محمد عبيدو
حصل على سعفة كان الذهبية مرتين وأدهش المشاهدين بأفلامه الشاعرية الناقدة
رحل المخرج الياباني شوهي إيمامورا منتصف شهر حزيران 2006 بعد صراع طويل مع المرض عن عمر يناهز 79 عاماً وهو المخرج الذي تطلق عليه اليابان لقب "كنز السينما اليابانية" و كان يعد واحداً من كبار مخرجي "الموجة الجديدة" في بلاده وأكثرهم تميزاً الى جانب أوشيما وإيشيكاوا وغيرهما من الذين جددوا بجرأة ابتداء من الستينات. حصل إيمامورا على السعفة الذهبية في مهرجان "كان" السينمائي مرتين، وكانت السعفة الذهبية الأولى عام 1983 عن رائعته "رحلة ناراياما" التي عرفت أيضاً بترجمة "ملحمة ناراياما"، والسعفة الذهبية الثانية عن فيلم "ثعبان البحر" وقد نالها عام 1997 مناصفة مع الايراني عباس كيارستامي.
بعد رحيل ساموراي السينماني الكبير "أكيرا كوروساوا" الكثير من النقاد وشحوا "شوهي ايمامورا لحمل سيف السينما اليابانية الذهبى، ليصبح سيدها الاول ، فهو يعتبر من أبرز المخرجين ومن أكيرهم تميزا وشهرة عالمية.
ويعرف إيمامورا بأنه من أبرز المدافعين عن حقوق الإنسان وعن الطبقات الفقيرة والكادحة من المجتمع، حيث عادة ما تحتوي أفلامه على العديد من الإشارات والإيحاءات الساخرة والنقد اللاذع لظروف المجتمع وفضح ما به من فساد على جميع المستويات،
وكان لا يستثني من ذلك أي حكومة أو طرفاً قيادياً في المجتمع. ومن هذا المنطلق يأتي رسم الشخصيات الموجودة عادة في أفلامه، فالغالبية العظمى من شخصياته تتركز حول النساء اللواتي يعشن تحت خط الفقر ودفعتهن الظروف القاسية التي تحيط بهن الى سلوك حياة الرذيلة، وكذلك رجال وأطفال من الطبقات الدنيا في المجتمع. ويتسم تناوله لمثل تلك الشخصيات بالموضوعية والحيادية الشديدتين.
على الرغم من هذا، فإن شوهي إيمامورا أنجز تنويعاً سينمائياً تراوح بين النقد الاجتماعي والسياسي المبطّن، التي يُمكن اعتباره بمثابة نظرة إنسانية معمّقة، والسخرية الضاحكة، أحياناً. ذلك أن المواضيع التي تناولها في أفلامه، تراوحت بين التقاليد القروية وملامح المجتمع الياباني وسلوكه وتفاصيله الإنسانية المختلفة
وعن اسلوبه السينمائي يقول :" أصور أفلاما ما روائية كما الأفلام الوثائقية، انجاز فيلم وثائقي يتطلب إظهار الوقائع كما هي عليه، دون كتابتها مسبقا، عندما أخرج فيلما روائيا أقوم بالشيء المماثل تقريبا، أصور اللقطات كما تحدث حقا في الواقع، أبدأ بتحضير أماكن التصوير بشكل دقيق، أخذ بعين الأعتبار طوبوغرافية ,المواقع المختلفة التي سأصور فيها، أرسو حتى خارطة على السيناريو، تصف تنقلات الشخوص بطريقة دقيقة.
نفس الشيء عندما أشرح للممثلين ما أريده منهم، فأنا لا أحدثهم عن الجانب النفسي لشخوصهم، أفضل إعطائهم تعليمات جسدية، تقريبا جغرافية، في النهاية، ذلك يعطي لأفلامي الروائية طابعا وثائقيا."
وقد ولد إيمامورا في طوكيو عام 1926، وحين كان مراهقاً عاش صراع بلاده وفي ظلّ المآسي الإنسانية الحادّة التي أدركها في مطلع عمره، والتي صنعتها الهزيمة اليابانية في مواجهة القنبلتين الذريتين الأميركيتين اللتين وضعتا حدّاً دموياً للأحلام الإمبراطورية العسكرية اليابانية، عاين إيمامورا بؤساً وشقاءً رسم شيئاً متواضعاً من عنفهما وطغيانهما القاتل على الفرد والجماعة. وعبّر عن ذلك في أحد أفلامه في الكلام التالي: حين أعلن الامبراطور سقوطه على الراديو كان عمري 18 سنة وقلت في نفسي: هذا رائع وأخيراً تحررنا". في نهاية الحرب العالمية الثانية ترك دراسته وعاش في شارع شينجوكو المعروف "بالسوق السوداء" في طوكيو وهناك اختبر الحياة الواقعية بقوة. وظهر اهتمامه بالأدب وهو لا يزال في صدر عمره، التحق بالمعهد الفني تهرباً من تأدية الخدمة العسكرية وبعد انتهاء دراسته الفنية الأكاديمية وكان ذلك في معهد "واشيدا"، عام 1945 ودرس الأدب بها، وقام خلال الدراسة بكتابة وتمثيل العديد من المسرحيات. وبعد تخرجه، عمل مع عدد كبير من المخرجين اليابانيين العظام، حيث استفاد منهم بشكل كبير، مثل المخرج الشهير ياسوجيرو أوزو، حيث عمل معه في فيلم «الصيف المبكر» عام 1951، وفيلم «قصة طوكيو» عام 1935.
عن بداياته يقول " كنت أشاهد كثيرا من الأفلام، العديد من الافلام الامريكية استقدمت إلى اليابان، مباشرة بعد الحرب، لكنني لم أجدها ذات أهمية، ثم اكتشفت كوروسوا. عندما شاهدت " الملاك السكران " شعرت حقا برغبة في أن أكون سينمائيا. في تلك الفترة، كنت في جامعة واسيدا، حيث شكلنا أنا وبعض أصدقاء الدراسة فرقة مسرحية، في نفس الوقت كنت جد منشغلا بالسوق السوداء، التي كانت تساعدني على دفع مستحقات دراستي، بعد الجامعة واصلنا لفترة قصيرة ممارسة المسرح ثم افترقنا، بقيت وحيدا، ولم أجد ما أقوم به في ذلك الحين، بعد مشاهدة أفلام كوروسوا، شعرت برغبة في أن أكون سينمائيا، لهذا ترشحت للدخول الى استوديوهات "توهو
وشوشيكو"، لقد اخترت "توهو" انها كانت الشركة التي يعمل فيها كوروساوا، وكنت أرغب في رؤيته يعمل، وإذا أمكن أن أكون مساعده، للأسف، في تلك السنة كانت استوديوهات "تومو" في إضراب، لهذا لم يقبلوا مساعدين جدد، بالعكس "سوشيكو"، كانت توظف، كان يجب القيام بامتحان دخول.
كنا سبعة مقبولين، سئلنا مع أي مخرج نريد الاشتغال، كنت مهتما بـ"كينوشيتا "، وهو مخرج جيد، كان معروفا تقريبا بقدر كوروساوا في تلك الفترة. وفي كل الحالات، كان الاكثر شهرة في استوديوهات كينوشيتا، لكن المشكلة أن الجميع كان يريد العمل مع كينوشيتا فقمنا إذا بعملية قرعة، لكن للأسف طلعت الاخير. فقيل لي: "لم يبق أمامك إلا " أوزر" فقط "، أحد الاصدقاء واساني قائلا: " أتعلم، أوزر هو أيضا جيد "، في تلك الفترة، لم يكن له شهرة واسعة مثل كينوشيتا، لكن حالما التقيت به تفاجأت لهيبته ووقاره، كان جد صامتا، كان يحترم الشباب، هكذا بدأت أول خطواتي في السينما، في الاخير لقد كنت محظوظا."
و انتقل للعمل في و، وهما اثنان من أهمّ الاستديوهات السينمائية اليابانية وأكبرها عام 1954، حيث عمل هناك كمساعد مخرج وكاتب سيناريو قبل أن يقوم بإخراج ثلاثة أفلام عام 1958 وهي «الرغبة المسروقة» ـ وهو ينتمي لأفلام الكوميديا السوداء، حول فرقة تمثيل تعمل في المناطق سيئة السمعة والمليئة بفتيات الليل ـ و«ضوء الليل» و«رغبة لا تنتهي» وكان يعتبر واحداً من المراقبين الجيدين للمجتمع الياباني والموضوعات التي عالجها تطرقت دوماً الى العادات والتقاليد القروية في اليابان وهو انتقد بشدة الحياة السفلية في الشارع التي اختبرها وهو شاب يافع حين قرر رسم الحياة البائسة في الشارع في ذاكرته لترتسم بعد حين في أفلامه. وسلط الضوء بقوة على شرائح معينة في المجتمع الياباني وهي الشرائح المهمشة. ، ثم شق لنفسه أسلوباً خاصاً لفت أنظار النقاد في العالم ورأوا فيه موهبة فذة فتحت السينما اليابانية على سؤال الحداثة الكبير. ويقول إيمامورا " منذ سنين مضت، كنت اصادق كاتب سيناريو معروفاً اعتاد العمل على ياسوجيرو أوزو، وكنت اجلس معه في بيته الذي اعتاد أن يقضي فيه فترات اجازته. وبينما كنت اعمل في احد السيناريوهات المهمة، نهض من جانب المدفأة التي كانت موجودة في منتصف الحجرة وجاء عندي وأخذ مني السيناريو وبدأ يقرأ بصوت عال. ولقد رأيت ان مثل هذا التصرف غير لائق ولايجب القيام به. ثم قال: رباه، ألا تزال تكتب عن هؤلاء الشحاذين والساقطين من المجتمع.
في الواقع لم يرق لي تعليقه هذا، وبدأ الأمر يثير اعصابي لانني لا اعتقد ان هذا هو الاسلوب الصحيح لوصف تلك الشخصيات التي تصفها انت بالمضطهدين. وحتى على الرغم من ان بعضا من الاشياء التي تقولها تلك الشخصيات تبدو سخيفة، فإن حياتهم والتجارب التي يمرون بها هي قضايا حقيقية من واقع الحياة، وتأتي تعبيراتهم وتعليقاتهم بشكل صادق غير مفتعل. فهم بشر على اية حال على الرغم من انهم يأتون من الطبقة السفلى للمجتمع. فما يقولونه حقيقي وواقعي. واذا لم تتأثر انت كمشاهد بما يقولونه او يفعلونه في افلامي، فالامر ليس خطؤهم ولكن خطئي أنا، لأن هذا يعني ان افلامي لم تقم بعكس مشاعرهم الحقيقية بشكل دقيق"
ثم قام إيمامورا بعد ذلك بإخراج فيلم «أخي الثاني» عام 1959، الذي تدور قصته حول مأساة أربعة أيتام يعيشون في إحدى المدن اليابانية الفقيرة ويعملون في المناجم. وبعد ذلك قام بإخراج ستة أفلام تعد من أشهر وأقوى ما عرفته صناعة السينما اليابانية وهي: «الخنازير والسفن الحربية» عام 1961، والذي يدور حول مجموعة من المراهقين يحاولون كسب قوتهم عن طريق بيع الخنازير التي تقتات على القمامة والفضلات التي تركتها قوات الاحتلال الأمريكية، وفيلم «المرأة الحشرة» عام 1963، وهو من فئة أفلام الكوميديا السوداء عن فتاة ريفية تُجبر على العمل في أحد مصانع انتاج الأسلحة أثناء فترة الحرب العالمية، وبعد هزيمة اليابان تتحول الى ابنة ليل،
وفيلم «رغبة القتل» وهو فيلم يدور حول الظواهر السلبية التي يعاني منها المجتمع الياباني، مثل الاضطهاد والاغتصاب والفساد وغيرها، وفيلم «الإباحيون ـ مقدمة إلى الأنثروبولوجيا» عام 1965، وهو ينتمي أيضاً إلى أفلام الكوميديا السوداء حول شخص يعمل في صنع وإنتاج الأفلام الإباحية ويتعلق بابنة محبوبته عاطفياً، وفيلم «اختفاء إنسان» عام 1957، وفيلم المرأة ـ الحشرة" (1963) وهو الفيلم الذي أدخله بقوة الى فرنسا، و"الرغبة القاتلة" (1964)، و «الرغبة العميقة للآلهة» عام 1968.
وفي فترة السبعينيات، أخرج إيمامورا فيلم « تاريخ يابان ما بعد الحرب» 1970 ،و فيلم "موهاماتسو يعود الى موطنه" (1973)، وفيلم"في البحث عن الجنود المفقودين" (1975) وفي منتصف السبعينيات وبعد انهيار صناعة السينما ونظام الاستوديوهات في اليابان وتراجع صناعة السينما بشكل عام في البلاد، قام إيمامورا بتأسيس الأكاديمية اليابانية للفنون المرئية و تولى رئاستها كما قدم " انتقام لي "1979 .
وفي فترة الثمانينيات انجز فيلم <إيجانايكا> (1981) و« رحلة ناراياما» 1983 الذي صور من خلاله الحياة في إحدى القرى اليابانية في القرن التاسع عشر فهو يحكى قصة امرأة يابانية مسنة يفترض أن تكون قد ماتت لكنها في صحة جيدة. والتقاليد الاسطورية القديمة في مطلع القرن التاسع عشر في اليابان كانت تقضي بأن ترحل العجوز كما كل عجائز بلدتها باتجاه "الجبل المقدس"حيث تنتر موتها, لتريح عائلتها وتترك الفرصة للشباب والصغار، فرصة الغذاء في ظروف الحياة الاقتصادية الصعبة. فتقرر أن ترحل وتأمر ابنها الذي تربطها به علاقة روحية قوية بأن ينقلها الى هناك، فيحملها على كتفيه ويمضي بها نحو المجهول.وتعكس هذه اسطورة سواء كانت تقوم عل تقليد حقيقي كان يحدث بالفعل أم كانت من وحي الخيال الشعبي نطرة اليابانيين الى الموت وبالتالي نطرتهم الي الحياة . هذه النطرة التي تتعامل مع أهم حقائق العالم انسان >> الحياة – الموت << باعتبار أنك منهما يكمل اخر و يتناقض معه وأن الموت نهاية طبيعية .. وللتعبير عن هذه الرؤية البالغة القسوة والشاعرية يلجأ ايمومورا ال صياغة البناء الدرامي لفيلمه عل شكل فصول السنة وقد ابدع مصور الفيلم في التعبير عن هذا المعان بالالوان والطلال . "رحلة ناراياما" الى جانب أفلام كثيرة مؤثرة للمخرج إيمامورا تشكل صورة خاصة عن اليابان بعين مواطن حساس وجريء، وظف عبقرية الفذة في سبيل تغيير مجتمعه الى الأفضل والأرقى والسير به الى صورة انسانية عادلة. ، وفيلم "المطر الأسود" (1989) الذي ركز على العذاب الداخلي الذي ألم بضحايا القنبلة الذرية التي سقطت على هيروشيما. والفيلم يتميز بالقوة الشديدة وينتهي بعبارة قوية على لسان احد الشخصيات تندد بالحرب،. وبعد توقف عن العمل دام تسعة أعوام، عاد عام 1997 ليكتب سيناريو ويخرج فيلم « ثعبان البحر ودكتور اكاجي» وقد نال كل من هذا وفيلم « رحلة ناراياما» جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان، الأمر الذي جعله واحداً من ثلاثة مخرجين فقط في العالم نالوا هذه الجائزة مرتين. و في الجزء الخاص به في الفيلم الدولي، الذي تناول هجمات نيويورك في الحادي عشر من أيلول ,2001 المؤلّف من أحد عشر فيلماً قصيراً لأحد عشر مخرجاً من دول وجنسيات وثقافات مختلفة. ، قدّم إيمامورا، صورة حادّة وصادمة عن معنى البؤس الكبير الذي ينحدر اليه الناس جرّاء اانكساراتهم المتعددة
إيمامورا , الراحل بعد حوالي نصف قرن من ابداع السينمائي , يمتلك ذلك الفن العظيم للغموض الخصب
رحل المخرج الياباني شوهي إيمامورا منتصف شهر حزيران 2006 بعد صراع طويل مع المرض عن عمر يناهز 79 عاماً وهو المخرج الذي تطلق عليه اليابان لقب "كنز السينما اليابانية" و كان يعد واحداً من كبار مخرجي "الموجة الجديدة" في بلاده وأكثرهم تميزاً الى جانب أوشيما وإيشيكاوا وغيرهما من الذين جددوا بجرأة ابتداء من الستينات. حصل إيمامورا على السعفة الذهبية في مهرجان "كان" السينمائي مرتين، وكانت السعفة الذهبية الأولى عام 1983 عن رائعته "رحلة ناراياما" التي عرفت أيضاً بترجمة "ملحمة ناراياما"، والسعفة الذهبية الثانية عن فيلم "ثعبان البحر" وقد نالها عام 1997 مناصفة مع الايراني عباس كيارستامي.
بعد رحيل ساموراي السينماني الكبير "أكيرا كوروساوا" الكثير من النقاد وشحوا "شوهي ايمامورا لحمل سيف السينما اليابانية الذهبى، ليصبح سيدها الاول ، فهو يعتبر من أبرز المخرجين ومن أكيرهم تميزا وشهرة عالمية.
ويعرف إيمامورا بأنه من أبرز المدافعين عن حقوق الإنسان وعن الطبقات الفقيرة والكادحة من المجتمع، حيث عادة ما تحتوي أفلامه على العديد من الإشارات والإيحاءات الساخرة والنقد اللاذع لظروف المجتمع وفضح ما به من فساد على جميع المستويات،
وكان لا يستثني من ذلك أي حكومة أو طرفاً قيادياً في المجتمع. ومن هذا المنطلق يأتي رسم الشخصيات الموجودة عادة في أفلامه، فالغالبية العظمى من شخصياته تتركز حول النساء اللواتي يعشن تحت خط الفقر ودفعتهن الظروف القاسية التي تحيط بهن الى سلوك حياة الرذيلة، وكذلك رجال وأطفال من الطبقات الدنيا في المجتمع. ويتسم تناوله لمثل تلك الشخصيات بالموضوعية والحيادية الشديدتين.
على الرغم من هذا، فإن شوهي إيمامورا أنجز تنويعاً سينمائياً تراوح بين النقد الاجتماعي والسياسي المبطّن، التي يُمكن اعتباره بمثابة نظرة إنسانية معمّقة، والسخرية الضاحكة، أحياناً. ذلك أن المواضيع التي تناولها في أفلامه، تراوحت بين التقاليد القروية وملامح المجتمع الياباني وسلوكه وتفاصيله الإنسانية المختلفة
وعن اسلوبه السينمائي يقول :" أصور أفلاما ما روائية كما الأفلام الوثائقية، انجاز فيلم وثائقي يتطلب إظهار الوقائع كما هي عليه، دون كتابتها مسبقا، عندما أخرج فيلما روائيا أقوم بالشيء المماثل تقريبا، أصور اللقطات كما تحدث حقا في الواقع، أبدأ بتحضير أماكن التصوير بشكل دقيق، أخذ بعين الأعتبار طوبوغرافية ,المواقع المختلفة التي سأصور فيها، أرسو حتى خارطة على السيناريو، تصف تنقلات الشخوص بطريقة دقيقة.
نفس الشيء عندما أشرح للممثلين ما أريده منهم، فأنا لا أحدثهم عن الجانب النفسي لشخوصهم، أفضل إعطائهم تعليمات جسدية، تقريبا جغرافية، في النهاية، ذلك يعطي لأفلامي الروائية طابعا وثائقيا."
وقد ولد إيمامورا في طوكيو عام 1926، وحين كان مراهقاً عاش صراع بلاده وفي ظلّ المآسي الإنسانية الحادّة التي أدركها في مطلع عمره، والتي صنعتها الهزيمة اليابانية في مواجهة القنبلتين الذريتين الأميركيتين اللتين وضعتا حدّاً دموياً للأحلام الإمبراطورية العسكرية اليابانية، عاين إيمامورا بؤساً وشقاءً رسم شيئاً متواضعاً من عنفهما وطغيانهما القاتل على الفرد والجماعة. وعبّر عن ذلك في أحد أفلامه في الكلام التالي: حين أعلن الامبراطور سقوطه على الراديو كان عمري 18 سنة وقلت في نفسي: هذا رائع وأخيراً تحررنا". في نهاية الحرب العالمية الثانية ترك دراسته وعاش في شارع شينجوكو المعروف "بالسوق السوداء" في طوكيو وهناك اختبر الحياة الواقعية بقوة. وظهر اهتمامه بالأدب وهو لا يزال في صدر عمره، التحق بالمعهد الفني تهرباً من تأدية الخدمة العسكرية وبعد انتهاء دراسته الفنية الأكاديمية وكان ذلك في معهد "واشيدا"، عام 1945 ودرس الأدب بها، وقام خلال الدراسة بكتابة وتمثيل العديد من المسرحيات. وبعد تخرجه، عمل مع عدد كبير من المخرجين اليابانيين العظام، حيث استفاد منهم بشكل كبير، مثل المخرج الشهير ياسوجيرو أوزو، حيث عمل معه في فيلم «الصيف المبكر» عام 1951، وفيلم «قصة طوكيو» عام 1935.
عن بداياته يقول " كنت أشاهد كثيرا من الأفلام، العديد من الافلام الامريكية استقدمت إلى اليابان، مباشرة بعد الحرب، لكنني لم أجدها ذات أهمية، ثم اكتشفت كوروسوا. عندما شاهدت " الملاك السكران " شعرت حقا برغبة في أن أكون سينمائيا. في تلك الفترة، كنت في جامعة واسيدا، حيث شكلنا أنا وبعض أصدقاء الدراسة فرقة مسرحية، في نفس الوقت كنت جد منشغلا بالسوق السوداء، التي كانت تساعدني على دفع مستحقات دراستي، بعد الجامعة واصلنا لفترة قصيرة ممارسة المسرح ثم افترقنا، بقيت وحيدا، ولم أجد ما أقوم به في ذلك الحين، بعد مشاهدة أفلام كوروسوا، شعرت برغبة في أن أكون سينمائيا، لهذا ترشحت للدخول الى استوديوهات "توهو
وشوشيكو"، لقد اخترت "توهو" انها كانت الشركة التي يعمل فيها كوروساوا، وكنت أرغب في رؤيته يعمل، وإذا أمكن أن أكون مساعده، للأسف، في تلك السنة كانت استوديوهات "تومو" في إضراب، لهذا لم يقبلوا مساعدين جدد، بالعكس "سوشيكو"، كانت توظف، كان يجب القيام بامتحان دخول.
كنا سبعة مقبولين، سئلنا مع أي مخرج نريد الاشتغال، كنت مهتما بـ"كينوشيتا "، وهو مخرج جيد، كان معروفا تقريبا بقدر كوروساوا في تلك الفترة. وفي كل الحالات، كان الاكثر شهرة في استوديوهات كينوشيتا، لكن المشكلة أن الجميع كان يريد العمل مع كينوشيتا فقمنا إذا بعملية قرعة، لكن للأسف طلعت الاخير. فقيل لي: "لم يبق أمامك إلا " أوزر" فقط "، أحد الاصدقاء واساني قائلا: " أتعلم، أوزر هو أيضا جيد "، في تلك الفترة، لم يكن له شهرة واسعة مثل كينوشيتا، لكن حالما التقيت به تفاجأت لهيبته ووقاره، كان جد صامتا، كان يحترم الشباب، هكذا بدأت أول خطواتي في السينما، في الاخير لقد كنت محظوظا."
و انتقل للعمل في و، وهما اثنان من أهمّ الاستديوهات السينمائية اليابانية وأكبرها عام 1954، حيث عمل هناك كمساعد مخرج وكاتب سيناريو قبل أن يقوم بإخراج ثلاثة أفلام عام 1958 وهي «الرغبة المسروقة» ـ وهو ينتمي لأفلام الكوميديا السوداء، حول فرقة تمثيل تعمل في المناطق سيئة السمعة والمليئة بفتيات الليل ـ و«ضوء الليل» و«رغبة لا تنتهي» وكان يعتبر واحداً من المراقبين الجيدين للمجتمع الياباني والموضوعات التي عالجها تطرقت دوماً الى العادات والتقاليد القروية في اليابان وهو انتقد بشدة الحياة السفلية في الشارع التي اختبرها وهو شاب يافع حين قرر رسم الحياة البائسة في الشارع في ذاكرته لترتسم بعد حين في أفلامه. وسلط الضوء بقوة على شرائح معينة في المجتمع الياباني وهي الشرائح المهمشة. ، ثم شق لنفسه أسلوباً خاصاً لفت أنظار النقاد في العالم ورأوا فيه موهبة فذة فتحت السينما اليابانية على سؤال الحداثة الكبير. ويقول إيمامورا " منذ سنين مضت، كنت اصادق كاتب سيناريو معروفاً اعتاد العمل على ياسوجيرو أوزو، وكنت اجلس معه في بيته الذي اعتاد أن يقضي فيه فترات اجازته. وبينما كنت اعمل في احد السيناريوهات المهمة، نهض من جانب المدفأة التي كانت موجودة في منتصف الحجرة وجاء عندي وأخذ مني السيناريو وبدأ يقرأ بصوت عال. ولقد رأيت ان مثل هذا التصرف غير لائق ولايجب القيام به. ثم قال: رباه، ألا تزال تكتب عن هؤلاء الشحاذين والساقطين من المجتمع.
في الواقع لم يرق لي تعليقه هذا، وبدأ الأمر يثير اعصابي لانني لا اعتقد ان هذا هو الاسلوب الصحيح لوصف تلك الشخصيات التي تصفها انت بالمضطهدين. وحتى على الرغم من ان بعضا من الاشياء التي تقولها تلك الشخصيات تبدو سخيفة، فإن حياتهم والتجارب التي يمرون بها هي قضايا حقيقية من واقع الحياة، وتأتي تعبيراتهم وتعليقاتهم بشكل صادق غير مفتعل. فهم بشر على اية حال على الرغم من انهم يأتون من الطبقة السفلى للمجتمع. فما يقولونه حقيقي وواقعي. واذا لم تتأثر انت كمشاهد بما يقولونه او يفعلونه في افلامي، فالامر ليس خطؤهم ولكن خطئي أنا، لأن هذا يعني ان افلامي لم تقم بعكس مشاعرهم الحقيقية بشكل دقيق"
ثم قام إيمامورا بعد ذلك بإخراج فيلم «أخي الثاني» عام 1959، الذي تدور قصته حول مأساة أربعة أيتام يعيشون في إحدى المدن اليابانية الفقيرة ويعملون في المناجم. وبعد ذلك قام بإخراج ستة أفلام تعد من أشهر وأقوى ما عرفته صناعة السينما اليابانية وهي: «الخنازير والسفن الحربية» عام 1961، والذي يدور حول مجموعة من المراهقين يحاولون كسب قوتهم عن طريق بيع الخنازير التي تقتات على القمامة والفضلات التي تركتها قوات الاحتلال الأمريكية، وفيلم «المرأة الحشرة» عام 1963، وهو من فئة أفلام الكوميديا السوداء عن فتاة ريفية تُجبر على العمل في أحد مصانع انتاج الأسلحة أثناء فترة الحرب العالمية، وبعد هزيمة اليابان تتحول الى ابنة ليل،
وفيلم «رغبة القتل» وهو فيلم يدور حول الظواهر السلبية التي يعاني منها المجتمع الياباني، مثل الاضطهاد والاغتصاب والفساد وغيرها، وفيلم «الإباحيون ـ مقدمة إلى الأنثروبولوجيا» عام 1965، وهو ينتمي أيضاً إلى أفلام الكوميديا السوداء حول شخص يعمل في صنع وإنتاج الأفلام الإباحية ويتعلق بابنة محبوبته عاطفياً، وفيلم «اختفاء إنسان» عام 1957، وفيلم المرأة ـ الحشرة" (1963) وهو الفيلم الذي أدخله بقوة الى فرنسا، و"الرغبة القاتلة" (1964)، و «الرغبة العميقة للآلهة» عام 1968.
وفي فترة السبعينيات، أخرج إيمامورا فيلم « تاريخ يابان ما بعد الحرب» 1970 ،و فيلم "موهاماتسو يعود الى موطنه" (1973)، وفيلم"في البحث عن الجنود المفقودين" (1975) وفي منتصف السبعينيات وبعد انهيار صناعة السينما ونظام الاستوديوهات في اليابان وتراجع صناعة السينما بشكل عام في البلاد، قام إيمامورا بتأسيس الأكاديمية اليابانية للفنون المرئية و تولى رئاستها كما قدم " انتقام لي "1979 .
وفي فترة الثمانينيات انجز فيلم <إيجانايكا> (1981) و« رحلة ناراياما» 1983 الذي صور من خلاله الحياة في إحدى القرى اليابانية في القرن التاسع عشر فهو يحكى قصة امرأة يابانية مسنة يفترض أن تكون قد ماتت لكنها في صحة جيدة. والتقاليد الاسطورية القديمة في مطلع القرن التاسع عشر في اليابان كانت تقضي بأن ترحل العجوز كما كل عجائز بلدتها باتجاه "الجبل المقدس"حيث تنتر موتها, لتريح عائلتها وتترك الفرصة للشباب والصغار، فرصة الغذاء في ظروف الحياة الاقتصادية الصعبة. فتقرر أن ترحل وتأمر ابنها الذي تربطها به علاقة روحية قوية بأن ينقلها الى هناك، فيحملها على كتفيه ويمضي بها نحو المجهول.وتعكس هذه اسطورة سواء كانت تقوم عل تقليد حقيقي كان يحدث بالفعل أم كانت من وحي الخيال الشعبي نطرة اليابانيين الى الموت وبالتالي نطرتهم الي الحياة . هذه النطرة التي تتعامل مع أهم حقائق العالم انسان >> الحياة – الموت << باعتبار أنك منهما يكمل اخر و يتناقض معه وأن الموت نهاية طبيعية .. وللتعبير عن هذه الرؤية البالغة القسوة والشاعرية يلجأ ايمومورا ال صياغة البناء الدرامي لفيلمه عل شكل فصول السنة وقد ابدع مصور الفيلم في التعبير عن هذا المعان بالالوان والطلال . "رحلة ناراياما" الى جانب أفلام كثيرة مؤثرة للمخرج إيمامورا تشكل صورة خاصة عن اليابان بعين مواطن حساس وجريء، وظف عبقرية الفذة في سبيل تغيير مجتمعه الى الأفضل والأرقى والسير به الى صورة انسانية عادلة. ، وفيلم "المطر الأسود" (1989) الذي ركز على العذاب الداخلي الذي ألم بضحايا القنبلة الذرية التي سقطت على هيروشيما. والفيلم يتميز بالقوة الشديدة وينتهي بعبارة قوية على لسان احد الشخصيات تندد بالحرب،. وبعد توقف عن العمل دام تسعة أعوام، عاد عام 1997 ليكتب سيناريو ويخرج فيلم « ثعبان البحر ودكتور اكاجي» وقد نال كل من هذا وفيلم « رحلة ناراياما» جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان، الأمر الذي جعله واحداً من ثلاثة مخرجين فقط في العالم نالوا هذه الجائزة مرتين. و في الجزء الخاص به في الفيلم الدولي، الذي تناول هجمات نيويورك في الحادي عشر من أيلول ,2001 المؤلّف من أحد عشر فيلماً قصيراً لأحد عشر مخرجاً من دول وجنسيات وثقافات مختلفة. ، قدّم إيمامورا، صورة حادّة وصادمة عن معنى البؤس الكبير الذي ينحدر اليه الناس جرّاء اانكساراتهم المتعددة
إيمامورا , الراحل بعد حوالي نصف قرن من ابداع السينمائي , يمتلك ذلك الفن العظيم للغموض الخصب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق