السبت، 10 فبراير 2018

محمود درويش / قصيدة دمشق

في دِمَشْقَ ،
تطيرُ الحماماتُ
خَلْفَ سِياجِ الحريرِ
اُثْنَتَيْنِ….
اُثْنَتَيْنِ….


في دِمَشْقَ ،
أَرى لُغَتي كُلَّها
على حبَّة القَمْحِ مكتوبةً
بإبرة أُنثى ،
يُنَقِّحُها حَجَلُ الرافِدَيْن


في دِمَشْقَ ،
تُطَرَّزُ أَسماءُ خَيْلِ العَرَبْ ،
مِنَ الجاهليَّةِ
حتى القيامةِ ،
أَو بَعْدها ،
….بخُيُوطِ الذَهَبْ


في دِمَشْقَ:
تسيرُ السماءُ
على الطُرُقات القديمةِ
حافيةً ، حافيةْ
فما حاجةُ الشُعَراءِ
إلى الوَحْيِ
والوَزْنِ
والقافِيَةْ ؟


في دِمَشْقَ ،
ينامُ الغريبُ
على ظلّه واقفاً
مثل مِئْذَنَةٍ في سرير الأَبد
لا يَحنُّ إلى بَلدٍ
أَو أَحَدْ…


في دِمَشْقَ ، 
يُواصل فِعْلُ المُضَارِع
أَشغالَهُ الأُمويَّةَ:
نمشي إلى غَدِنا واثِقِينَ
من الشمس في أَمسنا.
نحن والأَبديَّةُ ،
سُكَّانُ هذا البَلَدْ!


في دِمَشْقَ ،
تَدُورُ الحوارات
بين الكَمَنْجَةِ والعُود
حَوْلَ سؤال الوجودِ
وحول النهاياتِ :
مَنْ قَتَلَتْ عاشقاً مارقاً
فَلَهَا سِدْرَةُ المنتهى !


في دِمَشْقَ ،
يُقَطِّعُ يوسُفُ ،
بالنايَ ،
أَضْلُعَهُ
لا لشيءٍ ،
سوى أَنَّهُ
لم يَجِدْ قلبَهُ مَعَهُ


في دِمَشْقَ ،
يَعُودُ الكلامُ إلى أَصلِهِ ،
اُلماءِ:
لا الشِعْرُ شِعْرٌ
ولا النَثْرُ نَثْرٌ
وأَنتِ تقولين : لن أَدَعَكْ
فخُذْني إليك
وخُذْني مَعَكْ !


في دِمَشْقَ ،
ينامُ غزالٌ
إلى جانب اُمرأةٍ
في سرير الندى
فتخلَعُ فُسْتَانَها
وتُغَطِّي بِهِ بَرَدَى !


في دِمَشْقَ ،
تُنَقِّرُ عُصْفْورَةٌ
ما تركتُ من القمحِ
فوق يدي
وتتركُ لي حَبَّةً
لتُريني غداً
غَدِي!


في دِمَشْقَ ،
تدَاعِبُني الياسمينةُ :
لا تَبْتَعِدْ
واُمشِ في أَثَري
فَتَغارُ الحديقةُ :
لا تقتربْ
من دَمِ الليل في قَمَري


في دِمَشْقَ ،
أُسامِرُ حُلْمي الخفيفَ
على زَهْرة اللوزِ يضحَكُ :
كُنْ واقعياً
لأُزهرَ ثانيةً
حول ماءِ اُسمها
وكُنْ واقعيّاً
لأعبر في حُلْمها !


في دِمَشْقَ ،
أُعرِّفُ نفسي
على نفسها :
هنا ، تحت عَيْنَيْن لوزيِّتَيْن
نطيرُ معاً تَوْأَمَيْن
ونرجئ ماضِينَا المشتركْ


في دِمَشْقَ ،
يرقُّ الكلامُ
فأسمع صَوْتَ دمٍ
في عُرُوق الرخام :
اُخْتَطِفْني مِنَ اُبني
تقولُ السجينةُ لي
أَو تحجَّرْ معي !


في دِمَشْقَ :
أَعدُّ ضُلُوعي
وأُرْجِعُ قلبي إلى خَبَبِهْ
لعلِّ التي أَدْخَلَتْني
إلى ظِلِّها
قَتَلَتْني،
ولم أَنْتَبِهْ…


في دِمَشْقَ ،
تُعيدُ الغريبةُ هَوْدَجَها
إلى القافِلَةْ :
لن أَعودَ إلى خيمتي
لن أُعلِّقَ جيتارتي ،
بَعْدَ هذا المساءِ ،
على تينة العائلةْ…


في دِمَشْقَ ،
تَشِفُّ القصائدُ
لا هِيَ حِسِّيَّةٌ
ولا هِيَ ذهْنيَّةٌ
إنَّها ما يقولُ الصدى
للصدى…


في دِمَشْقَ ،
تجفُّ السحابةُ عصراً ،
فتحفُرُ بئراً
لصيف المحبِّينَ في سَفْح قاسْيُون ،
والنايُ يُكْملُ عاداته
في الحنين إلى ما هُوَ الآن فيه ،
ويبكي سدى


في دِمَشْقَ ،
أُدوِّنُ في دفْتَرِ اُمرأةٍ :
كُلُّ ما فيكِ
من نَرْجسٍ
يَشْتَهيكِ
ولا سُورَ حَوْلَكِ، يحميكِ
مِنْ ليل فِتْنَتِكِ الزائدةْ


في دِمَشْقَ ،
أَرى كيف ينقُصُ ليلُ دِمَشْقَ
رويداً رويداً
وكيف تزيدُ إلهاتُنا
واحدةْ!


في دِمَشْقَ ،
يغني المسافر في سرِّه :
لا أَعودُ من الشام
حياً
ولا ميتاً
بل سحاباً
يخفِّفُ عبءَ الفراشة
عن روحِيَ الشاردةْ

- محمود درويش

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق