الخميس، 4 يناير 2024

آه! كان شَعرُها برقة الشمس!



(مختارات من نصوص شعرية قصيرة للسويسري روبرت ولزر)


ترجمة: بول شاوول


روبرت ولزرروبرت ولزر، من كبار الكتاب السويسريين باللغة الألمانية، لا سيما في النصوص المختزلة، المكثفة، وقد وصفه الروائي ستيفن زفيغ بأنه «رسام المنمنمات بامتياز» و«سيد الشكل القصير» نشر مئات النصوص القصيرة. حيويته الفائقة، كآبته الساخرة، سحره المتواضع، والنافذ، تحمل كلها الكثافة الأدبية، والتي منذ قرن، تثير إعجاب كبار الكتاب وتجذب القراء من كل الطبقات.


ولد روبرت ولزر عام 1878 في بيين في كانتون برن السويسري. عاش فترة في برلين ثم في سويسرا حيث أصدر أول رواية له «الأولاد تانر» (1907) روايته الثانية «المرتكب» صدرت عام 1908. ونشر أيضاً مقطوعات قصيرة في الصحافة، وقصائد، في مؤلفات منها «النزهة (1917)، مجموعة «الوردة» (1925).


دخل ولزر عام 1929 مصحاً لم يغادره إلا في يوم عيد الميلاد 1956، حيث توفى أثناء قيامه بنزهة في الثلج.


[ القارب


أظن انني سبق أن كتبت هذا المشهد، ولكن سأعيده مرة أخرى. في قارب، وسط بحيرة، يجلس رجل وامرأة. القمر فوق عالياً، في السماء المظلمة. الليل الهادئ والفاتر جاهز تماماً لمغامرة الحلم العاشق. رجل القارب، ترى خطفها، وهي، أتكون المرأة المفتونة، السعيدة؟ نحن لا ندري؛ نحن نرى أنهما يتعانقان. الجبل المظلم «كعملاق» في عمق الماء المرئية. على الضفة قصرٌ اومانوار قديم مضاءة نوافذه. لا كلمة، لا ضجة. كل شيء مغمور بصمت اسود وعذب. النجوم ترتعش عالياً في السماء وتصعد أيضاً منذ السماء التي ترقد، في العمق، في مرآة الماء، فالماء صديق النجمة القمرية جذبها نحوها، في أغوارها، وهاهما، الماء والكرة القمرية، يتعانقان كصديق وصديقة. الكرة القمرية الجميلة غطست في الموجة كأمير شاب جريء في بحر من المخاطر. يتمرأى في الماء، كمثل قلب عاشق ينعكس في القلب العاشق الآخر.


أي روعة لهذه النجمة الليلية شبيهة العاشق المنتشي بالمُتع في ذراعي المعشوق الملكي.. في القارب، يلزم الرجل والمرأة الصمت. قبلة طويلة توحدهما. المجذافان يرتاحان؛ هامدين على الماء. أتراهما سعيدين، كائني هذا القارب، هذين الكائنين اللذين توحّدهما قبلة، هذين الكائنين المتحابين.


[القبلة


أي حلم غريب هذا؟ ماذا أصابني؟ أي رؤيا عجيبة، الليلة السابقة، في نومي، هبطت عليّ آتية من السماء شبيهة بالبرق الرائع. كنت هناك، من دون أي تكهن، من دون أي إرادة أو وعي، أسيرَ النوم الذي تمكن مني، سجنني في زنزانته، جرّدني من السلاح، بلا دفاع، تركني بلا شرط، محروماً من كل مسؤولية (لأننا نكون في النوم غير مسؤولين)، عندها انقض عليّ بحضور المذهل والرهيب، الضخم واللذيذ، الرائع والمريع، كأنما كي يخنقني بضغطه وقبلته. للنوم عيون داخلية، وعليَّ الاعتراف بأنه وفي نوع من الثانية المرئية، كأنما بعينين آخرين، أدركت ما ارتمى عليَّ. رأيته بينها، مخترقاً المكان غير المحدود بسرعة الريح والبرق، من مرتفعات شاهقة، لا تقاس، يُطبق على فمي. رأيته، يتملكني الخوف، عاجزاً عن الحركة والدفاع عن نفسي. سمعته أيضاً. سمعته يقترب. رأيت وسمعت القبلة التي ليس لها صورة ولا تجربة، وتعجز الكلمات عن وصفها، وكذلك ما تعجز الكلمات عن وصفه في الوقت ذاته الرعب والمتعة الهائلة التي هزتني. وليس لقبلة الحلم أي علاقة مشتركة بالقبلة الجنون، قبلة الواقع العذبة المشتهاة من كل جوانبها.


لم يكن ما يقبلني فماً، لا، «إنما كان الجوهر الوحيد النادر للقبلة. لم تكن سوى قبلة، مليئة وفريدة، مجرد قبلة لا غير. شيء لا يُحال سوى على نفسه، على طبيعة النفس، الطيف، وبالكاد صدمتني طبيعته التي تجمع بين ما هو ذكي وغير مقبول كليًّا، ما جعلني أشعر بالذوبان في هذه اللذة التي تخترق كل الأطراف، لذة مدهشة، لا أسمح لنفسي بتشكيلها بطريقة أدق. آه، أي قبلة كانت، أي قبلة. والألم الذي سببته لي انتزع مني صرخة، أنيناً، وفي اللحظة التي أدركت فيها القبلة وأثرها الهاوي والجهنمي، استيقظت وبقيت طويلاً حتى تداركت نفسي. من ترى يكون الانسان، الكائن البشري! ما هي القبلة التي أقدمها بشعور، تحت القمر في ليلة حب من السعادة الهادئة، أسفل شجرة! وفي أي مكان آخر، مقارناً بلهيب القبلة المتخيلة المفروضة بالقوة، قبلة مقدمة من الشياطين!


[الآلهة


ذات يوم كنت أتمشى، مبلبلاً في أفكاري، في الشارع الرئيس الأنيق. كثير من الناس يتنزهون هناك أيضاً. لا أعرف ما إذا كان يوم أحد. أتذكر فقط، حولي عذوبة مفتّرة. لكن سيحدث شيء أجمل: ففي الواقع، من السماء الخفيفة والمترددة تسقط الى الشارع غيمة بيضاء كالثلج، الغيمة أشبه باوزة رشيقة وعلى ظهرها ثلج أبيض، «زغب وناعم» يجلس، نصف ممدد ذراعاه مرخيتان بإهمال، مليء بالجلالة المفتّرة والطفولية، امرأة عارية. هكذا، لطالما تخيّلت آلهات اليونان القديمة. تبتسم الآلهات، ولا أي أحد ممن رأها كان يمكن أن يمنع نفسه من الابتسام أيضاً، تحت سحرها وجمالها. آه! كان يلمع شعرها برقة في الشمس! وبعينيها الزرقاوين الواسعتين، تنظر بطيبة العالم الذي تكرمه بنوع من الزيارة القصيرة، بحضورها العالي، الغيمة تطير مثل منطاد، ولحظة ما بعد الرؤيا الرائعة تختفي أمام ناظريّ كما أمام الآخرين. عندها، يقصد الناس المقهى الأقرب، ليناقشوا فيما بينهم الخبر العظيم. ما زالت الشمس الجميلة، حتى من دون آلهات.


[استراحة الظهر


ذات يوم، في استراحة الظهر، كنت ممدداً على العشب في أسفل شجرة تفاح. كان الطقس حاراً، وتحت ناظريّ كل شي يغتسل في خضرة خفيفة وواضحة. كان الهواء يمر بالعشب ويلامس العشب الرقيق. خلفي يمتد طرف الغابة المعتمر، بأشجار الصنوبر الباسلة والمهيبة. رغبات اخترقت رأسي. كنت أتمنى امرأة عاشقة تخرج من الريح الناعمة المعطرة. لكن، وبينما كنت أغمض عيني، بكسل، ممدداً على ظهري، الوجه مستديراً نحو السماء، مجاوراً طنين الصيف الرنان، ظهرت، هابطتين من هذا البحر الهادي الشمسي والضوئي، عينان محدقتان فيّ بحنان لا حدود له.


وميزت بدقة الخدين يقتربان من خدّي الى حد ملامستهما، وثم، خارجاً من الهواء قليل الحمرة والزرقة فحم في منتهى الجمال والروعة، كأنما صُنع من شمس خالصة، بكرم مشكل، على زاويتي الفم يحط تماماً قرب فمي، كأنما يريد أيضاً ملامسته.


[المعبودة


ذات يوم وكان ذاهباً الى المتحف الاثنيولوجي لدراسة العصور الوسطى، آتت المغامرة شاباً لا يخطر لأحد ان يشكك بأناقته، وتربيته، وعائلته، والذي يتمتع باعتباره من بين الذين ذوي السلوك الحميد، من مغامرة على الأقل غريبة، ولكن مرعبة، وأيضاً قاسية. فالشاب بعدما استعرض باهتمام كل الأعمال التي كانت تتكدس في قاعات المعرض الفسيحة، وجد نفسه فجأة، من دون أن يدري كيف، امام منحوتة قديمة من الخشب، والتي من كونها مقيتة وخشنة، أحدثت فيه أولاً شعوراً قوياً، ومن ثم شعوراً أشد قوة، مما جعله يحس جسداً ونفساً، مسحوراً بهذه المعبودة الفطرية، لأنها في الأساس كانت آلهة معبودة. حُبست أنفاسه، وراح قلبه ينبض بقوة، ودمه الدافق الى حد الانفجار في عروقه، كمجرى مياه فائض عن ضفته، انتصب شعره على رأسه، وأصابت أطرافه هزة ورغبة عارمة تملكته فجأة ليرمي نفسه أرضاً في وضع السجود، ليتعبد بحراراة الصورة المرعبة المنتزعة من صحارى افريقيا: نشوة بربرية اجتاحت نفسه المبهورة، المجردة من رشدها، فأطلق صرخة رهيبة دوّت في أرجاء القاعة الواسعة ولم يتبق له سوى القليل يمكن به من السيطرة على نفسه، لينتشل نفسه في قفزة يائسة من الظلمات المرعبة التي راحت تهدأ، ويسترجع بعضاً من ضوء الوعي الناعم. وهذا ما فعله، ومبتعداً بخطى كبيرة كأنما نار تتبعه خلفه، وفاقداً دفعة واحدة كل اهتمام بالعلم، مهرولاً نحو المخرج، ولم يتخلص من رعبه إلا عندما خرج الى الهواء الطلق، ووجد نفسه محاطاً بالناس. هذه القصة جعلته يستغرق في تفكير عميق، هو الذي عاشه، والذي لا بد للقارئ مع هذا أن يبتسم فعلاً.


[الراعي


شخص هناك، ممدد تحت الشمس، كلا، ليس تماماً. هو تحت شجرة ضخمة، الساقان والقدمان مستسلمة للشمس، والرأس، وهو رأس حالم، في الظل. انه راع، نصفه ممدد في الشمس، ونصفه الآخر في الظل، مواشيه التي ليست بعيدة عنه ترعى، فهو يستطيع بسلام أن يتركها لنفسها. هو إذاً ممدد ولا يعرف كثيراً ما يفكر فيه. يمكن أن يفكر في كل شيء، وهو غير مجبر على التفكير في أي شيء. يفكر أحياناً بهذا، وأخرى بذاك وأخرى في شيء، وتارة بآخر. تذهب الأفكار وتجيء، تظهر لفكره ولا تلبث أن تتبدد من جديد. تتجمع وتتبعثر، تتجمع لتشكل كلاً كبيراً ثم تتحلل في جزئيات. لهذا الممدد هناك الوقت ليفكر، والوقت لكي لا يفكر، أن يصبح خاملاً. مهما كان العمل جميلاً ومفيداً، فكر هو أكثر، وأجمل أن يعمل الانسان شيئاً، يقضي النهار شارداً، وان يبدو كهذا الذي ينام هناك، تحت الشجرة الضخمة أتراه نائماً؟ آه، من وقت الى آخر نتصور نحن، نشوة وتعباً، يغتبط بفرح خالص بالوجود، الأهداب تنسدل، حواسه تتراخى، وينعس في اللاوعي اللذيذ. عذب النوم، لكن استيقاظته هادئة وجميلة أليست أعذب، هكذا ينام تارة، وتارة يستفيق، شبيه الهواء الذي يعبر فيه مستوى الخضرة، يرحل، يطير، ويقضي ساعات، أربع ساعات، خمس ساعات، ست ساعات أو سبعاً، ثم وشيئاً فشيئاً، يهبط المساء، والقمة الناعمة المذهبة تنزل من السماء وتحلق فوق الأرض.


أيها الراعي، أيها الراعي، الذي، حالماً يمضي وقته، أأنت سعيد؟ نعم، طبعاً أنت سعيد. الأفكار السود أنت لا تعرفها، ولا تريد أن تعرفها. ترى، أتراودك فكرة بشعة، أتنام على الجنب الآخر، أو تمسك بالآلة التي ترافقك، وتعزف دائماً الموسيقى ومن ثم فرحة الشمس تجاورك من جديد. فلندعه هكذا نائماً، وليس لأحد أن يقلق عليه. هو لا يقلق من أي شيء.


[الشاعر


حلم الصباح وحلم المساء، ليلاً ونهاراً!


قمر وشمس، نجوم. ضوء النهار الوردي، ضوء الليل الشاحب. الساعات والدقائق؛ الأسبوع، كل السنة، في كل لحظة كنت أرفع نظري نحو القمر، صديق روحي السري، النجوم كانت رفيقاتي العزيزة. عندما كانت الشمس الذهب ترسل أشعتها على العالم الضبابي، الشاحب والبارد، آه، أي فرح كنت أحس!


كانت الطبيعة حديقة شغفي سيدتي. كل ما كان يغمر عيني ينتمي إليَّ، الغابة، الأشجار، الدروب. أنظر الى السماء فأصير أميراً، لكن الأجمل مساءً. كانت المساءات حكاياتي الرائعة، والليل في ظلمته السموية كان قصراً في عيني، مليئاً بالغموض والأسرار الناعمة غير القابلة للدخول. غالباً، نغم مليء بروح اكورديون، يعزفه أحد الأشخاص الفقراء، تخترق الليل. كان في وسعي أن أصغي بشكل لا متناهٍ. عندها يسود الخير، العادل، الجميل، ولا يكون العالم سوى روعة ودعة خارقتين.


وكنت، حتى بلا موسيقى، على هدوء. أحس بأنني اسكن الساعات. أخاطبها كأنما الى كائنات محببة وأتخيل انها تخاطبني أيضاً، أنظر وكأنما لها وجه، واشعر بأنها تنظر إليّ بصمت، كأنِ بنوع غريب من العيون الصديقة. غالباً، اما اخالني غارقاً كما في البحر، وعميقاً وكثيفاً كان الصمت حيث أسيل حياتي. كنت أتبادل علاقة اليفة بكل ما هو غير محسوس للناس. كنت أحلم على مدى أيام بأمور لا يرى أحد جدوى في التفكير بها. لكنها كانت فكرة ناعمة، ونادرة زيارات الكآبة. أحياناً شيء ما كراقص مكتنز غير مرئي يأتي بقفزة واحدة في عزلة بيتي، وعلى الرغم مني يضحكني. لم أسئ الى أحد، ولم يسئ أحد إليّ. كنت منسحباً، بطريقة جميلة، الى الهامش.


[الدعوة


عليَّ أن أريك زاوية صغيرة جميلة جمالاً آلهيأ، يا معبودتي، المكان تحميه جيداً غابة صامتة وسرية، كفكرة في جوف فكرة. انه وادٍ ناعم وكثيف لا يخترقه أحد. مغطى بحرارة تحت الأشجار، في مخبأ غاية في الرقة. آه، فها هنا أتصور وأود معانقتك، أغمرك بقبلات طويلة، قبلات حنون في غاية اللذة، قبلات تحرم كل خطاب، مهما كان جميلاً وحلواً. المكان، ومهما يكن معتزلاً، ومدهشاً ليس مذكوراً في أي دليل سياحي. طريق ضيق ومستوٍ عبر شجرية كثيفة ينزل حتى الوادي، حتى المكان الأسطوري، حيث أود أن أريك يا معجزتي، كم أحبك، حيث أود أن أريك يا ملاكي، كم أعبدك. في هذا المكان، وبشكل طبيعي، نتعانق، ونتلاصق والشفاه من تلقائها تتواصل. فأنت لا تعرفين بعد كيف يمكنني أن أقبّل. وأيضاً، تعالي الى هذا المكان حيث يسود حفيف الأشجار السامِقة، فتعلّمي ذلك.


ولن أنطق بأي كلمة ولا أنت. نصمت معاً، ووحدها الأزهار تتمتم تمتمة خفيفة، والشمس الحنون تخترق الأغصان الدقيقة. آه، أي صمت، وأي صمت سيسود، عندما سنتبادل القُبل، وكم سيكون جميلاً عندما تبقى شفتانا المتعطشتان، الملتهبتان، متلاصقتين، وكم سيكون جميلاً عندما نتبادل الحب في هذا الوادي الصامت.


ولن ترتاح ملامساتنا، وقبلاتنا حتى هبوط المساء حاملاً معه النجوم الفضية، اللامعة، والقمر الإلهي. لن يكون لدينا ما نقول «لأن كل شيء لن يكون سوى قبلة. قبلة لا تنتهي، لا تنقطع، قبلة واحدة، ساعات وساعات، في المتعة. يريد أن يحب، ليس عليه أن يتكلم، لأن من يتكلم يكف عن الحب..


آه، تعالي الى هذا المحراب بعيداً عن الأعين، في مكان الفعل هذا، في مكان بلوغ المرام، حيث كل رغبة تمتلئ، حيث كل شيء يغرق ويغيب في الحب! العصافير بشدوها الفرح حولنا تملأ الهواء بتغريداتها، وفي الليل، يحيط بنا صمت إلهي.


ما نسميه العالم سيكون بعيداً وراءنا، والنشوة قد ضمتنا في بحيراتها، نصبح أولاد الأرض، ونعرف ماذا يعني أن نعيش، سنعرف ماذا يعني أن نكون موجودين، فلا وجود لمن لا يحب، ولا مكان له هنا، فهو ميت حيًّا. ومن يرغب في الحب سينبعث من الأموات ووحده من يحب يكون حيًّا.


[القمر


كانت البارحة ليلة رائعة قمراء، مليئة بالصمت، والعذوبة، الهدوء، كأنما العالم غارق في نشوة مُعتمة ولذيذة. سلكت بعض الشوارع، والأزقة. كان لا يزال هناك كثير من الناس في كل مكان، كأنما سحر القمر سحب الناس الى الخارج، خارج بيوتها. كانت الشوارع ملساء مبطنة ومضيئة. وكل شيء جد هادئ وجد مريح. فرح مكتوم يشع في كل الشوارع.. وعلاوة على ذلك، كان تحديد سوق عيد الميلاد في هذه الليلة الجميلة، وهذا ما يفسر كثرة الحركة في المدينة.


سلكت درباً ضيقة تكثر فيها البساتين الممتلئة على الجبل. هنا، سحر المكان لا يقاوم. كأننا في حكاية، وكل خطوة كانت تقرع وترن الأرض تحتها. في كل خطوة من خطواتي كنت أتوقف أستدير وأرفع عينيّ نحو القمر العذب، ذي الجمال الإلهي، ونحو أغصان الصنوبر، وقلاع المدينة القديمة. بين أغصان الصنوبر، المقدسة نحو الأعلى، كأنما مرتدية أكماماً، ترتعش النجوم وتلمع كنظرات عاشقة. وأكاد أدرك قريباً قمة الجبل الذي يشرف على المدينة الأليفة. درجات منحوتة في الصخر الأبيض قادتني الى أعلى». وما إن وصلت حتى حدّقت في الوادي، الرخو، البخاري، الناعم، شبيه برؤيا حلم. واستمريت في التسلق عبر الغابة التي كانت كلها بيضاء. كل شيء أبيض من قمر شديد الشحوب، شديد العذوبة. فكرت في أبي وأمي، بشعور بالغ الرقة، وقلق أنثوي، خائف، يتخللني. أردت أن أتمكن من البقاء هنا الى الأبد هكذا في هذه الليلة القمرية وأستسلم الى أفكار قديمة عزيزة عليّ، أن أتمكن من البقاء هنا الى الأبد هكذا وبالفكر أعود الى الماضي.


عتمة السماء المميزة بغيومها القطنية والبيضاء ظهرت لي مثل حقل كثيف جميل وطيب. كان القمر إزاء كل ذلك كراع حالم، والغيوم الناعمة كخرفان، والنجوم التي يخرق بريقها هنا وهناك كانت كالأزهار. فمنذ المدينة تتناهى إليّ موسيقى وضوضاء أصوات. أحسست بمهابة مكتومة. وشعرت بانطباع بأن كل المدى الواسع لليل الصامت هو كائن يتمتع بجسد وان القمر روحه. بقيت هكذا طويلاً.


[المهرج الرديء


كان هناك شخص يُلقّب بالمهرج الرديء، لأنه فعلاً جد غبي لا يصلح لشيء، أعرفه معرفة جيدة، هذا الرجل الشيء هذا الأجوف، لم أقابل أحداً في حياتي رغبت بسرعة أن أقول له». أنت لست سوى أهبل». ولا أحد رغبت أكثر في أن أسخر منه.. عندما تؤدي الأفكار التافهة والغبية الى مصلحته، تتأمن ثروته، لكن، في الحقيقة، فهو فقير كأيوب. فله من الحظ بالنجاح في الحياة ما للدّوري، مع هذا فهو على الدوام منشرح، ولم أنجح أبداً أن أكتشف في وجهه الفارع أي تعبير عن عدم الرضى. ذات يوم قرر أحدهم أن يُوفّر له الدعم، لكن المهرج الرائي، هرب بسرعة الغزلان، كما، في مسابقة ما، هناك من يريد أن يركب له مقلباً. هكذا وبلحظة أساسية من حياته يتصرف بغباء. هو طفل وسيبقى طفلاً، أحمق، عاجزاً عن التمييز بين الأساسي والنافل، الأمر المهم من الأمر غير النافع.


لكن في نهاية المطاف، أليس من المحتمل أن يكون لديه أكثر من الادراك مما لا يظن، وان عنده كثيراً من العقل لوسائله؟ أيها السؤال العزيز أرجوك، ابق بلطف من دون جواب، على كل حال، فالمهرج الرديء سعيد جداً بنفسه. ففي المستقبل، ليس عنده ولا يتمنى أن يمتلك شيئاً مماثلاً. ماذا سيكون مآله؟ فليصلِ شخص آخر من أجله! فهو أغبى من أن يفعل ذلك.


[ المليونيرة


كانت سيدة ثرية تعيش وحدها في شقتها المؤلفة من خمس غرف. أقول «سيدة»، على الرغم من أن المرأة المسكينة، لا تستحق إطلاقاً اسم «سيدة» كانت تهمل ملبسها، والجيران يلصقون بها ألقاباً مثل «الساحرة المتشردة». لم تكن تولي نفسها أي قيمة ولم يكن عندها متعة التمتع بالحياة وحتى أنها لم تكن تستحم، ومع هذا ما كانت ترتدي سوى أثواب رثة قديمة، بقدر ما كانت ترتاح الى إهمال شخصها. كانت ثرية، وكان في مقدورها أن تعيش كأميرة، لكن لم يكن عندها وقت لتضيعه، ولا ذائقة الترف. وعلى قدر ما كانت غنية كانت بائسة. كان عليها أن تقضي نهاراتها ولياليها وحيدة. رفيقتها الوحيدة كانت خادمتها القديمة ايما. كانت على علاقة سيئة بعائلتها. وحدها فرو ستامبنونا، زوجة مدير الشرطة تقوم بزيارتها، زيارات متباعدة، وإلا لا أحد. كانت ترد الناس لأنها تعيش كالمتسولة، وكانوا يعاملونها كبخيلة. وهي بالفعل بخيلة. البخل بات شغفها. لم يكن لديها أولاد. وهكذا صار البخل ولدها. والبخل ليس ولداً جميلاً أو طيباً. لكن على الانسان أن يكون لديه شيء يحبه ويُدلّله. وغالباً ما كانت السيدة الغنية، في صمت الليل، تذرف دمعاً في منديلها، وهي في غرفتها بلا فرح. فالدموع التي تذرفها كانت ربما الشيء الأكثر صدقاً التي تمتلكه، والأكثر قرباً منها. ما عدا، هذه الدموع، كان الجميع يكرهها ويخونها. الحزن الذي كانت تحمله في نفسها كان الصديق الوحيد لديها. عدا ذلك لم يكن عندها صديق ولا صديقة، ولا ابن ولا ابنة. صالونها لم يكن صالوناً، بل مكتب مكتظ بأوراق العمل، وفي غرفة نومها تتربع الخزانة المدرعة بالفولاذ، المليئة بالذهب والمجوهرات. حقيقة، انها غرفة نوم غريبة وكئيبة بالنسبة الى امرأة.


تعرفت بهذه المرأة، وأثارت فيَّ اهتماماً ملحوظاً. رويت لها حياتي وروت لي حياتها. وماتت بعدها بقليل.. تركت وراءها عدة ملايين.. تهافت الورثة على الإرث. مليونيرة مسكينة! كان في المدينة التي تقطنها الكثير من الأولاد الصغار الفقراء ليس عندهم حتى ما يسدون به جوعهم. في أي عالم غريب نعيش؟.


[الحصان والمرأة


خصوصاً، عليّ الا أنسى لحظ ذكريات من المدينة الكبيرة. الأولى تتعلق برأس حصان، والأخرى بعجوز فقيرة، بائعة علب كبريت. في الحالين، بالنسبة الى العامة، كما الى العجوز، كان هناك الليل. ففي ليلة لا تختلف عن سواها من الليالي غير المجدية والغارقة في النسيان، كنت أسلك طريقاً مرتدياً معطفاً هو من الأناقة بحيث لا يظُن إلا مستعاراً، رأيت في أحد الشوارع الأكثر حيوية حصاناً يجرّ عربة مثقلة بمحمولها. كان الحصان هناك بلا حراك في العتمة الغامرة، وجموع من الناس المستعجلين يمرون قربه من دون إعارته أي اهتمام يذكر. أنا أيضاً، كنت مستعجلاً. فرجل ذاهب للهو هو دائماً على عجلة رهيبة من أمره. مع هذا، متأثراً بصورة الحصان الأبيض الرائعة في عتمة الليل، توقفت، خصلات العرف الطويلة للحيوان، والتي تتدلى حتى عينيه الواسعتين يتفتق منهما حزن عميق، صامت. وكما رؤيا بيضاء شبحية تظهر فجأة من الفجر، يقف الحصان هناك، جامداً، باهمال خانع، واستسلام حيث كان هناك مهابة. لكنني اندفعت في سيري لأنني ذاهب الى اللهو.


وكذلك، في ليلة أخرى، وكنت جارياً تلبية لمتع دنيئة. كنت قد تجاوزت كثيراً من الأحياء، واستدرت في زواية شارع عندما طلع صوت نحوي من العتمة: «كبريت، أيّها السيد الشاب» الصوت آتٍ من عجوز فقيرة. توقفت، لأنني كنت في مزاج جد رائق، دَسَسْتُ يدي في جيبي وأعطيت المرأة قطعة نقدية من دون أن آخذ شيئاً مما تبيع. شكرتني وتمنت لي أن ترافقني السعادة في المستقبل الغامض!.


ومدت يدها، العجوز، الباردة والهزيلة! أمسكتُ بهذه اليد وضغطت عليها، مزوّداً الفرح من هذه المغامرة الصغيرة، لأتابع طريقي!.

المستقبل- الثلاثاء 20 أيار 2014 - العدد 5038 - صفحة 20



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق