الاثنين، 1 ديسمبر 2014

بين الرواية والسينما .. “اسم الوردة” لأمبرتو إيكو





محمد عبيدو
«اسم الوردة”، شريط سينمائي شعبي وعميق في آن مثير، متماسك وفريد بمناخه وموضوعه، عمل سينمائي متقن يجمع بين الحبكة الشعبية العادية بعدا فلسفيا وماورائيا عميقا
حول مرحلة تاريخية عرفتها أوروبا في القرون الوسطى، فالفيلم يبطن ضمن قالب بوليسي بعدا فكريا يسترجع حقبة طويلة مأساوية من القرون الوسطى حينما كانت تعيش المسيحية أصعب فتراتها وأحلكها وكان الصراع في ذروته بين العقل والنور وجهل الماورائيات والعنف ومحاكم التفتيش والمظالم التي ارتكبت بدفع الناس إلى إعلان إيمانهم بالدين دون طرح الأسئلة أو محاولة إثارة الشكوك. كان زمن الصراع بين الغيبيات العمياء والعقل والمنطق. جرمت الكتب الفلسفية وتم حرق من يطلع عليها أو يحاول ذلك، وفي هذا الإطار التاريخي تجري أحداث “اسم الوردة” الفريد بنوعه والمدهش بتنفيذه وأداء ممثليه.

الإخراج متقن من توقيع الفرنسي “جان جاك أنو”، وهو ترتيبه الخامس للمخرج آنو المولود عام 1944 والحاصل عام 1976 على أوسكار عن فيلمه الأول “الانتصار غناء” اتبعه بفيلم “سواد وبياض بالألوان”. عام 1980 صور “ضربة رأس” وفي العام التالي نفذ شريطه الجميل “حرب النار” ثم فيلمه “العاشق” الذي صوره عام 1992 م.
ونعود الآن للفيلم، فبعد صدور طبعة جديدة ومنقحة من رواية “اسم الوردة” لأمبرتو إيكو الفيلسوف الإيطالي، والروائي والباحث في القرون الوسطى، الذي وُلد في 5 جانفي 1932، وهو أحد أهم النقاد الدلاليين في العالم.. فقد أصدرت دار “بومبياني للنشر” بيان صحافي مدوٍّ. أُمبرتو إيكو أعاد كتابة رائعته “اسم الوردة” ليجعلها أكثر انفتاحا على القراء الجدد”. مشروع نشر طبعة مخفّفة ومُسهّلة إرضاءً لقرّاء جيل الإنترنت والـ “فايسبوك”، فبعد 32 عاما على نشر إحدى أهم روايات القرن العشرين، سال حبر الإعلام بالأسئلة: هل يحقّ لكاتب “اسم الوردة” عالم اللغويات والكاتب الإيطالي “امبرتو ايكو” أن يُعيد طباعتها بنسخة مُجدّدة؟ اختار إيكو صحيفة “لا ريبابليكا” الإيطالية ليردّ.. “آلمتني خاصرتي من الضحك. لم أصدّق كمّ المقالات الذي نُشر عن إعادة كتابة أمبرتو إيكو روايته الأشهر. هذه إشاعة. لا أكثر ولا أقلّ. كان فصل الصيف، ولم يجدوا ما يكتبونه. اختاروا أن يجعلوا من ذاك البيان قضية. سال حبرهم وسوّدوا الصفحات. وبهذا حاولوا أن يلـهوا قرّاء الصحف والمجلّات عن التفكير في الأزمة الاقتصادية ربما”.
الفيلم مأخوذ عن رواية “امبرتو ايكو” مؤلف “بندول فوكو” و"باودولينو”، وقد أمضى 15 عاما في كتابتها، وصدرت عام 1980 بأربعة ملايين ونصف مليون نسخة وهو رقم قياسي وتُرجمت إلى 47 لغة. وهزت الأوساط الأدبية، خلال الثمانينيات داخل إيطاليا وخارجها ولا يزال النقاد والدارسون يجتهدون في تأويله وفي دراسة خصوصياته الأسلوبية والمعنوية. وآخرهم أمبرتو إيكو نفسه، الذي تناول بالدرس في كتابه “حدود التأويل” (ميلانو 1990) التحاليل والتأويلات المتأنية من مختلف القراءات التي حظي بها كتابه. فالرواية كانت انعكاسا إبداعيا لفلسفة الرمز ونظريات التأويل من خلال معرفة تفصيلية بأدبيات القرون الوسطى. البطولة لشون كونري الممتاز بدوره وإلى جانبه اف موراي وميشال لوننسدال وكريستيان سلاتر وآخرون. التصوير رائع والديكور لافت جدا من تصميم الإيطالي دانتي فيرتي. يقوم شون كونري في الفيلم بدور راهب اشتهر بتحقيقاته، يأتي لدير اسمه بندكستين في شمال إيطاليا كي يحقق في مجموعة من جرائم القتل الوحشية الغامضة تحصل في الدير ويرافقه في هذه المهمة مساعده وتلميذه الراهب الصغير اتسو، حيث يقوم بدوره كريستيان سلاتر. ويقابل الراهب المحقق كونري أحد مسؤولي الدين فيعتذر له عن الأحداث التي تحصل تباعا ليتبلغ بأن الجثث يعثر عليها دون معرفة الأسباب وتكون حالتها سيئة ويظن العشرات من القاطنين بالدير أن هناك قوة غير منظورة وراء ذلك الذي يحدث.. ويقوم الراهب مع مرافقه الفتى بجولات تفقدية حول الدير، حيث يلاحظ أن المكان الذي ترمى منه بقايا الدير إلى الجياع من حوله هو نفسه الذي كانت ترمى منه جثث الكهنة الضحايا. وفي دهاليز الدير يظهر الرجل الذي يضرب نفسه بسوط ويسمع أثناء إقامة أحد القداديس أصوات صراخ واستغاثة، وعند السعي لتبين حقيقة ما يحدث يرى الراهب رجلا يتم تعذيبه داخل حلة ضخمة وعندها يتم التأكد من وجود حالات تعذيب في الدير. يعمد الراهب إلى فحص دماء أخرى عثر على آثارها حول الدير، أما الفتى المراهق المرافق للراهب والمنتظر أن يكون ملكا في المستقبل فإنه يلتقي رجلا شبيها بأحدب نوتردام يحدثه عن حالات القتل والشرور التي تمارس داخل هذا المعقل الديني، وهنا يكتشف الراهب أن قتلة المترجم هم جماعة يدعون لقتل الأبرياء فأهم من الحقيقة هو إيجاد الضحايا الذين يعترفون بذنوبهم. كان الخوف يسيطر على الحوار وعلى التفاصيل المتعددة، وقد أضاف المخرج مشاهد المحرقة لاستكمال صورة الخوف، كما أضاف شخصية الساحرة السجينة الرائعة لإكمال جمال الصورة السينمائية. هذه الألغاز في تلك الجرائم فتحت لنا نافذة على حياة القرون الوسطى، ونقل صورتها بدقة مستفيدا من كل الخبرات الممكنة ومواهب الممثلين ووجوههم الخشنة التي تعبر دون كلام عما في أعماقهم من غيرة ولؤم وحسد وجشع وخوف.
«إسم الوردة”، فيلم تتكامل به كل العناصر ونكاد لا نعثر على ثغرة واحدة في مساحة المشاهد كلها وعلى مدى ساعتين و11 دقيقة.. لأننا حصلنا على متعة خالصة في سياق شريط يجيد صاحبه السينما ويعرف كيف يتعامل معها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق