الأربعاء، 17 يناير 2024

هذا الحب - جاك بريفير



حتى لو أنه عنيفٌ / هشٌ / لطيفٌ / يائسٌ

فهذا الحب جميلٌ، كما النهار

وكما الطقس، رديء.

هذا الحبُ

حقيقيٌ / جميلٌ / سعيدٌ / بهيجٌ

و… مثيرٌ للشفقةِ

مثل طفلٍ يرتجفُ خوفاً في الظلام

و… واثقٌ من نفسه

مثل رجلٍ هادئ في منتصفِ الليل

هذا الحبُ الذي

أخافَ البعض

دفعَهم للكلامِ

وشحَّب وجوههم

هو الحبُّ الذي انتظرناه

طريداً / جريحاً / منبوذاً / منتهياً / منفياً / منسياً لطالما

طاردناه .. جرحناه .. نبذناه .. أجهزنا عليه .. نفيناه ..

ونسيناه.

هذا الحبُّ بأكملهِ

حياً لا يزال

ومضيئاً كلياً

انه لك … انهلي

ذاك الذي كان

هو هذا الشيء الدائم التجدد

ولم يتغير

وحقيقيٌ أيضاً مثل غرسةٍ

ومرتجفٌ أيضاً مثل عصفورٍ

دافىءٌ ومفعمٌ بالحيويةِ مثل الصيف .

كلانا …

يمكننا الذهاب والعودة

يمكننا أن ننسى ومن ثم نعود للنوم

نستيقظ .. نعاني .. نشيخ

ونعود أيضاً للنوم

نحلم بالموتِ

نوقظ الضحك والابتسام و… نتجدد

حبنا يبقى هناك

جامحٌ كحصانٍ

حيّ كالرغبةِ

وحشيُّ كالذاكرةِ

أحمقٌ كالندمِ

لطيفٌ كالذكرى

باردٌ كالرخامِ

جميلٌ كالنهارِ

هشٌ كطفلٍ ينظر إلينا مبتسماً

يُحدِّثُنا دون أن يقول شيئاً

وأنا ، مرتجفٌ ، أسمعُ …

أصرخُ

أصرخُ من أجلك

أصرخُ من أجلي

أرجوك

من أجلك / من أجلي / من أجل المحبين

ومن أجل الذين لا أعرفهم

ابق هناك

هناك

حيثما أنت فيما مضى كنت أنت هناك

ابق هناك

لا تتحرك

لا ترحل بعيداً

نحن العشّاق لن ننساك

فلا تنسانا

نحن الذينَ ليس لنا على الأرض غيرك

لا تتركنا … نرتعش برداً

وأبعد من ذلك بكثير

ليس مهماً أين

فقط أعطنا لاحقاً إشارةَ حياةٍ

في ركنٍ من الغابةِ

غابة الذاكرة

نظهرُ فجأةً

مدّ لنا يدك

وأنقذنا.

***


يقول الشاعر العراقي سامي مهدي، في صدر ترجمته لمختارات شعرية لجاك بريفير (4 فبراير 1900 – 11 إبريل 1977)، بعنوان «الصراع مع الملاك»: «تبدو ترجمة بريفير عملية سهلة، ذلك أن بساطته توحي بذلك، فتغري وتورط، اكتشفت هذا في بعض ما قرأت من نصوصه المترجمة إلى اللغة العربية، وتأكد لدي هذا الاكتشاف حين عدت إلى أوائل ما ترجمته، فبريفير ليس سهلاً تماماً، وسهولته الظاهرة أشبه بمصائد المغفلين، إنها غطاء يخفي عمقاً، يضم في طياته لقى ثمينة حيناً، وكنوزاً باذخة حيناً آخر».


يتحدث سامي مهدي عن مشكلات واجهته وهو يترجم جاك بريفير، فقد كان يلاحظ تشتتاً واضطرابات تضيّع على القارئ فرصة الوصول إلى مخابئ بريفير، فهي ترجمات حرفية مفككة، لم يطوع فيها النص المترجم لخصائص البنية اللغوية العربية، فكانت حصيلتها النهائية نثراً مضطرباً، لا يصل بقارئه إلى الأغوار المشعة.


وتعمد سامي مهدي أن يختار نماذج من قصائد بريفير القصيرة وأخرى من قصائده متوسطة الطول، لينفي خطأ شائعاً مفاده أن بريفير شاعر قصيدة قصيرة، وسعى مهدي لترجمة قصيدته «عشاء رؤوس»، لكنه وجدها متعذرة، لأنها مثقلة باللعبة اللغوية التي لا تؤدي مفعولها إلا في لغتها الأصلية، كما أنه تجنب ترجمة كل ما هو مثقل باللعبة اللغوية من القصائد.


كان والد جاك بريفير يعمل في شركة تأمين باريسية، لكنه لم يكن يحب عمله، كان يحلم بأن يكون ممثلاً، لكنه مارس النقد المسرحي من حين لآخر، وكتب رواية بعنوان «قطة المنزل التي كان اسمها لوبيه»، وكان جاك بريفير عمل في مهن عدة، لأنه لم ينل حظاً وافراً من التعليم، لكنه كان منذ صباه المبكر، يكثر من القراءة، وكان له ولع خاص ب«ألف ليلة وليلة».


في عامه العشرين التحق جاك بريفير بالخدمة العسكرية، وأرسل إلى سوريا، وفي طريقه إليها مر بالقسطنطينية، فتعرف إلى الرسام «إيف تانفي» ومؤلف الكتب البوليسية «مارسيل دو هاميل» وفي عام 1923 استأجر دو هاميل حانوتاً قديماً لأحد باعة جلود الأرانب وشقة صغيرة كائنة فوقه، استضاف فيها صديقيه بريفير وتانفي، وبعد عامين من هذا التاريخ بدأ السورياليون يرتادون الشقة ويقيمون فيها حوارات، «كان لقاء أناس بدون موعد»، كما يقول بريفير، الذي وقع نصوصاً جماعية أصدرتها الجماعة السوريالية، ثم لم تلبث أن طردته بعد عام، كان ذلك عام 1928 بسبب طرفة أطلقها، واعتبرها أندريه بريتون قليلة الذوق، يقول بريفير: «أنا وبريتون على خصومة لأنه يحمل فكرة مضحكة عن حرية الآخرين».


أحب بريفير المسرح، وقد مثلت له عدة اسكتشات مسرحية عامي 1932و1933 غير أن حبه للسينما كان أقوى، ففي عام 1923 مثل في فيلم «الكبار» لهنري فيكسور، وفي عام 1928 تعاون في صناعة فيلم موله صديقه دو هاميل، لكنه توغل في عالم السينما ابتداء من عام 1932 وأخذ يكتب السيناريوهات بعد ذلك.


يقول «غايتان بيكون» في كتابه «الأدب الفرنسي الجديد»: «إن جاك بريفير هو الشاعر الأصيل الوحيد الذي استطاع اليوم أن يتخطى حدود قرائه بالغاً قلب الشعب»، وهذه شهادة يوافق عليها كل من كتب عن بريفير، ذلك أن شعره بسيط، لا تعقيد في شكله، ولا اكتراث في لغته، ولا تبجح في همومه، ويقول لورنس فرلنفيتي إنه «يكتب كما يتكلم المرء وهو سائر»، وكان لصيقاً بالحياة في هدوئها وبهجتها، وصخبها وعنفها، وشقائها وبؤسها، وجمالها ونضارتها، وكانت عيناه دقيقتي الملاحظة، كان يرى كل شيء، ويحس بكل شيء، وكان ينتبه إلى كل حركة في الشارع، وكثيراً ما جعل من مشاهدته قصائد رائعة، ولذلك وصف بأنه ابن الشارع الفرنسي، ابن الشارع الباريسي تحديداً.


وعلى الرغم من أن شعره لم يكن معنياً بقضايا الوجود الكبرى، لكنه لم يكن يغفلها، كان يأتيها من أبسط مداخلها، من الحياة اليومية، وهو بناء على ذلك، لا يتأمل نيابة عن قارئه، بل يقود قارئه إلى التأمل بنفسه، يمنحه لذة الاكتشاف وبهجة الدهشة وشرارة التخيل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق