الجمعة، 5 ديسمبر 2014

رومي شنايدر: أيقونة السينما



في الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، شكلت الممثلة الفرنسية ذات الجذور الألمانية رومي شنايدر، بكل ما قدمته في سلسلة أفلام من بطولتها إلى جانب كبار الممثلين في تلك المرحلة وعلى رأسهم النجم دولون، نموذجا مثاليا للمرأة الفرنسية العصرية والمتحررة والملتزمة بقضايا إنسانية ملحة والمشعة بنظرتها وإحساسها المرهف.
جمعت حياتها بين العز والحزن، بين السعادة والمأساة. فمنذ بداياتها الأولى في السينما تربعت رومي شنايدر على عرش النجومية، أي منذ أن قامت بدور الصبية سيسي، ولم تكن قد بلغت 19 من عمرها إلا وقد أنهت الجزء الأخير من ثلاثية القيصرة سيسي، لتصبح بعدها الممثلة الفاتنة الباهرة ذات التأثير معبودة جماهير عصرها.
رومي شنايدر، اسمها الأصلي روز ماري ماغدلينا ألباخ ريتي، ابنة الممثلين وولف ألباخ ريتي وماغدا شنايدر “الممثلة الشهيرة في السينما الألمانية”. ولدت في فيينا في شهر سبتمبر 1938 وتوفيت في باريس. دخلت المدرسة الابتدائية في بيرشتيسغادن عام 1944، وذلك قبل سنة واحدة من طلاق والديها الذي ترك أثرا عميقا في نفسها. رومي التي بلغت الخامسة عشرة كانت صبية حالمة وذات خيال خصب، فألحقتها أمها بمدرسة للرسم والموضة في مدينة كولون الألمانية. أما النقلة الحقيقية في حياتها، فقد جاءت عام 1953، حين اختيرت والدتها ماغدا لتقوم بدور البطولة في الفيلم الألماني “الزنبق الأبيض” مع المخرج هانز ديب. وكان فريق الممثلين مكتملا، غير أن المخرج كان يبحث عن فتاة صبية تقوم بدور ابنة البطلة. ومن ميونيخ اتصلت ماغدا بابنتها وأخبرتها بذلك، وسرعان ما أخذت رومي أول قطار إلى هناك. ومن بين الكثير من المتقدمات استطاعت أن تسحر المخرج حالما رآها فأعطاها الدور.
تجربتها الأولى أمام الكاميرا كانت ناجحة جدا، فمن المعروف أن الوجوه تختلف حسب قابليتها للتصوير، وهذا لا علاقة له بجمال الوجه أو عدمه، فكم من وجوه جميلة تبدو باهتة على الشاشة، على الرغم من أنواع الإضاءة التي يستخدمها المصورون. وقد كان وجه رومي يوحي، منذ البداية، بصلاحيتها الكاملة لمهنة التمثيل وللكاميرا: الأنف المستقيم الشامخ، والشفتان الممتلئتان، والعينان المشروطتان، والجبهة العالية.. كان يمكن للصغيرة أن تظل صغيرة ومجهولة لتعيش وتعمل في ظل أمها لولا أن مخرجا حاذقا يدعى أرنست ماريشكا، وجد لديها من الكفاءة والطراوة والعفوية ما جعله يسند إليها الدور الأول في سلسلة أفلام ملونة صاخبة بالحيوية والمرح تتحدث عن القصر الملكي في النمسا وبالتحديد عن سيسيا، الأميرة الشابة التي ستصبح امبراطورة. وهكذا عبر نصف دزينة من الأفلام حققها ماريشكا بين 1954 و1957، عرفت رومي (هكذا أصبح اسمها خلال تلك المرحلة) كيف تخرج من الظل وتفرض حضورها على الشاشة وفي قلوب المتفرجين، صارت “سيسي” إيقونة لفترة الخمسينيات في ألمانيا، بل صارت صفة تطلق على الجميلات من الفتيات اللاتي لهن نعومة الحرير ورقة البسكويت.. وارتبطت الشخصية برومي شنايدر حيث بلغت ذروتها مع الثلاثية الشهيرة “سيسي”، التي أعطت رومي شنايدر شهرتها في أوروبا. ولم يقف المنتجون الأمريكيون موقف المتفرج، فقد سارعوا بدورهم إلى استثمار هذا النجاح وتحويله إلى “بيزنس”، فاشتروا أفلام “سيسي” وجعلوا منها مسلسلا عُرض في الولايات المتحدة تحت اسم “إلى الأبد يا حبي”. وبفضل تلك السلسلة منحها والت ديزني لقب “أجمل صبية في العالم”، وبذلك فازت ببطاقتي سفر لها ولأمها إلى هوليوود. منذ تلك الفترة، فتحت رومي شنايدر صفحة جديدة في حياتها هي الصفحة الأمريكية، وبعدها وقعت عقدا مدته ثلاث سنوات مع شركة “بارامونت”. ولئن كانت رومي قد عاشت السنوات الأكثر من بين النصف الثاني من حياتها في فرنسا، فإنها عرفت كيف تستمع ببراءة السينما وتمثل مع مخرجين أمريكيين وفرنسيين وألمان وإيطاليين، ما جعلها أكثر ممثلات أوروبا عالمية، عرض عليها بيير غاسبار ويت عام 1958 الدور الرئيسي في “كريستين” إلى جانب بطلين شابين: جان كلود بريالي وآلان ديلون، ونشأ حب عاصف بين رومي وآلان في أثناء التصوير، ترك بصماته على روح رومي شنايدر طول حياتها، النجم الوسيم الذي تطارده المعجبات ليلا ونهارا وقع أخيرا في شباك الهوى مع مراهقة ألمانية جمالها أسطورة! وأعلنت خطوبتهما رسميا في 22 مارس من عام 1959 أمام الصحافة العالمية في باريس، ولكنهما لم يتزوجا قط.
بدأت شنايدر تتنقل بين كثير من المخرجين والبلدان في الستينيات من القرن العشرين، إذ مثلت في الفيلم الإيطالي “بوكاتشو70” عام 1961 للمخرج لوكينوفيسكونتي، وفي الفيلم الفرنسي “المحاكمة” عام 1962 الذي اقتبسه أورسون ويلز عن رواية فرانز كافكا المعروفة، ونالت جائزة نجمة الكريستال من أكاديمية السينما في عام 1963 عن دورها فيه، وفي الفيلم الإنجليزي “المنتصرون” عام 1963 للمخرج كارل فورمان، وفي الفيلم الأمريكي “الكاردينال” عام 1963 أيضا، للمخرج أوتو بريمينجر، وغيرها. وأعطيت لرومي شنايدر في جوان من عام 1964 جوائز الفكتوار للسينما الفرنسية التي تمنح لأفضل ممثلة أجنبية كل سنة. وفي عام 1965 تزوجت الكاتب والمخرج المسرحي الشهير في ألمانيا هاري ميين، ورزقا بابنهما دافيد. وبعد انقطاع عن العمل السينمائي لسنين قليلة، مثلت عام 1969 في الفيلم الفرنسي “المسبح” للمخرج جاك دوري إلى جانب الممثل آلان ديلون، ومنذ ذلك الحين تركز معظم عملها في السينما الفرنسية. في عام 1971 كتبت مجلة باري ماتش الفرنسية، تقول (أربعون عاما بعد غريتا غاربو ومارلين ديتريش وخمسة عشر عاما بعد مارلين مونرو في هوليوود، تظهر اليوم نجمة كبيرة).
أفضل أفلام شنايدر هي تلك التي صنعها لها المخرج كلود سوتيه: “أشياء الحياة” 1970، و«ماكس والسباكون” 1971، و«سيزار وروزالي” 1972 إلى جانب ايف مونتان، و«مادو” 1976، و«حكاية بسيطة” 1978 “جائزة سيزار 1979”. وكذلك فيلما المخرج بيير غرانييه ديفير: “القطار” 1973، و«امرأة في النافذة” 1976، وفيلم روبرت إنريكو “البندقية القديمة” 1975 “جائزة سيزار لعام 1976، وبعد عشر سنوات، نالت أيضا جائزة سيزار لأفضل فيلم من بين الأفلام الحائزة على جوائز السيزار”، وفيلم برتران تافيرنيه “الموت على الهواء مباشرة” 1979، وفيلم كوستا غافراس “نور امرأة” 1979، وكذلك دور إليزافيتا النمسوية ابنة عم الملك البافاري المولع بالموسيقى لودفيغ الثاني في فيلم “لودفيغ” 1972، للمخرج الإيطالي لوكينو فيسكونتي. وفي عام 1975 حصلت على جائزة “ملاك السينما”، ثم جائزة أفضل ممثلة في مهرجان تاورمينا. وفي العام نفسه تزوجت دانييل بيازيني، وفي عام 1977 منحتها ألمانيا جائزة أفضل ممثلة لذلك العام. وفي 21 جويلية من العام نفسه ولدت ابنتها، سارة ماغدالينا، التي سارت على خطى أمها في التمثيل.
كانت رومي فرحة لكنها كانت قلقة حتى دون أن تدري أن الموت قرر، منذ ذلك الحين، أن يبدأ بزيارتها، تعاستها في ذلك الحين كانت عاطفية. وهي عبرت عن ذلك بقولها لصحافي سألها عن السعادة في العام 1979: “إن كل الظلال قد ابتعدت عني” وحين سألها الصحافي أية ظلال، أجابت بابتسامة شاخبة: “ظلال الرجال الذين قالوا لي يوما إنهم يحبونني، ثم لم يعطوني أي شيء. وظل ضروب العصاب التي أجبرتني على تناول الأدوية للإبقاء على رأسي باردا حتى أتمكن من متابعة العمل. أنا لم يسبق لي أن كنت في حياتي سعيدة كما أنا اليوم”. غير أن الصحافي الذي كان يتلقى منها هذا الاعتراف سيقول لاحقا إنه لاحظ حزنا كبيرا في عينيها في اللحظة نفسها. وتذكر أنها قالت له على الفور: “لقد كنت في الماضي أعيش في هاجس أن يغدر بي أحد ما، أو يتركني شخص ما. كان كل ما حولي يقول لي إن سعادتي في خطر”.
في 1980 لعبت شنايدر دور إميا إيكرت في فيلم “موظفة البنك” للمخرج فرنسيس جيرو، ودور آنا بريجيتا في “شبح الحب” “وهو فيلم مؤلف من عدة قصص لعدة مخرجين”. وفي عام 1981 لعبت دور زوجة ميشيل سيرو في فيلم “تحت المراقبة” للمخرج كلود ميلر. وفي العام ذاته انفصلت عن زوجها دانييل. وبعد أن كانت شنايدر قد عانت علاقات عاطفية متأزمة مع كل الذين أحبتهم ووجدت نفسها وحيدة، صبت كل اهتمامها على ابنها دايفيد، وحين تعرض ذلك الأخير لحادث مفاجئ أودى بحياته، لم تتمكن من الاستمرار من بعده. حاولت مرارا الخروج من عزلتها وعادت إلى العمل فصورت فيلمها الأخير عام 1982 ورقمه 60 وعنوانه “المرور من دون هواجس”. أهدته إلى ابنها المُتوفى ولزوجها هاري ماين الذي انتحر عام 1979. وعلى الرغم من هذه النكبات التي حلت بها واصلت عملها الفني، ولكن الصحفيين كانوا يطاردونها بلا انقطاع، فانتقلت مع ابنتها وصديقها الجديد لوران بـيتان واستقرت في قرية صغيرة في الإيفلين في ضواحي باريس. وفي 28 ماي 1982 تعرضت لتوقف قلبها المفاجئ الذي لم يعرف سببه. وشاعت فرضية الانتحار التي لم تلق أي تأكيد رسمي.
رومي شنايدر. تلك الألمانية الحسناء التي عرفت كيف تسكن قلوب الفرنسيين أو عاشت بينهم وصارت ذات يوم نجمتهم الأولى، وفاتنة نجمهم الأول آلان ديلون، لم تعش سوى أربعة وأربعين عاما. وكانت لفرط ما لديها من حيوية وحضور توحي دائما بأنها يمكن أن تعيش أكثر من ذلك كثيرا. لكن نهايتها كانت هناك في انتظارها، لقطع حيويتها وتضع حدا للسعادة التي كانت دائما مسعى قالت رومي إنها لم تحققه أبدا.
ألمانيا تحاول جاهدة تخليد اسمها، فقد وضعت جوائز باسمها وأقامت لها تماثيل وأخرجت محطات التلفزيون أفلام وثائقية عدة عن حياتها منذ الطفولة إضافة إلى الكثير من الكتب، التي تناولتها دراسة ونقدا ورواية، ولم تتوقف وسائل الإعلام عن تناول حياتها وفنها، ولم يقتصر هذا على ألمانيا فحسب فالدول التي عاشت فيها تعتز بها وبما أنتجته على أراضيها وتحاول بين الحين والآخر وفي المناسبات الفنية أن تعيد ذكرها وما حققته على أراضيهم.
محمد عبيدو

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق