الأحد، 21 ديسمبر 2014

المخرج كمال الشيخ : فنان التشويق والاثارة في السينما العربية‏



محمد عبيدو
غيّب الموت يوم الجمعة 2 كانون الثاني 2004 المخرج السينمائي /كمال الشيخ/ عن خمسة وثمانين عاماً، قضى قرابة خمسة وثلاثين منها في السينما. من البدايات في التوليف السينمائي، انطلق كمال الشيخ الى رسم ملامح تجربة سينمائية امتازت بخصوصيتها ..ولاسيما باعلائها الفن على «الحدوتة» والحرفة على السرد. تنوّعت افلامه الاربعة والثلاثون بين السياسي والاجتماعي النابع من صراعات الشخصيات الداخلية وانفعالاتهم.‏
يعتبر كمال الشيخ (1919-2004)من رواد الاخراج في مصر والعالم العربي. بدأ مسيرته السينمائية بالعمل مساعداً بقسم المونتاج في استوديو مصر.. حين كان المخرج الراحل /نيازي مصطفى/ رئيساً للقسم. وتعلم الحرفة بسرعة حتى اصبح في عام 1943 مونتيراً للافلام التسجيلية الخاصة بالبعثات الاجنبية في مصر خلال الحرب العالمية الثانية..‏
وقام بمونتاج 60 فيلماً من بينها كل افلام انور وجدي.. ومن اشهر افلامه كمونتير«البؤساء»،«من الجاني؟»، «الماضي المجهول»،«غزل البنات»، «شاطىء الغرام»، و«المهرج الكبير» .‏
واتجه للاخراج في بداية عام 1952 بأعمال تسجيلية، وكان اول افلامه الروائية«المنزل ذو الرقم 13» وقد اخرج 34 فيلماً روائياً كان آخرها «قاهر الزمان» عام1987، ويعتبر كمال الشيخ من كلاسيكيي السينما المصرية والعربية، وكان يحرص على تجديدها برؤى وصيغ فنية مختلفة. برزت في عدد من افلامه، ومن ابرز هذه الصيغ الاهتمام بالايقاع الداخلي للمشهد السينمائي واستشفاف ما وراء الكاميرا.‏
اعتمدت دراما افلام كمال الشيخ على الصراع المباشر المشوق، الذي يقوم على الاثارة الاقرب الى الشكل البوليسي، وظل اسلوبه هذا الاثير في كل افلامه رغم اختلاف موضوعها، وهو من القلائل الذين صنعوا لعالمهم السينمائي اسلوباً لم يتغير، وعالماً رؤيته الفكرية متسقة مع نفسها، وحتى في تعامله مع الادب كبار الروائيين مثل /نجيب محفوظ واحسان عبد القدوس وفتحي غانم/ فقد اخذهم الى عالمه، او اختار من اعمالهم ما يتفق ورؤيته.. كما ان خبرته في المونتاج قد اكسبته قدرةً على ضبط الايقاع، وتأكيد العلاقة الجدلية بين الصوت والصورة، والحوار الذي يخلو من الثرثرة والموسيقا المعبرة، وليس الموسيقا الوصفية،واستفادته من بلاغة الصمت لزيادة جرعات التوتر والترقب .‏
كما ان افلامه -حتى اكثرها تشويقاً واثارةً- لاتعتمد على الصراع الخارجي والعنف بقدر ما تلجأ الى الصراع الداخلي والمواجهات العقلية، وتصادم الارادات.. وغالباً ما يكون الصراع فكرياً ومعنوياً ونفسانياً قبل ان يكون جسمانياً.‏
في تجربته السينمائية الاولى اراد كمال الشيخ ان يتدارك ماكان يعتقده ضعفاً في الافلام المصرية من خلال عمله في التوليف. جاء«المنزل رقم 13» خالياً من الرقص والغناء الذي طبع غالبية افلام تلك المرحلة، وهو ما اعتبره الشيخ عنصراً يضعف الفيلم في استخدامه غير المبرر.‏
كذلك نأى الشيخ عن الحوارات المطولة الزائدة ،وكان همّه ان يستخدم الضوء في شكل درامي يوحي بالحالة النفسية للشخصيات، وليس فقط لاضاءة وجه الممثل متأثراً في ذلك بالسينمائي الالماني فريتز لانغ كما ذكر غير مرة وبالتعبيرية الالمانية.‏
فيلمه «حياة ام موت» يراه النقاد انضج اعماله في الخمسينيات، وأحد العلامات المهمة في تاريخ السينما المصرية.. وفيه قدم تجربة فنية جديدة تدافع عن الانسان والصورة المثلى التي يجب ان يُعامل بها كما يقدم صورة مثالية للتكافل الاجتماعي والتعاون والتآزر، والكيفية التي يجب ان تنظر بها الدولة الى مواطنيها، وحقهم في الرعاية من قبل مؤسساتها، وخاصة ان الفيلم قد تم تحقيقه في السنوات الاولى لثورة 23 تموز التى رفعت الشعارالتالي ارفع رأسك يا اخي.. وتنجح خبرة كمال الشيخ ومعه المونتيرة أميرة فايد-زوجته- في خلق احساس بالترقب والتوتر، وزيادة جرعة التشويق، كما ان فهمه لجماليات اللقطات خلق نوعاً من الحميمية والتوحد بين المتفرج والشاشة.‏
إن الفيلم من خلال حديثه عن عملية البحث المتوتر عن رجل لتنبيهه من مغبة دواء أعطي خطأ لابنته الصغيرة من قبل صيدلي، وهو ساهٍ عما يفعل ،اتى الفيلم على شكل نشيد حب للقاهرة ينخرط مباشرة في تيار سينما الواقعية التي تقترب من حدود الوثائقية.‏
وواصل كمال الشيخ تأرجحه بين السينما البوليسية الاجتماعية ،وبعض الافلام العاطفية الاتجاه دون التخلي مع ذلك عن البعد الاجتماعي، الذي يجعل الانسان نقطة الاستقطاب حتى في افلامه الاقل اهميةً مثل«سيدة القصر» و«حب ودموع»‏
وهو ما سيطر على سينماه ككل خلال عقد الخمسينيات الذي حقق خلاله افلامه السبعة عشر الاولى ، خاتماً اياها بفيلم « لن أعترف »(1961) بيد ان الفيلم الذي يمكن التوقف عنده في تلك المرحلة ، انما هو فيلم « ارض السلام»(1957) الذي يمكن اعتباره اول فيلم عن القضية الفلسطينية حقق في الوطن العربي .‏
عندما يتذكر/ كمال الشيخ /هذا الفيلم في حوار حديث مع /ابراهيم العريس/ يقول:« في الحقيقة إن هذا الفيلم الذي حققته بعد العدوان الثلاثي ، وبعد اعتداءات اسرائيل على غزة ، انطلاقاً من شعور الحماس الوطني ، حاولت فيه ان اقدم تحيةً للعمل الفدائي ضد اغتصاب الصهيونية للارض العربية ، فانطبع بتلك النظرة السطحية التي كنّا ننظر بها جميعاً الى الصراع، يوم كان العدو بالنسبة الينا مجرد طرف يثير سخريتنا لا اكثر ، اليوم تغيّرت نظرتنا جميعاً ، وبتنا اكثر واقعيةً واحساساً بالخطر بالطبع ، وهو ما عدت وعبرت عنه في فيلم آخر حققته عن صراعنا مع عدونا التاريخي ، وهو فيلم « الصعود الى الهاوية ».‏
وحين أنجز /كمال الشيخ/ عام 1962 فيلمه الهام« اللص والكلاب » الذي اعتبر فيما بعد من افضل الافلام التي اقتبست من اعمال نجيب محفوظ الروائية ، لم يكن يعلم على الارجح انه يحقق عبر هذا الفيلم ، الذي يقف في نقطة الوسط بين اعماله ، تلك النقلة الهامة في سينماه ، بين سينما التشويق والتوتر البحت التي طبعت النصف الاول من افلامه ، وسينما الموقف السياسي والاجتماعي التي طبعت القسم الاكبر من افلامه التالية .‏
في « اللص والكلاب» هناك محاولة جادة من /كمال الشيخ/ لمعالجة عدة قضايا وتناقضات اجتماعية وسياسية من خلال صراع أنموذجين متناقضين، احدهما قام بدوره /كمال الشناوي /، إذ يتنكر لمبادئه بعد ان ينجح ويشتهر وينال الثروة ،بينما تلميذه المسحوق - لعب دوره /شكري سرحان/ يرفض هذا الواقع ويحاول الانتقام من الذين خذلوه ، الا ان ردة فعله الفردية الساذجة تنتهي بالفشل والانسحاق امام القوى الاكبر منه .‏
في السنة التالية ، قدم /كمال الشيخ/ فيلمه « الليلة الاخيرة » مع / فاتن حمامة/ الذي وضعه في مقدمة مخرجي التشويق بحرفته العالية في نقل انفعالات شخصياته .‏وفي الفيلم تقوم /فاتن حمامة / بدور امرأةٍ تعود إليها ذاكرتها المفقودة اثر تدمير منزلها اثناء عدوان 1956…فتجد نفسها في فراش زوج اختها كزوجة له ، وتحاول اثبات حقيقة شخصيتها دون جدوى ، وفي النهاية يُكتشف السر ويتبين ان زوج الاخت استغل فقدانها ذاكرتها ليدّعي بأنها زوجته ليظل متمتعاً بميراثها.‏
عام 1965 يقدم فيلم « الخائنة» من بطولة /ناديا لطفي/ ، لتأتي بعده نكسة حزيران 1967 ليقدم بعدها مجموعة من الافلام السياسية، في مقدمتها « الرجل الذي فقد ظله»1968 الذي ناقش فيه بعض الجوانب السلبية في مسيرة القطاع العام في مصر متخذاً في ذلك طابعاً تشويقياً .‏
يقوم على ظاهرة فردية هي انتقام شاب لموت صديقه في السجن اثر مؤامرة عليه من جانب مديره لاخفاء أمر الاختلاسات في مؤسسة البناء ، ومن خلال هذه القصة يشرح الشيخ بذكاء ويحلل بعمق أبعاد الفساد الاقتصادي والاجتماعي الذي ينخر جسد المجتمع المصري ويشوّه الايجابيات فيه .‏
ويقدم البعد النفسي ، والصراع الداخلي ضمن الشخصية الواحدة في فيلمه « بئر الحرمان » عام 1969، حيث تقوم /سعاد حسني/ بدور امرأة تعاني من انفصام في شخصيتها فنراها خلال النهار فتاةً هادئة رزينة، فيما تتحول خلال الليل إلى امرأة لعوب تغوي الرجال، قبل أن تفيق صباحاً وهي تشعر بشيء مما يحدث لها.‏
ثم يقدم فيلمه «ميرامار» 1969، في حين هوجم «ميرامار» بسبب ما فسر على انه «عداء» للثورة نسب إلى اقتباس /ممدوح الليثي /المشوه لرواية محفوظ، استقبل «غروب وشروق» 1970 بشكل أفضل، وكذلك «شيء في صدري» 1971، و «الهارب» 1974.‏
ولا تكون سنوات أواخر السبعينيات والثمانينيات بالزخم الانتاجي نفسه/لكمال الشيخ/الذي يقدم أربعة أفلام فقط وهي: «وثالثهم الشيطان» 1978، و«الصعود إلى الهاوية» 1978، وهو مأخوذ من حادثة واقعية في ميدان الجاسوسية في مصر، ثم يقدم «الطاووس» 1982، وآخر أفلامه «قاهر الظلام » 1987 وفيه محاولة لفيلم خيال علمي.‏
وظل سؤال يلاحقه بعد توقفه عن الإخراج بعد «قاهر الظلام» ماذا تفعل؟ متى يبدأ فيلمك الجديد؟ ماهو؟ كان يتمنى أن يخرج فيلماً عن عالم الذرة المصري/يحيى المشد/ الذي اغتالته المخابرات الاسرائيلية، وبدأ فعلاً العمل بالمعالجة ولكن بعد ثلاثة أشهر داهمته أحداث الخليج المؤلمة.. فتوقف المشروع.‏
وكان يتمنى أن يُخرج فيلماً عن 5 تشرين الأول 1973، اليوم السابق للعبور، ما الذي حدث في هذا اليوم؟ ما الذي كان يدور خلف الكواليس،؟ وكيف دارت الاتصالات هنا وهناك، لكن الظروف الإنتاجية لم تسمح، كما قال هو نفسه .. وتمنى بعد «قاهر الظلام» أن يُخرج فيلماً آخر يعتمد على الخيال العلمي، لكن تطور التكنولوجيا في السينما العالمية جعله يصرف النظر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق