الاثنين، 1 يناير 2024

ليرمنتوف .. قصيدة موت شاعر



عندما قُتل إليكساندر بوشكين أمير شعراء روسيا في التاسع والعشرين من يناير عام 1837 ولّد موته حزناً لدى الشعب الروسي الذي أحبه حباً كبيراً, لأنه كتب عن آلامهم ومعاناتهم متغنياً بالحرية وساخراً من الحكم القيصري الظالم.‏ الكتابة عن بوشكين والتأثير الذي أحدثه لا يمكن اختصاره بكلمات قليلة, ويكفي حديث دستويفسكي عن شاعره الأثير وهو يدشن نصب بوشكين التذكاري وهو يقول إن بوشكين يجسد الروح القومية الروسية لأنه اُوتي قدرة جبارة على إدراك عبقرية الشعوب الآخرى وعلى فهمها. بالرغم من أن بوشكين لم يعش أكثر من 36 عامًا، فإنه قد ترك الكثير من الآثار الأدبية, لدرجة أن قراءه يشعرون أنه قد عمَّر كثيرًا. اُعتبر عصره هو العصر الذهبي للشعر الروسي، وهو عصر التقارب بين الأدب الروسي من جهة والآداب العربية والشرقية من جهة أخرى. وأصبح متسيداً للشعر بحيث لا مكان لظهور نجوم جديدة

بعد انتشار خبر وفاته وصل الخبر إلى الشاعر الروسي ميخائيل ليرمنتوف الذي اهتز كيانه لفقدان هذا البوشكين . لم يكن هذا الشاعر الذي يعبر في كثير من أشعاره العاطفية عن الإحباط الشديد والتبرم بالحياة في روسيا وكان يحلم في شعره بفردوس بعيد المنال, ذا شهرة كبيرة أو تأثير كبير, فبوشكين متسيد للشعر , ولامكان لوجوه أخرى تفرض نفسها في هذا المجتمع. كتب بعد أن وصل إليه خبر مقتل بوشكين ” قصيدة مقتل شاعر ” التي جعلته مشهوراً على الفور .تلك القصيدة أعطت المجد الى ليرمنتوف, وأورثته إمارة الشعر , والشقاء الإنساني الذي انتهى بمثل النهاية التراجيدية المعروفة

وفي هذه القصيدة هاجم ليرمنتوف بقسوة موقف الموظفين الكبار في البلاط القيصري, الذين تبادلوا النكات من بوشكين وسخروا منه . وأشاد بعظمة الشاعر الراحل وتبيان الدور العبقري لهذا الرجل في الحياة الروسية , ووصف مهاجميه وأعداءه بأنهم مجموعة من عشاق الفساد, خانقوا الحرية والعبقرية والعظمة. انتشرت هذه القصيدة بين أرجاء الشعب على وجه لا يصدق, فتلقفها الجميع, وأصبحوا يرددونها كترنيمة مسيحية تذكر بعبقري قدم للأمة الشيء الكثير. تلقفت القصيدة إحدى السيدات من البلاط القيصري, فأرسلت نسخة من هذه القصيدة إلى القيصر قائلة : ها هنا دعوة إلى الثورة

ويغضب القيصر نقولا من هذه القصيدة وشاعرها , فيأمر بالقبض على هذا الشاعر, ميخائيل ليرمنتوف , الضابط ذو الثالثة والعشرين من العمر, وأحد فرسان الحرس الإمبراطوري. وتكون نتيجة القبض عليه النفي الأول , وإنزال رتبته , وإرساله إلى إحدى كتائب المشاة في القوقاز حيث كان الروس في حالة حرب مع الثوار القوقاز . عندما رحل ليرمنتوف إلى هناك كان اسمه قد أصبح معروفاً لدى العامة, وأصبح نفيه الأول بداية حياته كشاعر . ثمّ أنّ القدر لم يمنحه بعد ذلك إلا فرصة وجيزة للغاية, فلم يمهله الموت سوى أربعة سنوات فقط بعد موت بوشكين , ليلتحق به وهو في أوّج العطاء الإبداعي عن سنّ لم تتجاوز السابعة والعشرين

 قصيدة موت شاعر
مَاتَ الشَّاعر
سَقَطَ شهيداً
أسيراً للشرفِ
الرصاصُ في صدرِه يَصرُخُ للانتقام
والرأسُ الشَّامِخُ انحنى في النهاية
مَات
فَاضَت رُوحُه بالألَمِ من الافتِراءات الحًقيرة
حَتَّى الانفِجَار
وَقَفَ وحيداً في المواجهة وها قد قُتل
قُتِل
فَكُلُّ نُوَاحٍ الآن عَقيم
وَفَارِغةٌ تَراتِيلُ الإطرَاء
وَهَمهَمَات الأسَى الكَسِيح
ونحنُ نُحملقُ في إرادةِ الموت
وَبَعد – فهل أنَتُم أبرِيَاء
يَا مَن حَاصرتُم في قَسوةَ
مَوهِبتَهَ الحُرَّةَ الشُّجَاعة
يَا من نَفَختُم في الَّلهَب الخَامِد
حَتَّى فَورة الغَضَبِ المُفَاجِيء
فَلتَبتَهَجُوا إذَن
فَلَقَد كانَ صَفَاءُ الألَمِ فَوقَ طَاقَةِ الاحتِمَال
وَاشهَدُوا الآن
أنَّ قندِيلَ العَبقَرِيةِ انطَفَأ
وإكليل الغَارِ عَلى جَبهَتِه يَذوِي
لَم يعرف القَاتِلُ التَّردُّد
وَهَو يُصَوبُ في بُرُود
لا طَلقَةٌ واحدةٌ أخطَأَت القَلب
وَلا وَحي مُنقِذٌ أَرعَش البُندُقِية في اليدِ الوَحشِيَّة
كَيفَ استَطَاعَ هَذَا اللاجِئُ الوَضِيعُ الانتِهَازِي
الأَدَاةَ الخَسِيسَة العَميَاء
أَن يَحتَقِرَ أَرضَنَا هَكَذَا
وَيَسخَرَ، في عَجرَفَته، من لُغَتِهَا وتَقَالِيدِهَا الأَصِيلَة
وَ لا يَستثنِي مَفخَرَتَها الكُبرى
فَيَتَمَهَّل لِيَتَسَاءَلَ ضِدَّ مَن رَفَعَ يَدَه
قُتِل
مَاتَ وارتَحَل
مِثلَ ذَلِكَ الشَّاعِرِ الرِقيقِ القَلبِ المَغمُور
وَالَّذي أَنشَدَ فيه قَصَائِدَ رَائِعة
مَن مِثلَه بِيَدٍ قَاسِيَة خَرِبَة
سَقطَ ضَحِيَّةَ الغِيرَة العَميَاء
لماذَا غَادَرَ صَدَاقَاتِه وَتَأمُّلَاتِه الآمِنَة
إلى عَالَم مَن الحَسَدِ الخانِق
لِقَلبٍ عَشِقَ الحُرِّيَّةَ واشتَعَلَ بالحُب
لِمَاذَا أَسلَمَ يَدَيه لِلوُشَاةِ التَّافِهين
لمِاذَا استَسلَمَ لِلكَلماتِ الكَاذِبَةِ والابتِسَامَاتِ المُخَادِعَة
وَهَو مَن كَانَ
مُنذُ الشَّبَابَ قَادِرا على اكتِشَافِ حَقِيقَة النَّاسِ
لَقد سَلبَوه تَاجَهُ وَتَوَّجُوه بِالشَّوك
لِيُمَزِّقُ الشَّوكُ الخبئ
جَبهَةَ الشَّاعِرِ النَّبِيلَة
وكَانَت لحََظاتُه الأخِيرَة
مُسَمَّمَة بالشَّائِعَاتِ والهمس البَذِئ
وَهَا قّد مَات
بِالعَطَشِ العَبَثِي إلى الانتِقَام
ُمعَذَّباً بِالآمَالِ المُحَطَّمَة التي تَتَهاوَى سَريعا
لَن تَتَرَدد الأُغنِيَات الرَّائِعَةُ مِن جَدِيد
فَالصَّوتُ النَّبِيل يَخلُدُ للصَّمت
في الحُجرَةِ الصَّغيرَةِ دُونَ بَاب
وَآهٍ ، أُغلِقَت الشَّفَتَان
أَمَّا أَنتُم أَيَّتُهَا السُّلالَةُ المُتَعَجرِفَة
يَا أَبنَاءَ من اشتُهِرُوا بِمَخَازِيهم الوَضِيعَة
يَا مَن بِقَدَمٍ ذَلِيلَةٍ قَد دُستُم
بَقَايَا عَائِلاتٍ نَبيلَة تَجَهَّمَ لَهَا الحَظ
يَا مَن تُحِيطُون بِالعَرشِ في قُطعَانٍ شَرِهَة
كَالجَلاَّدِين الَّذِينَ يُخفُونَ نَوَايَاهم الحَقِيرَة
في أَثَوابِ العَدَالةِ ، مُتَظَاهِرينَ بَالبَرَاءَة
مَن أَجلِ ذَبحِ الحُرِّيَةِ والَمجدِ والعَبقَرِية
هُنَاكَ حُكمُ الرَّب
حُكمٌ رَهِيبٌ يَنتَظِر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق