محمد عبيدو :
يعتبر المخرج السينمائي البولندي الراحل «كريستوف كيشلوفسكي» من كبار فناني السينما في العالم، فارق الحياة عام 1996 عن 55 عاماً انجز خلالها روائع سينمائية وضعته بمصاف تاركوفسكي وفلليني وبيرغمانبعد تخرجه في معهد لوج للسينما العام 1969 وجد كيشلوفسكي فرصة للعمل في التلفزيون البولندي كمخرج للأفلام الوثائقية، ولكن سرعان ما انخرط في جماعة «سينما القلق الاخلاقي» الناشطة خلال فترة السبعينيات والتي كان اندريه فايدا احد اعضائها البارزين... اهتمت أولى أفلام كيشلوفسكى الوثائقة بالتركيز على الحياة اليومية لسكان المدن، العمال، والجنود. وعلى الرغم من عدم كونه مخرجاً سياسياً بشكلٍ مُعلن، إلا أنه سرعان ما وجد محاولاته لتصوير الحياة البولندية تدفع به للصدام مع السلطات.وكان اول اعماله الوثائقية فيلم « العمال» 1971 عن اضراب العمال في احدى المناطق، وفيلم «الحب الاول» 1974 الذي فاز بالجائزة الفضية لمهرجان كراكوف للأفلام القصيرة، وحقق بعد ذلك ثلاثة افلام روائية مهمة أسست لما سيكون عليه مستقبلاً ، وهي «المستخدمون » 1975 و«الندب» 1976، و«الهاوي» 1979، والاخير سبب له مشاكل مع السلطات ادت الى منع الفيلم لفترة وهو يدور حول عامل يقرر شراء كاميرا لتسجيل حركات مولوده الجديد ولكونه الشخص الوحيد الذي يمتلك كاميرا في ذلك المعمل يستدعى لتسجيل احتفالات الذكرى الخامسة والعشرين لتأسيس المصنع، وبعد حصول الفيلم على الجائزة الاولى تصبح السينما هاجس العامل ومحور حياته ونتيجة لذلك تنهار علاقته الزوجيةعام 1981 يقدم فيلمه «الصدفة » وفيه يغوص في مناخات فلسفية خاصة وشاعرية سنجدها في افلامه التالية بدءاً من فيلم من دون نهاية» 1984 الذي يقدم لنا حكايته عبر صوت رجل ميت يروي لنا ما حدث خلال السنوات الاخيرة من حياته: يأس زوجته وألمه في مواجهة وحدتها وذكرياتها، والتفاصيل الصاخبة المؤلمة لمحاكمة سياسية يقول لنا الميت كيف ان المحامين فيها بدوا اكثر من القضاة فقدانا للمثل العليا، وخضوعاً للسياسةوتأتي «الحلقات العشر» التي انجزها كيشلوفسكي للتلفزيون عامي 1988- 1989 لتؤكد موهبته التلفزيونية والسينمائية الخاصة، وحول كيشلوفسكي إثر النجاح الباهر الذي حققه جزأين منها الى فيلمين روائيين هما «قصة قصيرة عن الحب» و«قصة قصيرة عن القتلفي كل فيلم من افلام الحلقات العشر يضع المخرج شخصاً واحداً تلمع الحقيقة في عينيه وهو يواجه بنظراته الثاقبة نظرة الشخصية المخطئة في لحظة الخطيئة، هذا الشخص الذي يقوم بأدائه ممثل واحد ليس الموجه، وإنما الشاهد الضمير او الشاهد الذي يحرك الضمير بالاحتكاك غير المباشر، انه الذي يثير قلق المذنب، ولكنه هو الذي يقود تحوله نحو الطمأنينة على طريق التراجعهذا الجمع بين الأحاسيس والتأمل في مزيج كيماوي واحد يواجه جفاف الواقع ويحول دون هيمنة جفاف الفكرة، وهو ما يميز كيشلوفسكي في عقلانية الاحاسيس عن بيرغمان ويجعله اقرب الى عالم تاركوفسكي السينمائي . أن المخرج العظيم ستانلي كوبريك قال عن وصاياه العشرة " إنها أفضل شيء قد يراه الإنسان "وكيشلوفسكي مخرج سينمائي يؤمن بالبحث الطويل على صعيد بناء الشخصيات والاحداث، يؤمن بالجدل الفلسفي، هكذا ،في جميع افلامه ومع فيلمه «الحياة المزدوجة لفيرونيك» يخوض كيشلوفسكي تجربة العمل في اوروبا الغربية، بظروف انتاج افضل وأكبر بكثير عما عرفه في بولندا، وحازت النجمة الفرنسية ايرين جاكوب على دور البطولة فيه جائزة مهرجان كان السينمائي عام 1991.. الفيلم تجريدي وشاعري وأقرب افلامه الى صميم السينما، وعنه يقول كيشلوفسكي : « ان هذا الفيلم طالع من فكرة كانت تشتغل في ذهني منذ سنوات طويلة، فكرة تتحدث عن رجل آت من هناك، ولأن هناك اكثر حزناً من هنا، كانت النتيجة هذا الفيلم، هذا الفيلم عن حياتين واحدة هناك وواحدة هنا... والحياتان متشابهتان».. وتقول إيرين جاكوب التي قامت بدور فرونيكا عن كيشلوفسكى: "هو يتركنا على سجيتنا أثناء التصوير، يشاهد ولا يتكلم، ونحن نبدء في الارتجال وننسى كل البروفات، كل شيء، المشهد هو من يحركنا مثل الدمى". ويكرر التجربة في ثلاثية الألوان «أزرق، ابيض، احمر، » التي هي الوان العلم الفرنسي كما انها المحاور الاساسية: العدالة... المساواة والحرية، ومن خلال العلاقة بين المحور واللون صاغ كيشلوفسكي تلك التحف السينمائيةلا تحاول - هذه الثلاثية - ان تحلل او تسبر او تستجوب تلك المفاهيم على المستوى السياسي او الاجتماعي، إنما تحاول ان تعرضها في اطار فردي، شخصي، فكيشلوفسكي ليس مهتماً بالبحث في شعارات الثورة الفرنسية، وليست الحرية التي يريد استقصاءها هي حرية الاختيار او التعبير، بل المفهوم المجرد للحرية الفردية، انه يدرس مدى قدرة الفرد على عزل نفسه ليس فقط عن محيطه وعائلته واصدقائه ومهنته واهتماماته، إنما أيضاً عن ماضيه وذكرياتهالمرأة هي المحور الاساسي في الاجزاء الثلاثة... ففي الفيلم الاول «الازرق» حيث الحرية تحمل بعداً تراجيدياً، حكاية امرأة، خارجة من رحم المعاناة، تحاول الابتعاد عن كل ما يذكرها بحياتها وذلك بعد فقدها لزوجها وابنتها، لكنها تجد نفسها دائماً في مواجهة مع الماضي، وتعيد بناء ذاتها، متجاوزة ضربات القدر الموجعةكيشلوفسكي في «الازرق» يعطي اهمية خاصة للتفاصيل الصغيرة، وهو ينجح في توصيل أحزان وأوجاع البطلة بشكل مؤثر من خلال الايماءات الدقيقة والصورة الموحية، وتقليب اللون الأزرق، وبالطبع من خلال الاداء الأخاذ والمحرك للمشاعر الذي قدمته جولييت بينوش، ان تحديقها في الفراغ، في الاشياء الصغيرة يمنح هذه الاشياء الصغيرة مغزى ودلالة خاصة، وعندما تتلقى نبأ موت زوجها وابنتها، تختزل بالتعبير الوجهي كل الوجع والألم والفقد...دون مبالغة او افراط في التعبير، نحن امام وجه لا يستعير الحزن بل ينضح بهحصل فيلم «الازرق» على عدة جوائز منها: جائزة سيزار احسن ممثلة لـ«جولييت بينوش» وجائزة غويا احسن فيلم اوروبي ، وجائزة نقاد السينما بلوس انجلوس، كما حصل على جائزة الاسد الذهبي بمهرجان فينيسيا وجائزة احسن مخرج وتصوير وممثلةفي الفيلم الثاني «الابيض» المرأة تواصل بحثها عن الذات، تحلق في فضاءات المساواة ... وهنا المرأة بمساحات اكبر من العمق، حيث الاختيار فعل يتجاوز « قدرية الاختيار» الى موضوعية الاختيار، وهي مرحلة متقدمة وصعبة في تاريخ المرأة الجديدةومثلما يطغى اللون الازرق في الفيلم الاول يهيمن البياض في هذا الفيلم، الابيض منتشر على امتداد الفيلم سواء عبر الاشياء او المناظر والصور، انه لون الثلج، الارضية ، نفق المترو، الملاءات، التماثيل ، البياض هنا يوحي بالخواء لكنه الخواء الذي يمكن ان يشكل بداية جديدة، فكل فراغ قابل للامتلاء، الخواء ليس عدمياً ، بل ينتظر من يملؤه ويشحنه بطاقة الحبالفيلم الثالث «الاحمر» هو خلاصة تجربة المخرج في الحياة بعد ان تجاوز الخمسين ، وعاصر ما عاصره من احداث في بلاده وفي اوروبا والعالم، انه كباقي افلامه ذاتي تماماً لا توجد به اية اشارة مباشرة او غير مباشرة الى الاحداث التي عاصرها، ولكن في عمق الفيلم يكمن جوهر الاضطراب الذي يعيشه العالم في النصف الاول من العقد الاخير من هذا القرن، والفيلم يبدو في غاية البساطة ولكنه عكس ذلك تماماً، فيلم يستمد قيمته من الحوارات ومن اللغة السينمائية الراقية... هنا يتحدث كيشلوفسكي عن قدرية العلاقة وطبيعة القدر في البحث عن الطرف الآخر الذي قد تظل لزمن طويل تبحث عنه هو الاكثر قرباً منكفي فيلم «الاحمر» سينما المتعة وسينما الحوار وسينما الرسالة والطرح الفلسفي الراقي الذي يعمل الفكر والعقل ويفجر الذاتوهكذا هي افلام كريستوف كيشلوفسكي، سينما تذهب الى العقل، تستفز الوعي... تفجر الاسئلة ولا تطرح الحلول، تدعو للاكتشاف، تتعامل مع الواقع بموضوعية ونبض فني مرهف وغاية في الشفافية.. وعبر تلك الشفافية تأتي الصور... وتأتي الرؤية والمتعة
يعتبر المخرج السينمائي البولندي الراحل «كريستوف كيشلوفسكي» من كبار فناني السينما في العالم، فارق الحياة عام 1996 عن 55 عاماً انجز خلالها روائع سينمائية وضعته بمصاف تاركوفسكي وفلليني وبيرغمانبعد تخرجه في معهد لوج للسينما العام 1969 وجد كيشلوفسكي فرصة للعمل في التلفزيون البولندي كمخرج للأفلام الوثائقية، ولكن سرعان ما انخرط في جماعة «سينما القلق الاخلاقي» الناشطة خلال فترة السبعينيات والتي كان اندريه فايدا احد اعضائها البارزين... اهتمت أولى أفلام كيشلوفسكى الوثائقة بالتركيز على الحياة اليومية لسكان المدن، العمال، والجنود. وعلى الرغم من عدم كونه مخرجاً سياسياً بشكلٍ مُعلن، إلا أنه سرعان ما وجد محاولاته لتصوير الحياة البولندية تدفع به للصدام مع السلطات.وكان اول اعماله الوثائقية فيلم « العمال» 1971 عن اضراب العمال في احدى المناطق، وفيلم «الحب الاول» 1974 الذي فاز بالجائزة الفضية لمهرجان كراكوف للأفلام القصيرة، وحقق بعد ذلك ثلاثة افلام روائية مهمة أسست لما سيكون عليه مستقبلاً ، وهي «المستخدمون » 1975 و«الندب» 1976، و«الهاوي» 1979، والاخير سبب له مشاكل مع السلطات ادت الى منع الفيلم لفترة وهو يدور حول عامل يقرر شراء كاميرا لتسجيل حركات مولوده الجديد ولكونه الشخص الوحيد الذي يمتلك كاميرا في ذلك المعمل يستدعى لتسجيل احتفالات الذكرى الخامسة والعشرين لتأسيس المصنع، وبعد حصول الفيلم على الجائزة الاولى تصبح السينما هاجس العامل ومحور حياته ونتيجة لذلك تنهار علاقته الزوجيةعام 1981 يقدم فيلمه «الصدفة » وفيه يغوص في مناخات فلسفية خاصة وشاعرية سنجدها في افلامه التالية بدءاً من فيلم من دون نهاية» 1984 الذي يقدم لنا حكايته عبر صوت رجل ميت يروي لنا ما حدث خلال السنوات الاخيرة من حياته: يأس زوجته وألمه في مواجهة وحدتها وذكرياتها، والتفاصيل الصاخبة المؤلمة لمحاكمة سياسية يقول لنا الميت كيف ان المحامين فيها بدوا اكثر من القضاة فقدانا للمثل العليا، وخضوعاً للسياسةوتأتي «الحلقات العشر» التي انجزها كيشلوفسكي للتلفزيون عامي 1988- 1989 لتؤكد موهبته التلفزيونية والسينمائية الخاصة، وحول كيشلوفسكي إثر النجاح الباهر الذي حققه جزأين منها الى فيلمين روائيين هما «قصة قصيرة عن الحب» و«قصة قصيرة عن القتلفي كل فيلم من افلام الحلقات العشر يضع المخرج شخصاً واحداً تلمع الحقيقة في عينيه وهو يواجه بنظراته الثاقبة نظرة الشخصية المخطئة في لحظة الخطيئة، هذا الشخص الذي يقوم بأدائه ممثل واحد ليس الموجه، وإنما الشاهد الضمير او الشاهد الذي يحرك الضمير بالاحتكاك غير المباشر، انه الذي يثير قلق المذنب، ولكنه هو الذي يقود تحوله نحو الطمأنينة على طريق التراجعهذا الجمع بين الأحاسيس والتأمل في مزيج كيماوي واحد يواجه جفاف الواقع ويحول دون هيمنة جفاف الفكرة، وهو ما يميز كيشلوفسكي في عقلانية الاحاسيس عن بيرغمان ويجعله اقرب الى عالم تاركوفسكي السينمائي . أن المخرج العظيم ستانلي كوبريك قال عن وصاياه العشرة " إنها أفضل شيء قد يراه الإنسان "وكيشلوفسكي مخرج سينمائي يؤمن بالبحث الطويل على صعيد بناء الشخصيات والاحداث، يؤمن بالجدل الفلسفي، هكذا ،في جميع افلامه ومع فيلمه «الحياة المزدوجة لفيرونيك» يخوض كيشلوفسكي تجربة العمل في اوروبا الغربية، بظروف انتاج افضل وأكبر بكثير عما عرفه في بولندا، وحازت النجمة الفرنسية ايرين جاكوب على دور البطولة فيه جائزة مهرجان كان السينمائي عام 1991.. الفيلم تجريدي وشاعري وأقرب افلامه الى صميم السينما، وعنه يقول كيشلوفسكي : « ان هذا الفيلم طالع من فكرة كانت تشتغل في ذهني منذ سنوات طويلة، فكرة تتحدث عن رجل آت من هناك، ولأن هناك اكثر حزناً من هنا، كانت النتيجة هذا الفيلم، هذا الفيلم عن حياتين واحدة هناك وواحدة هنا... والحياتان متشابهتان».. وتقول إيرين جاكوب التي قامت بدور فرونيكا عن كيشلوفسكى: "هو يتركنا على سجيتنا أثناء التصوير، يشاهد ولا يتكلم، ونحن نبدء في الارتجال وننسى كل البروفات، كل شيء، المشهد هو من يحركنا مثل الدمى". ويكرر التجربة في ثلاثية الألوان «أزرق، ابيض، احمر، » التي هي الوان العلم الفرنسي كما انها المحاور الاساسية: العدالة... المساواة والحرية، ومن خلال العلاقة بين المحور واللون صاغ كيشلوفسكي تلك التحف السينمائيةلا تحاول - هذه الثلاثية - ان تحلل او تسبر او تستجوب تلك المفاهيم على المستوى السياسي او الاجتماعي، إنما تحاول ان تعرضها في اطار فردي، شخصي، فكيشلوفسكي ليس مهتماً بالبحث في شعارات الثورة الفرنسية، وليست الحرية التي يريد استقصاءها هي حرية الاختيار او التعبير، بل المفهوم المجرد للحرية الفردية، انه يدرس مدى قدرة الفرد على عزل نفسه ليس فقط عن محيطه وعائلته واصدقائه ومهنته واهتماماته، إنما أيضاً عن ماضيه وذكرياتهالمرأة هي المحور الاساسي في الاجزاء الثلاثة... ففي الفيلم الاول «الازرق» حيث الحرية تحمل بعداً تراجيدياً، حكاية امرأة، خارجة من رحم المعاناة، تحاول الابتعاد عن كل ما يذكرها بحياتها وذلك بعد فقدها لزوجها وابنتها، لكنها تجد نفسها دائماً في مواجهة مع الماضي، وتعيد بناء ذاتها، متجاوزة ضربات القدر الموجعةكيشلوفسكي في «الازرق» يعطي اهمية خاصة للتفاصيل الصغيرة، وهو ينجح في توصيل أحزان وأوجاع البطلة بشكل مؤثر من خلال الايماءات الدقيقة والصورة الموحية، وتقليب اللون الأزرق، وبالطبع من خلال الاداء الأخاذ والمحرك للمشاعر الذي قدمته جولييت بينوش، ان تحديقها في الفراغ، في الاشياء الصغيرة يمنح هذه الاشياء الصغيرة مغزى ودلالة خاصة، وعندما تتلقى نبأ موت زوجها وابنتها، تختزل بالتعبير الوجهي كل الوجع والألم والفقد...دون مبالغة او افراط في التعبير، نحن امام وجه لا يستعير الحزن بل ينضح بهحصل فيلم «الازرق» على عدة جوائز منها: جائزة سيزار احسن ممثلة لـ«جولييت بينوش» وجائزة غويا احسن فيلم اوروبي ، وجائزة نقاد السينما بلوس انجلوس، كما حصل على جائزة الاسد الذهبي بمهرجان فينيسيا وجائزة احسن مخرج وتصوير وممثلةفي الفيلم الثاني «الابيض» المرأة تواصل بحثها عن الذات، تحلق في فضاءات المساواة ... وهنا المرأة بمساحات اكبر من العمق، حيث الاختيار فعل يتجاوز « قدرية الاختيار» الى موضوعية الاختيار، وهي مرحلة متقدمة وصعبة في تاريخ المرأة الجديدةومثلما يطغى اللون الازرق في الفيلم الاول يهيمن البياض في هذا الفيلم، الابيض منتشر على امتداد الفيلم سواء عبر الاشياء او المناظر والصور، انه لون الثلج، الارضية ، نفق المترو، الملاءات، التماثيل ، البياض هنا يوحي بالخواء لكنه الخواء الذي يمكن ان يشكل بداية جديدة، فكل فراغ قابل للامتلاء، الخواء ليس عدمياً ، بل ينتظر من يملؤه ويشحنه بطاقة الحبالفيلم الثالث «الاحمر» هو خلاصة تجربة المخرج في الحياة بعد ان تجاوز الخمسين ، وعاصر ما عاصره من احداث في بلاده وفي اوروبا والعالم، انه كباقي افلامه ذاتي تماماً لا توجد به اية اشارة مباشرة او غير مباشرة الى الاحداث التي عاصرها، ولكن في عمق الفيلم يكمن جوهر الاضطراب الذي يعيشه العالم في النصف الاول من العقد الاخير من هذا القرن، والفيلم يبدو في غاية البساطة ولكنه عكس ذلك تماماً، فيلم يستمد قيمته من الحوارات ومن اللغة السينمائية الراقية... هنا يتحدث كيشلوفسكي عن قدرية العلاقة وطبيعة القدر في البحث عن الطرف الآخر الذي قد تظل لزمن طويل تبحث عنه هو الاكثر قرباً منكفي فيلم «الاحمر» سينما المتعة وسينما الحوار وسينما الرسالة والطرح الفلسفي الراقي الذي يعمل الفكر والعقل ويفجر الذاتوهكذا هي افلام كريستوف كيشلوفسكي، سينما تذهب الى العقل، تستفز الوعي... تفجر الاسئلة ولا تطرح الحلول، تدعو للاكتشاف، تتعامل مع الواقع بموضوعية ونبض فني مرهف وغاية في الشفافية.. وعبر تلك الشفافية تأتي الصور... وتأتي الرؤية والمتعة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق