الخميس، 11 ديسمبر 2014

/فان غوغ/ أفلام سينمائية رصدت تاريخه ومعاناته








محمد عبيدو
فان غوغ ولوحة حقل القمح مع الغربان كانت آخر ما رسم قبل إقدامه على الانتحار بأيام قليلة... استخدمها المخرج الياباني المبدع اكيرو كيروساوا في توظيف أحلامه السينمائية في فيلمه «أحلام» وفيها يوجه كيروساوا تحية مبتكرة للفنان الهولندي فان غوغ...
انظر الصورة -الغربان والحقل- وحاول أن تقرأها سيفاجئك إلى حد الدهشة طوفان القمح الذهبي، وستمسك أنفاسك خوفاً أو عجباً من أسراب الغربان السوداء الطافية على سطح الموج، ودائرة النار ووهج البريق، وتلبد السحب وزفير الأرض، أهي غضبة الوجود وحريقه أم رماد العدم المتبقي بعد الثورة؟.
أم هو قلق الفنان المتمزق بهواجسه «الميتافيزيقية» التي لونها بالأحمر والأصفر الفاجعين

هل كان الفنان يتضرع للسماء أن تخلصه من يأسه فكانت الصورة نشيجه وبكاءه، وكانت الألوان هي صلاته، لكن الفنان قد أطلق آخر سهم في جعبته والسهم اتجه إليه وغار في لحمه، وانفتح الجرح كما تنفتح الهاوية السوداء. هل هو جرح وجود الإنسان على الأرض، في زمن الجوع، القسوة، التعذيب، أم هو جرح الفنان البائس، جرح العين التي «رأت» من هول الحقيقة أكثر مما تطيق عين البشر...
«باطل، الكل باطل، فالآلام ما دامت الحياة» بهذه الكلمات ختم فان غوغ حياة عاصفة مفعمة بالتشرد والقلق، حافلة بالإبداع والإنتاج، حياة كانت تمجيداً للألم والعمل معاً..وكان بها فان غوغ نموذجاً فذاً لنضال الإنسان من أجل الحرية الحقيقية.
ولد (فان غوغ) عام 1853، وباشر الرسم عام 1883 بعد حياة مؤثرة، وعندما بلغ الثانية والثلاثين وبالتحديد عام 1885 غدا فنه «هوسه» الحقيقي، وأقام فان غوغ، تلميذ الانطباعيين والمعجب بالفن الياباني في الجنوب وفي عام 1888، احتجز بمصحة بسان ريمي أثر نوبات عصبية حادة ثم أقام في عام 1890 في أوفير حيث توفي منتحراً وعمره يناهز السابعة والثلاثين عاماً.
أعوام خمسة أو سبعة على الأكثر كانت كافية لتأكيد مقدرته ومكانته الفنية، ونحن لا نكاد نصدق أنه استطاع، في فترة جد وجيزة، وفي ظروف حياتية بائسة، خففت من حدتها صداقة أخيه الحميمة، أن ينتج ما يقارب الألف لوحة أن لم نأخذ بالحسبان العديد من رسومه، وأن يغدو نتاجه المغمور إبان حياته (والكل يعرف أنه لم يبع إلا لوحة واحدة) أحد أهم الدوافع المحرضة والمخصبة للفن الحديث، ويالسخرية القدر فإلى هذا الفن يكن جمهور اليوم حباً وأيّ حب!!.
لقد عاش فان غوغ درامية تراجيدية كانت تشبه كثيراً مأساة من مآسي شكسبير، في وقائعها. تسلسل حوادثها المؤدية إلى الخاتمة الحتمية الصاخبة.. إن حياته قصة كاملة لتبدو كأنها تنسيق بسيط يصلح للمسرح أو لقصة روايته وأفلمتها..
والقصة –فوق ذلك- مليئة بالوقائع الحقيقية... هي خطابات فنسنت العديدة لأخيه ثيو، وتملأ ثلاثة مجلدات، وتغطي دورة حياة. في حياته مآس شتى: فنسنت ضد نفسه بمفرده ضد العالم، فنسنت القديس الذي سقط في الوحل.. ثم فنسنت الفنان الذي كان وهو في السابعة والعشرين، لا يدرك كيف يرسم، ولكنه استطاع في خلال عشر سنوات أن يجعل من نفسه قطباً من أقطاب الفن.
غدت حياة فان غوغ رمزاً، وكتاب السير ما برحوا يتناولونها بحثاً وتمحيصاً، والسينما لم تحجم بدورها عن أغنائها بأفلام لمبدعين سينمائيين كبار.
أول هذه الأفلام أخرجه الفرنسي آلان رينيه عام 1948 وبالنسبة لفيلم آلان رينيه عن فان غوغ فإنه يتميز بالبراعة التي ساعدت عليها حياة الفنان التي تظهر بوضوح من خلال دراسة لوحاته في تتابعها الزمني دون حاجة إلى الاستطراد في مجالات أخرى.. فهذا الأسلوب الذي يعتمد على تصوير حياة فنان أو الأماكن التي عاش فيها من خلال أعماله فقط، يؤدي إلى إنجاز فيلم جاد خال من الاصطناع.. الفيلم تسجيلي أبيض وأسود مدته 20 دقيقة حائز على الجائزة الأولى في مهرجان فينيسيا عام 1948 وجائزة الأوسكار عام 1950.
قبل عناوين الفيلم يتابع على الشاشة النص الآتي:
هذا الفيلم يحاول أن يبعث من جديد حياة واحد من أكبر رواد الفن الحديث ومغامراته الروحية... من خلال أعماله فقط.
أن عبقرية فان غوغ وأهميته بالنسبة للفن الحديث يعترف بها اليوم الجميع في كل مكان ومع هذا البؤس كان فان غوغ يناضل ويعمل بتفان مضن وسط البؤس والأعراض الذي كاد أن يكون تاماً من الجميع محاولاً من خلال فنه أن يبلغ المطلق الذي كاد يبصره.
وبعد العناوين تحتل الجملة التالية الشاشة عدة ثوان «يبدو لي أني مسافر كتب له أن يلعب دوراً» وهي من رسالة لأخيه ثيو.
ثم تتابع لوحات فان غوغ المنتقاة مسبوقة بتعليقات مكتوبة . أن فيلم «فان غوغ» لرينيه تحفة فنية، ذلك لأنه يبين أن ما بين الموت الظاهري للداخل أو الماضي، أي هجمة الجنون، وبين الموت النهائي للخارج أو القادم، كانتحار، فإن مستويات الحياة الداخلية، وطبقات العالم الخارجية تتسارع، وتتمدد، وتتقاطع، بسرعات متصاعدة، وصولاً إلى الشاشة السوداء في النهاية... ولكن أية أشعة ستسطع ما بين الاثنين، والتي هي الحياة نفسها؟.. من قطب إلى آخر، ثمة خلق وإبداع يتشكل، والذي لا يكون خلقاً حقيقياً إلا لأنه سيحدث بين الموتين، الموت الظاهري والموت الواقعي أو الحقيقي، وهو من الكثافة بقدر ما يضيء تلك الفرجة الفاصلة، فطبقات الماضي تهبط وطبقات الواقع تصعد، في عناقات متبادلة هي أشعة الحياة، وهو ما سماه رينيه «الوجدان» أو «الحب» كوظيفة ذهنية.
يتصور رينيه السينما كوسيلة لتصوير الواقع، بل على أنها الوسيلة الفضلى لمقاربة النشاط النفساني.
لقد قصد فيلم «فان غوغ» إلى معاملة الأشياء المرسومة كموضوعات واقعية، بحيث تكون وظائفها أبراز «العالم الداخلي» للفنان
بعد فيلم آلان رينيه يقوم المخرج الأميركي الإيطالي الأصل فينسيت مينللي بإخراج فيلم ضخم عام 1956 باسم «شهوة الحياة» والذي أخذ اسمه من لوحة رسمها فان غوغ وفيها عشقه ومغازلته للون عبر لمسات رقيقة مجنونة، الفيلم أخذ جائزة الأكاديمية الفنية الأميركية .
المميز في أفلام مينيللي هو دور الحلم، فالحلم ليس سوى الشكل الممتص للون، إن أعماله السينمائية تابعت عن كثب الفكرة الرئيسية المعذبة للشخصيات الممتصة كلياً من قبل حلمها الخاص، وعلى الأخص من قبل حلم الآخرين، وماضي الآخرين. وفي كل أعماله أصبح الحلم فضاءً. ولكنه على غرار شبكة العنكبوت حيث المواضيع مهيأة للفرائس الحية التي تجتذبها أكثر مما هي مهيأة للحالم نفسه. فإذا ما أصبحت الظروف الواقعية حركة العالم، وإذا ما غدت الشخصيات شكلاً منساباً، فليس ذلك منفصلاً عن إشراق الألوان، وعن وظيفتها الماصة والضارية تقريباً من الصحيح أن مينيللي قد تصدى لموضوع يمكنه التعبير على نحو أفضل عن تلك المغامرة الحاسمة: التردد، التهيب، الاحترام والتي شعر بها فان غوغ وهو يقترب من اللون، ابتكاره رونق إبداعه، استغراقه في كل ما أبدعه، واستغرق كيانه، وعقله في اللون الأصفر.
أثناء التصوير كتب أحد متابعي العمل في فيلم مينيللي:
«امقته أنه مختلف ودعيّ لاسيما الجانب الذي يخص غوغان لقد صوروا جزءاً من الفيلم في طاحونة تعود ملكيتها لأحد أصدقاء والدي، وكان كل من فان غوغ وغوغان قد عاشا فيها».
لقد ذهبت إلى هناك لأتابع التصوير أتذكر أنه عندما وصل بطلي الفيلم، عبرا عن رغبتهما برؤية الغرفة التي عاش فيها فان غوغ صعدت معهما، لكنني شعرت أن وجودي يضايقهما فنزلت.. بعد وقت طويل سأل المخرج عنهما فتفقداً فصعدت إلى الغرفة لأجد هما يجهشان بالبكاء.
لقد ظلا متأثرين على هذه الحال لأكثر من نصف ساعة أخرى من وصولي.. كانا متأثرين من فكرة أنهما يجلسان في غرفة «فان غوغ» مع أننا لم نكن متأكدين من أن هذه الغرفة كانت فعلاً الغرفة كانت فعلاً الغرفة التي كان ينام بها «فان غوغ».
وقدم المخرج بول كوكس في العام 1986م فيلمه الأسترالي (فنسنت: حياة ووفاة فنسنت فان جوخ) ويروي فيه ـ بما يشبه التوثيق ـ الممثل جون هيرت سيرة الفنان من خلال الخطابات التي شرح فيها حياته وأعماله.
أما المخرج الفرنسي فرانسوا جير فيقدم فيلمه التسجيلي عن «فان غوغ» بجملة مستقاة من رسائله لأخيه ثيو «أحس بداخلي بهذا اللهيب الذي لا يمكنني أن اطفيء ألسنته ويقودني إلى حريق لا أعرف مداه.. وإن كنت أحسب أن نهايته ستكون جد تعيسة» والفيلم انطلاقاً من هذه الجملة وثيقة سينمائية عن «فان غوغ» وبؤسه الإنساني وبحثه عن امرأة محبة متفهمة تستطيع أن تطفيء الحريق الذي يشتعل في قلب الرجل الفنان.. امرأة فتش عنها فان غوغ عبثاً.
إن صلاته بالنساء كانت مأساوية باستمرار، كان حبه الذي لم تبادله مثله امرأة انكليزية قد أسهم في انسحابه من انكلترا، ثم وقع في حب «كي» أرملة نسيبة، ولاحقها ملاحقة رهيبة، منتظراً منها أن تدرك أنها رفيقة روحه، ولو أنها كانت قد صارحته بقوة قائلة: «كلا، إن ذلك لن يكون أبداً». بعد ذلك عاش تحت سقف واحد مع «كريستين»، وهي امرأة من الشارع، حبلى، مدفوعاً، على ما هو واضح، باعتقاد مبدئي بإمكان إنقاذ ما أنهدم، مما أقلق العائلة التي كانت لا تزال تؤمن له الدعم.
نحن لا نعرف ماذا حصل لكريستين، على أنه واضح من أوصاف فان غوغ نحوها كانت أكثر من مجرد عناد عاطفي.
«اكيروكيروساوا» شكسبير السينما اليابانية أو المعلم الأكبر كما يسميه المخرجون اليابانيون الجدد، مخرج أفلام من طراز «راشمون»، «الساموراي السبعة»، «الملاك المخمور» «كاغيموشا»، «الأبله»، «ران»، و.. «أحلام».
هذا الفيلم الذي عّبر عن حب كبير جمع أسرة الفيلم الأكبر المكونة من أربعة مخرجين: كيروساوا نفسه، ستيفان سبيلبرغ المنتج، جورج لوكاس منفذ المؤثرات الخاصة، مارتن سكور سيزي الذي يلعب دور فان غوغ في أحد الأحلام.. الفيلم ولدت فكرته بعد إنجاز فيلم «ران» عام 1985، ويقول كيروساوا: كنت أرتاح من تعب كبير وفي هذا الهدوء تذكرت نصاً لديستويفسكي يقول فيه: «إن الأحلام هي أفكار عميقة مخبأة في القلب وتخرج خلال النوم في جرأة وعبقرية..».
الأحلام تعبير حسي عن الرغبة التي تخفيها في الأعماق، في ذلك الوقت كنت أرتاح من التعب الذي لحق بي جراء العمل في فيلم «ران»، وفي لحظة شعرت برغبة جارفة لتسجيل أحلامي على الورق، بالضبط كنت أحس بفراغ كبير، بدأت أنهض صباحاً وأسجل بانتظام أحلام الليل. بعد عدة ساعات أعطيت ابني وفريق التصوير ما سجلته ونصحوني أن أخرج منها فيلماً، هكذا دون أن ألاحظ أن الذي كان في البداية أفكار أقرب إلى البحث العلمي أصبح سيناريو فيلم.
يتكون الفيلم من ثمانية مقاطع أو أحلام كما أطلق عليها مبدعها، لكن الأحلام هنا مجرد إطار أو وسيلة للتعبير الحر... الأحلام هنا حقيقة والحقائق تبدو مثل الأحلام، والأحلام هنا ليست أحلاماً سعيدة وإنما كوابيس على شكل أحلام.
يبقى حلم الغربان الأفضل في أحلام «كيروساوا» هاوي الرسم الذي يرسم دائماً مشاهد أفلامه قبل تصويرها، ففي هذا المقطع يتخيل أنه يقوم برحلة داخل لوحات فان غوغ في محاولة لكشف سر فنه.
يشاهد غوغ في متحفه وفجأة ينتقل داخل لوحة الجسد الخشبي وقد تحولت إلى مشهد حي كما هي اللوحة تماماً، ويسأل الفلاحات عن الرسام، وفي حقل القمح يجد الرسام الذي قطع أذنه للتو، ويؤكد فان غوغ لكيروساوا أنه عبد فنه ويختفي.
يقول كيروساوا: «حقيقة أنا حلمت مرة بفان غوغ وتنزهت بصحبته وسط لوحاته، تماماً مثل الطريقة المبينة في الفيلم...». منذ البداية أوصيت على نسخة من أعماله عند فنان، وعندما أصبحت اللوحات جاهزة فهمت أن الحيوية تنقصها وبدأت أعمل وحدي على بث الحياة فيها، وفي وقت التصوير حصلت نتائج غير متوقعة، الألوان اقتربت بحرارتها من النسخة الأصلية.
أنا اهتممت كثيراً بفان غوغ، وهذا يكفيني لأعيش أجواء إبداعاته التي تشبه حقيقة مبتورة ترعبني ببساطة، وحتى يومنا هذا مازال فان غوغ يقلقني، وقد حلمت به مؤخراً حتى بعد أن أخرجت الفيلم.
وبينما المخرج كيروساوا يقدم نظرة معاصرة إلى شخصية فان غوغ عبر مارتن سكوريزي ، ها هو المخرج الفرنسي موريس بيالا يختار للعب الشخصية إياها المطرب والممثل جاك دوترون للقرب الشديد بين ملامحه و ملامح فان غوغ.
أقدم موريس بيالا على سيرة فان غوغ برؤية مغايرة تنقض الكثير مما لصق بها، فينزع عنه صفة الجنون معتبراً أن فان غوغ «كان رجلاً كالآخرين، ومع أن السينمائي ليس فناناً من قيمة الرسام ذاتها، والأمر لا أرتضيه كثيراً، غير أن أدرك صحته دون شك، إذ كنت الاثنين، وبرغم ذلك يستطيع التمرد ضد الموقع الواحد الذي يريد الفنان أن يكون بجوهره كائناً غير سوي، لكن طبعاً من السخف القول: أن فان غوغ مجنون، كما سخيف القول بأنه ليس مجنوناً، ما عدت عارفاً مصدر هذه العبارة.. ثمة إثارة، الكحول، لابد أن يكون هذا الرجل عرف في الواقع نوبات عصبية قوموها جنوناً، إني لا أطلق أحكاماً على كل ذلك، فما يهمني، مرة أخرى، هو إظهار رجل طبيعي، يبدأ الفيلم وفان غوغ لا يعلم أنه فان غوغ، ولا يعرف أنه سيموت، أنجزت على ما اعتقد شريطاً مرحاً، طريفاً بموضوع مماثل، ليس لأهرب وذلك ما أجيده، بيد أن الأمر غير متعلق بفان غوغ، هو ليس أكثر من شخصية فيلم رجل شهير لا تدعي إعادة خلقه، أظهر فقط شخصاً منحناه اسم فان غوغ، ويحصل له تقريباً ما حصل لفان غوغ، وبرغم الحرية التي تصرفت بها، أعتقد نفسي مع ذلك أقرب إلى الحقيقة».
هذا ما تحدث به المخرج بيالا عن فيلمه الذي يبدأ بعد أن ترك فان غوغ مستشفى الأمراض العقلية في سان ريمي، وتوجه نحو أوفير للمداواة والتفرغ للرسم.
الدكتور «غاشيه» سوف يستقبله.
رغم جمال ودفء المحيط واهتمام ابنه الدكتور به، لم يستطيع فان غوغ الصمود بتوازن تام.
الفيلم عبارة عن تصوير ثوري لسيرة فان غوغ، أو بالأحرى لفترة الأشهر الأخيرة التي عاشها.
المخرج موريس بيالا لم يحاول تمجيد الرسام أو تعظيمه، بل إنه يروي أو يحاول تصوير مرارة حياة شخص ضعيف، شخص يعيش بعد موت روحي.
لا يركز فيلم بيالا على فن فان غوغ بل على شخصيته الطريفة، في وقت يؤكد فيه الانسجام بينها وبين طبيعة المخرج الذي يميل جداً إلى الرسم ويأمل عندما يتقاعد من عمله السينمائي أن يبتعد مع ريشته وألوانه ولوحاته لممارسة هذه الهواية، وهذا ما سهل عليه عملية التعامل مع فان غوغ، حيث أخذت الكاميرا لقطات ليده وهي ترسم وليس ليد الممثل دوترون.
إنه منظور فريد للمخرج بيالا حيث يروي لحظة التفجر والإشراق عند الفنان، وليس لحظة الغروب أو احتضاره لأنه في لحظة الإبداع لا يختصر مرحلة من حياته بقدر ما يختصر العمر كله.
قصّة قيلم "عيون فان جوخ "(2005) للمخرج اليكساندر بارنت تدور اثناء الأشهر الاثنا عشر المفزعة التي قضاها فان جوخ في الملجأ المجنون في سان ريمي . خلال الهلوسات، رعب الأحلام و انتزاع الذّاكرات، الفيلم يؤلّف حكايةً صراعات رائعة : للخلق - للتّوصيل - للحبّ - لتغيير العالم . يتخيّل الرّحلة و التّعقيد، البطولة و ألم فنّان عظيم و رّجل عظيم . يستكشف الفيلم موضوع الرّأي الفنّيّ في العذاب، شخص مبدع في اليأس، كائن حسّاس دمّر بإتقان و بقسوة، مدمّرة بالامبالاة و الوحدة، حتّى الآن بيأس محاولة العيش، بالأمل، لإنهاء عمله، لإيجاد طريق بخلاف هؤلاء الّذين يؤدّون إلى الجنون أو الموت . كتب ب اليكساندر بارنت عن فيلمه عيون فان جوخ : " كمخرج، الهدف الّذي وضعته لنفسي في نقل سيناريو الفيلم إلى الشّاشة كان للتّقديم لكنّ إلى حدّ ما للكشف . أستخدمت كاميرا شخصيّةً خلال الفيلم بالكامل . الفكرة هي الوصول داخل رأس فنسنت . كل شيئ مرئيّ و محسوس من وجهة نظره . لكي تحقّق هذا، سوف دائمًا تكون الكاميرا خلاله بدلاً من رؤية العمل . ناضلنا لإعطاء تعبير موضوعيّ للخبرة الدّاخليّة، أي، للإظهار ما فنسنت كان يفكّر و يشعر، لإظهار كيف ذاكرة، حلم أو سجلات هلوسة في عقله : البنية، الصّوت، اللّون، الشّكل، الإيقاع . الغرض ليس للجمهور فقط ليكون شاهدًا، لكنّ إلى حدّ ما لهم للعيش خلال الصّورة و للمشاركة نفسيًّا في العمل . عقل فنسنت، من البداية إلى النّهاية، يُشْغَل دائمًا . حيرته، صّراعه، ارتباكه و يأسه ينمو و ينمو . هو أبدًا تمامًا في مكان واحد . عندما يكون في الماضي هو مازال يحتفظ ببعض من الهديّة و بالعكس . مشاهد كثيرة هي حلم، التّسلسلات الخياليّة أو المسبّبة للهلوسة . لكي تنقل الشّدّة و الجودة المفرطة و للحفاظ على حركة الكاميرا الوهميّة، كلّ المشاهد صورت بكاميرا يدويّة . من الطّفولة ، فنسنت لم يضمن أي شيئ أبدًا . دائمًا تعجّب من كلّ اكتشاف جديد، على الإطلاق معجزات العالم . عانى فنسنت باستمرار بوعكات الذّنب الفظيعة، النّدم و الأسف بسبب المسئوليّة الّتي وضعها على ثيو و لأنّ عمله لم يبع أبدًا . جاء فنسنت إلى سان ريمي لأنه أراد أن يكون منعزلا عن عالم الخارج و في بيئة واقية . طالما هو يمكن أن يكتشف و يكشف عن الحقائق الجديدة و يواصل عمله يمكن أن يمسك المرض البشع في مأزق . لفنسنت، الكسل كان تعذيب مطلق . كان الرسم الشّيء الوحيد الّذي حماه من الأسئلة الثّابتة و الشك الذي طارده . بالسّير بدون النّوم المناسب أو الطّعام، بتشغيل نفسه إلى حدّ التّعب - - هذا وحيدًا ساعد في إسكات الأفكار الأكثر إخافة . كان هامّ جدًّا إليه أنّ تُعُرِّفَ اعماله, إحساسًا ببعض التّعويض، لأنّ ثمّ هو يمكن أن يفرّج عن المسئوليّة الموضوعة على ثيو . ثلاثة أكبر مخاوف لفان جوخ فنسنت كانت : المعاناة من هجوم آخر، ان يكون عاجزا و غير قادرا على العمل، و الفشل للتّبرير مع ذلك عمله جميعًا الّذي قد عمله ثيو له . شعر أن إذا لم يكن من الممكن أن يعمل فليس لديه أيّ سبب للعيشة، ولا حقّ لأخذ المال بعيدًا من ثيو . الهاجس الثّابت من قبل المحلّلين النّفسيّين، الدّكاترة و الخبراء المدّعون لتصنيف مرض فان جوخ، لإعطاءه اسم معيّن، لاستخدامه لشرح أفعاله، لادّعاء أن الممتاز جدًّا بشخصيّته و عبقريّه يمكن أن يُنْسَب إلى مشكلة معيّنة : المرض الثّنائيّ القطب، الفصام، التّوحّد، طنين الأذن، السّيلان، تسمّم الرّصاص، فينيتم الإعلان إلى حدّ الغضب هو هراء تامّ . إنّها إهانة إلى فنسنت و الدّليل أنه ليس لدى هؤلاء النّاس تمامًا أيّ تعاطف مع الرجل . كان فنسنت أصليًّا تمامًا في عمله و في مرضه . بالتّأكيد كان لديه مشاكل عاطفيّة شديدة و لا شكّ هم اُسْتُثِيرُوا بالأنيميا و التّجارب المؤلمة . لكنّ أخيرًا هو هُزِمَ بحساسية كبيرة و طبيعة متعاطفة ساحقة كانت غير قادرة أن تتصرّف مع حقيقة العالم و طبيعة معظم النّاس . بالرّغم افكاره الكثيرة، كان فنسنت واقعيّا في حياته و عمله، لكنّ واقعه كان سنوات ضوئيّة بعد الواقع اليوميّ و في ذلك المكان يضع عبقريّه . هو حقًّا رأى حياة كلها كان لكنّ كان أبدًا يقدر أن يصل إلى توافق معها . يصبح معظم المتشائمين واقعيّون ، لكنّ فنسنت كان غير قادر تمامًا على هذا . عندما يصبح فنّان متشائمًا، هو أيضًا يصبح هابطًا و لا يعد قادرا على إنتاج العمل الصّادق . قد تبقى البراعة التّقنيّة، لكنّ روح العمل تخُسِرَ . لم يخسر فنسنت أبدًا أيضًا . بعلم العالم للاستقرار، ثمّ و الآن، فنسنت لم يكن مثاليًّا لكنه خياليّ .. كان التعامل صعبًا جدًّا مع فنسنت . إذا رأى شيئ ما ظالم أو خطأ، شعر انه مجبر على مهاجمته . دائمًا كان في حالة حبّ أو كره و هذا خلق أعداء كثيرين . حتّى ثيو وجده مستحيل المعايشة . كل افكار فنسنت فكّر تقريبًا، كل شيء اهتمّ به كان العمل . مع ذلك، ثيو، اعتقد دائمًا أن فنسنت كان شخصا فريدا و عظيم .. ناس كثير اليوم تتملّق فنسنت ويحوّلونه إلى شهيد شبيه بالمسيح . هو كان يمكن أن يمقت المفهوم . هو يُوصَف كالفنّان المطلق . هذا هو الهراء . في الحقيقة كان المستقلّ المطلق الّذي كان أبدًا قادر أن يعمل جيّدًا مع الآخرين، أو ليُرْبَط بأيّ نوع القواعد المتعاونة . رغبته للعمل مع الآخرين جاءت من الوحدة أكثر من أي شيئ آخر . تخريف آخر هو أنه ضحّى بحياته ( ثانية، متلازمة الشّهيد ) للبشريّة . لا . أعطى حياته لعمله . قد يكون لديه رغبة مفرطة بالطّبع لتعليم و حثّ النّاس . لكنه ناضل لعمل هذا من جانب لآخر عمله الّذي استبدل كل شيئ آخر . أكثر الأشياء الكبيرة والموحية عن فان جوخ ليس أنه قطع شحمته الأذن أو أنه عانى من نوبات الجنون أو أنه انتحر، لكنّ إلى حدّ ما أنه عاش الحياة إلى امتلائها الاقصى، أدرك ملكه فنّيّ محتمل بقدر ما في حدود الطّاقة البشريّة ممكن، حارب بفخامة ضدّ الهجمات و كلّ أشكال المشكلة. الأهمّ، خلق جسمًا عظيمًا للعمل الّذي سيعيش طالما البشريّة مستمرة . موضوع حياته، و موضوع فيلمي عيون فان جوخ، بحث فنسنت لتحقيق الخلود خلال عمله " .
ونتحدث عن المخرج روبرت ألتمان في فيلمه «فينسنت وتيو»، وهو فيلم متفجر بمشاعر الرسام ومخاوفه وعبقريته، ويلعب دون فان غوغ الممثل تيم روث في أداء ذكي جداً ورائع، ويؤدي «بول رايس» دور «ثيو» وهو يعالج علاقة الرسام الخاصة مع شقيقه ثيو الذي تولى رعايته طوال حياته.
ولم يبخل فان غوغ برد الجميل، كتب إليه يقول: «... اطعامك لي أبقاك فقيراً، فإنني سأرد لك المال أو أسلم الروح.. إنه لم ينجح في أرجاع المال وأسلم الروح، ليس قبل أن يهدي شقيقه الخلود».
وتحوي الخطابات المتبادلة بين فان غوغ وأخيه على كم هائل من المادة الخصبة شديدة الثراء والأهمية بالنسبة لفهم النفس الإنسانية عامة، ولفهم سيكولوجية الإبداع الفني خاصة.
«إنني أطمح في التعبير عن الحب بين اثنين من المحبين من خلال التزاوج بين لونين يكملان بعضهما وأن أعبر عن الأمل بنجمة ما، وعن توق الروح وطموحها بشعاع شروق الشمس».
هكذا كتب فان غوغ في إحدى رسائله لأخيه ومع ذلك.. فقد مات منتحراً بعد أن ترك ثروة من الألوان والرسائل التي تضيف قراءاتها إبعاداً جديدة حول حياته.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق