الأحد، 9 أبريل 2017

روايات غسان كنفاني فـي السينـما

محمد عبيدو :


ولد غسان كنفاني لأسرة من الطبقة المتوسطة في عكا بفلسطين في 29 إبريل 1936. وقد تزامن ميلاده مع أحداث الانتفاضة الفلسطينية ضد الإنجليز والتي قتل فيها نحو خمسة آلاف فلسطيني (تشير بعض الأدبيات السياسية الفلسطينية المعاصرة إليها باعتبارها “الانتفاضة الأولى”). وبتأسيس اسرائيل في 1948 نزح كنفاني مع أسرته وأسر أخرى على ظهر شاحنة إلى لبنان، ومن هناك لجأ مع أسرته إلى سوريا، فواصل تعليمه من دون أن يتمكن من إكمال دراسته الجامعية في جامعة دمشق. وقد عمل كنفاني صحفياً ومعلماً في سوريا، والكويت، ولبنان. انضم كنفاني مبكراً إلى حركة القوميين العرب التي اعتنق فرعها الفلسطيني الفكر اليساري بالكامل بزعامة جورج حبش بعد نكسة 1967، فأصبح ذلك الفرع منظمة ثورية مسلحة هي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والتي من المعروف انها ألقت بظلاها على حركات التحرر الوطني في كامل الوطن العربي. وهكذا فقد صار كنفاني الناطق الرسمي بلسان الجبهة، خاصة لجهة اتقانه العصامي للغة الإنجليزية، وشغل منصب رئاسة تحرير صحيفة “الهدف”، لسان حال الجبهة. أنجز كنفاني كتابة سبع روايات (ترك اثنتين منهما غير مكتملتين)، وخمس مجموعات قصصية، ومسرحيتين، وعدد من الدراسات والمقالات السياسية الأدبية، والرسوم. اغتيل غسان كنفاني في تفجير سيارته المفخخة في بيروت في 9 يوليو 1972 بتدبير من عملاء الاستخبارات الإسرائيلية الخارجية، الموساد، وقد قضت معه في التفجير إبنة أخته الصغيرة . وقد كتب كنفاني “رجال في الشمس”، وهي روايته الأولى، في العام 1961 في أثناء وجوده متخفياً في بيروت لعدم توافره على أوراق ثبوتية رسمية، ونشرها في العام 1963.
لقد عاش كنفاني التطور التاريخي لشعبه، وعرف أيضاً ظلم وبؤس المنفى: أقام طويلاً في المخيمات، وسمع الشعب يتكلم، ليصوغ من جديد كلامه المفعم بالسخونة. أضف إلى ذلك أن نشاطاته كصحفي ومناضل ورسام ومعلم قد سمحت له تنويع وسائل التعبير. وانتقالاً من القصة إلى الرواية ثم إلى المسرحية، يظهر كنفاني إنه لا يمكن للقضية التي يدافع عنها أن تقف عند نوع فني واحد. إن عظمة القضية هذه تحتاج إلى دور إيجابي للمثقف الجمعي الخارج من وسط الجماهير، لهذا يؤكد كنفاني عند إيضاحه الشروط الاجتماعية التي عاشها شعبه:‏
"إن الفقر، والانسحاق، وتعاقب قرون مديدة من القهر القومي والطبقي، قد أدت مجتمعة إلى إنشاء، مؤسسة كاملة، للاستسلام والقدرية والخنوع، عكست نفسها بالأمثلة الشعبية السائدة. وكان على المثقفين الفلسطينيين، وخصوصاً على الشراء الشعبيين في الريف، مهمات عظيمة لزحزحة تلك الثقافة الخاملة، دون أن يكونوا هم أنفسهم قد تخلصوا جذرياً من تأثيراتها. والصحيح أن قطاعاً من المثقفين الفلسطينيين قد شرعوا يفعلون ذلك منذ وقت مبكر في تاريخ النضال الفلسطيني، وقد لعبوا دوراً بارزاً في بلورة وعي متقدم: إن العلاقة التي نشأت بين الأدب الشعبي الفلسطيني، وكذلك الأدب الفصيح في المدن، وبين حركة النضال الفلسطينية، لم تكن علاقة وصفية أو تسجيلية، ولكنها كانت علاقة جدلية من طراز عميق"
تستهوي قصص وروايات الشهيد غسان كنفاني صانعي الأفلام، ليس فقط بسبب بنائها ووضوح شخوصها ولكن أيضا بسبب الحبكة التي تقترب من السيناريو الأدبي للسينما.. وإذا ما تأملنا أعمال غسان كنفاني فإننا نجد صعوبة كما يحصل عادة في تحويل الأعمال الأدبية للسينما، لا نجد صعوبة في اقتباس السيناريو منها...
وعندما قال غسان كنفاني إنني أكتب بطريقة سينمائية.. فإنه يعني بذلك الصورة والبناء لأن السينما هي اختزال للزمن وتكثيف للأحداث وهي أكثر الأدوات الثقافية بلاغة في هذا الاتجاه.
ولو لم يكن حادث الاغتيال المفجع لكان غسان قد أغنى السينما بنصوص أدبية مبهرة، وفيما يلي رحلة في تجارب كنفاني التي تحولت إلى أفلام سينمائية.
«المخدوعون”: أول الأفلام التي تناولت القضية الفلسطينية بوعي عميق ونظرة شاملة في عرض فني لا ينقصه الوضوح نسبيا وبعيدا عن أية محاولات تجارية أو انتقالية شكلية، حصل على عدد من الجوائز العالمية تقديرا لقيمته التي مازال يحتفظ بها حتى الآن، فالنظرة الموضوعية التي اتسم بها بحثه بجوانب القضية والكشف عن الأسباب والنتائج وطرح الأسئلة الجوهرية عن المشكلة.
كل ذلك يجعل الفيلم بالإضافة إلى قيمته التاريخية قيمة حية حتى الآن قادرة على تنوير وعي الإنسان العربي بذاته وقضيته المصيرية، “المخدوعون” يحكي قصة الدوافع الخاصة لدى ثلاثة فلسطينيين من أجيال مختلفة التي تؤدي بهم إلى محاولة الدخول خلسة إلى الكويت، حيث يخبئهم سائق يمتهن التهريب داخل صهريج المياه المفرغ في سيارته فيلاقون حتفهم في النهاية لتأخر السائق في إنجاز معاملته في مخفر الحدود الكويتية فيلقي بهم في مكان ما في الصحراء ويتابع طريقه في ذهول ومن خلال العلاقات الثلاثية التي يحدد مسارها “ابو قيس ـ اسعد ـ مروان” مع الناس الذين يحيطون بهم والتي تتمازج في خطوط دقيقة ومتوازية.
يحدد لنا توفيق صالح الخط العام الرئيسي للفيلم والذي من خلال تحليله لنماذج أبطاله الثلاثة يشرح لنا الواقع الفلسطيني عبر مشاهد ـ الفلاش باك ـ التي تتداعى في ذكريات كل منهم.
والذي قرأ رواية “رجال تحت الشمس” لغسان كنفاني يجد أن أحداث فيلم “المخدوعون” تطابقها تمام المطابقة.. فلقد حافظ توفيق صالح على النص الروائي كما هو وبتسلسل أحداثه.
ولكن اختلفا مرتين: فالنهاية عند كنفاني تسير كما يلي: عندما يلقي السائق بالجثث فوق أكوام القمامة يتوقف أمام سيارته متشنجا يوشك رأسه أن ينفجر من فكرة مفزعة سيطرت عليه “لماذا لم يدقوا الخزان؟! ولم يقرعوا الخزان؟!”.
فأبطاله ماتوا خانعين في صمت دون أن يدقوا الخزان.. وهو يريد بهذه النهاية أن يرمز إلى أن الفلسطينيين كان عليهم أن يملأوا الدنيا قرعا بدلا من يدعوا أنفسهم يموتون في صمت.
أما النهاية عند توفيق صالح فهي مرئية “سينمائية خالصة” إذ نرى الثلاثة وسط القمامة بينما يد أبي قيس متصلبة ومرفوعة إلى أعلى مهيأة لحمل شيء، قد يكون راية أو مدفعا رشاشا وقد تكون القبضة متكورة في صرخة احتجاج صامت.
كما أن توفيق صالح ـ على عكس غسان كنفاني ـ جعلهم يدقون على صاج الخزان عندما أطال بهم الوقوف أمام الجمارك الكويتي، لكن طرقاتهم الواهنة ضاعت وسط الصخب فلم يشعر بهم أحد، غير أن النهايتين تتفقان في الهدف: أن الهرب لا يحل المشكلة.
أما الاختلاف الثاني بين الرواية والفيلم فهو تلك الإضافة التسجيلية التي أضافها توفيق صالح وجاءت في مكانها لتؤدي الغرض منها ولتثري الفيلم ببعد جديد.
استطاع توفيق صالح بما لديه من قدرات جيدة في الصنعة السينمائية أن يقدم لنا فيلما ملتزما وواقعيا واضحا بالرغم من الازدواجية في أسلوبه خلال عرضه السرد الدرامي.
فمرة يستخدم الواقعية استخداما مباشرا قاده في النهاية إلى استخدام الوثائقية.. ومرة يلجأ إلى الرمز ليصوغ من خلاله تعبيرا دراميا إيحائيا قويا ومعبرا.

الفيلم عرض في أكثر من مهرجان وفاز بعدد من الجوائز، أولاها جائزة مهرجان كان للعام 1972، وجائزة مهرجان قرطاج للعام 1972، وجائزة مهرجان ستراستبورغ لأفلام حقوق الإنسان للعام 1973، وجائزة المركز الكاثوليكي الدولي في بلجيكيا للعام 1973، وجائزة لينين للسلام في مهرجان موسكو للعام 1973. 
و عن “ما تبقى لكم” لغسان كنفاني إخراج خالدة حمادة فيلمه “السكين”.. بطلة الفيلم فتاة فلسطينية تعيش في غزة مقطوعة الجذور عن أهلها وعن بيتها الأصلي، يغرر بها رجل سافل وضائع وضالع في التعاون مع سلطات الاحتلال الصهيوني، لا يجد الشقيق الشاب للفتاة سبيلا إلى مساعدتها ولا يلتزم بالدفاع عنها، ومحاولة تخليصها بل يدعها ـ عن عجز ـ تسقط فريسة سهلة بين يدي مغتصبها ثم يهيم على وجهه في الصحراء هاربا من مواجهة مشكلة شقيقته ومن الاحتلال، فيضيع في صحراء النقب.
، كما أنتجت المؤسسة العامة للسينما والمسرح في بغداد، عن«ما تبقى لكم»  عام 1973 فيلماً روائيا قصيراً (22 دقيقة)، بعنوان «زهرة البرقوق» إخراج ياسين البكري.
وقام المخرج قاسم حول بإخراج فيلم روائي طويل فلسطيني الإنتاج بعنوان “عائد إلى حيفا” عن رواية غسان كنفاني أنتجته مؤسسة الأرض للإنتاج السينمائي عام 1981 وتدور أحداث الفيلم الدرامية صبيحة الحادي والعشرين من أبريل عام 1948 وقد انهمرت قذائف المدفعية من تلال الكرمل العالية لتدرك مدينة حيفا، وفي هذا الوقت كانت سيدة قد تركت ابنها الرضيع الذي اسمه خلدون في البيت وخرجت تبحث عن زوجها وسط حشود الناس المذعورة حيث يضطران للنزوح.. وتمر الأيام والسنون وتعود الأسرة إلى البيت بعد حرب عام 1967 لتفاجأ بأن “خلدون” قد أصبح شابا وأن اسمه دوف، وهو مجند في جيش الاحتلال وقد تبنته اسرة يهودية استوطنت البيت بعد نزوح 1948 وهنا تبلغ المأساة ذروتها بعد أن عرف الفتى الحقيقة إذ أصر على الانحياز إلى جانب الام التي تبنته.
كان الزوج يعارض التحاق ابنه الثاني بالعمل الفدائي وبعد أن رأى حالة ابنه البكر قرر الموافقة فعاد ليجد ابنه قد التحق بالعمل الفدائي.
وقد حلل “قاسم حول” بجرأة أبعاد الصراع العربي ـ الصهيوني من خلال تطور أحداث الفيلم إلا أن الامكانات الفنية قد حالت دون تنفيذه بالشكل المطلوب وبالرغم من الموسيقى التصويرية التي وضعها الفنان زياد الرحباني التي تناغمت إلى حد بعيد مع المضمون الدرامي.
وعن الرواية نفسها “عائد إلى حيفا” قام المخرج السينمائي الإيراني سيف الله داد، بإنجاز فيلمه الروائي الطويل “المتبقي” 1995 مع ممثلين سوريين وتدور أحداثه عام 1948 أثناء احتلال عصابات الصهاينة لمدينة حيفا.. ومحاولة إخلاء المدينة وتسكينها لليهود المستوطنين. الفيلم ليس مطابقا لقصة غسان كنفاني، ولكنه حاول أن يقدم فترة الأحداث بشكل أقرب للوثائقية، ولكن يؤخذ عليه المباشرة بالطرح وبعض الأحداث الميلودرامية المضافة.. وعند المقارنة بين النص والفيلم نرى أن المخرج فضل أن يبقى الطفل عربيا ولا يتهود، أما في الرواية فقد أصبح الطفل صهيونيا وتأقلم مع ذلك عندما كبر. كما أضاف مشاهد عديدة مثل بحث الجدة عن حفيدها ونسف القطار.. ولكن الرواية والفيلم يلتقيان على إدانة الكيان الصهيوني وإصرارهما على الكفاح المسلح لتحرير الأرض.
وغسان، سيتجدد حضوره في المنتج السينمائي، مع المخرج قاسم حول، في فيلمه )لن تسكت البنادق(، الذي أنتجته الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، عام 1973، و فيلمه )غسان كنفاني.. الكلمة البندقية( من الإنتاج نفسه، وفي العام ذاته، حيث نجد وثيقة بصرية نادرة، يتحدث فيها غسان كنفاني باللغة الإنكليزية،ويعد فيلم «أسطورة العشق الفلسطيني» للمخرج الفلسطيني رامي السعيد، ومن إنتاج (وحدة سينما العودة الفلسطينية) التابعة لبيت الذاكرة الفلسطينية في دمشق، أحدث الأفلام التسجيلية التي تناولت حياة (غسان)، وفيه يركز المخرج على الجانب الأدبي والإبداعي من سيرة حياته، حيث يبدأ الفيلم بمشاهد لعملية (مطار اللد) التي نفذها مقاتلو الجيش الأحمر الياباني وكيف حملت قيادة العدو الصهيوني المسؤولية المباشرة للشهيد غسان كنفاني ونفذت عملية اغتياله في بيروت في صباح يوم الثامن من شهر تموز 1972م، مستخدماً مشاهد وثائقية لتلك الأحداث.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق