كتاب “ نبوءات ـ يوميات ليوناردو دافنشي “ صدر حديثا ضمن سلسلة السيرة الذاتية عن الهيئة العامة المصرية للكتاب نقله للعربية الشاعر محمد عيد ابراهيم، ويضم الكتاب : تقديم من إيرالدو آفينتي ومقدمة كتبها ج. ج. نيكولاس، وعدة فصول هي : نبوءات -مداعبات - أفكار ومأثورات- خرافات - رسوم طبيعية - توصيفات خيالية - شذرات من مسيرة روح - سيرة دافنشي
يضمّ صفحاته مختارات من كتابات دافنشي، وهي كتابات متشظّية، شظايا موجزة غالباً ومحيّرة. وكما جاء بتقديم ج. ج. نيكولاس ، يعدّ هذا الكتاب بالمقام الأول على الأقلّ ممثلاً جلياً لعمل العالِم والفنان والمهندس الكبير: المعروف دائماً بتأسيس مشروعات أكثر من المتمّم لها. عموماً، فالمخيّب كما يبدو، جزء من هذا السحر. على القارئ أن يستعدّ لهذه المعضلة. لو فكّرنا، على المثال، في لوحاته، لما ظللنا نعتقد أن لوحته “الموناليزا” هي الأفضل، مع أنها العمل الأكثر تعقيداً وإشباعاً من، لنقل، لوحته “بشارة مريم”، المرئية الآن بصالة عرض يوفيزي في فلورنسا. لكن “الموناليزا” ذائعة الصيت ـ ربما الأكثر ذيوعاً ـ بين أعمال دافنشي، ويثير عجبنا ممّا تبتسم له السيدة، إن كانت تبتسم أصلاً، أو... لأنها، مثل دافنشي، تبثّ فينا الحدس .
على وجه شبيه، لا نوقن غالباً من ميزة كتابات دافنشي المحدّدة. فلن يصير لنا التأكّد من نبرة صوته. فهو يلقي نِكاتاً ـ لا بالقسم المعنون “مداعبات” فقط ـ بل كناتج واسع من طبيعة كتاباته المتشظّية، فوميض العين المبرِزُ أحياناً كلّ تفصيلة، كما يفعل الفنان، لا يتّضح دائماً.
هذه الملامح تتّضح في القسم الأول “نبوءات”. لغة نبوئية غالباً، كأن للكاتب شيئاً هاماً ينقله، كما تُقرأ المأثورات غالباً كمحاولات أصيلة للنبوءة. لكنه لا يمنحنا النبوءات، بلغة غامضة ملغزة غالباً كما يحبّ الأنبياء استعمالها، بل يبلغنا ما تعنيه هذه النبوءات. أمرٌ مغاير لدور النبيّ التقليديّ. في الحقيقة، هذا بالدقّة ما يتفادى الأنبياء الجادّون فعله.لا يستنفد هذا معنى “نبوءات” دافنشي. فهي تَبِين أحياناً عن مجالات أُخر للفكر والاستكشاف، وتخلّينا نقلّب في رؤوسنا أشياء أخذناها بالتسليم من قبل:«يُعاملون بالبذخ والتشريف، من دون اكتسابهم معرفة”.
(عن الجنائز، خدماتها ومواكبها وأنوارها وأجراسها ورِفقتها)
وتمتاز نبوءاته أحياناً بحكمتها :
«يتبع الناس ما يخشونه أكثر”
(حيث يعيشون في فاقة لتجنّب الفاقة)
شيء حكيم، كما أنه حاذق، يذكّرنا أن المقولات المبثوثة في كتاباته ليست متداولة حصرياً بالضرورة، وأن بعض النبوءات متضمّنة فيها، كما في “أفكار ومأثورات”، من بينها أقوال كهذه :
«من يروم الغِنى في يوم، سيُشنق بعد عام”.
في “رسوم طبيعية” نرى مزيجاً غريباً من الاهتمامات. يُفتتَن دافنشي بالغرائبيّ في بساطة أحياناً. يضمّن، عموماً، كثيراً من الكائنات بصور مجازية. ويتّضح هذا على نحو خاصّ حين توضع النوعية التي تشير إليها قبل توصيف الكائنات ذاتها:
«شهامة: يفترس الصقر الطيور الكبيرة فقط، ويموت فوراً إن تغذّى على صغار الطير أو لحمٍ نتن”.
إن “شذراته عن مسيرة روح” تكشف أكثر مما نظنّ عن مقاربة حديثة؛ حيث يؤكّد عصر النهضة الملاحظة والاستكشاف أكثر من الهيمنة. يقول إن “أفكاره ببساطة من ناتج التجربة ـ المعلّم الحقيقيّ”، ويهزأ من الإصرار القروسطيّ على صون أفكار المرء بالإشارة والإيعاز إلى السلطان :
«مَن يستخدم ما وهبَت له من سُلطة في نزاعاته لا يستعمل عقله بل ذاكرته”.
نقتطف من باب (نبوءات) في الكتاب :
يبدو شيءٌ يغطّي على من يحاول أن يغطّيه.
(أشعّة الشمس تخبط سطحاً)
يظهر من كهوف عميقة مَن يجعل شعوب العالم قاطبةً تكدح وتعرق، بمشقّة بالغة، عمل، وقلق، وقد تحوز نجدته.
(عن الذهب وما يُصنع به من مال)
ذلك الذي هو شرٌّ مميت يبثّ الروْع منه فيمن، مع أنهم جُنّوا، لا يزالون مؤمنين بأنهم ولّوا فراراً منه، فيحسّ عاجلاً بقوته التي لا نظير لها.
(عن خِشية الفقر)
وذلك الذي يلزم مَن في حاجة إليه، يصبح مجهولاً، وإن عُرف سيُزدرَى أكثر.
(عن النصح)
شيءٌ، كلّما احتجناه أكثر نبذَنا أكثر. هو النصح، الذي ينصت إليه الجاهل، الذي يحتاجه كُرهاً. شيءٌ، كلّما خشيته وولّيت منه فراراً دنا منك أكثر. هو الفقر، الذي كلّما أمعنتَ منه فراراً أعوزك أكثر وبثّ فيك الكدر.
(عن النصح والفقر)
يظهر من تحت الأرض من يَصِمّ العابرين بصرخات مخيفة، بنفخاته يموت الناس، وتُهدَّم القلاعُ والمدن.
(عن المدفع، بين الحُفر والعفن)
يمرّ كثير من الأجسام الحية بأجسام كائنات أخرى. مما يدعونا أن نقول: البيوت غير المأهولة تمرّ بأجزاء من بيوت مأهولة، فتمنحها ما يفيد، لكن تجلب عليها دمارها. كما نقول: يحيا الإنسان من أشياء مأكولة، فتجلب معها جزءاً ممّا مات.
(عن الطعام الذي كان حياً ذات يوم)
يبدو للناس أنهم سيرون بالسماء دماراً غريباً. يظهر بين ألسنة اللهب المحلّقة لأعلى السماء وهو يثب في فزع لينزل منها. يسمعون أنواع الكائنات وهي تتكلّم بلغة الناس. يدفعون بأجسامهم في شتّى بقاع العالم، من غير أن يتحرّكوا. ويرون إشراقات هائلة في الظلام. يا لمعجزة البشر، أيّ هذيان جلب لكم هذا؟ ستكلّمون أنواع الكائنات، ومن جهتهم سيكلّمونكم، بلغة الإنسان. سترون أنفسكم تسقطون من قمم عالية من غير أذىً يلحقكم، مع سيل يصحَبكُم في سقوطكم.
(عمّن يحلم)
يُخفي كثيرون أنفسهم وأطفالهم ومؤنهم في كهوف معتمة. وبتلك الحُفر، يطعمون أنفسهم وعائلاتهم أشهراً، من دون ضوء طبيعيّ أو مصطنع.
(عن النمل)
وبين كُثر آخرين يؤخَذ طعامهم ومؤنهم، يغمرهم الناس بالماء أو يغرقونهم، من دون رحمة وبلا أيّ سبب. يا لعدالة الله، لِمَ لَمْ تنتبه لترى من خلقتَ يُستخدَمون من قِبل شرّ البلية ؟
(عن النحل)
يا للطبيعة المهادنة، لمَ تنحازين، تتصرّفين كأمٍّ رحيمة لطيفة مع بعض من أبنائك، ومع آخرين كزوجة أبٍ عنيفة ضارية ؟ أراك تسلمين أطفالك للعبودية، من دون أن يجنوا ثمّة فائدة، وبدلاً من التعويض عما قد يجنونه من فوائد، يُسدَّد لهم بمعاناة عسيرة، فيصرفون حياتهم دائماً لصالح من أساء إليهم.
(عن ضرب الحمير)
يُعاملون بالبذخ والتشريف، من دون اكتسابهم معرفة.
(عن الجنائز، خدماتها ومواكبها وأنوارها وأجراسها ورِفقتها)
يُقلَّد صعلوكٌ، فيصبح مقلِّدوه دائماً مخادعيه وسارقيه وقاتليه.
(عن المجلس البلديّ)
محمد عبيدو
|
السبت، 31 يناير 2015
“ نبوءات ـ يوميات ليوناردو دافنشي “
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق