عندما
أعلن عن فوز جون شتاينبك بجائزة نوبل في العام 1962 كتب المفكر الكبير
عباس محمود العقاد: "الآن يحق لنا أن نقول إذا كانت المسألة مسألة بحث بعد
مجهود، فلماذا يقف هذا البحث دون البلاد العربية من أمم العالمين، فلا
تهتدي اللجنة، ولا تريد أن تهتدي إلى واحد منهم .. وهم على هذه الطبقة غير
قليلين .. إنني أذكر منهم أربعة من كتاب القصص الطوال والمسرحيات .. وهي
مجال شتاينبك الفائز بجائزة نوبل هذا العام .. فضلونه في بعض مزاياه ولا
يقصرون عنه في واحدة من مزاياه، وهم: توفيق الحكيم، محمود تيمور، نجيب
محفوظ، ميخائيل نعيمة. ونجيب محفوظ يضارعه وقد يفوقه في تصوير شخصياته من
أولاد البلد والسذج والبدائيين العصريين .."
غير أن الأمر تطلب 26 عاما كاملا حتى اهتدت اللجنة بالفعل إلى نجيب محفوظ ومنحته الجائزة في عام 1988، وكان مرشحا معه للجائزة ثلاثة من أعلام الأدب العالميين هم: ألبرتو مورافيا من إيطاليا، وجراهام جرين من بريطانيا، وميخائيل نعيمة من لبنان.
ولعل الحديث عن نجيب محفوظ والسينما لا يكتمل دون الإشارة إلى أن نجيب محفوظ كان شديد التعلق بالسينما في مرحلة مبكرة جدا من طفولته، فكان وهو في الخامسة من عمره يتردد على سينما "الكلوب المصري" - في شارع خان جعفر بين بيت القاضي والحسين - لمشاهدة أفلام رعاة البقر وشارلي شابلن.
إلا أن الأمر استلزم 29 عاما أخرى حتى يخوض نجيب محفوظ تجربته الأولى في الكتابة للسينما في عام 1945.
كان نجيب قد بدأ كتاباته بتأليف الشعر؛ وكتب في بادئ الأمر شعرا موزونا، وإن كانت به بعض الأبيات المكسورة، وحينما وجد أن الأبيات المكسورة كثيرة، أطلق الشعر وحرره من الوزن. ثم اتجه إلى كتابة القصة القصيرة وهو طالب في مدرسة فؤاد الأول الثانوية.
واتجه في 1930 إلى كتابة المقال، ونشرت أولى مقالاته "احتضار معتقدات وتولد معتقدات" في أكتوبر في "المجلة الجديدة" التي كان يصدرها سلامة موسى. ثم خاض غمار الترجمة في 1932، ونشر له سلامة موسى في مطبعة المجلة الجديدة أول كتاب مترجم عن "مصر القديمة" لجيمس بيلي. وقد نشرت له أول قصة قصيرة بمجلة السياسة في 22 يوليو وكانت بعنوان "فترة الشباب". عن هذه الفترة يقول نجيب محفوظ: "كانت المقالة أسبق في الظهور من الأقصوصة والرواية، فما أكثر الأقاصيص التي رفض نشرها، وكانت أيام عذاب ومحنة تتكرر مع كل أقصوصة أو مقال يرد. على أن المقال كان أسرع في القبول من الأقصوصة، ولذلك فقد انصرفت بعض الوقت إلى كتابة المقالات ..".
وعلى الرغم من ولعه المبكر بالسينما إلا أن فرصته الأولى في الكتابة لها تأخرت حتى العام 1945، وعن ذلك يحكي أحد أصدقاء نجيب محفوظ ممن عاصروا زياراته السنوية للأسكندرية، برفقة توفيق الحكيم، أن محفوظ رفض أن يتقاضى أي أجر عن مشاركته في كتابة سيناريو وحوار فيلم "مغامرات عنتر وعبلة"، عام 1945، معتبرا أن مشاركته في الفيلم كانت فرصة هامة للتعرف على فن الكتابة للسينما بشكل عملي، وأنه لا يصح أن يأخذ مقابلا عن درس عملي في السيناريو.
وبحسب أحد النقاد فقد "كانت السينما المصرية ستفقد الكثير جدا لو لم يملِ محفوظ عليها ويعطيها من زاده الكثير، كما أن أدب وروايات نجيب محفوظ تميزت عن غيرها من كتابات الأدباء الآخرين بكونها تتميز بما يعرف بـ(القابلية السينمائية) لأعماله بسبب احتوائها على حشد كبير من المشاعر والانفعالات، إضافة إلى قدرته على التعبير عن الملامح النفسية للشخصيات بشكل يسهل تحويلها إلى شريط السينما، ثم تمتاز أعماله أيضا في صلاحيتها للسينما في مجملها بدقة وصف المرئيات مثل وصف المكان والحدث والبعد المادي للشخصيات وكذا التعبير البصري عن المجردات مثل التعبير عن المعاني والمشاعر والانفعالات وعن الملامح النفسية للشخصيات والتعبير عن الزمن.. ثم الايحاء بالعناصر السمعية والبصرية مما يساهم في حركة كاميرا واضاءة وزاوية تصوير وانتقالات منسجمة مع المحتوى وهو ما لم يتوافر لاديب آخر للدرجة التي جعلت المخرج (صلاح أبو سيف) يستعين بنص جملة كتبها (محفوظ) لوصف انفعالات أحد أبطال فيلم (بداية ونهاية)، ليضعها كما هي في سيناريو الفيلم".
تلك "القابلية السينمائية"، في ذاتها، كانت المسألة المفتاحية في هذه القراءة؛ إذ أن علاقة نجيب محفوظ بالكتابة المباشرة للسينما أحدثت نوعا من التحول في كتابة نجيب محفوظ ذاته. نوعا من الإزاحة. نحو "قابلية اللغة" للسينما.
إننا ونحن نقرأ من مجموعته القصصية الأولى "همس الجنون": "وفي صباح اليوم الثاني لم يكن أفاق من حيرته بعد. ووقف يهيئ من شأنه، فوقعت عيناه على ربطة رقبته وسرعان ما أدركته حيرة جديدة، فتساءل لماذا يربط رقبته على هذا النحو؟ ما فائدة هذه الربطة؟ لماذا نشق على أنفسنا في اختيار لونها وانتقاء مادتها؟ وما يدري إلا وهو يضحك كما ضحك بالأمس، وجعل يرنو إلى ربطة الرقبة بحيرة ودهشة، ومضى يقلب عينيه في أجزاء ملابسه جميعا بإنكار وغرابة".
ثم نقرأ في "الحب فوق هضبة الهرم"، بعدها بعقود: "دعاني حمودة ذات ليلة لمقابلة حفني داود صاحب كازينو "الواق واق". وجدته وراء مكتب صغير وأنيق في حجرة تطل بنافذة على النيل، استقبلني بوجه محايد، وراح يتفحص هيكلي الضخم بلا انفعال. كان عجوزا في السبعين أو فوقها، ضئيل الجسم، له سحنة قرد لانحدار جبهته وغور عينيه وبروز ذقنه".
إننا ونحن نقرأ الاقتباسين السابقين على ما بينهما من زمن لنستطيع أن نمايز بشكل شديد الوضوح أثر التصوير في نقل المشهد، ففيما يحتشد الأول باستبطان المونولوج الداخلي والفكرة الذهنية، يهتم الثاني بوصف المرئيات .. وكأنما يقرب المشهد إلى "الدراماتورج" المسئول عن بنائه في البلاتوه.
ويكاد الملمح اللغوي المتمثل في "القابلية السينمائية" كما طرحها الشاعر والناقد السينمائي السوري محمد عبيدو يكون التحول المركزي الفاصل بين لغة نجيب محفوظ فيما قبل وما بعد دخوله الحقل السينمائي بصورة فاعلة. لنا أن نقارن بين روايته السراب مثلا وبين ميرامار، أو بين لغة رادوبيس ولغة ثرثرة فوق النيل.
إن مناقشة هذه الفرضية بتوسع أكبر ستحيلنا بالضرورة إلى مسألة "الكتابة عبر النوعية" والتي اقترح فيها إدوار الخراط هذا النوع من الكتابة الذي "تتجلى فيه ملامح فنية من أجناس متعددة، من المسرح إلى التشكيل والموسيقى"، ونحن نسألة بدهشة: ولكن نجيب محفوظ كان يفعل ذلك، دون ضجيج؟!
وفي السياق أيضا هناك قصة أوردها الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل عن لقاء جمع عبد الناصر يعدد من رموز الأدب والثقافة في مصر، وسألهم عن هوية مصر كما يراها كل منهم، ويقول هيكل إن إجاباتهم على أسئلة الزعيم الأوحد تباينت كثيرا، فقد رآها طه حسين متوسطية، وقال لويس عوض: فرعونية، ورأت عائشة عبد الرحمن إنها إسلامية فيما قال نجيب محفوظ إنها مملوكية.
كانت إجابة محفوظ، إن صح ما أورده هيكل، هي السر وراء العودة لتقصي أدبه في ضوء تلك الرؤية، مصر المملوكية.
إن محفوظ وهو يسمي الحارة المملوكية كنواة مركزية تجسد هوية مصر ليهيئ "البلاتوه" في الأساس، ويوزع الشخوص، ويبني تصورات المشهد وإضاءته، ليخلق من تلك الحارة عالما سينمائيا، وربما كونا روائيا .. كما كان في أولاد حارتنا. بل إنه يتجاوز حدود الكون إلى ما ورائية الأحلام "أحلام فترة النقاهة" و"فيما يرى النائم" وربما "أصداء السيرة الذتية".
غير أن حارة نجيب محفوظ استطاعت أن تتجاوز الحدود النوعية للحارة لتبلغ في اتساعها حدود مصر كاملة، وربما الدنيا، أو تنحصر في تحديدها في بنسيون، أو عوامة على النيل، بل وبلغت حدود مساحة الأسانسير فقط، كما في فيلم "بين السما والأرض" الذي كتب نجيب له السيناريو والحوار.
وفي العموم فقد ظلت روايات وقصص نجيب محفوظ معينا مهما للعديد من المخرجين: (الاختيار) ليوسف شاهين، و(قلب الليل) و(الحب فوق هضبة الهرم) لعاطف الطيب، و(الحب تحت المطر) لحسين كمال ثم (الكرنك) 1975 اكثر أفلام السينما المصرية إثارة للجدل، و(أهل القمة) لعلي بدرخان.
كما تعامل السينما مع اعمال محفوظ لم يقتصر على المستوى المحلي، فبعد حصوله على جائزة نوبل عام 1988 التفتت إلى أعماله السينما العالمية، فتم تقديم (بداية ونهاية) و(حارة المعجزات) المأخوذ عن (زقاق المدق) في المكسيك، كما قدمت السينما في أذربيجان فيلم (اعترف) عن رواية (اللص والكلاب).
غير أن أثر نجيب محفوظ في السينما المصرية (والعالمية أيضا) لم يتوقف عند حدود تقديم شخصيات سينمائية بامتياز: السيد أحمد عبد الجواد، مثالا، أو حميدة في "زقاق المدق" أو عاشور الناجي في "الحرافيش"، بل قدم أيضا موقفيات سينمائية خالدة؛ فمن منا قد ينسى جملة عماد حمدي الشهيرة "الفلاحة ماتت ولازم نسلم نفسنا" في "ثرثرة فوق النيل" أو موقفيات السيد أحمد عبد الجواد المتنوعة والتي نذكرها بجمل إشارية دالة تحلينا للحظة لومه لزوجته على خروجها بدون إذن منه مثلا، وردها الساذج للنهاية" "سيدنا الحسين دعاني يا سي السيد"، أو جملة سي السيد الشهيرة "بضاعة أتلفها الهوى" وهو يجيب على سؤال عن البند الدفتري الذي سوف يسجل فيه هداياه لـ"السلطانة"، العالمة الشهيرة التي كان السيد أحمد عبد الجواد من رواد حفلاتها الصاخبة الدائمين، أو مشهد النهاية الخالد لرائعته "بداية ونهاية" الذي كان شاهدا على عبقرية نجيب في الكتابة، وصلاح أبوسيف في انتقال الكاميرا بين الوجوه وتعبيراتها ونظرة سناء جميل (كان دور "نفيسة" هو أول بطولة سينمائية للنجمة القديرة سناء جميل، بعد أن رفضت فاتن حمامة الدور، وكانت متفرغة قبلها للمسرح الذي اكتشفها فيه الفنان الكبير زكي طليمات) من بين قدمي عمر الشريف وهو ينثر التراب عليها، ونظرتها المذعورة نحو مياه النيل قبل أن تلقي بنفسها لأحضانه، وهي تستدعي كل تاريخ مصر وعلاقتها بالنيل، الذي كنا نلقي إليه حياةً، ليمنحنا حياة .. غير أن الكاتب العظيم والمخرج الرائع كانا يصرخان في خلفية المشهد: ليست حياة هكذا، ليست حياة ... تلك التي تكون على حساب مصر. فهل كان ذلك ما دفعهم لأن يقتلوا الضابط أيضا، يلقونه، هو الآخر، إلى النيل.
غير أننا لا ينبغي أن نغفل أن علاقة نجيب محفوظ بالسينما لم تقتصر على رواياته فقط، فقد كتب محفوظ سيناريوهات لعدة أفلام لم يكن هو صاحب النص الأدبي فيها، ومن ذلك كتابته لفيلم "شباب امرأة" عن رائعة أمين يوسف غراب، بل واستقى أحداث فيلم "ريا وسكينة" من خبر في الصحف عن القبض على العصابة التي أثارت الذعر في الأسكندرية.
كما أن الدراما التليفزيونية وجدت في أدب نجيب محفوظ معينا لا ينضب للعديد من الأعمال التليفزيونية الهامة التي تأتي في مقدمتها رائعة "حديث الصباح والمساء" التي كانت عملا فنيا شديد التميز بكل المقاييس.
وأخيرا فمن نافلة القول أن نشير إلى أن كتابات نجيب محفوظ الأخيرة، ومن بينها "رأيت فيما يرى النائم" و"أصداء السيرة الذاتية" و"أحلام فترة النقاهة" تشكل عالما فنيا جديدا بذاته في فن الرواية، عالما يقوم بالأساس على سرد الأحلام، تلك الأحلام التي تحمل في رمزيتها ما يمنحها استقلالها التام عن الواقع، وتحمل في تأويلاتها وتماهياتها ما يجعلها تعليقا عميقا على الواقع، وظلا له.
Albedaiah at: Sunday, August 31, 2014 - 15:23
غير أن الأمر تطلب 26 عاما كاملا حتى اهتدت اللجنة بالفعل إلى نجيب محفوظ ومنحته الجائزة في عام 1988، وكان مرشحا معه للجائزة ثلاثة من أعلام الأدب العالميين هم: ألبرتو مورافيا من إيطاليا، وجراهام جرين من بريطانيا، وميخائيل نعيمة من لبنان.
ولعل الحديث عن نجيب محفوظ والسينما لا يكتمل دون الإشارة إلى أن نجيب محفوظ كان شديد التعلق بالسينما في مرحلة مبكرة جدا من طفولته، فكان وهو في الخامسة من عمره يتردد على سينما "الكلوب المصري" - في شارع خان جعفر بين بيت القاضي والحسين - لمشاهدة أفلام رعاة البقر وشارلي شابلن.
إلا أن الأمر استلزم 29 عاما أخرى حتى يخوض نجيب محفوظ تجربته الأولى في الكتابة للسينما في عام 1945.
كان نجيب قد بدأ كتاباته بتأليف الشعر؛ وكتب في بادئ الأمر شعرا موزونا، وإن كانت به بعض الأبيات المكسورة، وحينما وجد أن الأبيات المكسورة كثيرة، أطلق الشعر وحرره من الوزن. ثم اتجه إلى كتابة القصة القصيرة وهو طالب في مدرسة فؤاد الأول الثانوية.
واتجه في 1930 إلى كتابة المقال، ونشرت أولى مقالاته "احتضار معتقدات وتولد معتقدات" في أكتوبر في "المجلة الجديدة" التي كان يصدرها سلامة موسى. ثم خاض غمار الترجمة في 1932، ونشر له سلامة موسى في مطبعة المجلة الجديدة أول كتاب مترجم عن "مصر القديمة" لجيمس بيلي. وقد نشرت له أول قصة قصيرة بمجلة السياسة في 22 يوليو وكانت بعنوان "فترة الشباب". عن هذه الفترة يقول نجيب محفوظ: "كانت المقالة أسبق في الظهور من الأقصوصة والرواية، فما أكثر الأقاصيص التي رفض نشرها، وكانت أيام عذاب ومحنة تتكرر مع كل أقصوصة أو مقال يرد. على أن المقال كان أسرع في القبول من الأقصوصة، ولذلك فقد انصرفت بعض الوقت إلى كتابة المقالات ..".
وعلى الرغم من ولعه المبكر بالسينما إلا أن فرصته الأولى في الكتابة لها تأخرت حتى العام 1945، وعن ذلك يحكي أحد أصدقاء نجيب محفوظ ممن عاصروا زياراته السنوية للأسكندرية، برفقة توفيق الحكيم، أن محفوظ رفض أن يتقاضى أي أجر عن مشاركته في كتابة سيناريو وحوار فيلم "مغامرات عنتر وعبلة"، عام 1945، معتبرا أن مشاركته في الفيلم كانت فرصة هامة للتعرف على فن الكتابة للسينما بشكل عملي، وأنه لا يصح أن يأخذ مقابلا عن درس عملي في السيناريو.
وبحسب أحد النقاد فقد "كانت السينما المصرية ستفقد الكثير جدا لو لم يملِ محفوظ عليها ويعطيها من زاده الكثير، كما أن أدب وروايات نجيب محفوظ تميزت عن غيرها من كتابات الأدباء الآخرين بكونها تتميز بما يعرف بـ(القابلية السينمائية) لأعماله بسبب احتوائها على حشد كبير من المشاعر والانفعالات، إضافة إلى قدرته على التعبير عن الملامح النفسية للشخصيات بشكل يسهل تحويلها إلى شريط السينما، ثم تمتاز أعماله أيضا في صلاحيتها للسينما في مجملها بدقة وصف المرئيات مثل وصف المكان والحدث والبعد المادي للشخصيات وكذا التعبير البصري عن المجردات مثل التعبير عن المعاني والمشاعر والانفعالات وعن الملامح النفسية للشخصيات والتعبير عن الزمن.. ثم الايحاء بالعناصر السمعية والبصرية مما يساهم في حركة كاميرا واضاءة وزاوية تصوير وانتقالات منسجمة مع المحتوى وهو ما لم يتوافر لاديب آخر للدرجة التي جعلت المخرج (صلاح أبو سيف) يستعين بنص جملة كتبها (محفوظ) لوصف انفعالات أحد أبطال فيلم (بداية ونهاية)، ليضعها كما هي في سيناريو الفيلم".
تلك "القابلية السينمائية"، في ذاتها، كانت المسألة المفتاحية في هذه القراءة؛ إذ أن علاقة نجيب محفوظ بالكتابة المباشرة للسينما أحدثت نوعا من التحول في كتابة نجيب محفوظ ذاته. نوعا من الإزاحة. نحو "قابلية اللغة" للسينما.
إننا ونحن نقرأ من مجموعته القصصية الأولى "همس الجنون": "وفي صباح اليوم الثاني لم يكن أفاق من حيرته بعد. ووقف يهيئ من شأنه، فوقعت عيناه على ربطة رقبته وسرعان ما أدركته حيرة جديدة، فتساءل لماذا يربط رقبته على هذا النحو؟ ما فائدة هذه الربطة؟ لماذا نشق على أنفسنا في اختيار لونها وانتقاء مادتها؟ وما يدري إلا وهو يضحك كما ضحك بالأمس، وجعل يرنو إلى ربطة الرقبة بحيرة ودهشة، ومضى يقلب عينيه في أجزاء ملابسه جميعا بإنكار وغرابة".
ثم نقرأ في "الحب فوق هضبة الهرم"، بعدها بعقود: "دعاني حمودة ذات ليلة لمقابلة حفني داود صاحب كازينو "الواق واق". وجدته وراء مكتب صغير وأنيق في حجرة تطل بنافذة على النيل، استقبلني بوجه محايد، وراح يتفحص هيكلي الضخم بلا انفعال. كان عجوزا في السبعين أو فوقها، ضئيل الجسم، له سحنة قرد لانحدار جبهته وغور عينيه وبروز ذقنه".
إننا ونحن نقرأ الاقتباسين السابقين على ما بينهما من زمن لنستطيع أن نمايز بشكل شديد الوضوح أثر التصوير في نقل المشهد، ففيما يحتشد الأول باستبطان المونولوج الداخلي والفكرة الذهنية، يهتم الثاني بوصف المرئيات .. وكأنما يقرب المشهد إلى "الدراماتورج" المسئول عن بنائه في البلاتوه.
ويكاد الملمح اللغوي المتمثل في "القابلية السينمائية" كما طرحها الشاعر والناقد السينمائي السوري محمد عبيدو يكون التحول المركزي الفاصل بين لغة نجيب محفوظ فيما قبل وما بعد دخوله الحقل السينمائي بصورة فاعلة. لنا أن نقارن بين روايته السراب مثلا وبين ميرامار، أو بين لغة رادوبيس ولغة ثرثرة فوق النيل.
إن مناقشة هذه الفرضية بتوسع أكبر ستحيلنا بالضرورة إلى مسألة "الكتابة عبر النوعية" والتي اقترح فيها إدوار الخراط هذا النوع من الكتابة الذي "تتجلى فيه ملامح فنية من أجناس متعددة، من المسرح إلى التشكيل والموسيقى"، ونحن نسألة بدهشة: ولكن نجيب محفوظ كان يفعل ذلك، دون ضجيج؟!
وفي السياق أيضا هناك قصة أوردها الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل عن لقاء جمع عبد الناصر يعدد من رموز الأدب والثقافة في مصر، وسألهم عن هوية مصر كما يراها كل منهم، ويقول هيكل إن إجاباتهم على أسئلة الزعيم الأوحد تباينت كثيرا، فقد رآها طه حسين متوسطية، وقال لويس عوض: فرعونية، ورأت عائشة عبد الرحمن إنها إسلامية فيما قال نجيب محفوظ إنها مملوكية.
كانت إجابة محفوظ، إن صح ما أورده هيكل، هي السر وراء العودة لتقصي أدبه في ضوء تلك الرؤية، مصر المملوكية.
إن محفوظ وهو يسمي الحارة المملوكية كنواة مركزية تجسد هوية مصر ليهيئ "البلاتوه" في الأساس، ويوزع الشخوص، ويبني تصورات المشهد وإضاءته، ليخلق من تلك الحارة عالما سينمائيا، وربما كونا روائيا .. كما كان في أولاد حارتنا. بل إنه يتجاوز حدود الكون إلى ما ورائية الأحلام "أحلام فترة النقاهة" و"فيما يرى النائم" وربما "أصداء السيرة الذتية".
غير أن حارة نجيب محفوظ استطاعت أن تتجاوز الحدود النوعية للحارة لتبلغ في اتساعها حدود مصر كاملة، وربما الدنيا، أو تنحصر في تحديدها في بنسيون، أو عوامة على النيل، بل وبلغت حدود مساحة الأسانسير فقط، كما في فيلم "بين السما والأرض" الذي كتب نجيب له السيناريو والحوار.
وفي العموم فقد ظلت روايات وقصص نجيب محفوظ معينا مهما للعديد من المخرجين: (الاختيار) ليوسف شاهين، و(قلب الليل) و(الحب فوق هضبة الهرم) لعاطف الطيب، و(الحب تحت المطر) لحسين كمال ثم (الكرنك) 1975 اكثر أفلام السينما المصرية إثارة للجدل، و(أهل القمة) لعلي بدرخان.
كما تعامل السينما مع اعمال محفوظ لم يقتصر على المستوى المحلي، فبعد حصوله على جائزة نوبل عام 1988 التفتت إلى أعماله السينما العالمية، فتم تقديم (بداية ونهاية) و(حارة المعجزات) المأخوذ عن (زقاق المدق) في المكسيك، كما قدمت السينما في أذربيجان فيلم (اعترف) عن رواية (اللص والكلاب).
غير أن أثر نجيب محفوظ في السينما المصرية (والعالمية أيضا) لم يتوقف عند حدود تقديم شخصيات سينمائية بامتياز: السيد أحمد عبد الجواد، مثالا، أو حميدة في "زقاق المدق" أو عاشور الناجي في "الحرافيش"، بل قدم أيضا موقفيات سينمائية خالدة؛ فمن منا قد ينسى جملة عماد حمدي الشهيرة "الفلاحة ماتت ولازم نسلم نفسنا" في "ثرثرة فوق النيل" أو موقفيات السيد أحمد عبد الجواد المتنوعة والتي نذكرها بجمل إشارية دالة تحلينا للحظة لومه لزوجته على خروجها بدون إذن منه مثلا، وردها الساذج للنهاية" "سيدنا الحسين دعاني يا سي السيد"، أو جملة سي السيد الشهيرة "بضاعة أتلفها الهوى" وهو يجيب على سؤال عن البند الدفتري الذي سوف يسجل فيه هداياه لـ"السلطانة"، العالمة الشهيرة التي كان السيد أحمد عبد الجواد من رواد حفلاتها الصاخبة الدائمين، أو مشهد النهاية الخالد لرائعته "بداية ونهاية" الذي كان شاهدا على عبقرية نجيب في الكتابة، وصلاح أبوسيف في انتقال الكاميرا بين الوجوه وتعبيراتها ونظرة سناء جميل (كان دور "نفيسة" هو أول بطولة سينمائية للنجمة القديرة سناء جميل، بعد أن رفضت فاتن حمامة الدور، وكانت متفرغة قبلها للمسرح الذي اكتشفها فيه الفنان الكبير زكي طليمات) من بين قدمي عمر الشريف وهو ينثر التراب عليها، ونظرتها المذعورة نحو مياه النيل قبل أن تلقي بنفسها لأحضانه، وهي تستدعي كل تاريخ مصر وعلاقتها بالنيل، الذي كنا نلقي إليه حياةً، ليمنحنا حياة .. غير أن الكاتب العظيم والمخرج الرائع كانا يصرخان في خلفية المشهد: ليست حياة هكذا، ليست حياة ... تلك التي تكون على حساب مصر. فهل كان ذلك ما دفعهم لأن يقتلوا الضابط أيضا، يلقونه، هو الآخر، إلى النيل.
غير أننا لا ينبغي أن نغفل أن علاقة نجيب محفوظ بالسينما لم تقتصر على رواياته فقط، فقد كتب محفوظ سيناريوهات لعدة أفلام لم يكن هو صاحب النص الأدبي فيها، ومن ذلك كتابته لفيلم "شباب امرأة" عن رائعة أمين يوسف غراب، بل واستقى أحداث فيلم "ريا وسكينة" من خبر في الصحف عن القبض على العصابة التي أثارت الذعر في الأسكندرية.
كما أن الدراما التليفزيونية وجدت في أدب نجيب محفوظ معينا لا ينضب للعديد من الأعمال التليفزيونية الهامة التي تأتي في مقدمتها رائعة "حديث الصباح والمساء" التي كانت عملا فنيا شديد التميز بكل المقاييس.
وأخيرا فمن نافلة القول أن نشير إلى أن كتابات نجيب محفوظ الأخيرة، ومن بينها "رأيت فيما يرى النائم" و"أصداء السيرة الذاتية" و"أحلام فترة النقاهة" تشكل عالما فنيا جديدا بذاته في فن الرواية، عالما يقوم بالأساس على سرد الأحلام، تلك الأحلام التي تحمل في رمزيتها ما يمنحها استقلالها التام عن الواقع، وتحمل في تأويلاتها وتماهياتها ما يجعلها تعليقا عميقا على الواقع، وظلا له.
Albedaiah at: Sunday, August 31, 2014 - 15:23
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق