محمد عبيدو
ألفريد هيتشكوك …فنان الاثارة والتشويق في عالم السينما … هذا العجوز السمين ذو الوجه المترهل ، والعينين اللامعتين اللتين تشعان بالذكاء والتحدي … والذي مات بعد ثمانين عاماً قدم خلالها ثلاثة وخمسين فيلماً …وطريقة خاصة في اختيار الموضوع ، وتقديمه على الشاشة ، حتى اصبح اسمه مدرسة قائمة بذاتها وعلامة فنية مميزة .
إنه واحد من جيل العمالقة في السينما … وان كان مازال يثير التناقض في الآراء بين الذين يكتبون عن السينما … او يؤرخون لها … فالبعض يعتبره « اله المخرجين الشبان » كما يقول جون تيلور ويقول المخرج اليوناني « كوستا غافراس » : « إن هيتشكوك استاذنا جميعاً »… كما يضعه المخرج الفرنسي « فرانسوا تروفو » في مرتبة الادباء الثلاثة ( كافكا- ديستويفسكي - بو» الذين قدموا الاعمال الفنية بالغة التشويق …
ولكنه هو - أي هيتشكوك - لم يضع نفسه ابداً ضمن كبار الفنانين بل يرى انه رجل حرفي فني … ومسل شعبي !
ولد هيتشكوك في لندن عام 1899 درس الهندسة بضع سنوات، ولكن ظروف اسرته اضطرته الى العمل مبكراً ، فالتحق بوكالة الدعاية والاعلان وسرعان ما ادركته حرفة السينما فترك الاعلان والدعاية ، ودخل عالم السينما من ابوابه الخلفية ….
وكان اول عمل مارسه هذا الناشىء العجيب وقتذاك هو تصميم لوحات الحوار التي تعرض على الشاشات الجانبية عادة لتخفيف حدة الصمت الذي عاشت فيه السينما قبل ان تنطق في أواخر العشرينيات وراح ينتقل بين الاستديوهات بفضول التلميذ الصغير ، وطموح الشاب ، حتى واتته الفرصة … فيما بين سن العشرين والخامسة والعشرين استطاع ان يلفت الانظار اليه فاتسع نشاطه ليشمل رسومات تصميم الدعاية والديكورات …ثم المساعدة في كتابة السيناريو والمساعدة في الاخراج …واكتسب بذلك خبرة كبيرة أهلّته عندما بلغ سن الخامسة والعشرين لان يقوم بإخراج اول افلامه بعنوان « حديقة السرور».
وبدأ الفريد هيتشكوك رحلته السينمائية الحقيقية …وسطع نجمه اولاً كمخرج متمكن من حرفته وذلك من خلال افلامه التي اخرجها في الفترة من سنة 1925 حتى سنة 1930 والتي شملت موضوعات مختلفة من بينها بعض افلام الغموض والتشويق .
أما شهرته الحقيقية كمخرج متمكن في سينما التشويق فلم تبدأ الا مع مطلع الثلاثينيات ….
ففي عام 1934 بدأ هيتشكوك سلسلة من الأفلام الجيدة،كان أولها فيلم«الرجل الذي عرف أكثر من اللازم» ثم تلته خمسة أفلام هي:«الدرجات التسع والثلاثين،العميل السري،تخريب،شباب أبرياء،اختفاء السيدة» وقد جعلت مخرجها اسماً لامعاً من أسماء شباك التذاكر..واتسعت شهرة هيتشكوك خلال الثلاثينيات حتى احدثت في القارة الامريكية ضجة فقررت اجتذابه اليها..ومع مطلع عام 1940 رحل هيتشكوك الى هوليوود ليبدأ فيها عصره الذهبي بفيلم«ربيكا» .
ومنذ ذلك التاريخ،صعد نجم هيتشكوك بسرعة حتى احتلّ مكان الصدارة في سينما التشويق وظل محافظاً على مكانته بها بالرغم من كثرة مقلديه وأصبح اسمه كمخرج يحمل بريقاً على المستوى الجماهيري يمثل ظاهرة لا ينافسه فيها أحد،بل ارتفع هذا الاسم الى مصاف النجوم المشهورين من الممثلين وأصبحت له فعاليته في التأثير على جماهير المشاهدين في مختلف بلاد العالم،وعلى امتداد تلك الفترة الزمنية الطويلة.
فيلم «ربيكا» 1940،يبدأ مرحلة الانتاج الهوليوودي وفي هذه المرحلة يحقق أكثر من ثلاثين فيلماً،من أهم أفلامه «ظل الشك» وفيه يدخل هيتشكوك تجربة القلق الانساني ويعبر عن الاختناق الذاتي،العذابات النفسية والآلام والهواجس التي تحيط بالانسان،ونذكر 3أفلام تدور في هذه الدوامة،حيث اكتشف هيتشكوك الممثلة«انغريد برغمان» ،«المأخوذ»1945،«المقيدون»1946،«تحت مدار الجدي»1949،الذي يصف مزاجية مريض نفسي يصاب بالهذيان ويرتكب جريمة قتل. ونفذ هيتشكوك الفيلم في ديكور واحد ووحدة زمنية متصلة ووظف في اخراجه تكنيكاً ثورياً غريباً وذلك عندما قرر الاستغناء عن المونتاج تماماً والاعتماد في تصوير الفيلم على حركة الكاميرا والممثل على مدى الفيلم كله الذي بدا كلقطة واحدة..
الا ان الميزة التي وسمت معظم اعمال هيتشكوك في هذه المرحلة كانت تميل الى لون من المغامرات الجرائمية والبوليسية،«مجهول قطار الشمال»1951 امتزج فيه علم النفس بالفكاهة القاتمة وواقعية التصوير خارج الاستوديو..
خطوة،خطوة،كان هيتشكوك يبني عالمه الفني الملون أحياناً بالرعب والاثارة وأحياناً بالفكاهة وكانت افلامه على تنوعها تلقى اهتمام وفضول الكثيرين،«إني اعترف»1952،يدور حول قس يتلقى اعتراف رجل ارتكب جريمة قتل اتهم القس نفسه فيها.النافذة الخلفية»1953،يتحدث عن رجل مقعد يراقب الاحداث من نافذته ويشاهد جريمة قتل،«اليد على الرقبة»1955،«من قتل هاري»1955،«عرق بارد»1958،وفيه يقوم كاري غرانت بدور شخص مظلوم يقع ضحية مؤامرة،«الشمال،الشمال الغربي»1959،ويتناول رحلة الحب والموت حيث يلعب جيمس ستيوارت دور مخبر سري للبحث عن سر انتحار صديقته ..فيلم«سايكو» 1960 يعتبره النقاد بمثابة قمة هيتشكوك الفنية،ويبدأ بتقديم شخصية الفتاة الرئيسية بكل ما يمكن ان تحمله من وداعة ورقة وأمانة..ثم تندفع الفتاة وراء ارتكاب حماقة سرقة تحت انفعال عاطفي..وعلى الناحية المقابلة يقدم لنا الفيلم الشخصية الرئيسية الاخرى متمثلة في صورة فتى وديع يملك ويدير فندقاً صغيراً تنزل به الفتاة وهي في طريق سفرها بالمبلغ المسروق كي تبيت ليلتها وعندما تبدو الفتاة وقد قررت الرجوع عن حماقتها والعودة الى بلدتها لإعادة المبلغ المسروق نفاجأ بمن يقتلها ببشاعة اثناء استحمامها ثم نكتشف في النهاية ان قاتلها لم يكن سوى ذلك الفتى الوديع المصاب بانفصام في الشخصية..
وفي فيلم«الطيور»1963،يحرص هيتشكوك في أول الفيلم على تأسيس الألفة المعهودة بين الطير والانسان ثم يؤكد على ضعف حيلة الطير لكن المعنى ينقلب بعد ذلك الى خطر مدمر يهدد الانسان في حياته عندما تهاجمه جيوش من الطيور تهبط عليه كالجحيم لتهدد حياته بالفناء..
فيلمه الاخير«مؤامرة عائلية» وما أثار اهتمام هيتشكوك فيه هو الانتقال من شكل هندسي الى آخر..قصتان مقدمتان على التوازي تتقاربان، ثم تتشابكان لتشكلا من بعد قصة واحدة عند الطرف الاخير من نهاية الحكاية .
كان هذا البناء يستثيره ويولد الانطباع لديه بأنه يتصدى لصعوبة مبتكرة بالنسبة اليه.
في«مؤامرة عائلية» نجد أنفسنا إزاء عائلتين تتألف كل منهما من رجل وزوجته،وتنتسبان الى عالمين مختلفين.
الثنائي الأول ،بصارة مزيفة وشريكها سائق سيارة أجرة،يجمع بفضل مهنته من هنا وهناك معلومات حول ما يحدث،تتظاهر صديقته فيما بعد بأنها تكهنت بها وحزرتها. الثنائي الآخر:تاجر مجوهرات أنيق،وصديقته يمضيان وقتهما في اختطاف شخصيات هامة ومبادلة المخطوف مقابل أحجار ماس كبيرة الحجم يخفيانها بين زجاج احدى نجفات منزلهما.
وتنجلي القصة بمنتهى الوضوح عندما يفطن المشاهد الى ان اللقيط الذي يجري البحث عنه بمعونة البصارة المزيفة،لصالح سيدة عجوز تريد أن تجعل منه وريثها ما هو الا تاجر المجوهرات المختطف.
وينبغي انتظار البكرة الأخيرة لنشهد المجابهة المتقلبة وكثيرة الحركة بين الشخصيات الأربع.
في حوار أجراه معه المخرج الفرنسي تروفو يتحدث هيتشكوك عن أسلوبه السينمائي قائلاً:« لا أريد تصوير قطع من الحياة لان الناس بمقدورهم الحصول على ذلك في بيوتهم، وفي الشارع أو حتى أمام دور العرض،لا يجب ان يدفع الناس مقابل ذلك..إني أتفادى أيضاً الأشياء الخيالية بالكامل لأن الجمهور يجب ان تتاح له فرصة التماهي مع الشخصيات..معنى ان تصنع فيلماً،هو قبل كل شيء تحكي قصة،قد تكون غير قابلة الحدوث،ولكن لا يجب ان تكون تافهة ،ان تكون دراما انسانية،ما هي الدراما ان لم تكن الحياة بعد ان يتم قص الأجزاء المملة منها؟ العنصر الآخر هو تقنية صناعة الافلام ،وفي هذا السياق اعتبر نفسي معادياً للمهارة من أجل المهارة،التقنية يجب ان تغني الحدث فالمرء لا يختار زاوية معينة للتصوير لمجرد ان المصور يشعر بالحماس لها،فالشيء الوحيد المهم هو هل سيعطي موقع الكاميرا في زاوية معينة للمشهد أقصى تأثير أم لا.جمال الصورة والحركة،والايقاع والمؤثرات كل شيء يجب ان يكون خاضعاً للهدف».
وفي كتاب «تروفو» الذي أصدره بعنوان«السينما كما يراها هيتشكوك» نجد ملامح من فن هيتشكوك في الاخراج السينمائي ومدى اهتمامه بمكونات الكادر السينمائي ..فهو يؤكد مثلاً على دراسة الصوت وحساسية وقع الاقدام على أرضية خشبية..وانعكاسات الضوء والفرق بين ألوان الثياب..فيقول مثلاً:«جعلت الممثلة ترتدي ملابس ذات ألوان زاهية في بداية الفيلم،وأصبحت ألوان فساتينها قاتمة أكثر فأكثر..مع زيادة قتامة الحبكة الدرامية للموضوع».
ولألفريد هيتشكوك نظرة خاصة في اختياره للقصة أو الرواية التي تتيح له بناء عنصر التشويق بشكل مؤثر،فهو يفضل أولاً تلك القصص التي تقوم حبكتها على فكرة تحويل الإثم«الجرم» أي تحويل عبء الصراع من المذنب الحقيقي الى شخصية بريئة فارتكاب جريمة ما أو خطأ ما يصبح مصدراً للارهاق النفسي أو البدني لشخص آخر،حتى يتم القبض على المجرم الحقيقي،وهذا العقاب يبدو بمثابة تيمة تتردد في معظم افلام هيتشكوك مثلما في«الرجل الذي عرف أكثر من اللازم»،«إني اعترف»،« الشمال،الشمال الغربي»،«الرغبة القاتلة».
ان أسلوب هيتشكوك في تعامله مع عنصر التشويق يعبر عن عشق خاص له،وهذا العشق هو الذي يجعل من السينما التي يقدمها شيئاً له مذاق متميز عن تلك التي يقدمها غيره لنفس اللون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق