محمد عبيدو
" هذه القصائد لا تدفئ أجسادنا الباردة
أيها الشعراء
مزقوها
وعودوا إلى نبرة قلبي القديمة"
منذ أن احس الانسان بوجوده على هذه الارض وهو لا يفارق هذا الكائن اللغوي الضارب في اعماقه وقد عبر بصيغ مختلفة عن جوانب نفسية من خلال الشعر , عن رؤيته وما احس من جمال الطبيعة والسلوك , وكذلك عن الرفض من خلال الفعل اليومي أصبح الشعر أليفا بتطورنا , يعمق بتأملنا علاقة الانسان بالحياة ودوره في جدليتها .
تعددت التعاريف والاراء , لكن الشعر يبقى في خصوصيته عالما يعيش ويترعرع مع الانسان . يتفجر منه ويفجر فيه الحلم , يقربه من الواقع ومن الحقيقة , ويكون مفتاحا لاستكشاف الاعماق البعيدة والمجاهيل الغامضة والشعر صوت الانسان وصوت الامة السمفوني في نفوس اجيالها وهو الرياح التي تكتسح الحواجز , هو الطفل البريء واليائس المغني للحرية . ألم يقل لورد بايرون " الشعر جمح الخيال , وباندفاعه يمنع حصول هزة أرضية "
الشعر هذا الشاهد .. الهاجس , هذا المخلوق الجميل , هذا النزيف الرائع, والالم المبدع الخلاق .. شرط ضروري من ضرورات العيش وجزء اساسي من جمال العالم والكائنات. فالعالم بلا شعر أقل جمالا وأقل انسانية .
وما دام الشعر محاولة لحياة اخف وطأة فهو تاليا احدى وسائل الدفاع الذاتي والانساني في المواجهة التي بخوضها انسان اليوم ضد المكننة والاستغلال وتشيؤ الانسان وضد تحويل الفرد الى ( روبوت ) والجماعات الى جيوش آلية ..
يقول فولتير " الشعر موسيقا الروح التي تسبح فوق الجميع انه يصدر عن نفوس عظيمة لم تفقد القدرة على الاحساس بعد" .. فالشاعر الحقيقي هو الرائد المكتشف الذي يغني القارئ ويفتح لحسه وفكره آفاقا جديدة .. لدى الشاعر القدرة على الارتباك والخوف و الصراخ وتحطيم التابوات. هو، ببساطة، مفتوناً بصوَر الرّمل والشّساعة العارية يحمل في فمه كبسولة العدم ويزرع يأسه في أرض الشعر، لتنبت القصيدة، وتعرّش في السماء وترفعه إليها ليكتشفها. ولأن أعظم شأنا من الأمر الواقع. ينفس عبر خياله مراراته وخيباته، الكبيرة والصغيرة، العامة والخاصة، الموضوعية والذاتية.
الشاعر لايهادن .. ويتألق وسط الآلام والعذاب .. انه كالانبياء يقود الانسانية الى هيكل الفن الخالد .. والشاعر هو وحيده الذي يصل الى قلب الله ليقول لنا ما في هذا القلب .
الشاعر متألم نيابة عن الجميع .. ألم واسرار .. ووسط الألم والاسرار مساحة لكل الهواجس والاوطان والنساء .. كأنما ليقوى على صنعنا في عزلتنا المريرة . وفي توحدنا الاليم , دون أن يتوانى عن زجنا في الجحيم لنترقب الفردوس بأعين من اسى ..
يرافقه إحساس بعزلة أكيدة، وألم فائض عن النفس والتعبير، حيث لا شيء يسلّي قلبه الغريب ويؤنس روحه سوى الكلمة، ورغم القسوة المنتشرة بين الناس ، لا ييأس الشاعر ابدا من الخلاص الروحي للبشر، ان تعاسات البشر تزيده ثقة ويقينا في الخلاص، وفي بناء عالم جديد اكثر عدالة .
العالم بالنسبة للشاعر عمل شعري، الطبيعة متكلمة وحاضرة،يجد الجمال في المهمل والمتروك و المهجور وفي كل مادة وكل شكل، يبدو وكأنه يبحث في طريقه عن جمال كهذا، يجده ويلتقطه ويتأمله. عليك أن تكون شاعرا أولا، لأن تملك هذه القدرة على تكليم الأشياء أو على مساءلتها.. يسائل الشاعر العالم، يسائل الانسان المنجرف في هذا العالم: عن الكل، عن اللحظة، عن الفكرة، عن أي حادث، يسائله في طمأنينته الوهمية،. ويتأمل الشاعر أيضاً بجرأة المكان الذي يقطنه، العلاقات بين الداخل والخارج، يتأمل الكلام والصمت، الغياب والحضور. أما الشعر فانما ينهض على لعبة هذه المتناقضات والأصداء .
في النهاية، الشاعر شاهد يتميز برؤية سحر الحياة. يروي الصراعات والمآسي والجمال من خلال موضوع يتكرر: الحب في كل معانيه. يصارع الموتَ القابع في انتظاره، وهو أيضاً الشاهد على كل الهمجية التي صنعها الإنسان.. يطلق صرخته التي لا تهادن .
ان القوس الاكثر توترا هي الشعر.. انه دائما عنصر القلق وسط الاطمئنان , والبحث وسط الاكتفاء والتساؤل وسط الاجوبة . انه اللهفة التي لا تهدأ الى مالم نعرفه او لم نسيطر عليه بعد , انه الطريق التي تقودنا دون توقف صوب المستقبل – صوب المجهول .. الشعر هو استمرار ومعايشة نتخطى فيه حدود الحاضر احيانا الى الماضي او المستقبل من خلال خيال مبدع او حلم او اسئلة . هو الأنا المندمجة بهجوم الكل وساعات الواقع ..يلازمنا في تفاصيل الدقائق والفرح والحزن .. ندخله في ملامح الصور التي تلوح امامنا وحركة الاشياء , نحصي فيه درجات الخير والشر , الحب والكره , العدل والظلم .
ونجد في ما ننفك نردد تساؤل جان كوكتو :"الشعر ضرورة , وآه لو اعرف لماذا ؟ .."
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق