في فيلم "إطار الليل" تنتصر المخرجة
تالا حديد لـ "هجنتها" وسط الهويات المتعددة والتقاليد المختلفة التي تحدرت
منها، وتختار السينما المؤثثة بجماليات بصرية عالية وطنا لها بديلا عن
الأوطان المتعددة التي تلقي بظلالها عليها، وتصبح البنية الشاعرية مدخلها
الوحيد للتعبير عن هذا الاختلاط والهجنة التي قد يعجز البناء السردي
المنطقي عن حل ما تكتنز به بيئاتها الثقافية المختلفة من تناقضات.
لقد
انعكس ذلك بدءا من عنوان الفيلم بالعربية "إطار الليل" الذي جاء فيه
ابتسار واضح عن العنوان الانجليزي الطويل (The Narrow Frame of Midnight)
الذي يترجم "إطار منتصف الليل الضيق " أو الخانق ، وواضح مدى الإحالة
الشاعرية في العنوان ومدى الاطلاق والغموض الذي ينبئ به.وتالا حديد البريطانية المولد، العراقية الأب والمغربية الأم، حملت هجنتها هذه إلى ابطالها في الفيلم، فجاء بطلها الرئيس زكريا (أدى دوره الممثل البريطاني من أصل مصري خالد عبد الله، ظهر في أفلام: عداء الطائرة الورقية، يونايتد 93، المنطقة الخضراء) صورة أخرى عنها، كما حمل بطلها المضاد عباس هجنة أخرى فهو جزائري أرجنتيني يتاجر بتهريب الأطفال والرقيق الأبيض في فرنسا وأوروبا. وهكذا نجد انفسنا منذ البداية في فضاء معولم وأبطال معولمين (من عولمة).
الذاكرة والاحلام
وعلى اهتمام حديد بالتقاط تفاصيل محلية، إلا أن تعاملها مع المكان يظل تعاملا شاعريا بالدرجة الأساس ويتحرك على وفق خيارات جمالية بصرية أكثر منها درامية سردية، وربما تفلت منها هذه التفاصيل الدرامية احيانا وسط انحيازها لتقديم بناء بصري يقود مسار السرد لديها، فتتغلب الانتقالات البصرية الشاعرية لا السردية المنطقية على تسلسل السرد في فيلمها.وتصبح الذاكرة والأحلام والتداعيات والانطباعات والتأملات والتحولات السايكولوجية لشخصياتها هي المادة الأساسية للسرد وانتقالاته في فيلمها.
وتنهل حديد في ذلك في تقليد يتجذر لدى العديد من بناة السينما المعاصرة بدءا من تاركوفسكي ومرورا بكيرا موراتوفا والكسندر سوكروف وليس انتهاء بتيرنس ماليك، في تعاملهم مع الذاكرة والأحلام والتداعي الحر وتمظهرات اللاشعور مادة أساسية للتعبير السينمائي لديهم.
فتتراجع الاستمراية المكانية ليصبح المشهد أو اللقطة احيانا وحدة تعبيرية قائمة بذاتها، وتتم الانتقالات السردية لديها عبر التداعي الحر وانتقالات الذاكرة والأحلام، كما يختفي الحوار إلى أقل درجة ممكنة ليحل محله التعبير عبر التداعي الحر، وأقرب الى المونولوغ، وتترى الكلمات في شريط الصوت من خارج الصورة.
وقد يميل البعض إلى النظر إلى مشاهد الفيلم على أنها سريالية أو رمزية، ولكننا نرى أن لا ميل لدى المخرجة نحو ذلك قدر اعتمادها على التذكر والأحلام كمدخل أساسي للتطور ونمو البنية السردية لديها، باسلوب أقرب الى استخدام تيار الوعي في الرواية ، الأمر الذي يضفي على المشهد لديها مظهرا أقرب إلى السريالي في تحرره من قوانين العلاقات الواقعية المباشرة.
شخصيات مأزومة
تفتتح المخرجة فيلمها بعودة زكريا (البريطاني المولد، المغربي التربية، العراقي الجذور) إلى بلدة مغربية بناء على استدعاء زوجة اخيه، كما يبدو، بعد أن رحل زوجها تاركا إياها وطفليهما من دون معيل، ولم يترك سوى عنوان ورقم تلفون شخص في الدار البيضاء (كازابلانكا) ونفهم من حوارهما أنه ربما ذهب إلى العراق.لتبدأ رحلة زكريا للبحث عن أخيه في رحلة توحي بالبداية بأننا ازاء واحد من أفلام الطريق. فزكريا المأزوم يذهب إلى الدار البيضاء للبحث عن الشخص الذي رحّل أخاه إلى العراق. فيقضي ليلة مع غانية تلتقطه من أحد البارات وتتصرف معه بنبل، عندما تركض وراءه لتعطيه ساعته التي تركها، كما يشتري سيارة عتيقة لمواصلة الرحلة إلى الدار البيضاء.
بالتوازي مع خط زكريا، تطور المخرجة خطا سرديا أخر هو خط الطفلة اليتيمة عيشه (اختيار ناجح للطفلة فدوى بو جواني لأداء دورها) وقيام عباس (الممثل الفرنسي الجزائري الأصل حسين شوتري) بشرائها من أقاربها من أجل بيعها لثري فرنسي مقابل 100 الف يورو، ربما لاستغلالها جنسيا.
وترافق عباس صديقته (ماجدولين إدريسي) التي ترفض بيع الطفلة، لأنها كما يبدو سبق أن مرت بتجربة مشابهة.
وتجمع المخرجة الخطين معا عندما تتعطل سيارة عباس (الميرسيدس) ليصعد مع عيشة وصديقته في سيارة زكريا العتيقة بعد موافقته على أن يقلهم إلى الدار البيضاء معه. وفي الرحلة يتعرف زكريا على مشكلة الطفلة التي تطلب منه انقاذها واخذها معه.
يهرب زكريا بالطفلة ويأخذها الى بيت جوديث (الممثلة ماري-جوزيه كروز)، وهي معلمة فرنسية وصديقة له تعيش في المغرب، حيث يترك الطفلة أمام بيتها ويرحل مواصلا رحلته!!
وعلى الرغم من قيام كروز، وهي ممثلة مُجيدة (سبق أن فازت بعدد من الجوائز العالمية ومن بينها جائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان السينمائي عام 2003 عن فيلم "غزو البرابرة") بأداء دور جوديث، إلا أن سيناريو الفيلم لم يبن شخصيتها بشكل جيد ولم يقدم أي مشاهد درامية تكشف عن تطور هذه الشخصية ودوافعها، فظلت شبحية تظهر في مشاهد شاعرية في الطبيعة في سياق التذكر والأحلام واحيانا في مونتاج متواز مع تأملات زكريا في رحلته، وهو الاسلوب الطاغي على الفيلم الذي يوحي أكثر مما يكشف.
ولم ينجح الفيلم في تطوير علاقة درامية بين طفلة غريبة وامرأة فرنسية تعيش وحيدة في الريف المغربي، وربما تكون فقدت طفلا كما نرى من منزلها الذي تنتشر فيه العاب الأطفال (مشهد لعب عيشة في غرفة طفل ممتلئة برسوم جدران، واشكال كارتونية معلقة).
وبدت جوديث منشغلة باحلامها وتأملاتها وكتاباتها، وربما تكون لها علاقة بالتشكيل، وليس هناك الكثير من الصلة المباشرة بالطفلة عيشه التي تفقدها لاحقا حين يظهر عباس في بيتها، لا يبرر الفيلم كيف وصل اليها، ويختطف الطفلة اثناء غيابها.
غموض
أن شخصيات تالا حديد تظل غير واضحة الملامح، وعلى المشاهد أن يجتهد ويكافح لالتقاط التلميحات المتناثرة هنا وهناك عنها وسط هيولى من التأملات الشعرية ومشاهد التذكر والأحلام.وفي السياق ذاته تظل رحلة بطلها زكريا، ففي الدار البيضاء يلتقي بالشخص الذي يفترض أنه رحّل أخيه الى العراق، الذي يرفض التعاون معه ويتشاجر معه، لكننا لاحقا نراه يستقبل زكريا في منزله، ونظل في دوامة الغموض ذاته فالكتب الفرنسية وصورة كارل ماركس على الجدران تشير إلى أنه مثقف أو سياسي يساري وشريط الصوت في الوقت نفسه ممتلئ بعظات دينية! ويصف هو الاخ بأنه "رجل من أهل الله".
ويظل هذا الغموض نفسه إزاء مهمة الأخ في العراق، فنحن لا نعرف هل ذهب إلى القتال في إحدى المنظمات الإسلامية الجهادية في العراق أم انتقل للعمل هناك رغم الحرب والظروف الخطرة.
ففي مشهد وصول زكريا إلى ما يفترض أنها غرفة أخيه في العراق، نرى قصاصات صحف وصور ورسوم معمارية هندسية مرمية على الأرض أو معلقة على الجدران، لا تؤدي أي وظيفة حقيقية في الكشف عن دوافع الشخصية بوضوح قدر ما تقدم مادة لجماليات بصرية وبالاسلوب الشاعري ذاته.
فالرسوم الهندسية توحي أن الأخ كان يعمل في العراق، بينما تحيل قصاصات الصحف إلى خيارات أخرى، وبدا بعضها بعيدا عن المرحلة الزمنية التي تتحدث عنها كما هي الحال مع الجريدة التي يتحدث مانشيتها عن الرئيس العراقي السابق صدام حسين في وقت تدور فيه أحداث الفيلم بعد سقوطه كما يفترض.
ولا تتخذ رحلة زكريا مسارا سرديا متناميا، بل تتوزع على عدد من المشاهد التي لا تتوفر على تسلل زمني او منطقي محدد، بل تتناثر في سياق تداعيات الذاكرة والتأملات والاحلام. فنراه في اسطنبول وسط مشاهد مصورة جيدا لبعض معالم المدينة، تتقاطع في مونتاج متواز مع مشهد بدا وكأنه مقتطع من فيلم وثائقي في حديثه مع عدد من الشباب العراقيين المهاجرين في تركيا، ثم المزج بين شريط الصوت الذي يقدم حكاية هروب واحد منهم مع صور زكريا في تركيا.
وكذلك الحال في المشاهد التي يفترض أنها تدور في العراق، والتي تبدو في الفيلم صورة عن جحيم ما، منازل شبه مهدمة، نساء بالعباءات السوداء في كل مكان، صورة بقايا سيارة محطمة، مصنع مهجور أو مسلخ لكنه يضم جثثا بشرية متناثرة على أرضه، ومشهد داخلي لغرفة المهجورة والاوراق التي تحدثنا عنها.
ويبدو المشهد الوحيد الذي به حوار وبحث مباشر عن الأخ في العراق هو مشهد بائع الكتب الذي نراه وسط مكتبة ضخمة (المخرج السوري نبيل المالح) ويعرض على البطل أن يساعده حفيده في البحث عن أخيه، ولكنه يتحدث بلهجة سورية وليست عراقية!!
وتظل الخيارات الجمالية البصرية وليس السردية الدرامية هي ما يقود تالا حديد التي تنهي فيلمها في السياق ذاته بمشهد على قدر كبير من الجمال والايحاء، حيث يختفي فيه بطلها وسط حشد من الأمهات المتلفحات بالسواد.
جماليات الصورة
لقد نجحت حديد، عبر مدير تصويرها الكسندر بُروف، في خلق بناء بصري باذخ الجمال في فيلمها، سواء في استثمار جماليات المشهد الطبيعي في مشاهدها الخارجية أو تصميم الانارة وتوزيع الكتل ورسم ميزانسين مشاهدها الداخلية.ونجح بُروف في تقديم عدد من المشاهد الأخاذة، كمشهد تزاحم العباءات السود في النهاية، أو الجثث في المصنع او المسلخ المهجور، ومشاهد التذكر وسط الفضاءات الريفية في المغرب، واكثاره من تصوير شخصياته من ظهرها فاسحا المجال لظهور مشهد طبيعي أمامها في الغالب.
وبُروف يحمل الاسم نفسه لمدير التصوير الروسي المفضل لدى المخرج القدير الكسندر سوكوروف، بيد أن موقع بيانات السينما المعروف (IMDB) يفرق بين المصورين ويقدم لمصور فيلم "إطار الليل" سيرة تضم عددا من الأفلام الوثائقية فضلا عن هذا الفيلم الذي يبدو أنه فيلمه الروائي الثاني.
بيد أن مشاهدة فيلم تالا حديد القصير السابق "شعرك الداكن الطويل، إحسان" (متوفرعلى موقع فيمو لمن يحب مشاهدته) يكشف عن الكثير من ملامح اسلوبها الذي قدمته في هذا الفيلم وعن ذائقتها البصرية المميزة وعنايتها في رسم مشاهدها بدقة وجمال عاليين. فهي في الأصل مصورة فوتغرافية وتجيد بناء تكوين جمالي عال في لقطاتها ومشاهدها السينمائية.
بيد أن هذه العناية الكبيرة بالتكوين البصري والميل إلى لغة سينمائية (خالصة) تكتفي بالتعبير بالصورة، والمراهنة عليها كمدخل للربط في الانتقالات المختلفة بين المشاهد، لم تكن كافيه لمعالجة حبكة سينمائية مفككة وبناء سردي يحفل بالفجوات المنطقية، بل جسمت الاحساس بها إحيانا لاسيما في مناخ الغموض والبناء الإستعاري الأقرب إلى الشعر في تسلسل السرد.
كما قادت احيانا إلى اغفال بعض عناصر بناء المشهد الواقعي المقنع، بل وإلى أخطاء في (الراكور) احيانا، على سبيل المثال لا الحصر، عند خروج عباس من شقة صديقه تختفي سيارة زكريا التي كان قد أوقفها في الشارع قبل قليل، أو عند وصول زكريا في البداية نجد أمامنا حيا حديثا من العمارات السكنية، لكننا نرى في مشهد على السطوح في حي عتيق مع زوجة أخيه.
ويتضاعف الأمر مع المشاهد التي يفترض أنها تدور في العراق، الخارجية والداخلية منها، التي تبدو احيانا بعيدة نسبيا وفقيرة في تفاصيلها المحلية بالنسبة لعين العارف في الحياة العراقية، ولعل العامل الاساس في ذلك عدم قدرة المخرجة على التصوير وسط معالم عراقية واضحة، ربما بسبب المخاوف الأمنية.
لقد كشف فيلم "إطار الليل" عن ولادة مخرجة واعدة، لها عين ذات دربة عالية في التقاط الجمال وفي بناء مشاهد ذات جماليات بصرية مميزة، بيد أنها اختارت مدخلا صعبا في فيلمها هذا كان يتطلب توفر سينارست محترف قادر على نسج شظايا الاحلام وتداعيات الذكرة والتلميحات التي قدمتها بدقة وعناية ضمن بناء سردي وحبكة درامية أكثر اقناعا.
نقلا عن بي بي سي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق