الأحد، 14 ديسمبر 2014

بيكاسو في السينما



  - محمد عبيدو

بابلو بيكاسو فنان تشكيلى من طراز فريد انه واحد من بين العظماء الذين ملأت شهرتهم الافاق، وحفر اسمه في سجل أشهر فنانى القرن العشرين , و بيكاسو (ولد في 25 تشرين الاول 1881 في مالقة بإسبانيا وتوفي في 8 نيسان 1973 في موجان بفرنسا)المولود في مدينة " مالقة " في جنوب إسبانيا، بدأ في طفولته يتعثر باللون وهو يحاول أن يبدأ بتشكيل رسوماته الأولية، ربما لأنه اشتم رائحة الألوان في ستديو والده "جوزيه رويزيلاسكو" الذي كان مدرساً للرسم .
 وقد كانت الانطلاقة الفنية الأولى لبيكاسو في عام 1900حين افتتح معرضه الأول في برشلونة حيث بلغ سنه آنذاك التاسعة عشرة، وهاجر بيكاسو الى فرنسا، ليعيش في باريس. وخلال حياته، انجز اكثر من عشرين ألف عمل فني، تميزت لوحاته من بينها بانها كانت مرتفعة الثمن وغالية جداً، وهو مما جعل بيكاسو واحداً من اغنياء العالم الكبار..
عرفت الفترة من عام 1901 الى 1906 من حياة بيكاسو بالفترة الزرقاء , فعندما جاء بيكاسو الى باريس لأول مرة في حياته كان برفقة صديقه الرسام كارلوس كازاجيماس البرشلوني , لكن في المرة الثانية عندما جاء الى باريس كان وحيدا فانكمش في غرفته يراجع افكاره , فلقد انتحر صديقه لان فتاة باريسية رفضت حبه الجارف لها , حزن بيكاسو كثيرا لموت صديقه و عبر عن الحزن في لوحاته التي ساد فيها اللون الازرق و لذلك عرفت هذه الفترة من حياة بيكاسو بالفترة الزرقاء , و صار اللون الازرق اول معلم يتميز به فنه عن الفنون الاخرى .
وفي نهاية عام 1904 تعرف بيكاسو على الشاعر ( غيوم أبولينير ) وبواسطته تعرف على العديد من الشعراء والفنانين. وفي باريس كان على بيكاسو ان ينخرط في أدق التفاصيل الحياتية لباريس، وان يبدأ في التدرج في مراحله الفنية لينتقل أولاً الى المرحلة الوردية، ثم الى نحت التماثيل التي كان يشكلها بطريقته الخاصة وبالأحجام التي يريد، ومن ثم إلى التكعيبية التي يقول عنها: حينما اخترعنا التكعيبية لم يكن لدينا كائن مهما يكن لابتكار التكعيبية. أردنا ببساطة أن نعبر عما كان فينا، لم يرتب واحد منا للغزو، وأصدقاؤنا الشعراء تابعوا جهودنا بانتباه، ولكنهم لم يلقنونا ابداً". يرسم بيكاسو سنة 1910 العارية الجالسة، وحين ينجزها ينظر اليها “براك” مذهولاً وهو يردد: لقد جعلت من العري موقفاً فكرياً يثير قضية العري الداخلي للانسان وليس الجسدي لدى المرأة. أما صورة تاجر الفن “أمبريوس فوللارد” فهو حين رسمها اخترع قوة ديناميكية حولت المكان الجامد للبورتريه الى زمان يضج بالانفاس.
لقد صار بيكاسو وعبر جميع مراحله لا يتعامل مع التكعيبية كأسلوب، بل كغاية تمتزج تلقائياً مع الغاية الفكرية للعمل الفني برمته، فاللوحة هنا هي حالة رسم لا أوهاماً بصرية تتلاعب بها، لكنها ايضاً قوة ديناميكية اقرب الى الكتلة النحتية التي هي حضور بالقوة في الحيز الفضائي. عاد بيكاسو إلى برشلونة للراحة واعتزل في قرية نائية تدعى ( جوسول ) وهناك بدأ مرحلته " الزنجية " . كما تأثر أيضا بالسيريالية .
ركز بيكاسو على مفردة المرأة و ان استخدامه لجسم المرأة وتقطيعه او تشويهه ما هي الا وسيلة لايصال الالم والحزن الى المتلقي عبر المرأة عندما كان بيكاسو ينفذ لوحة الغورنيكا قال: ان ما ارسمه ليس لتزويق جدران الشقق السكنية بل وسيلة لمحاربة القهر وقوى الظلام
ونذر بابلو بيكاسو نفسه بفنه وبعبقريته لصالح الفن وقضايا الإنسان التحررية. التحق بالحزب الشيوعي، وكان منذ وقت مبكر مؤيدًا للجمهورية، بل إنه كان يبيع الكثير من لوحاته التي كان ينوي الاحتفاظ بها حتى يواصل جهوده في مساعدة أطفال أسبانيا من ضحايا الحرب.
ولم يكن بيكاسو يستطيع أن يخفي كرهه وازدراءه لزعيم اليمين الأسباني الجنرال فرانكو، وقد قدم ألبومًا سنة 1937 يحمل عنوان "حلم وسقوط فرانكو" يحتوي على 18 رسمًا محفورًا على المعدن تصور القسوة والعنف البالغين في الحرب الأهلية الأسبانية. وقد طبعت هذه الرسوم وبيعت بعد ذلك في شكل بطاقات بريدية لصالح حكومة الجمهورية الأسبانية.
ان فن بيكاسو مرتبط وملتزم وملتصق بحياة الفنان نفسه، ويعبر لنا بصدق عن حماسات حياته، وسورات غضبها، ومسيراتها واحباطاتها، ومرارتها. ولم يغب الموت عن أعماله. فعندما كان يرسم لوحته الراقصات الثلاث جاءه خبر موت صديقه القديم ريموند بيشوت، أصيب بيكاسو بالكآبة ورسم عدة لوحات كلها عن الموت. رسم لوحات عن تنبؤه بموته كما في لوحة العارية المستلقية والرأس ، وقد مات بيكاسو بعد 11 شهرا من إنجازه تلك اللوحة. موت بيكاسو ترك ترك فراغا لا يمكن لأحد اليوم أن يملأه , وقد كتبت عنه آلاف الدراسات وكتب كثيرون عن سيرته، وانتجت عنه عديد من الافلام السينمائية التسجيلية والروائية . كان اولها عام 1950 للمخرج الفرنسـي " ألان رينيه " بعنوان " الغورنيكا " ، أشهر لوحات الفنان . وقد تجلت عبقرية بيكاسو في لوحة "الغورنيكا" والتي هي اسم القرية التي قامت طائرات هتلر بقصفها لمدة ثلاث ساعات حيث كانت المذبحة في 27 نيسان 1937 أثناء الحرب الأسبانيّة الأهليّة ، وكان على بيكاسو ان يرسم الملحمة لتكون شاهدة على الدموية والحرب وتمزق اجساد البسطاء. اللوحة احتجاج شديد على الحرب بالإضافة إلى العمل الفنّيّ المدهش . وظلت الغورنيكا باعتبارها صرخة الأرض الثائرة التي تطلب الانتقام حتى الآن رمزًا لذلك المعنى، ولم تفقد أبدًا شيئا من قوتها. الفيلم وثائقي قصير (طوله 13 دقيقة ) صوره رينيه على أساس صور و لوحات و تماثيل مصنوعة من قبل بيكاسو من عام 1902 حتّى 1949 متضمّنًا الغورنيكا , ويرافق الاعمال قصيدة للشاعر بول ايلوار .
واخرج (هنري-جورج كلوزو ) فيلمه " لغز بيكاسو" عام 1956. قال كلوزو أنه في كثير من الأحيان سيموت واحدنا لمعرفة ماذا كان في عقل رامبو عندما كتب القارب المخمور، و يتساءل كيف سيكون الأمر أن تجلس في حجرة مع موزارت بينما يؤلف سيمفونيّة المشتري..سنحبّ معرفة السّرّ الذي يعالج إرشاد المبدع خلال هذه المغامرة الخطرة . لم يعمل كلوزو أي شيئ عن موزارت أو رامبو، لكنّه كان قادرًا على اقناع بابلو بيكاسو أن يعمل معه . بدلاً من الجلوس في نفس الحجرة ببساطة ، مشاهدة رسم بيكاسو، وجد كلوزو طريقةً لتحويل شاشة السّينما إلى قماش رسم بيكاسو .
في لغز بيكاسو، الجمهور يمكن أن يرى أنّ لوحات كثيرة تتّخذ الشّكل ، من قماش الرّسم الفارغ إلى العمل الفنّيّ المنهى . في الحقيقة، لغز بيكاسو هو المكان الوحيد الذي يمكن أن يرى فيه الجمهور هذه الأعمال المحدّدة من قبل بيكاسو . بعدما صار الفيلم مكتملاً، دُمِّرَتْ الصّور. الأثر المتبقّي الوحيد هو في فيلم كلوزو.
فيلم لغز بيكاسو ، يرتّب بعض الأهداف الرّفيعة لنفسه . في 75 دقيقة فقط ، يحاول كلوزو كشف اللّغز، ليس فقط لعمل بيكاسو مع اللوحة ، لكنّ للإنتاج الفنّيّ نفسه . نتكلّم هنا عن بحث ابداعي ميتافيزيقيّ ، إلى هذا الحد، يوثّق الفيلم إنتاج 20 عملا أصليّا من قبل بيكاسو . بعضها، الأعمال السّابقة تحديدا، عملت أصلاً بالحبر الأسود، برشّة اللّون هنا أو هناك، البقية ، تكشف تشكيلة عريضة من الألوان . كلّها لديها ذلك الملمس ما بعد انتهاء بيكاسو منها .
غرور كلوزو الجماليّ الرّئيسيّ هو تمثيل عمل بيكاسو، حرفيًّا، بدون الفنّان .. معظم "لغز بيكاسو " يتم عمله بكاميرا ساكنة متركّزة على قطعة ورق نصف شفّافة . يجلس بيكاسو خلف الورق ( و من ثمّ تمامًا غيابه من الرّؤية ). تسجّل الكاميرا الصّورة على الفيلم، أساسًا تأخذ وجهة نظر قماش الرّسم . الأثر البصريّ دراميّا : بما أنّ الورق يملأ الإطار بالكامل، إنّه كأنّ بيكاسو يرسم على الجانب الآخر لشاشة سينما .
بينما يصنع هذا لإلهام الفيلم، يعطينا مدخلا مباشرا إلى لحظة بيكاسو الإبداعيّة ( و على نحو أكثر تجريديّة). يخلق العكس الكامل ربّما . باستخدام طرق صناعة الأفلام لفصل جثّة الفنّان عن عمله.
وسط الفيلم, يظهر كلوزو لنا كيف يعمل النّظام بقطع الصّورة بين الرّسّام العاري وهو يعمل و على الرسم نفسه . تقريبًا في منتصف الطّريق خلال ما كان سلسلة غير متصلة من الصّور، عدسة الكاميرا فجأة تملأ الشّاشة، الواجهة و المركز و في الصّورة المحكمة ( بالتّأكيد في مدرك موازي لتوظيف طريقة الرّسّام الورقيّة خلال الفيلم ) . ثمّ تسهم كاميرا ثانية مع الجمهور و المخرج و الفنّان .
كلوزو يطّلع على أحد صور بيكاسو و الكاميرا و المصوّر يسجّلان الحدث الفنّيّ .متحوّلاً إلى المصوّر، المخرج يقول أنه تبقى لديه فقط 450 ياردة من الفيلم في بكرته الحاليّة . وفي نبرة متسلّطة تقريبًا، ، يلقي كلوزو قوانين العمل إلى بيكاسو : لذا دعنا نكون واضحين . إذا حدث أي شيئ ، تتوقّف , و سأعمل نفس الشيء. واضح أن انجاز الفيلم يجيء أوّلاً، وميول الرّسّام ثانيا. والذي كان بداية رقص جدليّ مثير بين وكيلين إبداعيّين، يصبح بدلاً من ذلك تأكيدا واضحا لسيطرة المخرج . بيكاسو دائمًا يبدأ ببساطة . يرسم تخطيطا كاريكاتوريا أو خطوطا متقاطعة هندسيّة، الأسود ، على قماش الرّسم الأبيض . على بعض من القطع الأكثرخفة، يضيف ببساطة عدّة طبقات للون و طبقات ملمس قليلة.
على صور أكثر خطورة يطوّر هذه الرّسوم التّخطيطيّة و الأشكال، يرسم على الأصليّ، يضيف اللّون، ويضيف الضّوء، الظّلّ و العمق، أو حتّى تغيير الشكل نفسه بالرسم على جزء منه . صورة جدي لديه رقبة مستوية لنصف عمره، لكنّ بيكاسو يقرّر رسم منحنى فيه لملاءمة الاثنان الّذين ينحنيان قرون على القمّة . الصور نفسها تختلف في التّصميم و الجودة و اللّون . ربّما واحدة أو اثنتين منها كانت تحفا . أحيانًا الكاميرا تتبع الرّسّام عبر مراحل - يظهر أوّلاً مجموعة خطوط سوداء، ثمّ فجأة إضافة الاصفر كله، ثمّ كلّ الاحمر، ثمّ مجموعة أخرى من التّفاصيل، وهكذا .
أيضًا هناك قدر مقبول من المحادثة خلال الفيلم، بخصوص رحلة الرّسّام و خطر العمليّة الإبداعيّة الفنّيّة. وأثناء معظم الفيلم، نرى الصّور فقط كما تظهر على شاشتنا . أحيانًا نسمع العلامة أو ضربات الفرشاة . أحيانًا نسمع قطعة موسيقى متوافقةً ..لكنّ نرى كل الاوقات قماش المبدع الّذي يعود للحياة بالملمس و اللوّن و الصور .
في لحظات الفيلم الختاميّة ، يجيء بيكاسو عاريا مقابل الكاميرا و يوقّع قماشا كبيرًا رسمه باسمه . عائدًا إلى الكاميرا، ينطق بيكاسو الكلمات بجدّيّة: هذه هي النّهاية .
وقدم المخرج " جيمس آيفري " عام 1996 فيلم (النجاة من بيكاسو – SURVIVING PICASSO ) . في عودة للوراء بحثا عن "بيكاسو" ، أختار "جيمس آيفري" "فرانسواز جيلو" اكثر عاشقات "بيكاسو" تأثيرا عليه، وهي الوحيدة التي استطاعت النجاة سالمة العقل من مصير الانتحار أو الجنون الذي أقتسمه باقي الأبناء والزوجات. فدونت مذكراتها كاملة في كتابها (حياتي مع بيكاسو) الّذي ظهر في عام 1964 رّغم مجهودات بيكاسو العظيمة لمنع نشرها على أساس أنها تطفّل غير محتمل على خصوصيّته . وقد اقتُبِست عن هذا الكتاب قصة الفيلم.
في الفيلم نجد الفنّان المشهور ( في ستينيّاته ) - أنتوني هوبكنز في اداء قوي ورائع لدور بيكاسو- يقابل الفنّانة الصّغيرة المستقلّة ( في عشرينيّاتها )، و يسحرها في كونها رفيقته و وحيه و أمّ أطفاله . و بعد علاقة لمدّة عشرة سنوات ( من 1943 إلى 1953 ) وقد ولد له منها طفل يدعى (كلود) عام 1947م، ثم طفلة اسمها بالوما عام 1949، ، كان المرأة الوحيدة مع قوّة كافية من سوف لترك بيكاسو .
و الفيلم يأخذ مسار حياة بيكاسو التّالي بغموض مع نسائه، فقدعاشر نساء كثر، وعشقهن لفنه جعلهن يتحملن فظاظة طبعة، وقسوة عمله الذي كان يترك أهم الأشياء في دنياه لأجل الرسم، في الفيلم أجزاء رومانسيّة كثيرة، نشاهد فيها دورا مار التي غرقت في جنون مؤقت ( جوليان مور في أداء رائع )، زوجته الاولى أولغا كوكلوفا ( جين لابوتير ) التي أنجبت له ولده الأول (بول)عام 1921م اصبحت مجنونة، و ماري تيريز والتر التي شنقت نفسها،، زائد فرانسواز جيلوت الغامضة ( ناتاشا ملكون ) الّتي عانت مع بابلو لمدّة قرابة عشرة سنوات . و جاكلين روك، زوجة بيكاسو في جزء حياته النّهائيّ، حاولت الانتحار . ( كلّ النّساء يؤدّين أدوارهم على نحو جدير بالإعجاب .)
ومثلما ذهب بيكاسو إلى المحكمة ( بلا نجاح ) لإيقاف كتاب جيلوت، لذا ورثته حاولوا إيقاف عمل هذا الفيلم . هم، أيضًا، فشلوا، لكنّ المشاهد لا ينبغي أن يتوقّع رؤية أيّ من تحف بيكاسو . للأسف، ذلك هو كل شيء ، حيث يبعث عمل ميرشانت أيفوري في المغالاة ضوءا خفيفا على الفنّان الكبير و يترك للمشاهد ان يتامل بخصوص لماذا كان بيكاسو الرّجلعلى هذه الحال.
وبمناسبة مرور 125عاماً على ميلاد بيكاسو انجز الفنان التشكيلي السوري نزاز غازي فيلماً تسجيلياً بعنوان" عين القرن" تناول فيه اهم مراحل بيكاسو الفنية، وتضمن تعليقاً باللغات العربية والاسبانية والفرنسية والانكليزية . وعن تناوله لموضوع فيلمه قال " تناولت الموضوع تاريخياً حسب التسلسل الزمني لمراحل بيكاسو الفنية منذ عام 1895 المرحلة الواقعية، وحتى الستينيات مرحلة.. مرحلة ووضعت بين كل مرحلة مشاهد من حياة بيكاسو اليومية معتمداً على الكثير من المراجع من مكتبتي الخاصة وصورتها بكاميرتي الخاصة ايضاً. من الناحية الفنية ركزت على المرحلة الواقعية من حيث الاسلوب وكيف انتقل بيكاسو الى المرحلة الزرقاء من 1901-1904 ثم المرحلة الوردية التي امتدت من 1904-1906، ثم المرحلة التكعيبية التي كانت بمثابة اكتشاف متمثلة في لوحة «نساء افينيون» حيث اخذ بيكاسو ينوع في اساليبه الفنية احياناً يرسم لوحات تكعيبية واحياناً تجريدية تكعيبية، واحياناً سوريالية " .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق