الثلاثاء، 2 ديسمبر 2014

نال الأوسكار وسعفة «كان» الذهبية مرتين مايكل هانيكه: أفلامه قصـائد عن القوة الدائمة للحب



محمد عبيدو
مايكل هانيكه فنان مثير للجدل، سواء في رؤيته الفنية أو في تقنياته اللافتة للانتباه، أسلوبه قاتم ومثير للقلق، وأفلامه في كثير من الأحيان وثيقة عن المشاكل والإخفاقات في المجتمع الحديث، ولد مايكل هانيكه في 23 آذار عام 1942 في ميونيخ، بافاريا، ألمانيا وهو ابن المخرج والممثل فريتس هانيكه، والممثلة بياتريكس فون ديغين سخيلد، عمل أستاذاً لمادة الإخراج في أكاديمية الفيلم في فيينا. بدأ مهنته ككاتب مسرحي لمسرح سودفيست فينك عام 1967، ثم عمل كمخرج حرّ للتلفاز والمسرح عام 1970، نشأ في مدينة فينر نوستات في النمسا، ثم درس علم النفس والفلسفة والعلوم المسرحية في جامعة فيينا في النمسا.
بعدما نال الجائزة الكبرى عام 2001 عن فيلمه «معلّمة البيانو»، انتزع مايكل هانيكه السعفة الذهبيّة في الدورة 62 من «مهرجان كان» 2009، عن فيلم «الشريطة البيضاء» الذي يعود إلى نشأة النازيّة مستكشفاً جذور الإرهاب النازي، وإلى تأثيرها في النفوس والذهنيات، من خلال تصوير وقائع الحياة في قرية صغيرة في الريف النمساوي خلال الثلاثينيات، فيلم هانيكه يأتي ليقول إنَّ هذا التفسير لا يكفي، للشر – الذي مثلَّته النازية كما الفاشية كما النزعة القومية هنا – جذور أعمق. فأين يمكن العثور على هذه الجذور؟ انطلاقاً من هذا السؤال، تخيّل هانيكه، إذاً موضوعه وعاد تحديداً إلى سنوات المراهقة والطفولة لدى الجيل الذي كان هو جوهر وسبب نمو النازية، فوجد نفسه خلال العامين السابقين مباشرة للحرب العالمية الأولى، ووجد نفسه تحديداً في الريف البافاري، في الشمال الألماني البروتستانتي، حيث كان المهد والرحم اللذان منهما انطلقت عملية تحوّل الشعب الألماني في أغلبيته الساحقة إلى شعب نازي، وكالعادة في أفلامه يبدع صاحب «مخفي» في حفر الأخاديد النفسية
لشخصيات رمادية ومعذبة تدور في فلك ملتبس يتداخل فيه الخير والشر، والبطولة والجبن. إنَّ هانيكه قدّم في هذا الفيلم المصوّر بالأبيض والأسود، عمله الأكثر اكتمالاً على صعيد الرؤية الإخراجية.
تدور القصة حول (جورج لورنت) الذي يعمل مقدِّماً لبرنامج تلفزيوني عن الأدب، حيث يفاجأ هو وزوجته (آن) ذات يوم بطرد أمام البيت، الطرد يحتوي على أشرطة فيديو يظهر فيها هو وعائلته في بيته (مصور بطريقة سرية من الشارع)، تستمر الأشرطة في الظهور فجأة أمام عتبة منزله، وتبدأ في أخذ منحى أكثر شخصية، حيث يبدو أن المصور يعرف جورج منذ زمن بعيد.
الشرطة من جهتها لا تستطيع التدخُّل، لأنه لا يوجد تهديد حقيقي حتى الآن، وهذا ما يجعل جورج أكثر قلقاً وخوفاً من هذا الخطر الغامض، الشرائط تكشف أشياء خاصة متصلة بحياته، وهي عبارة عن مَشاهد لمنزله من الخارج، وأمور أخرى ليست على قدر كبير من الأهمية، يرافق الـ«كاسيت» رسم غريب أشبه بتهديد، بيد أنَّ طبيعة الرسائل لا تمنح جورج أي إشارة تتعلق بهوية الطرف الذي يريد عرقلة مسار حياته الهادئ. هل يقدر أن يتحمَّل التهديدات الغامضة التي يتلقاها، خصوصاً أنَّها ستوقظ مجدداً ذكريات من زمن طفولته؟ من يريد له شراً؟ ماذا فعل جورج في حياة سابقة كي يستحق هذا العقاب؟ وهل ثمة فعلاً عقاب في مقابل خطيئة أو جريمة ارتكبها؟ لا تعذّبوا أنفسكم: لن يمنحكم هانيكه، المدرك تأثير الصور على المتلقي، أي مَخرج من المأزق الذي سيضعكم فيه، ولن يعطيكم مفاتيح الدخول إلى الجنة السرية إلا تدريجياً، ما يهمه ليس القصة بقدر اهتمامه بتوريط المُشاهد في لعبة الـ«بازل» السادي ليركِّب أجزاء هذه القصة المبعثرة، قلق، عزلة، بغضاء، تمزق نفسي، معاناة. يجعل هانيكه الخوف شبحاً طاغياً على امتداد الشريط، ويقودنا إلى المجهول، ليرينا مدى صعوبة أن نمشي وعيوننا مغمضة، تلك الاضطرابات كلها ستنتج من التوتر العالي الذي يشيعه هانيكه بما يملكه من موارد سينمائية، ما سرُّ هذا المخرج، علماً أنَّه لا يلجأ إلى نوتة موسيقية واحدة، على مدار 115 دقيقة؟ الصمت هنا يبوح. يخرّب كل شيء، ثم يعود إلى صمته.
الأشرطة مرسلة من قبل جزائريّ غاضب من ماضيه، الفيلم استعارة عن آلام حرب لاتزال تطارد نتائجها المجتمع الفرنسي إلى اليوم. وليس أي حرب. حرب الجزائر المفجعة، وتعاون الإعلام، وجماهيره، لإبقاء هذه القضيّة خفيّة. بينما قال هانيكه: يسحب كلّ منّا البطّانيّة على رؤوسنا ويأمل أن الكوابيس لن تكون سيّئةً جداً، خصوصاً، مذيع التلفزيون (جسَّده باقتدار دانيال أو تيويل الممثل الفرنسي من أصل جزائري) يشاهد كوابيسه كما لو بعدسة متّسعة الزّاوية.
نحن، كمشاهدين، نشاهد الفيلم خلال كاميرا بعيدة، نسخة ثانية للعلاقة المغتربة مع العالم حولنا، اللقطة الختامية لـ«مخفي» هي عن ولدين، جزائريّ وفرنسيّ، يتحدّثان عن سلالم المدرسة، الحوار الأخرس الّذي يمكن أن فقط نلمحه خلال لقطة مكبّرة لسكيِّن. الفيلم أحد الأفلام التي تأخذ منك ساعات وأنت تتفحَّصها وتحلِّلها، وفوق ذلك تناقش فيها غيرك، فالنّزاعات السّياسيّة المختبئة في الشّاشة – هدف أساس لهذا المبدع النّمساويّ.
بالمثل، فيلم هانيكه المعروف، «معلمة البيانو» (2001)، أحضر له جائزته الأولى في كان. يبدأ (كما ينتهي) بباب مغلق، عن العلاقة السّاديّة بين الأمّ والابنة في عالم صغير للمجتمع النّمساويّ الرّأسماليّ.
يضيف بعداً آخر أيضاً، الموضوع المهيمن في كلِّ من أفلامه السبعة، من «القارّة السّابعة» (1989) إلى «مخفي». مواضيع من كره الآباء إلى إمبرياليّة الإعلام، وتعبيره عن الحرب والمذابح والتّجارة. لهانيكه، هو المؤامرة بين الإعلام والعنف العالميّ والعائلة، المؤامرة المخفية في العقل الباطن: في «مخفي»، المأساة الجزائريّة الّتي تشكّل المعنى الخفيّ تنشأ عن ولد بالتّبنّي سيّئ، ماضي عائلة متّصل بحاضر مقدم التلفزيون خلال الأحلام فقط.
هانيكه نفسه جاء من التلفزيون، بدأ مهنته عبر البرامج التّلفزيونية للتّلفزيون الألمانيّ، مما أكسبه خبرة واضحة توافق رؤيته، كان فيلمه الأوّل، «القارّة السّابعة» (1989)، القصّة الحقيقيّة لانتحار جماعيّ لعائلة، حيث يموت كلّ أعضاء العائلة ببطء على كنبة، وهم ينطلقون بين المحطّات التّلفزيونية. إنّها عائلة نموذجيّة – زوج، وزّوجة، والابنة – تعيش في بلدة عاديّة، ضاحية مستوية عديمة اللّون قرب فيينّا يسيطر عليها صمت بارد، الفيلم كان الأوّل لثلاثيّة تظهر التّجمّد العاطفيّ.: أوّل عشرة دقائق تظهر هذه العائلة كمؤلّف أجزاء الجسم: العمّال الّذين يعدّون الإفطار، يحملون الحقائب، يصطادون السّمك الذّهبي، يرفعون باب الكراج. إنّها عشر دقائق كاملة قبل أن نرى وجهاً، وكما في «معلمة البيانو» أو «مخفي»، لا أحد في هذا المجتمع النّمساويّ حسّاس للآلام الدّاخليّة غير المرئيّة لمنبوذيها. تشكو الفتاة الصّغيرة من الأعراض النّفسيّة الغريبة إلى مدرّسها – تخيّل العمى والطرش – المتنفّس العاطفيّ فقط ينقضّ على نهاية الفيلم، متى، بعد أن قطّع الأبُ والأمّ كلّ على حدة قطعة من أثاثهم، ألقيا مالهم أسفل المرحاض، وبكاء الفتاة الصّغيرة تشاهد موت سمكاتها الذّهبيّة. فيما بعد، أعضاء العائلة يهدؤون ويُسمَّمون وهم جالسون أمام التلفزيون، وببطء يمضون إلى حتفهم أمام أغنية، مردّدة من قبل مطرب.
فيلم هانيكه الثّاني، «فيديو بيني» (1992) أيضاً رسم علاقةً قويّةً بين الإعلام وإبعاد العائلة، يقتل الولد بنتاً فقط لرؤية كيف يمكنه أن يسجّل بالفيديو القتل ويعيد مشاهدته باستمرار، الوالدان الّلذان يكتشفان القتل يحاولان تغطية الجريمة، إذ أصبحا متّهمين بالإهمال. لذا فإنَّ الأب يتطوّع بتمزيق الجثّة إلى قطع، بينما تأخذ الأمّ والولد إجازةً مستحقّة إلى فندق على شاطئ بمصر، حيث بالطّبع، يقضون الأسبوع في السّرير متنقلين بين محطّات التلفزيون المصريّ.
فيلم هانيكه الأكثر تجريبيّة، «71 قطعةً لسجلّ هازارد» (1994)، ذهب للانطلاق بين صور أعضاء العائلة المغتربين: من مشاهد رجل واحد يصفع زوجته، إلى صور برامج التلفزيون على كوسوفو، وفي نهاية هذا الفيلم، طالب جامعة نمساويّ، يسأم الكون البارد الّذي يعيش فيه وينسف كل ما يراه بمسدّس أمام محطّة بنزين، كلّ الشّخصيّات الّتي قد قابلناها متفرقة في الفيلم. هناك رابطة مباشرة تجمع بينهم، وهي كيف النّاس لا يتواصّلون في البيت (خاصّة لأنهم يشاهدون التلفزيون كثيراً) إلى طريقة هؤلاء في الإعلام يدمّرون العالم الطّليق. المشهد الأخير في «71 قطعة» كليب تلفزيونيّ لمايكل جاكسون في أرض أحلامه، رؤية هانيكه هي الاغتراب في ذروته غير القابلة للعلاج. طريقته الباردة – ووضعه المباشر الخاصّ، يبدو هدفاً لصدمة الجمهور المنساق لإخبار الإعلام في النصف الأخير من القرن الماضي.
بعدما مات صديقه، يمسك الرجل بالريموت كونترول ليعيد الوقت إلى الوراء، إلى ما قبل مقتله، قد تكون هذه هي اللحظة المحورية في فيلم مايكل هانيكه «ألعاب مسلية» (1989)، يحكي الشريط قصّة عائلة ميسورة مؤلّفة من زوج (تيم روث) وزوجة (نعومي واتس) وطفليهما، تقوم برحلة إلى بيتها الصيفي على ضفاف بحيرة ريفيّة لقضاء عطلة طويلة. عندما تصل العائلة، تبدأ المشكلات، إذ يظهر شابان غريبي الأطوار (مايكل بيت وبرادي كوربت) بلباس بولو أبيض، ومع قفازات بيض ويحتجزان العائلة في منزلها، ويبدأان بالتفنُّن في التعذيب «من أجل المتعة» فقط. وهنا بيت القصيد عند هانيكه الذي ينتقد صناعة أفلام الحركة والإثارة.
«ألعاب مسلية» الذي يصنَّف ضمن أفلام العنف والإثارة، يسخر من هذه الأفلام عبر مشهد الريموت كونترول أو عبر كلام الممثل إلى الكاميرا عن المرح في التعذيب. يحاول هانيكه أن يضع المشاهد في ارتباك بين استمتاعه بمشاهد العنف المنفذة بطريقة جيدة، والسؤال عن جدواها ومدى أخلاقيتها في آن. تسبّبُ الارتباك للمشاهد، وهو المحور الذي تُبنى عليه الدراما.
وحصل فيلم مايكل هانيكه «أمور» (حب) على اكتساح غير مسبوق للجوائز في السينما الأوروبية والعالمية، مع سعفة كان وأوسكار أفضل فيلم أجنبي وغيرها من الجوائز.. الحب في خريف العمر، عندما يبدأ المرض والشيخوخة في التسلل إلى الجسد، هو موضوع فيلم «آمور» (الحب). ويعتبر قصيدة عن القوة الدائمة للحب والتي جسدها اثنان من أكثر النجوم إبداعاً في السينما الفرنسية، إيمانويلا ريفا وجان لوي ترنتينيان.
وهانيكه من المخرجين الذين لا يعرضون للمشاعر العاطفية بطريقة مباشرة. زوجان طاعنان في السن (جان لوي ترنتينيان) وآنا (إيمانويل ريفا) متقاعدان لا يعيشان خارج الزمن، بل يعيشان خارج الحياة، يفتح الفيلم مع مشهد وفاة ثم نعود مع الزوجين من حضور عزف على البيانو لأحد تلاميذ آن السابقين اللامعين في قاعة للحفلات الموسيقية الجميلة.. في صباح اليوم التالي، تصاب آن بسكتة دماغية. وبعد أن تعود إلى منزلها تتدهور حالتها بشكل تدريجي، ويشير لأطباء لها لإجراء عملية جراحية لمنع تكرار يمكن أن يكون أكثر ضرراً، وبعد أن تولى جورج مهمة الاعتناء بها طوال الوقت أصبحت شقتهما هي آخر ملاذ لهما في مواجهة العالم. تجري محادثات مع جورج عن الرغبة في الموت. يبدو أن آنا لا تملك وقتاً أطول في الحياة. وقد ترك في المخ أثراً في جسدها وإنها مشلولة لم تعد قادرة على التحرك حولها دون مساعدة على كرسي متحرك. التعامل مع حالة زوجته المتدهورة يضع ضغطاً هائلاً على جورج الذي يريد الحفاظ على كرامتها والحفاظ على منزلها على الرغم من معارضة ابنتهما – إيزابيل هوبير. وهو حازم في قراره لرعاية زوجته وليس تركها في دار للرعاية. ويوظف ممرضة بدوام جزئي لجعل الوقت المتبقي لآنا مريحاً قدر الإمكان.
قد يكون بعض منا لديه بالفعل خبرة مع مثل هذه القضايا. فهي تميل إلى إبراز أفضل وأسوأ ما في الناس. نتعلم الكثير عن أنفسنا عندما نتذكر مدى هشاشة، وكيف هو وضع من لا حول لهم ولا قوة في صراعهم ضد الزمن.
قدمت ريفا، التي تجاوزت الـ 85 من العمر، بدايتها الأولى لها كنجمة مع آلان رينيه (1959) «هيروشيما حبيبتي»، في حين أن ترنتينيان – لعب دور البطولة في نحو 135 فيلماً، بما في ذلك الكلاسيكيات الشهيرة مثل «رجل وامرأة» و«Z» و«الملتزم». وارتفع جان لوي ترنتينيان إلى الشهرة بفترة الستينيات وكان واحداً من العناصر الفاعلة الرئيسية في الموجة الجديدة الفرنسية، وأفضل ما يذكر دوره في كرزيستوف كينشلوفسكي «ثلاثة ألوان: الأحمر».
عن الرافد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق