محمد عبيدو
يعتبر ساتياجيت راي واحداً من أكبر الأسماء في عالم السينما. في الكتب، في الدراسات، في الجامعات، في نوادي السينما. في كل مكان توجد فيه ثقافة سينمائية، ثمة مكانة في المقدمة لساتياجيت راي. هندي بنغالي لم يمارس الفن السابع فقط... بل مارس معظم أنواع الفنون ليتوج ذلك الجمع في أفلامه التي حققها طوال أربعة عقود، ومنها علامات أساسية في تاريخ السينما.
ولد في كالكوتا/ ولاية البنغال عام 1921 وصنع أول فيلم له بعنوان “باتر بانشالي” (أي “أغنية الطريق”) عام 1955 وحقق من خلاله شهرة عالمية إذ فاز بجائزة مهرجان كان السينمائي عام 1956 ثم تبعه بفيلمين آخرين عرفا مع الفيلم الأول بالثلاثية أو “ثلاثية آبو” وقد وصل عدد الأفلام التي أخرجها حتى وفاته عام 1992 إلى ستة وثلاثين فيلماً.
اختار ساتياجيت لنفسه، منذ البداية أن يكون هامشياً، في مواضيعه (الإنسانية والاجتماعية غالباً) وفي أسلوبه الفني (المتقشف والذي يترك مكاناً لبراعة الممثلين ولاستخدام الموسيقى)، وفي إنتاجه (غالباً ينفق أمواله على أفلامه، أو يلجأ إلى أساليب تمويلية خارج السياق السائد).
إن (راي) هو كلاسيكي وريث المفهوم الهندي التقليدي للفن، إذ يكون فيه الجمال غير منفصل عن القيم الأخرى كالحقيقة والخير وعلى الرغم من أن راي كان عميقاً في نقله للثقافة الغربية الواسعة غير أن هنديته هي التي تعطيه قيمته. إن ربع قرن من عمله الإخراجي يعد تاريخاً للتغيير الاجتماعي في الهند على مدى أكثر من قرن. ففي فيلم “لاعبو الشطرنج” يجسد الانهيار الأخير لمجد المغول وفي فيلم “حجرة الموسيقى” إشارة إلى انهيار النظام الإقطاعي ويجسد في “ثلاثية آبو” حركة البراهمة المتعبة بين الهند التقليدية والهند الحديثة ويشير إلى يقظة النخبة الهندية للأفكار المتطورة في فيلمي “الإلهة” و”شارولاتا” وبداية تحرر المرأة في فيلم “المدينة الكبيرة” ومعاناة العاطلين عن العمل بعد عقود من الاستقلال في فيلم “الخصم” والموت الحتمي للضمير في مجتمع فاسد في فيلم الوسيط.
إن أعمال (راي) تقتفي ما هو جوهري في التطور الاجتماعي للطبقة الوسطى في الهند الحديثة.
كان لدى عائلة راي ولع بأدب الأطفال وكانت قصائد والده محفوظة في ذاكرة الأطفال البنغاليين ونشر مجلة للأطفال سميت “سانديش” وأصبحت مجلة شعبية ذات نطاق واسع. في عام 1923 مات والده وكان عمر ساتيا جيت سنتين وربته أمه في بيت أخيها وسط عائلة كبيرة وكانت العائلة قريبة من الطاغوريين وبعد تخرجه في الكلية الرئاسية في كالكوتا ذهب راي إلى إحدى الجامعات في “شانيشنيدكيتان” لدراسة الرسم وكانت مركزا لليقظة الهندية في الأدب والفنون في العالم وبعد تخرجه عمل مصمماً للإعلانات التجارية وتصميم أغلفة الكتب ومن بين الكتب التي زينها نسخة مختصرة من رواية “باتر بانشالي” لمؤلفها بيبهوتي بهوشان بانديوبادهايا.
وظهر في هذه الأثناء اهتمامه بالسينما وأسس عام 1947 جمعية كالكوتا السينمائية وكتب مقالات عن مشكلات السينما الهندية وكانت الجمعية هي الوسيلة الوحيدة لمتابعة عروض السينما العالمية ومن بين الذين التقاهم في الجمعية رينوار وبودوفكين وجون هيوستون وخلال عامي 48 ـ 49 جاء للتعرف على جان رينوار الذي كان في كالكوتا للتحضير لفيلم “النهر” وقد قضى راي وقتاً طويلاً مع رينوار وكتب عنه لمجلة أكسفورد السينمائية وتم إرساله إلى لندن عام 1950 لتلقي المزيد من التدريب وبقي هناك أربعة أشهر شاهد ما يقارب من مئة فيلم من بينها “سارقو الدراجة” إلى جانب أفلام أخرى من الواقعية الإيطالية الجديدة التي تركت أثراً كبيراً فيه وخلال عودته في السفينة إلى الهند كتب نص فيلم “باتر بانشالي”.
للمرة الأولى يظهر فيلم قويّ البناء ومتصّل حقاً بالواقع الهندي اليومي، راوياً قصة بسيطة في أسلوب رزين، مع ممثلين جدّيين ومقتصدي الأداء والحركة، وبلا أغان ولا رقصات بالتأكيد، بل فيلم ذو انفعال قوي وشاعرية وحرارة إنسانية. وعرض الفيلم في مهرجان كانّ عام 1956 حيث نال جائزته الأولى، واختارته نوادي السينما في العالم أجمع قبل أن يمسي شريطاً كلاسيكياً. كان نوعاً من الثورة الجمالية. والمفارقة ان فيلم ساتياجيت راي هذا عرف نجاحاً شعبياً في كالكوتا مما سمح لمخرجه بمواصلة مهنة سينمائية طويلة وباهرة، متبعاً كل فيلم له بآخر، وجاعلاً منه أحد أكبر السينمائيين في العالم.
إن نقل الأدب إلى السينما كان من صلب عمل راي ففي بداياته تعامل راي حصراً مع الأعمال الكلاسيكية بمهارة صاعداً بها نحو مستوى إبداعي راق كما في “ثلاثية آبو” و”شارولاتا” وهي قصة لطاغور. و”صالون الموسيقى” (1957) فيلمه الثالث،. “صالون الموسيقى” فيلم رائع ينحو منحى “الفهد” لفيسكونتي، بل منحى سينما فيسكونتي كلها، في تصوير انهيار طبقة اجتماعية بأسرها لمصلحة جديد قادم لا نملك رادّاً عنه. هذا الانهيار لم يهتم راي بتصويره اجتماعياً أو سياسياً كما هي الحال لدى فيسكونتي، بل إنسانياً وسيكولوجياً... ومن خلال حكاية راجا، صار على شفير الانهيار الطبقي، لكن ذلك لم يبعده عن الموسيقى التي يعشقها، بل يحفزه الى اقامة حفل موسيقي كبير، فيه مسك الختام لحياته المرفهة، في صالون بيته.وفي أفلامه الأخيرة كان يلتقط أعمالا أدبية لكتاب شباب وقصصاً طويلة مثل “أيام وليال في الغابة” و”الخصم” و”الشركة” و”الوسيط” ويخلق مستويات لم يحلم بها مؤلفوها.
ويعود إلى الجزء الثالث من “ثلاثية آبو” وعنوانه “عالم آبو” (1959) وفيه يؤلف البطل قصة ويتزوج، لكن زوجته الحبيبة تموت أثناء الولادة، وفي اللحظة التي يعلم فيها آبو بوفاة زوجته، يكون رد فعله هو صفعة على وجه الرسول، وهي واحدة من أكثر اللقطات عاطفية عنفا في كل أفلام راي، ويغرق آبو في يأس يشبه الانتحار، ويلقي بأوراق روايته في مهب الريح، إلى أن يذكره اجتماعه بابنه بطفولته هو، ويجبره على الاعتراف بأن دورة الحياة يجب أن تستمر.
بعد فيلمه “البيت والعالم”، الذي عرض في مهرجان كان عام 1984، كان ساتياجيت راي يمرّ بفترة نقاهة، بعد إصابته بذبحتين صدريتين، وخضوعه لعملية جراحية في مدينة هيوستن بولاية تكساس الأميركية. ورغم أن الأطباء نصحوه، بشكل صارم، بتجنب العمل في السينما لفترة من الوقت، إلا أن نشاط راي لم يتوقف خلال هذه الفترة، فقد واصل الكتابة للأطفال، والمشاركة في تحرير مجلة الأطفال (سانديش)، وترجم بنفسه إلى الإنجليزية بعض قصصه التي نشرت في المجلة وفي مجلات أخرى، وجمعها في كتاب بعنوان “حملة وحيد القرن.. وحكايات فانتازية أخرى من الهند” نشرها في عام 1987 عن دار نشر (دوتون).
انشغل راي أيضاً بكتابة السيناريوهات، وتأليف الموسيقى لعدد من الأفلام التلفزيونية، التي أخرجها ابنه (سانديب). وفي عام 1987 أنجز فيلماً وثائقياً عن حياة أبيه، الشاعر العظيم والكاتب والفنان التشكيلي (سوكومار راي)، والذي رحل عن الدنيا وراي لم يتجاوز العامين والنصف من عمره.
ثم أنجز فيلمه الروائي الطويل السادس والعشرين “عدو الشعب” عن نص لعملاق المسرح النرويجي هنريك إبسن. وتعرض لمتاعب صحية جديدة في قلبه، أودت بحياته عام 1992، بعد إنجازه البطولي لفيلمين روائيين آخرين: “أغصان الشجرة” 1990، و”الغريب” 1991 الذي حققه وهو يحتضر تقريباً.
ولد في كالكوتا/ ولاية البنغال عام 1921 وصنع أول فيلم له بعنوان “باتر بانشالي” (أي “أغنية الطريق”) عام 1955 وحقق من خلاله شهرة عالمية إذ فاز بجائزة مهرجان كان السينمائي عام 1956 ثم تبعه بفيلمين آخرين عرفا مع الفيلم الأول بالثلاثية أو “ثلاثية آبو” وقد وصل عدد الأفلام التي أخرجها حتى وفاته عام 1992 إلى ستة وثلاثين فيلماً.
اختار ساتياجيت لنفسه، منذ البداية أن يكون هامشياً، في مواضيعه (الإنسانية والاجتماعية غالباً) وفي أسلوبه الفني (المتقشف والذي يترك مكاناً لبراعة الممثلين ولاستخدام الموسيقى)، وفي إنتاجه (غالباً ينفق أمواله على أفلامه، أو يلجأ إلى أساليب تمويلية خارج السياق السائد).
إن أعمال (راي) تقتفي ما هو جوهري في التطور الاجتماعي للطبقة الوسطى في الهند الحديثة.
كان لدى عائلة راي ولع بأدب الأطفال وكانت قصائد والده محفوظة في ذاكرة الأطفال البنغاليين ونشر مجلة للأطفال سميت “سانديش” وأصبحت مجلة شعبية ذات نطاق واسع. في عام 1923 مات والده وكان عمر ساتيا جيت سنتين وربته أمه في بيت أخيها وسط عائلة كبيرة وكانت العائلة قريبة من الطاغوريين وبعد تخرجه في الكلية الرئاسية في كالكوتا ذهب راي إلى إحدى الجامعات في “شانيشنيدكيتان” لدراسة الرسم وكانت مركزا لليقظة الهندية في الأدب والفنون في العالم وبعد تخرجه عمل مصمماً للإعلانات التجارية وتصميم أغلفة الكتب ومن بين الكتب التي زينها نسخة مختصرة من رواية “باتر بانشالي” لمؤلفها بيبهوتي بهوشان بانديوبادهايا.
وظهر في هذه الأثناء اهتمامه بالسينما وأسس عام 1947 جمعية كالكوتا السينمائية وكتب مقالات عن مشكلات السينما الهندية وكانت الجمعية هي الوسيلة الوحيدة لمتابعة عروض السينما العالمية ومن بين الذين التقاهم في الجمعية رينوار وبودوفكين وجون هيوستون وخلال عامي 48 ـ 49 جاء للتعرف على جان رينوار الذي كان في كالكوتا للتحضير لفيلم “النهر” وقد قضى راي وقتاً طويلاً مع رينوار وكتب عنه لمجلة أكسفورد السينمائية وتم إرساله إلى لندن عام 1950 لتلقي المزيد من التدريب وبقي هناك أربعة أشهر شاهد ما يقارب من مئة فيلم من بينها “سارقو الدراجة” إلى جانب أفلام أخرى من الواقعية الإيطالية الجديدة التي تركت أثراً كبيراً فيه وخلال عودته في السفينة إلى الهند كتب نص فيلم “باتر بانشالي”.
للمرة الأولى يظهر فيلم قويّ البناء ومتصّل حقاً بالواقع الهندي اليومي، راوياً قصة بسيطة في أسلوب رزين، مع ممثلين جدّيين ومقتصدي الأداء والحركة، وبلا أغان ولا رقصات بالتأكيد، بل فيلم ذو انفعال قوي وشاعرية وحرارة إنسانية. وعرض الفيلم في مهرجان كانّ عام 1956 حيث نال جائزته الأولى، واختارته نوادي السينما في العالم أجمع قبل أن يمسي شريطاً كلاسيكياً. كان نوعاً من الثورة الجمالية. والمفارقة ان فيلم ساتياجيت راي هذا عرف نجاحاً شعبياً في كالكوتا مما سمح لمخرجه بمواصلة مهنة سينمائية طويلة وباهرة، متبعاً كل فيلم له بآخر، وجاعلاً منه أحد أكبر السينمائيين في العالم.
إن نقل الأدب إلى السينما كان من صلب عمل راي ففي بداياته تعامل راي حصراً مع الأعمال الكلاسيكية بمهارة صاعداً بها نحو مستوى إبداعي راق كما في “ثلاثية آبو” و”شارولاتا” وهي قصة لطاغور. و”صالون الموسيقى” (1957) فيلمه الثالث،. “صالون الموسيقى” فيلم رائع ينحو منحى “الفهد” لفيسكونتي، بل منحى سينما فيسكونتي كلها، في تصوير انهيار طبقة اجتماعية بأسرها لمصلحة جديد قادم لا نملك رادّاً عنه. هذا الانهيار لم يهتم راي بتصويره اجتماعياً أو سياسياً كما هي الحال لدى فيسكونتي، بل إنسانياً وسيكولوجياً... ومن خلال حكاية راجا، صار على شفير الانهيار الطبقي، لكن ذلك لم يبعده عن الموسيقى التي يعشقها، بل يحفزه الى اقامة حفل موسيقي كبير، فيه مسك الختام لحياته المرفهة، في صالون بيته.وفي أفلامه الأخيرة كان يلتقط أعمالا أدبية لكتاب شباب وقصصاً طويلة مثل “أيام وليال في الغابة” و”الخصم” و”الشركة” و”الوسيط” ويخلق مستويات لم يحلم بها مؤلفوها.
ويعود إلى الجزء الثالث من “ثلاثية آبو” وعنوانه “عالم آبو” (1959) وفيه يؤلف البطل قصة ويتزوج، لكن زوجته الحبيبة تموت أثناء الولادة، وفي اللحظة التي يعلم فيها آبو بوفاة زوجته، يكون رد فعله هو صفعة على وجه الرسول، وهي واحدة من أكثر اللقطات عاطفية عنفا في كل أفلام راي، ويغرق آبو في يأس يشبه الانتحار، ويلقي بأوراق روايته في مهب الريح، إلى أن يذكره اجتماعه بابنه بطفولته هو، ويجبره على الاعتراف بأن دورة الحياة يجب أن تستمر.
بعد فيلمه “البيت والعالم”، الذي عرض في مهرجان كان عام 1984، كان ساتياجيت راي يمرّ بفترة نقاهة، بعد إصابته بذبحتين صدريتين، وخضوعه لعملية جراحية في مدينة هيوستن بولاية تكساس الأميركية. ورغم أن الأطباء نصحوه، بشكل صارم، بتجنب العمل في السينما لفترة من الوقت، إلا أن نشاط راي لم يتوقف خلال هذه الفترة، فقد واصل الكتابة للأطفال، والمشاركة في تحرير مجلة الأطفال (سانديش)، وترجم بنفسه إلى الإنجليزية بعض قصصه التي نشرت في المجلة وفي مجلات أخرى، وجمعها في كتاب بعنوان “حملة وحيد القرن.. وحكايات فانتازية أخرى من الهند” نشرها في عام 1987 عن دار نشر (دوتون).
انشغل راي أيضاً بكتابة السيناريوهات، وتأليف الموسيقى لعدد من الأفلام التلفزيونية، التي أخرجها ابنه (سانديب). وفي عام 1987 أنجز فيلماً وثائقياً عن حياة أبيه، الشاعر العظيم والكاتب والفنان التشكيلي (سوكومار راي)، والذي رحل عن الدنيا وراي لم يتجاوز العامين والنصف من عمره.
ثم أنجز فيلمه الروائي الطويل السادس والعشرين “عدو الشعب” عن نص لعملاق المسرح النرويجي هنريك إبسن. وتعرض لمتاعب صحية جديدة في قلبه، أودت بحياته عام 1992، بعد إنجازه البطولي لفيلمين روائيين آخرين: “أغصان الشجرة” 1990، و”الغريب” 1991 الذي حققه وهو يحتضر تقريباً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق