ترجمة: بول شاوول
ادواردو غاليانو، كاتب وشاعر وصحافي أوروغوياني، ويعتبر من أهم الأسماء الإبداعية في أميركا اللاتينية المعاصرة. فهو، الى كونه شاعراً، فهو كاتب حكايات، ورواية... ومؤرخ.
ننشر هنا بضع حكايات مؤثرة شعرية، وذات خلفيات سياسية وانسانية، وساخرة، ومرّة... باعتبار أن حكاية صغيرة تكون أحياناً أبلغ من تحليل طويل.
هذه الحكايات نشرت في "لوموند دبلوماتيك" في عددها الأخير.
الشمس
في مكان ما من بنسلفانيا تشتغل آن يراك كمساعدة للشمس.
فمنذ زمن بعيد، مارست هذه الوظيفة. كل صباح، ترفع آن ذراعيها وتدفع الشمس لتطلع في النهار، وكل مساء تخفض ذراعيها لتُنيّمها في الغروب.
فمنذ صغرها أكبَّت على هذه المهمة من دون كلل، لكن اتهموها قبل نصف قرن بالجنون، ومنذ ذلك الحين، نُقِلت آن الى عدة مصحّات، وعالجها العديد من الأطباء النفسيين وابتلعت كميات هائلة من الحبوب.
لم يتوصلوا إطلاقاً الى شفائها.
من حسن الحظ.
الإعلام العالمي
بعد أشهر عدة من سقوط البرجين، قصفت إسرائيل جنين.
من مخيم اللاجئين الفلسطينيين، لم يتبق سوى حفرة ضخمة مليئة بالضحايا المسحوقين تحت الحطام.
كانت الحفرة التي أحدثتها القنابل في جنين بعمق برجي نيويورك.
مع هذا، وباستثناء الناجين الذين بحثوا في الركام عن أقارب لهم، فمن ترى رأى تلك الحفرة؟.
الكلمات
في أحد أدغال أعالي بارانا، نصحني أحد سواقي الشاحنات بأن أكون حذراً:
حذار المتوحشين. فهناك عدد منهم ما زال طليقاً في الأرجاء. لكن ليسوا كثيرين لحسن الحظ. فقد بدأت عمليات سجنهم في حدائق للحيوانات.
كان يكلمني بالاسبانية. لكنها لم تكن اللغة التي يتكلمها دائماً. كان السائق يتكلم الغرانية، لغة هؤلاء المتوحشين الذين يخشاهم ويحتقرهم.
شيء غريب في الباراغواي يتكلمون لغة المهزومين.
وأغرب: ما زال يعتقد المهزومون بأن الكلمات مقدسة. الكلمات التي تكذب ما يسمونه، لكن الذين ينطقون بالحقيقة يكشفون روح الأشياء. يعتقد المهزومون بأن النفس ترقد في الكلمات التي تقولها. فإذا أعطيتك كلمتي، أعطي نفسي، فاللغة ليست قمامة.
الصيرفي النموذجي
كان جون بيربون مورغان يمتلك أقوى مصرف في العالم وثمانية وثمانين مشروعاً وفرعاً.
وبما أنه كان إنساناً منشغلاً جداً فقد نسي أن يدفع ضرائبه.
لم يكشف شيئاً منذ ثلاث سنوات، منذ أزمة 1929. أثار الخبر غضب الناس الذين أفلستهم كارثة وول ستريت وسبّب فضيحة على المستوى الوطني.
ولكي يغيّر من صورة الصيرفي الجشع استدعى رجل الأعمال مسؤول العلاقات العامة في سيرك "زيكنغ برازر". نصحه الخبير باعتماد ظاهرة طبيعية هي لياغراف، امرأة في الثلاثين من عمرها طولها 68 سنتمتراً، لكن لا يبدو على وجهها أي شيء ينم عن أنها قزمة.
وهكذا أطلقت حملة اعلانات تمثل صورة تُظهر الصيرفي جالساً على عرش بهيئة أب عائلة، واضعاً الإمرأة الصغيرة في حضنه. فكرة الاعلان كانت تريد أن تصور السلطة المالية تحمي الشعب فريسَة الأزمة.
فشل الاعلان فشلاً ذريعاً!.
فبركات
كنّا في عام 1964 والتنين الشيوعي الدولي يفتح أشداقه السبعة على مصاريعها ليفترس التشيلي. كان الرأي العام مقصوف بصور الكنائس المحترقة، ... بمعكسرات الاعتقال، بالدبابات الروسية، بجدار برلين في قلب سنتياغو ورجال عصابات ملتحين يخطفون الأطفال.
جرت انتخابات.
ساد الخوف وهُزم سلفادور اليندي. في هذه اللحظات المؤلمة، سألتُه ما أكثر ما جرحه: أخبرني اليندي ما حدث في الجوار، في بيت من أحد أحياء بروفيوانسيا: هناك امرأة كانت تعمل طباخة، وخادمة، ومدبّرة، بأجر زهيد وضعت ملابسها في كيس بلاستيكي ودفنته في حديقة مخدوميها لكي لا يعمد أعداء المدينة الخاسرة من انتزاعه منها.
السوق العالمية
أشجار بلدة القرفة، ثمار مذهبة.
أيدٍ من اكاجو تغلف الحبوب البيضاء في أوراق خضراء كبيرة.
الحبوب تدخن في الشمس. ثم، وبعد تعريضها للهواء الطلق، تجففها الشمس وتكسبها بهدوء لوناً نحاسياً.
وعندها يبدأ الكاكاو رحلته على البحر الأزرق. ولكي يمر من الأيدي التي تزرعه الى الأفواه التي تأكله، يعالج الكاكاو في مصانع كادبوري، ومارس، ونستلة أو هرشيز، ثم يعرض للبيع في سوبر ماركات عالمية: لقاء كل دولار يدخل في الصندوق، يصل 300 دولار الى القرى التي يأتي منها الكاكاو.
الصحافي الترنتوي ريتشارد سويفت زار احدى القرى في غانا.
زار المشتلة.
عندما جلس ليستريح، أخرج لوح شوكولا وحتى قبل أن يقضمه، تجمهرت مجموعة من الاطفال حوله، لم يسبق لهم أن تذوقوا هذا الكاكاو. لقد أحبوه كثيراً.
السجن
في 1984 أجرى لويس نينو، تحقيقاً في سجن لوريغانشو في ليما لحساب احدى منظمات الدفاع عن حقوق الانسان. غاص على هذه العزلات وجهد، قدر الإمكان، في أن يشق طريقاً بين السجناء العراة أو المرتدين أسمالاً.
ثم طلب التحدث الى مدير السجن، وبما أن هذا الأخير كان غائباً، فقد استقبله رئيس الخدمات الصحية.
شرح لويس انه رأى سجناء يحتضرون، ويتقيأون دماً، وكثيراً منهم مصاب بالحمى الشديدة، ومنهوشاً بالجروح، لكنه استغرب عدم رؤيته أي طبيب. فشرح له الرئيس":
"نحن الأطباء، لا نتدخل إلا عندما يطلبنا الممرضون.
ـ وأين هم الممرضون؟
ـ لا نملك ميزانية لتشغيلهم.
ولادة
في المستشفى العمومي الواقع في أحد الأحياء الأكثر اكتظاظاً في ريو دي جانيرو، يعالج ألف مريض يومياً. تقريباً فقراء أو تحت خط الفقر.
روى الطبيب المناوب هذه القصة الى خوان بدوان:
ـ الأسبوع الفائت، كان عليَّ أن أختار بين طفلتين ولدتا من توّهما. هناك جهاز تنفس واحد. وصلت الطفلتان في الوقت ذاته، محتضرتين، وكان علي أن أختار إحداهما لتعيش. لم يكن لي الخيار، فكّر الطبيب، فليتخذ الله القرار.
لكن الله لم ينبس بكلمة.
أياً كان قراره، فالطبيب سيرتكب جريمة.
لم تكن لحظة للتردد. فالطفلتان على حافة الموت، وقد بدأتا تغادران هذا العالم.
أغمض الطبيب عينيه. واحدة حُكم عليها بالموت، والأخرى بالحياة.
دروس في الطب
في أحد صفوف العناية الفائقة، في بيونس ايروس، حيث درس روين عمر سوسا، حالة ماكسيميليانا، تعلم الدرس الأهم في كل سنوات تعمله.
عرض أحد الأساتذة الوضع: دونا ماكسيسميليانا، التي أوهنتها حياة كاملة من العمل أدخلت المستشفى قبل ايام قليلة، وكانت كل يوم، تطلب الشيء ذاته:
من فضلك، يا دكتور، هل يمكن أن تأخذ نبضي؟.
وكان الطبيب يقول:
ضغط خفيف بالأصابع على يدها ليقول بعدها الطبيب:
ممتاز! 70! رائع.
آه، شكراً دكتور، والآن هل من الممكن أن تأخذ لي النبض، من فضلك؟
يأخذ الطبيب لها النبض مرة أخرى ويشرح لها من جديد أن كل شيء على ما يرام، وفي أفضل حال.
كان هذا المشهد يتكرر كل يوم، ففي كل مرة يمر الطبيب فيها قرب غرفة دونا ماكسيميليانا، يناديه ذلك الصوت الأجش الصغير، وتمد له يدها، التي تشبه غصناً. قال: "مرة أخرى مرة أخرى.
الطبيب من ناحيته جراّح، لأن على الطبيب الجيد أن يكون صبوراً مع مرضاه، لكنه كان يقول في نفسه: هذه العجوز هي مزعجة وتحتاج الى مسمار كبير.
لكن وبعد سنوات عرف أن هذه العجوز كانت تريد أن يلمسها أحد ما.
فقط أن يلمسها أحد.
مهاجِم ومهاجَم
كانت الأنظمة العسكرية في أميركا اللاتينية تحرق الكتب المنحرفة. أما في ديموقراطيات اليوم فإن كتب الحسابات هي التي تُحرق. كان الدكتاتوريون العسكريون يُخفون الأشخاص. أما الدكتاتوريون الماليون فيخفون اليوم المال.
ذات يوم، رفضت المصارف الأرجنتينية أن تعطي زبائنها أموالهم.
كان نوربرتو وكليش قد وضع كل مدخراته في المصرف مخافة أن تأكلها الجرذان أو يسرقها اللصوص. عندما رفض المصرف طلبه كان دون روبرتو مريضاً جداً لأن السنوات لا تأتي وحدها، ولأن معاش التقاعد لا يكفي ثمن الأدوية.
لم يكن عنده أي خيار آخر: يائساً، دخل القلعة المالية، ومن دون أن يطلب إذناً من أي كان، شق طريقاً حتى مكتب المدير.
وفي قبضته قنبلة:
تعيدون إلي أموالي أو أفجّر نفسي وأفجّر كل شيء!.
كانت القنبلة من البلاستيك: لكنها حققت المعجزة: أعاد المصرف إليه أمواله.
بعدها، أودع السجنَ. حكم عليه القاضي 16 عاماً سجناً.
حكم على دون نوربرتو وليس على المصرف.
المستقبل - الثلاثاء 20 كانون الأول 2011 - العدد 4206 - ثقافة و فنون - صفحة 20
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق