الجمعة، 19 يناير 2024

بدر شاكر السياب .. مختارات شعرية

 


ولد الشاعر بدر شاكر السياب في 25/12/1925 في قرية جيكور التي اغرم بها وهام أحدهما الآخر... وهي من قري قضاء (أبي الخصيب) في محافظة البصرة.

والده: شاكر بن عبد الجبار بن مرزوق السياب، ولد في قرية (بكيع) واكمل دراسته في المدرسة الرشيدية في أبي الخصيب وفي البصرة أثناء العهد العثماني، زاول التجارة والأعمال الحرة وخسر في الجميع ثم توظف في دائرة (تموين أبي الخصيب) توفي في 7/5/1963. وأولاده (د. عبد الله وبدر ومصطفي).

والدته: هي كريمة بنت سياب بن مرزوق السياب، توفيت قبله بمدة طويلة، وتركت معه أخوان أصغر منه، فتزوج أبوه امرأة أخري.

قريته : هي قرية جيكور... قرية صغيرة لا يزيد عدد سكانها آنذاك علي (500) نسمة، اسمها مأخوذ في الأصل من الفارسية من لفظة (جوي كور) أي (الجدول الأعلى)، تحدثنا كتب التاريخ علي أنها كانت موقعاً من مواقع الزنج الحصينة، دورها بسيطة مبنية من طابوق اللبن، الطابوق غير المفخور بالنار وجذوع أشجار النخيل المتواجدة بكثرة في بساتين جيكور التي يملك (آل السياب) فيها أراضٍ مزروعة بالنخيل تنتشر فيها انهار صغيرة تأخذ مياهها من شط العرب...، وحين يرتفع المد تملئ الجداول بمائه، وكانت جيكور وارفة الظلال تنتشر فيها الفاكهة بأنواعها ـ مرتعاً وملعباً ـ وكان جوّها الشاعري الخلاب أحد ممهدات طاقة السياب الشعرية وذكرياته المبكرة فيه ظلت حتي أخريات حياته تمد شعره بالحياة والحيوية والتفجر (كانت الطفولة فيها بكل غناها وتوهجها تلمع أمام باصرته كالحلم... ويسجل بعض أجزائها وقصائده ملأي بهذه الصور الطفولية...) كما يقول صديقه الحميم، صديق الطفولة : الشاعر محمد علي إسماعيل. هذه القرية تابعة لقضاء أبي الخصيب الذي أسسه (القائد مرزوق أبي الخصيب) حاجب الخليفة المنصور عام 140 هـ والذي شهد وقائع تاريخية هامة سجّلها التاريخ العربي، أبرزها معركة الزنج ما تبعها من أحداث.


هذا القضاء الذي برز فيه شعراء كثيرون منهم (محمد محمود) من مشاهير المجددين في عالم الشعر والنقد الحديث و(محمد علي إسماعيل) صاحب الشعر الكثير في المحافظة و(خليل إسماعيل) الذي ينظم المسرحيات الشعرية ويخرجها بنفسه ويصور ديكورها بريشته و(مصطفي كامل الياسين) شاعر و(مؤيد العبد الواحد) الشاعر الوجداني الرقيق وهو من رواة شعر السياب و(سعدي يوسف) الشاعر العراقي المعروف و(عبد اللطيف الدليشي) الأديب البصري و(عبد الستار عبد الرزاق الجمعة) وآخرين...


نهر بويب :

تنتشر في أبي الخصيب انهار صغيرة تأخذ مياهها من شط العرب وتتفرع إلي انهار صغيرة... منها (نهر بويب) ، النهر الذي ذكره الشاعر كثيراً في قصائده... هذا النهر الذي كان في الأصل وسيلة اروائية بساتين النخيل، يبعد عن شط العرب اكثر من كيلومتر واحد، والذي لا ينبع منه بل يأخذ مياهه من نهر آخر اسمه (بكيع) بتصغير كلمة (بقعه)، يتفرع إلي فرعين احدهما نهر بويب، أما الآن فهو مجري عادي صغير جفّت مياهه وغطّي النهر نباتات (الحلفاء) وبعض الحشائش.

وفي السابق كان علي جانبيه أشجار الخوخ والمشمش والعنب، وكان بدر يحب ان يلعب في ماء بويب ويحلو له ان يلتقط المحار منه ويجلس علي نخلة ينظر الماء المنساب.


وفي لقاء مع (عبد المجيد السياب) عم الشاعر قال...: (كنت أعرف مكان السياب علي النهر (نهر بويب) من الأوراق... إذ كان عندما يكتب يمزق كثيراً من الأوراق ويرميها في النهر فأهتدي بها إليه...).


وعن سر اهتمام السياب بـ (بويب) قال السيد عبد المجيد… في نهاية الأربعينيات قرأت قصيدة لبابلو نيرودا يتحدث عن نهر لا اذكر اسمه وكان السياب قريب مني، فقرأ القصيدة واعتقد انه تأثر بها فكتب قصيدته (بويب).


منزل الأقنان:

قال أحمد عبد العزيز السياب..: (ان دار السياب قد قسمت إلي قسمين... دار جدي... ومنزل الأقتان الذي خلّده كثيراً في شعره، يبعد هذا المنزل عشرين متراً عن الدار الحقيقية وهو بيت فلاحي جد بدر الذين استغلتهم عائلة السياب، وهو بيت واسع قديم مهجور كان يدعي (كوت المراجيح) وكان هذا البيت في العهد العثماني مأوي عبيد (أسرة السياب) وكان الشعر بدر قد جعل من منزل الأقتان في أيام طفولته مقر الجريدة كان يخطّها ويصدرها الشاعر باسم (جيكور) يتناقلها صبيان القرية ثم تعود في ختام قراءتها من قبل أصدقاء بدر ليلصقها الشاعر علي حائط منزل الأقتان.


بعض من ارتبط بهن وأحبهنّ:

ولابد من ذكر من ارتبط بهن وأحبهن...:


ـ كانت الراعية (هويله) هي أول امرأة خفق لها قلبه وأحبها، حيث كانت اكبر منه سنا ترعي أغنام لها، يقابلها خارج قريته، وفجأة تحول إلي حب فتاة جميلة عمرها آنذاك (15) سنة، كانت تأتي إلي قريته والسياب في عنفوان شبابه وهو الباحث عن الحنين فالتجأ يتشبث بحب (وفيقه) التي كانت تسكن علي مقربة من بيت الشاعر. كان البيت فيه شباكاً مصبوغاً باللون الأزرق يعلو عن الأرض مترا أو يطل علي درب قرب من بيت قديم، شباك وفيقة التي لم يسعده حظه في الزواج منها، في شباكها قال شعرا جميلا، ولم يعرف لحد الآن هل أن وفيقة كانت تبادله الحب أم لا.

ولم يكن في جيكور مدرسة في ذلك الوقت، لذا كان علي السياب أن يسير مشيا إلي قرية (آل إبراهيم) الواقعة بالقرب من جيكور بعد أن انهي الصف الرابع بنجاح وانتقل إلي مدرسة المحمودية والتي كانت إدارة المدرسة مطلة علي الشارع، شناشيل ملونة، وكان بيت الجلبي يقع خلف المدرسة، كان الشاعر يجول في هذه الطرقات المؤدية إليه سيما وأن له زملاء وهو بعيد عن جيكور، وكانت (ابنة الجلبي) فتاة جميلة كان يراها السياب وهو ماراً بزقاق يؤدي لمسكنها، فان يتغزل بها ويحبها من طرف واحد فقط.


ـ وفي دار المعلمين العالية في بغداد وقع في حب جديد، فتاة بغدادية أخذت حظها من العلم والمعرفة ولها فوق ثقافتها جمال يأخذ بالألباب وهي التي يصفها بأن لها في وجهها غمّازة، تلبس العباءة وكانت عندما تمر به تضع العباءة علي وجهها كي لا تراه وكانت (نازك الملائكة) صديقة (لباب) التي احبها الشاعر من جانب واحد وكانت ذكية وجميلة جدا وكان أهلها يوصونها أن تعبس عندما تسير لكي لا يطمع الآخرون بملاحقتها وقد أعرضت عن كل الذين خطبوها.

وأحب زميلة له حبا من طرف واحد أيضا وكان حبا أفلاطونيا ارتفع حب الخيال حتي جاوز الحد وتضاءلت فيه رغبة الجسم فما كان منها إلا أن تتزوج رجلا ثريا وتترك السياب بآلامه.


وتعرّف على الشاعرة (لميعة عباس عمارة) في دار المعلمين العالية، وكانت علاقة...


كانت بادئ ذي بدء ذات طابع سياسي ولكن ـ كعادته ـ وقع في حبها لأنها كانت من اخلص صديقاته، وقال فيها قصائد كثيرة ودعاها السياب لزيارته في جيكور وبقيت في ضيافته ثلاثة أيام كانا يخرجان سوية إلي بساتين قريته ويقرأ لها من شعره وهما في زورق صغير.

ويتعرف الشاعر على صديقة بلجيكية، اسمها (لوك لوران) وقد وعدته ان تزور قريته جيكور فكتب قصيدة تعتبر من أروع قصائده الغزلية...

وشاء حظه أن يلتقي بمومس عمياء اسمها (سليمه) فاكتشف من خلالها عالم الليل والبغاء واكتشف أسرارا غريبة وأعطانا صورة صادقة لما كانت تعانيه هذه الطبقة من الناس، فكانت قصيدته الرائعة (المومس العمياء) التي صوّر فيها الواقع الاجتماعي آنذاك وواقع المرأة بصورة خاصة.


زواجه :

ويتزوج السياب إحدي قريباته، وأحب زوجته فكان لها الزوج المثالي الوفي، وكانت هي كذلك، فقد انجبت منه غيداء وغيلان وآلاء، ولمّا أصابه المرض كانت مثال المرأة الحنونة، المحتملة كل متاعب والأم الحياة، حيث كانت الأيام معه أياما قاسية. تقول عنها زوجته السيدة إقبال...:

(عندما تغدو قسوة الأيام ذكريات، تصبح جزءا لا يتجزأ من شعور الإنسان، تترسب في أعماقه طبقة صلبة يكاد يشعر بثقلها إذ ما تزال تشدني ذكرياتي معه كلما قرأت مأساة وسمعت بفاجعة).


تقول عن كيفية زواجها منه...:

لم أتعرف عليه بمعني الكلمة (التعارف والحب واللقاء) إنما كانت بيننا علاقة مصاهرة حيث أن أختي الكبري كانت زوجة لعم الشاعر (السيد عبد القادر السياب) في أوائل الثلاثينات، وكان أخي قد تزوج من أسرة السياب، وبعد نيل الموافقة الرسمية تم عقد الزواج في 19 حزيران (يونيو) 1955 في البصرة ثم انتقلنا إلي بغداد


كانت السنوات الثلاث الأخيرة من حياته فترة رهيبة عرف فيها صراع الحياة مع الموت. لقد زجّ بجسمه النحيل وعظامه الرقاق إلي حلبة هذا الصراع الذي جمع معاني الدنيا في سرير ضيق حيث راح الوهن وهو يتفجر عزيمة ورؤي وحبا، يقارع الجسم المتهافت المتداعي، وجه الموت يحملق به كل يوم فيصدّه الشاعر عنه بسيف من الكلمة... بالكلمة عاش بدر صراعه، كما يجب أن يعيش الشاعر، ولعل ذلك لبدر، كان الرمز الأخير والأمضّ، للصراع بين الحياة والموت الذي عاشه طوال عمره القصير علي مستوي شخصه ومستوي دنياه معاً. فهو قبل ذلك إذ كان جسده الضامر منتصبا، خفيفا، منطلقا يكاد لا يلقي علي الأرض ظلا لشدة شفافيته.


للسياب آثار مطبوعة هي:

أزهار ذابلة (شعر)، أساطير (شعر)، المومس العمياء (ملحمة شعرية)، حفار القبور (قصيدة طويلة)، الأسلحة والأطفال (قصيدة طويلة)، مختارات من الشعر العالمي الحديث (قصائد مترجمة)، أنشودة المطر (شعر)، المعبد الغريق (شعر)، منزل الأقنان (شعر)، شناشيل ابنة الجلبي (شعر)، ديوان بجزئين (إصدار دار العودة).


أما آثاره المخطوطة فهي:

زئير العاصفة (شعر)، قلب آسيا (ملحمة شعرية)، القيامة الصغري (ملحمة شعرية)، من شعر ناظم حكمت (تراجم)، قصص قصيدة ونماذج بشرية، مقالات وبحوث مترجمة عن الإنكليزية منها السياسية والأدبية… مقالات وردود نشرها في مجلة الأداب... شعره الأخير بعد سفره إلي الكويت ولم يطبع في ديوانه الأخير (شناشيل ابنة الجلبي) قصائد من إيديث ستويل.

***

غربة الروح

يا غربة الروح في دنيا من الحجر

والثلج والقار والفولاذ والضجر

يا غربة اروح لا شمس فأئتلق

فيها ولا أفق

يطير فيه خيالي ساعة السحر

نا تضيء الخواء البرد تحترق

فيها المسافات تدنيني بلا سفر

من نخل جيكور أجني داني الثمر

نار بلا سمر

إلا أحاديث من ماضي تندفق

كأنهن حفيف منه أخيلة

في السمع باقية تبكي بلا شجر

يا غربة الروح في دنيا من الحجر

مسدودة كل آفاقي بأبنية

سود وكانت سمائي يلهث البصر

في شطها مثل طير هده السفر

النهر والشفق

يميل فيه شراع يرجف الألق

في خفقه وهو يحثو كلما ارتعشا

دنيا فوانيس في الشطين تحترق

فراشة بعد أخرى تنشر الغبشا

فوق الجناحين حتى يلهث النظر

الحب كان انخطاف الروح ناجاها

روح سواها له من لمسة بيد

ذخيرة من كنوز دونما عدد

الحب ليس انسحاقا في رحى الجسد

ولا عشاء وخمرا من حمياها

تلتف ساق بساق وهي خادرة

تحت الموائد تخفي نشوة البشر

عن نشوة الله من همس ومن سمر

في خيمة القمر

يا غربة الروح لا روح فتهواها

لولا الخيالات من ماضي تنسرب

كأنها النوم مغسولا به التعب

لم يترك الضجر

مني ابتساما لزوج سوف ألقاها

إن عدت من غربة المنفى هو السحر

والحلم كالطل ميتلا به الزهر

يمس جفنين من نور وينسكب

في الروح أفرحها حينا وأشجاها

تسللت طرقتي للباب تقترب

من وعيها وهو يغفو ثم تنسحب

ونشر الحلم أستارا فأخفاها

ورف جفناها

حتى كأن يدي

****


 مدينة السندباد


جوعان في القبر بلا غذاء

عريان في الثلج بلا رداء

صرخت في الشتاء

أقضّ يا مطر

مضاجع العظام والثلوج والهباء

مضاجع الحجر

وأنبت البذور ولتفتح الزّهر

وأحرق البيادر العقيم بالبروق

وفجّر العروق

وأثقل الشجر

وجئت يا مطر

تفجّرت تنثك السماء والغيوم

وشقّق الصخر

وفاض من هباتك الفرات واعتكر

وهبّت القبور هزّ موتها وقام

وصاحت العظام

تبارك الإله واهب الدّم المطر

فآه يا مطر

نودّ لو ننام من جديد

نودّ لو نموت من جديد

فنومنا براعم انتباه

وموتنا يخبّئ الحياة

نود لو أعادنا الإله

إلى ضمير غيبة الملبّد العميق

نود لو سعى بنا الطريق

إلى الوراء حيث بدؤه البعيد

من أيقظ العازر من رقاده الطويل

ليعرف الصباح والأصيل

والصيف والشتاء

لكي يجوع أو يحسّ جمرة الصدى

ويحذر الردى

ويحسب الدقائق الثّقال والسّراع

ويمدح الرعاع

ويسفك الدماء

من الذي أعادنا أعاد ما نخاف

من الإله في ربوعنا

تعيش ناره على شموعنا

يعيش حقده على دموعنا

-2-

أهذا أدونيس هذا الحواء

وهذا الشحوب وهذا الجفاف

أهذا أودنيس أين الضياء

وأين القطاف

مناجل لا تحصد

أزاهر لا تعقد

مزارع سوداء من غير ماء

أهذا انتظار السنين الطويلة

أهذا صراخ الرجولة

أهذا أنين النساء

أودنيس يا لاندحار البطولة

لقد حطم الموت فيك الرجاء

وأقبلت بالنظرة الزائغة

وبالقبضة الفارغة

بقبضة تهدّد

ومنجل لا يحصد

سوى العظام والدم

اليوم والغد

متى سيولد

متى سنولد

-3-

الموت في الشوارع

والعقم في المزارع

وكل ما نحبّه يموت

الماء قيّدوه في البيوت

وألهث الجداول الجفاف

هم التتار أقبلوا ففي المدى رعاف

وشمسنا دم وزادنا دم على الصّحاف

محمد اليتيم أحرقوه فالمساء

يضيء من حريقه وفارت الدماء

من قدميه من يديه من عيونه

وأحرق الإله في جفونه

محمّد النبيّ في حراء قيّدوه

فسمّر النهار حيث سمّروه

غدا سيصلب المسيح في العراق

ستأكل الكلاب من دم البراق

-4-

يا أيها الربيع

يا أيها الربيع ما الذي دهاك

جئت بلا مطر

جئت بلا زهر

جئت بلا ثمر

وكان منتهاك مثل مبتداك

يلفه النجيع

وأقبل الصيف علينا أسود الغيوم

نهاره هموم

وليله نسهر فيه نحسب النجوم

حتى إذا السنابل

نضجن للحصاد

وغنت المناجل

وغطت البيادر الوهاد

خيّل للجياع أنّ ربّة الزّهر

عشتار قد أعادت الأسير للبشر

وكللت جبينه الغضير بالثمر

خيّل للجياع أنّ كاهل المسيح

أزاح عن مدفنه الحجر

فسار يبعث الحياة في الضّريح

ويبرئ الأبرص أو يجدّد البصر

من الذي أطلق من عقالها الذئاب

من الذي سقى من السّراب

وخبأ الوباء في المطر

الموت في البيوت يولد

يولد قابيل لكي ينتزع الحياة

من رحم الأرض ومن منابع المياه

فيظلم الغد

وتجهض النساء في المجازر

ويرقص اللهيب في البيادر

ويهلك المسيح قبل العازر

دعوه يرقد

دعوه فالمسيح ما دعاه

ما تبتغون لحمه المقدّد

يباع في مدينة الخطاة

مدينة الحبال والدماء والخمور

مدينة الرصاص والصخور

أمس أزيح من مداها فارس النّحاس

أمس أزيح فارس الحجر

فران في سمائها النعاس

ورنق الضجر

وجال في الدروب فارس من البشر

يقتل النساء

ويصبغ المهود بالدماء

ويلعن القضاء والقدر

-5-

كأن بابل القديمة المسوّرة

تعود من جديد

قبابها الطوال من حديد

يدق فيها جرس كأنّ مقبرة

تئن فيه والسماء ساح مجزرة

جنانها المعلقات زرعها الرؤوس

تجرها قواطع الفؤوس

وتنقر الغربان من عيونها

وتغرب الشموس

وراء شعرها الخصيب في غصونها

أهذه مدينتي؟ أهذه الطلول

خطّ عليها عاشت الحياة

من دم قتلاها فلا إله

فيها ولا ماء ولا حقول

أهذه مدينتي؟ خناجر التتر

تغمد فوق بابها وتلهث الفلاة

حول دروبها ولا تزورها القمر

أهذه مدينتي أهذه الحفر

وهذه العظام

يطلّ من بيوتها الظلام

وتصبغ الدماء بالقتام

لكي تضيع لا يراها قاطع الأثر

أهذه مدينتي جريحة القباب

فيها يهوذا أحمر الثياب

يسلّط الكلاب

على مهود إخوتي الصغار والبيوت

تأكل من لحومهم وفي القرى تموت

عشتار عطشى ليس في جبينها زهر

وفي يديها سلة ثمارها حجر

ترجم كل زوجة به وللنخيل

في شطّها عويل

إذ تطرق الباب مست منهما واها

من دق بابي أهذا أنت يا كبدي

وذاب من قبلتي ما خلف السهر

في عينها من نعاس فهي تزدهر

كوردة فتحت للفجر عيناها

***


 غريب على الخليج


الريح تلهث بالهجيرة كالجثام، على الأصيل

وعلى القلوع تظل تطوى أو تنشّر للرحيل

زحم الخليج بهنّ مكتدحون جوّابو بحار

من كل حاف نصف عاري

وعلى الرمال، على الخليج

جلس الغريب، يسرّح البصر المحيّر في الخليج

ويهدّ أعمدة الضياء بما يصعّد من نشيج

أعلى من العبّاب يهدر رغوه ومن الضجيج"

صوت تفجّر في قرارة نفسي الثكلى: عراق

كالمدّ يصعد، كالسحابة، كالدموع إلى العيون

الريح تصرخ بي عراق

والموج يعول بي عراق، عراق، ليس سوى عراق

البحر أوسع ما يكون وأنت أبعد ما يكون

والبحر دونك يا عراق

بالأمس حين مررت بالمقهى، سمعتك يا عراق

وكنت دورة أسطوانة

هي دورة الأفلاك في عمري، تكوّر لي زمانه

في لحظتين من الأمان، وإن تكن فقدت مكانه

هي وجه أمي في الظلام

وصوتها، يتزلقان مع الرؤى حتى أنام

وهي النخيل أخاف منه إذا ادلهمّ مع الغروب

فاكتظّ بالأشباح تخطف كلّ طفل لا يؤوب

من الدروب

وهي المفليّة العجوز وما توشوش عن حزام

وكيف شقّ القبر عنه أمام عفراء الجميلة

فاحتازها.. إلا جديلة

زهراء أنت.. أتذكرين

تنّورنا الوهّاج تزحمه أكف المصطلين؟

وحديث عمتي الخفيض عن الملوك الغابرين؟

ووراء باب كالقضاء

قد أوصدته على النساء

أبد تطاع بما تشاء، لأنها أيدي الرجال

كان الرجال يعربدون ويسمرون بلا كلال

أفتذكرين؟ أتذكرين؟

سعداء كنا قانعين

بذلك القصص الحزين لأنه قصص النساء

حشد من الحيوات والأزمان، كنا عنفوانه

كنا مداريه اللذين ينام بينهما كيانه

أفليس ذاك سوى هباء؟

حلم ودورة أسطوانة؟

إن كان هذا كلّ ما يبقى فأين هو العزاء؟

أحببت فيك عراق روحي أو حببتك أنت فيه

يا أنتما - مصباح روحي أنتما - وأتى المساء

والليل أطبق، فلتشعّا في دجاه فلا أتيه

لو جئت في البلد الغريب إلى ما كمل اللقاء

الملتقى بك والعراق على يديّ.. هو اللقاء

شوق يخضّ دمي إليه، كأن كل دمي اشتهاء

جوع إليه.. كجوع كلّ دم الغريق إلى الهواء

شوق الجنين إذا اشرأبّ من الظلام إلى الولادة

إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون

أيخون إنسان بلاده؟

إن خان معنى أن يكون، فكيف يمكن أن يكون؟

الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام

حتى الظلام - هناك أجمل، فهو يحتضن العراق

واحسرتاه، متى أنام

فأحسّ أن على الوسادة

من ليلك الصيفي طلاّ فيه عطرك يا عراق؟

بين القرى المتهيّبات خطاي والمدن الغريبة

غنيت تربتك الحبيبة

وحملتها فأنا المسيح يجرّ في المنفى صليبه،

فسمعت وقع خطى الجياع تسير، تدمي من عثار

فتذر في عيني، منك ومن مناسمها، غبار

ما زلت اضرب مترب القدمين أشعث، في الدروب

تحت الشموس الأجنبية

متخافق الأطمار، أبسط بالسؤال يدا نديّة

صفراء من ذل وحمى: ذل شحاذ غريب

بين العيون الأجنبية

بين احتقار، وانتهار، وازورار.. أو (خطيّة)

والموت أهون من خطّية

من ذلك الإشفاق تعصره العيون الأجنبية

قطرات ماء..معدنيّة

فلتنطفي، يا أنت، يا قطرات، يا دم، يا.. نقود

يا ريح، يا إبرا تخيط لي الشراع، متى أعود

إلى العراق؟ متى أعود؟

يا لمعة الأمواج رنحهن مجداف يرود

بي الخليج، ويا كواكبه الكبيرة.. يا نقود

ليت السفائن لا تقاضي راكبيها من سفار

أو ليت أن الأرض كالأفق العريض، بلا بحار

ما زلت أحسب يا نقود، أعدكنّ وأستزيد،

ما زلت أنقص، يا نقود، بكنّ من مدد اغترابي

ما زلت أوقد بالتماعتكن نافذتي وبابي

في الضفّة الأخرى هناك. فحدثيني يا نقود

متى أعود، متى أعود؟

أتراه يأزف، قبل موتي، ذلك اليوم السعيد؟

سأفيق في ذاك الصباح، وفي السماء من السحاب

كسر، وفي النسمات برد مشبع بعطور آب

وأزيح بالثؤباء بقيا من نعاسي كالحجاب

من الحرير، يشف عما لا يبين وما يبين

عما نسيت وكدت لا أنسى، وشكّ في يقين

ويضيء لي _ وأنا أمد يدي لألبس من ثيابي-

ما كنت ابحث عنه في عتمات نفسي من جواب

لم يملأ الفرح الخفي شعاب نفسي كالضباب؟

اليوم _ واندفق السرور عليّ يفجأني- أعود

واحسرتاه.. فلن أعود إلى العراق

وهل يعود

من كان تعوزه النقود؟ وكيف تدّخر النقود

وأنت تأكل إذ تجوع؟ وأنت تنفق ما تجود

به الكرام، على الطعام؟

لتبكينّ على العراق

فما لديك سوى الدموع

وسوى انتظارك، دون جدوى، للرياح وللقلوع

***


قصيدة رحل النهار



رحل النهار

ها إنه انطفأت ذبالته على أفق توهّج دون نار

وجلست تنتظرين عودة سندباد من السّفار

والبحر يصرخ من ورائك بالعواصف والرعود

هو لن يعود

أو ما علمت بأنه أسرته آلهة البحار

في قلعة سوداء في جزر من الدم والمحار

هو لن يعود

رحل النهار

فلترحلي هو لن يعود

الأفق غابات من السحب الثقيلة والرعود

الموت من أثمارهنّ وبعض أرمدة النهار

الموت من أمطارهنّ وبعض أرمدة النهار

الخوف من ألوانهنّ وبعض أرمدة النهار

رحل النهار

رحل النهار

وكأنّ معصمك اليسار

وكأنّ ساعدك اليسار وراء ساعته فنار

في شاطئ للموت يحلم بالسفين على انتظار

رحل النهار

هيهات أن يقف الزمان تمر حتى باللحود

خطى الزمان وبالحجار

رحل النهار ولن يعود

الأفق غابات من السحب الثقيلة والرعود

الموت من أثمارهنّ وبعض أرمدة النهار

الموت من أمطارهنّ وبعض أرمدة النهار

الخوف من ألوانهنّ وبعض أرمدة النهال

رحل النهار

رحل النهار

خصلات شعرك لم يصنها سندباد من الدمار

شربت أجاج الماء حتى شاب أشقرها وغار

ورسائل الحب الكثار

مبتلة بالماء منطمس بها ألق الوعود

وجلست تنتظرين هائمة الخواطر في دوار

سيعود لا غرق السفين من المحيط إلى القرار

سيعود لا حجزته صارخة العواصف في إسار

يا سندباد أما تعود؟

كاد الشباب يزول تنطفئ الزنابق في الخدود

فمتى تعود

أواه مدّ يديك بين القلب عالمه الجديد

بهما ويحطم عالم الدم والأظافر والسعار

بيني ولو لهنيهة دنياه

أه متى تعود

أترى ستعرف ما سيعرف ما سيعرف كلما انطفأ النار

صمت الأصابع من بروق الغيب في ظلم الوجود؟

دعني لآخذ قبضتيك كماء ثلج في انهمار

من حيثما وجّهت طرفي ماء ثلج في انهمار

في راحتيّ يسيل في قلبي يصبّ إلى القرار

يا طالما بهما حلمت كزهرتين على غدير

تتفتحان على متاهة عزلتي

رحل النهار

والبحر متسع وخاو لا غناء سوى الهدير

وما يبين سوى شراع رنحته العاصفات وما يطير

إلا فؤادك فوق سطح الماء يخفق في انتظار

رحل النهار

فلترحلي رحل النهار.

***


قصيدة في السوق القديم


-1-

الليل،والسوق القديم

خفتت به الأصوات،إلا غمغمات العابرين

وخطى.. الغريب

وما تبثّ الريح من نغم حزين

في ذلك الليل البهيم

الليل، والسوق القديم، وغمغمات العابرين

والنور تعصره المصابيح الحزانى في شحوب

مثل الضباب على الطريق

من كل حانوت عتيق

بين الوجوه الشاحبات

كأنّه نغم يذوب

في ذلك السوق القديم

-2-

كم طاف قبلي من غريب

في ذلك السوق الكئيب

فرأى وأغمض مقلتيه، وغاب في الليل البهيم

وارتجّ في حلق الدخان

خيال نافذة تضاء

والريح تعبث بالدخان......0

الريح تعبث، في فتور واكتئاب، بالدخان

وصدى.. غناء

يذكّر بالليالي المقمرات... وبالنخيل

وأنا.الغريب أظل أسمعه... وأحلم بالرحيل

في ذلك السوق القديم

-3-

وتناثر الضوء الضئيل على البضائع.. كالغبار

يرمي الظلال..على الظلال

كأنّها اللحن الرتيب

ويريق ألوان المغيب الباردات، على الجدار

بين الرفوف الرازحات، كأنها سحب المغيب

الكوب يحلم بالشراب وبالشفاة

ويدٍ تلونها الظهيرة... والسراج

أو النجوم

ولربما بردت عليه، وحشرجت فيه الحياة

في ليلة ظلماء.. باردة الكواكب والرياح

في مخدع سهر السراج به

وأطفأه.. الصباح

-4-

ورأيت من خلل الدخان، مشاهد الغد..كالظلال

تلك المناديل الحيارى... وهي تومئ بالوداع

أو تشرب الدمع الثقيل.. وما تزال

تطفو.. وترسب في خيالي

هوّم العطر المضاع فيها

وخضّبها..الدم الجاري

لون الدّجى... وتوقّد النار

يجلو الأريكة ثم تخفيها الظلال الراعشات

وجه أضاء... شحوبه اللهب

يخبو... ويسطع... ثم يحتجب

ودم

يغمغم وهو يقطر ثم يقطر

مات... مات

-5-

الليل، والسوق القديم، وغمغمات العابرين

وخطى الغريب

وأنت أيتها الشموع ستوقدين

في المخدع المجهول في الليل الذي لن تعرفيه

تلقين ضوءك في ارتخاء مثل أمساء الخريف

حقل تموج به السنابل تحت أضواء الغروب

تتجمع الغرباء فيه

تلقين ضوءك في ارتخاء مثل امساء الخريف

في ليلة قمراء سكرى بالأغاني في الجنوب

نقر [الداربك] من بعيد

يتهامس السعف الثقيل به ويصمت من جديد!

-6-

قد كان قلبي مثلكن، وكان يحلم باللهيب

حتى أتاح له الزمان يدا ووجها في الظلام

نار الهوى ويد الحبيب

ما زال يحترق الحياة، وكان عام بعد عام

يمضي، ووجه بعد وجه مثلما غاب الشراع

بعد الشراع وكان يحلم في سكون، في سكون

بالصدر، والفم، والعيون

والحب ظلله الخلود.. فلا لقاء ولا وداع

لكنه الحلم الطويل

بين التمطي والتثاؤب تحت أفياء النخيل

-7-

بالأمس كان وكان ثم خبا، وأنساه الملال

واليأس، حتى كيف يحلم بالضياء- فلا حنين

يغشى دجاه، ولا اكتئاب، ولا بكاء، ولا أنين

الصيف يحتضن الشتاء ويذهبان وما يزال

كالمنزل المهجور تعوي في جوانبه الرياح

كالسلم المنهار، لا ترقاه في الليل الكئيب

قدم ولا قدم ستهبطه إذا التمع الصباح

ما زال قلبي في المغيب

ما زال قلبي في المغيب فلا أصيل ولا مساء

حتى أتت هي والضياء!

-8-

ما زال لي منها سوى أنا التقينا منذ عام

عند المساء، وطوقتني تحت أضواء الطريق

ثم ارتخت عني يداها وهي تهمس والظلام

يحبو، وتنطفئ المصابيح الحزانى والطريق:

أتسير وحدك في الظلام

أتسير والأشباح تعترض السبيل بلا رفيق

فأجبتها والذئب يعوى من بعيد من بعيد

أنا سوف أمضي باحثا عنها سألقاها هناك

عند السراب وسوف أبني مخدعين لنا هناك

قالت ورجع ما تبوح به الصدى أنا من تريد

أنا من تريد فأين تمضي؟ فيم تضرب في القفار

مثل الشريد أنا الحبيبة كنت منك على انتظار

أنا من تريد وقبلتني ثم قالت والدموع

في مقلتيها غير أنك لن ترى حلم الشباب

بيتا على التل البعيد يكاد يخفيه الضباب

لولا الأغاني وهي تعلو نصف وسنى والشموع

تلقى الضياء من النوافذ في ارتخاء في ارتخاء

أنا من تريد وسوف تبقى لا ثواء ولا رحيل

حب إذا أعطى الكثير فسوف يبخل بالقليل

لا يأس فيه ولا رجاء

-10-

أنا أيها النائي القريب

لك أنت وحدك غير أنى لن أكون

لك أنت أسمعها وأسمعهم ورائي يلعنون

هذا الغرام أكاد أسمع أيها الحلم الحبيب

لعنات أمي وهي تبكي أيها الرجل الغريب

إني لغيرك بيد أنك سوف تبقى لن تسير

قدماك سمرتا فما تتحركان ومقلتاك

لا تبصران سوى طريقي أيها العبد الأسير

أنا سوف أمضي فاتركيني: سوف ألقاها هناك

عند السراب

فطوقتني وهي تهمس: لن تسير

-11-

أنا من تريد، فأين تمضي بين أحداق الذئاب

تتلمس الدرب البعيد

فصرخت: سوف أسير ما دام الحنين إلى السراب

في قلبي الظامي دعيني أسلك الدرب البعيد

حتى أراها في انتظاري: ليس أحداق الذئاب

أقسى على من الشموع

في ليلة العرس التي تترقبين، ولا الظلام

والريح والأشباح أقسى منك أنت أو الأنام!

أنا سوف أمضي! فارتخت عني يداها والظلام

يطغى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق