الثّقافات الوافدة عليْه من الشّرق[العربيّة،الفارسيّة،الصينيّة واليابانيّة تحْديداً].كان العُبور إلى البناء النصّي في تأمُّل الغِنائيّة العربيّة حاسماً في تحْليل ابن الشّيخ ،حيْثُ يتعاضدُ البحْثُ في شكْل القصيدةِ وتركيبها الأغْراضي مع البحْثفي لُغتِها ومراجِعِها بيْن الواقع والْكِتابة،اللِّسان والفَرْد،وما يترتّب على ذلك منْ إنْشاء الرُّؤْية الغِنائيّة في العالم بحسَب الذّوات الشّاعرة ،في غيْر عصْرٍ مُعْطى.هو ذا النصّ الذي نعيد اكتشافه ثانيةً :


إلى حُدود القرْن العِشْرين للميلاد، ظلّ الأدب العربي ينْتسِبُ،في جوهره ،للشّعر. ويلتبس تطوُّر الغنائيّة مع تاريخ الشّعر ،الّتي تجدها، للتوّ، تعبيرها الأكثر تمثيلاً في القصيدة: تأليفٌ احتفاليٌّ موقوفٌ على المديح أو على الهجاء. وقد جرت، في بحر الفترة السّحيقة، على ألسنة شُعراء البادية، قبْل أن تصير على أيدي الشعراء الذين استقروا بالمراكز الحضرية للإمبراطورية مدرسةً جالبةً للربح؛ وستظل القصيدة، التي أوجد لها المنظرون القواعد في القرن الثامن للميلاد/الثالث للهجرة- جنساً مهيمناً.

ومع ذلك، كان الإنتاج يتنوّع ابتداء من سجلاّته الأغراضية. فالمقدمة الغزلية التقليدية (النسيب) لم يعد بإمكانها أن تتضمن الشكوى الهائمة لمجنون ليلى، ولا البحث عن الحب الذي شرع فيه عمر بن أبن أبي ربيعة بالحجاز. ونتيجةً للتمدن واختلاط الأعراق نشأت مدرسة التظرُّف ببغداد قادها العباس ابن الأحنف، مجد الظرف العربي. ويفرض شعر الخمريات نفسه مع مجموعة من المتحررين يتزعمها أبو نواس، ويعرف التأمل بإزاء الوجود والموت مع أبي العتاهية حظّاً عظيماً، وفي الأندلس، يقترح الشعر المقطعي للموشح والزجل غنائية أكثر ملاءمة للحساسية العامة ولسخاء الطبيعة.

إن هذه السبل، المرسومة للغالبية منذ القرن السابع للميلاد، ستنفتح دون غيرها على الإبداع. ويتفق الإستقرار المدهش للبنيات السوسيوثقافية وثبات عددٍ مهمٍّ غير يسير من الأنواع واسْتمرار مصادر الوحي. ومن الحريّ أن نصلح خطأً ظلّ لزمن طويل جارياً: إن القصيدة لا تختلط مع الغناء حتى في العصر القديم، بل ترتَّل، وتُنشد مع التقطيع الذي يأثر عنه الإيقاع، وليس بالضرورة أن تصحبها الميلوديا. وساهمت أغاني الظاعنين من على الجمال، والأدعية التعويذية من طبيعة سحرية، وكل أشكال الخطاب المغنّى في تحديد الشعر، وضبط لغته وبعضٍ من طرائقه؛ غير أنه يجب التمييز بينها. ولقد أقام نشاط الموسيقيين – المغنّين بالحجاز، الذي شكّل تدخله حسماً في مجال الحب الظريف، ونشاط أتباعهم بأرض العراق فيما بعد، الدليل على أن الإبداع الشعري ليس مستقلاًّ عن التأليف الموسيقي الذي يستلهم منه.

وتعبر الغنائية العربية عن نفسها في ثلاثة سجلّات رئيسية: الحب، الطبيعة والفضائل الإنسانية. ولكنها تكمن بدرجةٍ أقل في تناول الأغراض المستهلكة بطرائق مبتذلة مما هي عليه في بنيات القصيدة وتركيب قائمة البيت ثم بالأخص في طبيعة اللغة. "إنّ قائمة العواطف العظيمة، التي تمثّل قانون الإنسانية المشترك، لهي نفسها تمدّ موضوعاتها بإلهام لا يستنفدها". ويشير جان كوهن إلى ذلك بخصوص الشعر الغنائي: "إن الشاعر شاعر لا بما فكر فيه أو أحسّ به، بل بما قاله. إنه مبدع الكلمات لا الأفكار"، بمراعاة كيف أن اللغة، داخل القصيدة، تتجاوز ابتذال المحتوى لأجل أن تُظهِر شعرها.


لقد بات معلوما التقسيم الثلاثي للقصيدة، فهناك النسيب أوّلا، مقدمة غزلية تنشأ عن زيارة مضرب الخيام المهجور، والفراق عند ضوء السَّحر، أو تنشأ عن ظهور طيف المرأة. وانطلاقا من هذه الوضعيات المتفق عليها، التي غالباً ما توظف تخييل الذكريات البعيدة، يستعيد المحبّ هواه في ألفاظ إباحية أو ظريفة. يقدم النسيب نفسه كاندماجة Conglomératحوافز وأضرب تيماتية. ثم الرحيل الذي يأتي تالياً، وهو السّير إلى الممدوح، عبر الصّحراء ومخاطرها، يصف الشّاعر فرسه، أسْلحته، الحيوانات المتوحِّشة وقوى الطّبيعة التي تعترض طريقه. وهو ما يعتبر المكان المميّز للغنائية الوصْفية. وأخيراً يتقدم المديح كإشادة بالسّيد، وتمجيد فضائله، نسبه، وغزواته.

وكان مقتضى الأصول، الذي وعى به الشعراء بدايةً من القرن الثامن للميلاد، وصاغه علماء الشعر بوضوح، يحافظ على الحركة التي تخترق القصيدة. ويوجه وجود المشروع المدفوع به إلى أقصاه الشاعر بشكل لا يعدم انغلاقه. وباتت القصيدة لا تدرك كتركيم لتناميات مستقلة متجاوزة من خلال الصنعة، بل كتتابع لملفوظات تتقدم باطّراد.

فيما الشيء الذي يصعب إدراكه هو أن المتواليات الأغراضية لا يكون بعضها ملتحماً ببعض من خلال روابط الانتقال الدلالية: كل بيت شعري يجب أن يضمّ ملفوظاً دون إمكان تجاوزه نظريّاً إلى البيت الموالي. وأخيراً لا تتحقق وحدة القصيدة، فعلاً، عبر الاتفاق الغرضي الذي يتحكم في تنظيمها. ولا تملك القصيدة من دلالة شعرية إلا ما به تدرك كعرْض أغراض طقوسيّ. ولسنا نمسك، بشأن هذه السلسة الخطية، إلا بالمعمار الظاهر والحركة المختلفة. وليس إلا في اللغة يجب بحث حقيقة الشعر وواقع الشكل.

يجب أن تحلل القصيدة كسلسلة من المقاطع باقتدار لغوي: إن المقدّمة الغزلية، الناشئة في الأغلب من كليشهات وصيغ، تكون هنا متصلة بوصف الأصهب أو الأصيل أو المهري من الجياد. وهكذا فالمعجم الحيواني، مع كلماته الوعرة، الغريبة، ذات الأصوات البراقة، يرفع عنه الارتباط ويقيم نجاح البيت، حتى وإن كان لا يستعيد إلا واقعاً مكروراً. وفي جهة أخرى، يسمح وصف التحمُّل والصراع الفردي أو وصف التيه الطويل في العزْلات القاتلة للصحراء للشّاعر أن يغترف من الغنى الهائل للِّسان بغرض أن يعمل على بعث، بألفاظ نادرة، الشِّعْر المجهول من الفكر المتواضع عليه طبعاً. ولا تثير لحظات الكثافة المعجمية القوية هاته عند السّامع القبول فقط، بل وكذلك الإنفعال وهو ما يبسط نفوذ الكلمة العربية التي تستهلك الواقع الموصوف وتستعيض عنه بواقع خطابها الخاص. ويتجلى هذا الأخير كتتابع لأطوار صاعدة وأخرى هابطة للغة التي لا تنضبط إلى المتواليات الأغراضية انضباطاً قويّاً. وتطبع هذه التناوبات بحركتها القصيدة التي بدونها تنحلّ في تفاهة الحوافز حقيقةً وإن كانت لا تحظى بانتباهنا. إن الغرض له وظيفة منظمة للقصيدة وليست مولّدة للشعر.

ولا يكتفي الشاعر، مع ذلك، باستثمار إمكاناته المعجمية، بل يستخدم، في المحور الصَّوتي، جميع الوسائل التي تمدُّ بها البلاغة له. ويكثر استعمال الصور المضمنة في المجال الرّحب للبديع، باللجوء إلى المحسنات وهو يستعمل الجذر نفسه مثنى وثلاثاً مُبْقياً لمشتقاته على معناها الحقيقي. ما أن تتقدم أدنى مفردة في وفرة ارتباطاتها الصوتية، حتى تنشأ مجموع إيقاعات تبسط تعرجاتها باتجاه القافية، وترد هذه الأخيرة موحّدة مهما يكن عدد الأبيات يقفل كلَّ ملفوظ فيها نفْس ُالصَّوامت كترْجيعٍ يعاود نفسه ،بغير انقطاع. فيما القافية، في الشعر العربي، تغزو البيت الشِّعري أفقيّاً، وتُدير، صحبة الوزن، توزيع كُتَله الإيقاعية وتؤكد قوّتها التعزيمية. إن الغنائية اللَّفظية تأتي لتسند، بشكل باهر، الإلهام. وسوف نفهم قوتها لما يكون لهذا الأخير ما يرفده من اللحظات المجيدة لميسم الأمة.


لا يكرر الشعر العربي التجربة المعيشة، أو يكف سريعاً عن أن يصنعها. ليس الواقعي ما يرتاده، بل وسائله اللّسانية التي يستثمرها. في مرحلة الواقعية يعبر الشاعر أثناءها عن الموضوع بإتقان، وتعقبها مرحلة تثبيت الكتابة التي تستمد منها تعبيريتها. ولنا في إنتاج الغزل الإباحي مثال ساطع. إن المرأة ليس لها مكان في الثقافة إلا بوصفها أسطورة، بالحقيقة الصاخبة والإنسانية للحب يستبدل التخييل الذي يدعي احتواء فن المحبة المرهف وتحديده دون غيره. من هنا، ولقرون طويلة، ثبات السجل الأغراضي، اللجوء إلى الكليشهات نفسها وتبني المواقف نفسها. لا يجب أن يقاس هذه المحو التصاعدي للواقعي بإلغاء كل مرجع صرف: وهو ما سيجعل الأمر عادياً. يجب أن يحكم على الواقعي بالإستحالة أو الوجود حال تورطه في الابداع من أجل أن يفرض نفسه على صيغه، ويبدع لغته الخاصة وينشئ الرؤية الجديدة للعالم.

بخلاف ذلك، فإن اللغة المبنية سلفاً هي ما يعكس الثقافة الجامدة، التي تعرض واقعها الخاص وتقاوم كل ضغط خارجي، ولذلك فهي تهجر كل مرجع على عالم يتبدل، تكبت الخاص وترفض كل خفقان شخصي. وحده المشترك قابل للشعرنة، لأنه يضمن دوام الكتابة، ولا يضر ذلك فقط بالحب. إن غنائية فروسية البادية، والنشوة الخمرية، والتأمل الحكمي ووثباته السرية كلها متضمنة في اللسان الشعري الثابت وعبره. إنه متخيل الشاعر "وحده من يعيد حمل الوجود الجاهز للفراغ".

وهو ما أعطى مكاناً للإستعمالات الجديدة اللافتة للنظر حيث تستعاد مفردات الحب التي عبَّر بها المتصوفة عن عشقهم الإلهي، وتعثر المفردات الخمرية لأبي نواس على نفسها ثانيةً عند ابن الفارض، كما يستفاد من صور المباهاة في الحرب إذْ يقع ضراب السيوف على كاهل الخيول في أيامنا بوصف معركة الدبابات وإذكاء الغنائية الثورية. أما مشاعر الشجاعة، العزة والشرف سوف يحتفى بها في الخطابات الأقرب إجمالاً من المعلقات. ولا يكف كل من الحنين إلى الماضي المجيد والشعور المفاقم من قيمته، والإحساس الحاد بالزمن الذي يخترقكم، والانتظار المستسلم بل القلق إزاء الموت من هذه الموضوعات الكبرى للشعر القديم عن أن يردد أن العربي ما فتئ يصير إنساناً حديثاً.

وتستمر الرؤية الغنائية للعالم، أكانت عدوانية أو أخوية، على هذا النحو عن طريق السحر السامي للكلمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق