الأحد، 14 ديسمبر 2014

فؤاد المهندس فنان الكوميديا الراقية






محمد عبيدو


 بعد عشرة أيام فقط على احتفاله بعيد ميلاده الثاني والثمانين،6)سبتمبر 1925 - 16 سبتمبر 2006 (،رحل الممثل المصري فؤاد المهندس بهدوء بعد نصف قرن من العطاء في السينما والمسرح والتلفزيون وحياة فنية صاخبة، مليئة بالإنجازات، تاركاً بصماته على تاريخ الكوميديا المصرية التي لقّب بـ " فارسها ". كانت حركاته الجسدية خليطاً من تأثره بشارلي شابلن الذي كان يقلّده في ارتداء القبعة العريضة والبنطلون الممزق والحذاء الضخم وحمل العصا، والهولندي غروتشو ماركس الذي كان يقلّده في تحريك حاجبيه. ويجمع الكثيرون على أن المهندس كان ملك الـ "فودفيل" اذ استطاع أن ينتزع الضحكة من القلوب ومن عباءة " ملك الفودفيل" خرج بعض أبرز ممثلي الخشبة المصرية خلال العقود الأخيرة.
 لم يصبر فؤاد المهندس على فراق صديقه عبد المنعم مدبولي، فلحق به بعد شهرين، وبعد أربعة أشهر على فراق ابنته الفنّية سناء يونس. فالمهندس تعلّم من أستاذه نجيب الريحاني أن كلمة "مسرح" تعني العمل الجماعي، وها هو يتضامن مع آخر عمالقة الفن الهادف ممن رحلوا هذا العام فيلتحق بهم.
عوارض عدة مهّدت لوفاته، أحدثها كان الحريق الذي شبّ في منزله قبل ساعات من وفاة رفيق دربه ومنافسه عبد المنعم مدبولي. ولولا عناية الله، وتدخّل زوجة ابنه لما تمّ إنقاذه، وخصوصاً أنه كان يتحرك بصعوبة بسبب المرض الذي ألمّ به في الفترة الأخيرة، كما أنّه أصيب بالاكتئاب بعدما وضع على الرفّ مهنة التمثيل، مبتعداً عن عشقه الأول والأخير. كل هذه الأمور جعلت خروجه إلى الناس نادراً.
 عندما ظهر في أواخر الخمسينيات من القرن المنصرم، لم يكن فؤاد المهندس مشروع كوميدي بملامح مميزة. إذ لم يكن يملك سذاجة اسماعيل ياسين ولا ريفيّته… المهندس هو ابن منطقة العباسية، أي ملعب برجوازية ما بعد الحرب العالمية الثانية. تربّى في منزل مسحور باللغة العربية وثقافتها، فوالده زكي المهندس خرّيج جامعة، وعميد كلية دار العلوم. وعضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
 كان أمل العائلة أن يكون فؤاد امتداداً للأب خفيف الظل، على رغم أنه حارس من حرّاس اللغة الرصينة. لكن فؤاد سار عكس التيار، معلناً تمرّده باكراً.
نجيب الريحاني
وخبأت الصدفة له لقاءً، في ذلك الحين، مع نجـــمـــه المــــفضل الممثل الكبير نجـــيب الريحاني. الذي شاهد أفلامه ومسرحياته كلّها في تلك الفترة، فتأثّر به وسعى جاهداً إلى التعرّف إليه عن حكاية اللقاء, يقول فؤاد المهندس: "كنت أتطلع الى لقاء الريحاني منذ طفولتي المبكرة، وظلت هذه الأمنية ملازمة لي، ولم تتحقق الا ليلة حفل زفاف شقيقتي الاعلامية صفية المهندس الى الاذاعي محمد محمود شعبان الذي كان صديقاً للريحاني. وقد كان هذا الفنان الكبير حاضراً فظللت ملازماً له وكلما ذهب هنا او هناك يجدني أقف بجواره حتى صرخ في وجهي قائلا: يا ابني حرام عليك أنا مش عارف أتنفس منك".
 وجاءت أختي صفية لتقول للريحاني: "حوّل فؤاد المنزل مسرحاً لأعمالك". فضحك وأعطاني موعداً لأقابله في المسرح. وظللت معه سنتين كاملتين أتعلم منه وأذكر أنه قال لي ذات يوم: "أثق تماماً في قدراتك وموهبتك ومقتنع بأنك ستكون خليفتي. ولكن يجب ان تكون لك شخصيتك المستقلة وأن يكون أداؤك مختلفاً. كن رجلا ولا تقلّدني".
 لكن موت الريحاني، بعد عام، حرم التلميذ من أســـــتاذه ومن وراثـــة فرقته، بينما قام شريك الريحاني بديع خيري بدفع ابنه عادل ليحلّ محل الريحاني كــــــنجم للــــــفرقة المــــسرحية.
وقرر أن يكون الفن حرفته وتعتبر الاذاعة وبالتحديد برنامج "ساعة لقلبك" هي نقطة الانطلاق الحقيقية للفنان فؤاد المهندس حيث انضم إليه عام 1953 واصبح من أهم نجومه بشخصية محمود المثقف المغلوب علي أمره بسبب زوجته الجاهلة المزعجة والتي جسدتها الفنانة خيرية أحمد.
 وعلى رغم أنه قدّم أكثر من 60 فيلماً، لم تحب الشاشة الكبيرة المهندس إلا كوميدياً مغامراً. ولم يعرف أحد ما الذي كان يدور في رأس المهندس عندما لعب دور الـ" دون جوان" في فيلمه الأول " بنت الجيران" لمحمود ذو الفقار عام 1954. وقتها، لم يتقبل الجمهور "فتى شاشة" يرتدي نظارات غليظة، فانصرف إلى الأدوار الثانية على مدى حوالي عشر سنوات ، حيث كان أشهر من يؤدي دور السنيد أفلام أسندت بطولتها لنجوم تلك الفترة من عمر السينما المصرية. . كان " فارس الكوميديا" يطبع بصمته على أي دور يلعبه مهما كان صغيراً. ومن لا يصدق أنه منح معنى جديداً لكلمة "الدور الثاني"، عليه أن يتخيل فيلم "معبودة الجماهير" أو "الشموع السوداء" من دون فؤاد المهندس، أو يتخيل ممثلاً آخر يلعب دوره في "البيه البواب".
 فؤاد المهندس وشويكار
ومن بين الأدوار الثانية للمهندس عمله مع كمال الشناوي في "الأرض الطيبة" ، ومع عماد حمدي في "بين الأطلال" ، ومع رشدي أباظة في "أميرة العرب" و"الساحرة الصغيرة" ، ومع عمر الشريف في "نهر الحب" ، ومع شكري سرحان وعادل مأمون في "ألمظ وعبده الحامولي" ، ومع الرياضي صالح سليم في "الشموع السوداء "
 ويعد فيلم "عائلة زيزي" الذي أخرجه فطين عبد الوهاب أحد العلامات في مسيرة كوميديا المهندس الذي اختير بعده لأدوار البطولة المطلقة.
 ولكن فؤاد المهندس لا يعتبر الريحاني أستاذه فحسب، فكثيراً ما يذكر اسم عبد المنعم مدبولي بلقب استاذي. وعن هذه العلاقة التي جمعته بمدبولي يقول المهندس: "ان مدبولي هو الناظر والأستاذ بالنسبة اليّ والى الكثيرين من أبناء جيلي والأجيال اللاحقة. ففي فرقة "ساعة لقلبك" طبقت نصيحة الريحاني ولم أحاول تقليده. ولكني كنت أشعر دائماً ان شيئاً ما ينقصني. ومع عبد المنعم مدبولي، وبفضل النصوص التي اخترناها، اصبحت خليطاً من الريحاني وفؤاد المهندس وعثرت على شخصيتي الفنية أخيراً".
 و أمضى فؤاد المهندس ربع قرن مع عبد المنعم مدبولي يعملان في تأصيل الكوميديا، وجعلها فناً حقيقياً ومتمكّناً من إضحاك مئات آلاف المشاهدين الذين تابعوا أعمالهما بشغف وحبّ. وبفضل مدبولي، توطّدت العلاقة (العاطفية والمهنية) بينه وبين شويكار، التي تزوّجته ، و كونا معا أشهر ديتو فنى عرفته الجماهير العربية على مدار 20 عاما قدموا من خلاله أعمال إذاعية ومسرحية عرفت نجاحاً شعبياً كبيراً مما أغرى المنتجين لاستثمار هذا النجاح في أفلام سينمائية ك<شنبو في المصيدة> (1968) لحسام الدين المصطفى و<أرض النفاق> (1968) لفطين عبد الوهاب الذي عملا معه سابقاً في فيلمين أنجزا في عام واحد هما <اعترافات زوج> و<أنا وهو وهي> (1964).عن رواية الكاتب الكبير توفيق الحكيم الذي قال وقتها (اتركوا فؤاد يقدم المسرحية كما يريد لأنه فنان عظيم ولديه طاقة رهيبة للمسرح وأنا متأكد أنه سينفذها بشكل جميل وفي رأيي أن الفن لا بد أن يرتقي بالجمهور والأخلاق). وهناك أفلام أخرى لهما بإدارة حسن الصيفي، ك"هارب من الزواج" (1964) و"غرام في أغسطس" (1966) و"المليونير المزيّف" (1968). هناك أيضاً "العتبة جزاز" (1969) لنيازي مصطفى و"مطاردة غرامية" (1968) لنجدي حافظ. يُذكر أن فؤاد المهندس التقى شويكار، فنياً، للمرّة الأولى في مسرحية "السكرتير الفني"، لكنهما انفصلا بعيد الانتهاء من فيلم "فيفا زلاطا" في العام ,1976 لكنهما ظلاّ صديقين حتى اللحظة الأخيرة من حياته.
صورة أخرى تجمع فؤاد المهندس بشويكار
عن علاقته بشويكار فيقول المهندس "كانت شويكار الحب الأكبر في حياتي. وقد كان لتفاهمنا دور كبير في أن نسيطر على الحركة المسرحية في مصر مدة 20 عاماً. كنت سعيداً جداً مع شويكار في البيت وفي العمل. عندما بدأت شويكار تخطو خطواتها الأولى في الفن كنت ألتقيها في المناسبات الفنية والحفلات. ولكن شيئاً ما كان يجذبني إليها ويدفعني إلى تكرار الحديث معها وهي كذلك. وشعرت أنها معجبة بي لكني لم أتخيل انها قد تكون ممثلة كوميدية بارعة. وعندما رشّحها عبد المنعم مدبولي لتعمل معي دُهشت ولكنني كنت سعيداً بذلك وفوجئت بحضورها وقدرتها في الكوميديا لتنقلب حياتي بعدها رأسا على عقب".
من أفلامه الأخرى: <معبودة الجماهير> (1967) لحلمي رفلة، <عريس بنت الوزير> (1970) لنيازي مصطفى، <عماشة في الأدغال> (1972) لمحمد سالم، <أخطر رجل في العالم> (1976) لنيازي مصطفى، <خلّي بالك من جيرانك> (1979) لمحمد عبد العزيز، <خمسة باب> (1983) لنادر جلال، <أيوب> (1984) لهاني لاشين، <زوج تحت الطلب> (1985) لعادل صادق، <البيه البوّاب> (1987) لحسن إبراهيم، وغيرها.
 والذي يعرف « فؤاد المهندس» هذا الكوميديان عن قرب، يعرف أن دمعته قريبة منه وأنه يبكي في بعض الأحيان خاصة إذا رأى طفلا مريضا أو يتيما أو سيدة حامل تتألم حسبما قال، وكيف لا يحدث هذا وهو أكثر الكوميديانات الذين اقتربوا من الأطفال، ولا يوجد طفل لا يعرف «عمو فؤاد» في فوازير شهر رمضان و التى لاقت نجاحاً كبيراً لدى الأطفال كما قدم مسرحيات كثيرة لهم منها هاله حبيبتى و غنى أغنيات للأطفال أشهرها هنوا أبو الفصاد و رايح أجيب الديب من ديله اللتان لايزال يرددها الأطفال إلى الآن ، كما أنه دخل تجربة الإنتاج السينمائي عندما أنتج فيلم فيفا زلاطا الكوميدي.
وكان نجم الكوميديا في الستينات والسبعينات، الحاضر بكثافة… جعلت كثراً لا ينتبهون إلى أن المهندس غاب عن الساحة منذ حوالي 12 عاماً. ووضع في المتحف مكرماً في شكل مبكر ولم يعد احد يختاره لعمل سينمائي أو تلفزيوني. لهذا كان يشعر بمرارة.
لم يعد فؤاد المهندس ملكاً للكوميديا لكن الملوك يسقطون بخبطة واحياناً ينتهون في الاهمال، أما المهندس فلا نصدق اننا خسرنا لمعة عينيه الى الأبد.
 فؤاد المهندس سيظل في قلوبنا منبعا للحب والضحك الجميل الذي يصدر من القلب . وثمة خوف من أن موته هو موت لمستوى معين من الكوميديا المصرية والعربية، ولنوع من الفنانين الكوميديين الذين ينظرون الى الفن كرسالة اجتماعية يجب ايصالها مهما كانت الصعوبات .
وبقدر ما أسعدنا ونجح في تفجير الضحكات من خلال أعماله الرائعة بقدر ما أحزننا فراقه و رحيله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق