محمد عبيدو
واحداً تلو الآخر يذهب الكبار تاركين الساحة للصغار يمرحون فيها, وقد تبدل الزمن وتغيرت الأحوال فصار "اللعب مع الصغار" هو السائد. اختزل مسار الممثل المصري محمود مرسي الأوضاع في مصر سياسياً واجتماعياً وفنياً, فالرجل الذي عاش عصر "العمالقة" بدا مكتئباً في سنوات الأخيرة وهو يرى السينما وقد ابتلعها "المهرجون" وسيطر عليها التلفزيون مفسحاً معظم أوقاته لـ "الفن الخفيف".
محمود مرسي اخر سلالة العمالقة وصاحب المدرسة الخاصة في الاداء الذي رحل عن عمر يناهز 81 عاما بعد صراع طويل مع المرض وبناء على وصيته طلب دفنه بالاسكندرية بمقابر اسرته وألايذاع الخبر الا بعد الدفن .. وترك تراثاً سينمائياً ينتمي الى الزمن الجميل.
قليلون جدا هؤلاء الذين يمكنك أن تمنحهم درجة الاستاذية في التمثيل وأنت مطمئن القلب،محمود مرسي هو واحد منهم بلا شك، بل انه ينافس على صدارة تلك القائمة الذهبية التي تضم اسماء في حجم ومكانة محمود المليجي وزكي رستم وعبدالوارث عسر وحسين رياض ويحيى شاهين الى آخر تلك الأسماء الكبيرة، التي اوتيت موهبة استثنائية في فن التمثيل.
وفي حالة محمود مرسي فإنك لا يمكنك ان تتصوره في مهنة أخرى غير التمثيل، حضوره ونظراته وبنيانه والكاريزما التي كان يتمتع بها على الشاشة، بالاضافة الى تلك الموهبة في التمثيل تمنحه بلا تردد درجة ممثل بامتياز،
محمود مرسي قدم باقتدار عديدا من الشخصيات المتناقضة على الشاشة الكبيرة والصغيرة.. سجله السينمائي يضم خمسة وعشرين فيلما.. أولها لا أنا الهارب اخراج نيازي مصطفى عام 1962, وآخرها (حد السيف) اخراج عاطف سالم عام 1986 من بينها فيلم (شمس الضباع) للمخرج التونسي رضا الباهي 1977. ان أداء مرسي المرهف بالغ الخصوصية أثر تأثيرات ايجابية في النقد السينمائي للممثل والذي كان يأتي من قبل في نهاية اهتمامات الناقد.. فقد دفع مرسي في أدائه للشخصيات المركبة النقاد إلى تأمل أسلوبه وتصنيفه وابراز خصائصه يقول عنه سمير فريد انه يؤدي بفهم داخلي للشخصية أداء مثقفا واعيا, قال عنه الراحل حسن فؤاد لم يستطع ممثل واحد ان يقدم لنا شخصية تجري في عروقها دماء الحياة إلا محمود مرسي, قال الناقد عبد الفتاح البارودي عن دور مرسي في (السمان والخريف) 1967 انه تحمل مسؤولية دور يمثل تاريخ جيل عانى متناقضات ضخمة صور الضياع بوعي, ومثل المتناقضات بدون افتعال , وكتب علي أبوشادي عن دوره في فيلم زوجتي والكلب رجل يرهن ماضيه, ويؤرقه حاضره, عبر عن عذاباته في بساطة أخاذة وعبقرية مذهلة عن دوره في (أغنية على الجمر) , كتب سامي السلاموني انه بدا كأنما يحوط الكل بذراعيه ويحتضنهم, ووضع خبرته في خدمة زملائه الشبان وفي خدمة الفيلم ومن اهم الدراسات النقدية كتاب عنه بعنوان (محمود مرسي عصفور الجنة .. والنار) . للناقد كمال رمزي ويضم الكتاب جزأين أحدهما (حياتي كما يرويها محمود مرسي) وثانيهما دراسة نقدية بعنوان (محمود مرسي ـ أسلوب) في الجزء الأول يحدثنا مرسي عن حياته, مولده بالاسكندرية في 7 حزيران 1923, تعلمه في مدرسة ايطالية في سنوات الفاشية وتعرض لاحتقار المدرسة, بمدرسيها وتلاميذها له كمصري, هوايته للتمثيل بالمدرسة الثانوية, وبكلية الآداب وقيام جورج أبيض بتدريب فريق الكلية لكنه لم يكن يريد ان يكون ممثلا ظل حلم الاخراج يراوده, حققه عام 1951 باع بيته الصغير الذي ورثه وسافر إلى فرنسا ليدرس الاخراج السينمائي في معهد (الايديك) بعد انتهاء الدراسة بقي في باريس وعمل بالاذاعة الفرنسية, ولكنه خلال 1954 ــ 1955 عربدت روح الكراهية ضد مصر وعبد الناصر, وانتهت بطرده فذهب إلى لندن حيث عمل لفترة بالاذاعة البريطانية انتهت بقرار العودة مع العدوان الثلاثي على مصر من اجل الالتحاق بالمقاومة الشعبية التي اندلعت في مدن القناة ضد القوات الفرنسية والانكليزية. ثم عمل بالإذاعة المصرية كمقدم برامج ثم انتقل للبرنامج الثقافي فقام بإخراج العديد من المسرحيات العالمية، لذلك فحين انتقل الى حقل الدراما كان يستند الى خبرة أكاديمية وعملية طويلة عند انشاء التلفزيون 1960 ذهب في بعثة مع حسين كمال إلى روما لدراسة الاخراج التلفزيوني. دب الخلاف بينه وبين عبد القادر حاتم وزير الاعلام , وظن ان الفرج قد جاءه أخيرا ليتحقق حلمه في الاخراج السينمائي حينما استدعاه المنتج رمسيس نجيب تبين له انه دعي للتمثيل لا الإخراج, وهكذا كان التمثيل قدره! كان نيازي مصطفى أول من منحه دورا في فيلم (أنا الهارب) أما بدايته الجادة فقد كانت مع كمال الشيخ الذي أسند إليه دور البطولة في (الليلة الأخيرة أمام فاتن حمامة) ولم يكن غريبا ان تدور افلام محمود مرسي المهمة ومسلسلاته التلفزيونية المتميزة حول القلق ,الذي يتراوح بين التعبيرية الصاخبة التي سادت علم فيلم "زوجتي والكلب " 1971 لسعيد مرزوق , حيث تستبد الهواجس والشكوك بالزوج الغيور في وحدته , في الفنار القابع وسط البحر الهائج المترامي الاطراف .. ففي جو العزلة، والحرمان ـ الذي يعيشه «الريس مرسي » في الفنار، لا يستطيع ان يوقف اندفاع خيالات خيانة زوجته الجميلة له.. ويعبرمحمود مرسي بعيونه الزائغة، وشفتيه المرتجفتين عن طوفان الصور الذي يندلع داخل ذهنه.. ويجسد محمود مرسي عن أثر ألم ما، يحسه في قلبه، ويتجلى واضحا في اختلاج عضلات الوجه.. تعبير الانهاك الروحي. او الميلودرامية اللاذعة في فيلم "حد السيف " 1986 لعاطف سالم
لكنه القلق الذي يكاد يكون ترجمة امينة صادقة لرؤية الروائي الكبير نجيب محفوظ في اثنتين من اهم رواياته واخرجهما حسام الدين مصطفى للسينما : " السمان والخريف " 1967 و " الشحات " 1973 , وفي الفيلمين , وان اختلفت التفاصيل , يعيش البطل الازمة نفسها عندما يشعر بأنه يملك القدرة على العمل السياسي , لكن الواقع يضطره الى ان يعيش منعزلا في وحدة قاتلة
وفي تنويعة «عطيلية» أخرى، يقدم محمود مرسي دورا هائلا في «ليل وقضبان» لأشرف فهمي 1973، وهو هنا «ملك الغابة» بحق، أو على الأقل، من أشرس كائناتها: مأمور سجن لا تعرف الرحمة الى قلبه سبيلا.. وها هو «الملك» يرى بعينيه، من خلال فتحات خشب النافذة زوجته، في أحضان أحد مساجينه.. وتتجلى ثقافة «الأستاذ» وعلمه وموهبته، عندما يسيطر تماما على سبل الانفعالات الجارف الذي من الممكن ان يكتسح أي ممثل آخر ويبقى دور «عتريس» الذي اداه في فيلم «شيء من الخوف» هو الأشهر في تاريخه. الفيلم المأخوذ عن رواية أدبية لثروت اباظة كتب لها السيناريو صبري عزت، وتولى الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي صياغة حوار الفيلم واشعاره التي لحنها باقتدار بليغ حمدي وغنتها بطلة الفيلم شادية، وشاركها البطولة عدد من ألمح نجوم السينما يومها: يحيى شاهين، سميرة محسن ومحمد توفيق وصلاح نظمي والوجه الجديد محمود ياسين وكان عرضه الأول في 3 شباط عام 1969. ظل الفيلم واحداً من أبرز علامات السينما العربية, وحين تعطل عرض الفيلم عندما صور بعضهم للرئيس الراحل جمال عبد الناصر أن مرسي جسد شخصيته فيه كديكتاتور أصر عبد الناصر على رؤية الفيلم وأمر بعرضه بعدما أشاد بدور "عتريس" الذي لعبه مرسي, لكن الاخير عاد فأغضب الناصريين عندما قدم عام 1973 فيلم "أغنية على الممر" الذي شرّح أسباب نكسة 1967. بعد سنوات أغضب مرسي الساداتيين على فيلمه "حد السيف" الذي رصد التحولات الاجتماعية التي أفرزتها سياسات السادات وخصوصاً الانفتاح الاقتصادي. وفي مسلسله التلفزيوني الشهير "العائلة", قبل سنوات, وجد مرسي نفسه في مواجهة انتقادات عنيفة من الإسلاميين كادت تحدث أزمة لولا تدارك المسؤولين الذين أصروا على إضافة مشهد إلى إحدى الحلقات لتخفيف وطأة تلك الانتقادات.
ان محمود مرسي ، بتفهم كامل لأبعاد الشخصية التي يؤديها، اجتماعيا ونفسيا وخلقيا وجسمانيا، يتدرج في الانفعالات، متحولا بليونة من شعور لآخر، وفق منطق سليم وصحيح، ومن خلال لمسات أسلوبه الخاص
يتحدث محمود مرسي عن أهم المخرجين الذين عمل معهم.. كمال الشيخ يبحث عن الكمال بكل التفاصيل, بركات تلف أفلامه غلالة شاعرية, حسام الدين مصطفى خفة الغزال الشارد لانطلاقه وسرعة حركته.. حسين كمال يملك فهما عميقا للأداء التمثيلي, مع الجيل الجديد وقتئذ, قدم مع أشرف فهمي أربعة أفلام يرى ان (ليل وقضبان) أفضل أعماله كمخرج وأدواره كممثل. ويتحدث عن زملائه في المشوار الفني, فريد شوقي بروحه الحانية وسلوكه اللطيف.. فاتن حمامة .. التي أعطته درسا تكريميا.. الدرس في جديتها بالحضور للاستوديو قبل الموعد بساعة.. والتكريم حينما صفقت له بعد أن أدى دوره أمامها, وتبعها الجميع بالاستوديو, لقد كانت المرة الأولى والأخيرة التي أحظى بها بالتصفيق داخل الاستوديو! سعاد حسني.. موهبتها طبيعية عفوية تتصرف أمام الكاميرا بشفافية مذهلة.. يثني على نور الشريف ويتابع مسيرته التي رحلت إلى مستويات رفيعة في مسلسل (لن أعيش في جلباب أبي) .. نادية لطفي توافق بينهما أضاف الكثير لكل منهما, وهي انسانة تتمتع بالشهامة وخفة الظل, أمينة رزق تنتقل بسلاسة من مدرسة في الأداء إلى أخرى. يعترف محمود مرسي في حديثه عن الفارق بينه وبين يحيى شاهين في أداء دور أحمد عبد الجواد: بدون تواضع خسرت هذه الجولة أمام شاهين حتى أنني أحس بالندم أحيانا لأني قمت بهذا الدور بعد يحيى شاهين حتى ليبدو ان نجيب محفوظ رسم هذه الشخصية ليتواءم معها فناننا الكبير.
محمود مرسي في السينما والتلفزيون.. استطاع بقدراته وثقافته الواسعة ان يجسد أدوار الوداعة بذات الدرجة من الاقتدار الذي يعبر عن أقصى درجات الشراسة وان يصل بمستوى التمثيل العربي إلى قمة من قمم الابداع الخلاق. كما في دوري الشقيقتين المختلفتين المتواجهتين في مسلسل (عصفور النار) أو الشخصيتين المتشابهتين مع تباين في العلاقات في فيلم (شيء من الخوف) عتريس الجد وعتريس الحفيد. مسحتين في أسلوب محمود مرسي: (السطو العقلي) حيث يمكنه (التعبير عن موقف مستتر دون الاعلان عنه حيث يملك امكانية هائلة للايحاء بما يضمره) والأخذ والعطاء, حيث يحقق انجازات كبيرة مع فنانين زملاء ليس ثمة تنافس بل أخذ وعطاء بني على التفاهم العميق.
في حقل الدراما التلفزيونية اخرج عددأ من المسلسلات والأعمال الدرامية ومنها مسلسل «القط» عن قصة لاحسان عبدالقدوس و«زوجة وسكرتيرة» و«أم أولادي» وسهرة «الحب الكبير» التي تدور حول ضرورة حب الوطن والولاء له.
بعدها انتقل إلى التمثيل فقدم مسلسل «عصفور النار» وأبو العلا البشري، لمحمد فاضل، زينب والعرش عن رواية فتحي غانم وبنات أفكاري، ليحيي العلمي، العائلة لاسماعيل عبد الحافظ، ومن أعماله الدرامية التلفزيونية المتميزة الرجل والحصان وسفر الاحلام،- وقدم مع اسامة أنور عكاشة ويحي الفخراني المسلسل الكوميدي «لما الثعلب فات»، ثم أبناء الصمت، وأخيراً مسلسل وهج الصيف الذي رحل قبل أن يتمه.
وقدم آخر أعماله في الاذاعة قبل 3 أسابيع من وفاته حيث قدم شخصية الدكتور طه حسين. وقام بترجمة العديد من الأعمال الروائية العالمية وقدمها للمكتبة الثقافية، وكان يمارس العديد من الهوايات الثقافية ومعروف عنه إمتلاكه لمكتبة ضخمة لتراث الموسيقى ومعروف عنه أيضا شغفه بالدراسات السياسية، وكان ينظم أحيانا ندوات ثقافية وسياسية في مراكز متخصصة في مدينة الاسكندرية مسقط رأسه .وقد حصل محمود مرسي على العديد من الجوائز من بينها جائزة الدولة التقديرية عام 2000 تتويجا لمشواره الفني الطويل . كماحصل على جائزة أحسن ممثل عن دوره في «شيء من الخوف» والجائزة الأولى عن دوره في «الليلة الأخيرة» ، ويقوم مهرجان دمشق السينمائي بتكريمه بتظاهرة خاصة لأعماله بدورة سابقة.
واحداً تلو الآخر يذهب الكبار تاركين الساحة للصغار يمرحون فيها, وقد تبدل الزمن وتغيرت الأحوال فصار "اللعب مع الصغار" هو السائد. اختزل مسار الممثل المصري محمود مرسي الأوضاع في مصر سياسياً واجتماعياً وفنياً, فالرجل الذي عاش عصر "العمالقة" بدا مكتئباً في سنوات الأخيرة وهو يرى السينما وقد ابتلعها "المهرجون" وسيطر عليها التلفزيون مفسحاً معظم أوقاته لـ "الفن الخفيف".
محمود مرسي اخر سلالة العمالقة وصاحب المدرسة الخاصة في الاداء الذي رحل عن عمر يناهز 81 عاما بعد صراع طويل مع المرض وبناء على وصيته طلب دفنه بالاسكندرية بمقابر اسرته وألايذاع الخبر الا بعد الدفن .. وترك تراثاً سينمائياً ينتمي الى الزمن الجميل.
قليلون جدا هؤلاء الذين يمكنك أن تمنحهم درجة الاستاذية في التمثيل وأنت مطمئن القلب،محمود مرسي هو واحد منهم بلا شك، بل انه ينافس على صدارة تلك القائمة الذهبية التي تضم اسماء في حجم ومكانة محمود المليجي وزكي رستم وعبدالوارث عسر وحسين رياض ويحيى شاهين الى آخر تلك الأسماء الكبيرة، التي اوتيت موهبة استثنائية في فن التمثيل.
وفي حالة محمود مرسي فإنك لا يمكنك ان تتصوره في مهنة أخرى غير التمثيل، حضوره ونظراته وبنيانه والكاريزما التي كان يتمتع بها على الشاشة، بالاضافة الى تلك الموهبة في التمثيل تمنحه بلا تردد درجة ممثل بامتياز،
محمود مرسي قدم باقتدار عديدا من الشخصيات المتناقضة على الشاشة الكبيرة والصغيرة.. سجله السينمائي يضم خمسة وعشرين فيلما.. أولها لا أنا الهارب اخراج نيازي مصطفى عام 1962, وآخرها (حد السيف) اخراج عاطف سالم عام 1986 من بينها فيلم (شمس الضباع) للمخرج التونسي رضا الباهي 1977. ان أداء مرسي المرهف بالغ الخصوصية أثر تأثيرات ايجابية في النقد السينمائي للممثل والذي كان يأتي من قبل في نهاية اهتمامات الناقد.. فقد دفع مرسي في أدائه للشخصيات المركبة النقاد إلى تأمل أسلوبه وتصنيفه وابراز خصائصه يقول عنه سمير فريد انه يؤدي بفهم داخلي للشخصية أداء مثقفا واعيا, قال عنه الراحل حسن فؤاد لم يستطع ممثل واحد ان يقدم لنا شخصية تجري في عروقها دماء الحياة إلا محمود مرسي, قال الناقد عبد الفتاح البارودي عن دور مرسي في (السمان والخريف) 1967 انه تحمل مسؤولية دور يمثل تاريخ جيل عانى متناقضات ضخمة صور الضياع بوعي, ومثل المتناقضات بدون افتعال , وكتب علي أبوشادي عن دوره في فيلم زوجتي والكلب رجل يرهن ماضيه, ويؤرقه حاضره, عبر عن عذاباته في بساطة أخاذة وعبقرية مذهلة عن دوره في (أغنية على الجمر) , كتب سامي السلاموني انه بدا كأنما يحوط الكل بذراعيه ويحتضنهم, ووضع خبرته في خدمة زملائه الشبان وفي خدمة الفيلم ومن اهم الدراسات النقدية كتاب عنه بعنوان (محمود مرسي عصفور الجنة .. والنار) . للناقد كمال رمزي ويضم الكتاب جزأين أحدهما (حياتي كما يرويها محمود مرسي) وثانيهما دراسة نقدية بعنوان (محمود مرسي ـ أسلوب) في الجزء الأول يحدثنا مرسي عن حياته, مولده بالاسكندرية في 7 حزيران 1923, تعلمه في مدرسة ايطالية في سنوات الفاشية وتعرض لاحتقار المدرسة, بمدرسيها وتلاميذها له كمصري, هوايته للتمثيل بالمدرسة الثانوية, وبكلية الآداب وقيام جورج أبيض بتدريب فريق الكلية لكنه لم يكن يريد ان يكون ممثلا ظل حلم الاخراج يراوده, حققه عام 1951 باع بيته الصغير الذي ورثه وسافر إلى فرنسا ليدرس الاخراج السينمائي في معهد (الايديك) بعد انتهاء الدراسة بقي في باريس وعمل بالاذاعة الفرنسية, ولكنه خلال 1954 ــ 1955 عربدت روح الكراهية ضد مصر وعبد الناصر, وانتهت بطرده فذهب إلى لندن حيث عمل لفترة بالاذاعة البريطانية انتهت بقرار العودة مع العدوان الثلاثي على مصر من اجل الالتحاق بالمقاومة الشعبية التي اندلعت في مدن القناة ضد القوات الفرنسية والانكليزية. ثم عمل بالإذاعة المصرية كمقدم برامج ثم انتقل للبرنامج الثقافي فقام بإخراج العديد من المسرحيات العالمية، لذلك فحين انتقل الى حقل الدراما كان يستند الى خبرة أكاديمية وعملية طويلة عند انشاء التلفزيون 1960 ذهب في بعثة مع حسين كمال إلى روما لدراسة الاخراج التلفزيوني. دب الخلاف بينه وبين عبد القادر حاتم وزير الاعلام , وظن ان الفرج قد جاءه أخيرا ليتحقق حلمه في الاخراج السينمائي حينما استدعاه المنتج رمسيس نجيب تبين له انه دعي للتمثيل لا الإخراج, وهكذا كان التمثيل قدره! كان نيازي مصطفى أول من منحه دورا في فيلم (أنا الهارب) أما بدايته الجادة فقد كانت مع كمال الشيخ الذي أسند إليه دور البطولة في (الليلة الأخيرة أمام فاتن حمامة) ولم يكن غريبا ان تدور افلام محمود مرسي المهمة ومسلسلاته التلفزيونية المتميزة حول القلق ,الذي يتراوح بين التعبيرية الصاخبة التي سادت علم فيلم "زوجتي والكلب " 1971 لسعيد مرزوق , حيث تستبد الهواجس والشكوك بالزوج الغيور في وحدته , في الفنار القابع وسط البحر الهائج المترامي الاطراف .. ففي جو العزلة، والحرمان ـ الذي يعيشه «الريس مرسي » في الفنار، لا يستطيع ان يوقف اندفاع خيالات خيانة زوجته الجميلة له.. ويعبرمحمود مرسي بعيونه الزائغة، وشفتيه المرتجفتين عن طوفان الصور الذي يندلع داخل ذهنه.. ويجسد محمود مرسي عن أثر ألم ما، يحسه في قلبه، ويتجلى واضحا في اختلاج عضلات الوجه.. تعبير الانهاك الروحي. او الميلودرامية اللاذعة في فيلم "حد السيف " 1986 لعاطف سالم
لكنه القلق الذي يكاد يكون ترجمة امينة صادقة لرؤية الروائي الكبير نجيب محفوظ في اثنتين من اهم رواياته واخرجهما حسام الدين مصطفى للسينما : " السمان والخريف " 1967 و " الشحات " 1973 , وفي الفيلمين , وان اختلفت التفاصيل , يعيش البطل الازمة نفسها عندما يشعر بأنه يملك القدرة على العمل السياسي , لكن الواقع يضطره الى ان يعيش منعزلا في وحدة قاتلة
وفي تنويعة «عطيلية» أخرى، يقدم محمود مرسي دورا هائلا في «ليل وقضبان» لأشرف فهمي 1973، وهو هنا «ملك الغابة» بحق، أو على الأقل، من أشرس كائناتها: مأمور سجن لا تعرف الرحمة الى قلبه سبيلا.. وها هو «الملك» يرى بعينيه، من خلال فتحات خشب النافذة زوجته، في أحضان أحد مساجينه.. وتتجلى ثقافة «الأستاذ» وعلمه وموهبته، عندما يسيطر تماما على سبل الانفعالات الجارف الذي من الممكن ان يكتسح أي ممثل آخر ويبقى دور «عتريس» الذي اداه في فيلم «شيء من الخوف» هو الأشهر في تاريخه. الفيلم المأخوذ عن رواية أدبية لثروت اباظة كتب لها السيناريو صبري عزت، وتولى الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي صياغة حوار الفيلم واشعاره التي لحنها باقتدار بليغ حمدي وغنتها بطلة الفيلم شادية، وشاركها البطولة عدد من ألمح نجوم السينما يومها: يحيى شاهين، سميرة محسن ومحمد توفيق وصلاح نظمي والوجه الجديد محمود ياسين وكان عرضه الأول في 3 شباط عام 1969. ظل الفيلم واحداً من أبرز علامات السينما العربية, وحين تعطل عرض الفيلم عندما صور بعضهم للرئيس الراحل جمال عبد الناصر أن مرسي جسد شخصيته فيه كديكتاتور أصر عبد الناصر على رؤية الفيلم وأمر بعرضه بعدما أشاد بدور "عتريس" الذي لعبه مرسي, لكن الاخير عاد فأغضب الناصريين عندما قدم عام 1973 فيلم "أغنية على الممر" الذي شرّح أسباب نكسة 1967. بعد سنوات أغضب مرسي الساداتيين على فيلمه "حد السيف" الذي رصد التحولات الاجتماعية التي أفرزتها سياسات السادات وخصوصاً الانفتاح الاقتصادي. وفي مسلسله التلفزيوني الشهير "العائلة", قبل سنوات, وجد مرسي نفسه في مواجهة انتقادات عنيفة من الإسلاميين كادت تحدث أزمة لولا تدارك المسؤولين الذين أصروا على إضافة مشهد إلى إحدى الحلقات لتخفيف وطأة تلك الانتقادات.
ان محمود مرسي ، بتفهم كامل لأبعاد الشخصية التي يؤديها، اجتماعيا ونفسيا وخلقيا وجسمانيا، يتدرج في الانفعالات، متحولا بليونة من شعور لآخر، وفق منطق سليم وصحيح، ومن خلال لمسات أسلوبه الخاص
يتحدث محمود مرسي عن أهم المخرجين الذين عمل معهم.. كمال الشيخ يبحث عن الكمال بكل التفاصيل, بركات تلف أفلامه غلالة شاعرية, حسام الدين مصطفى خفة الغزال الشارد لانطلاقه وسرعة حركته.. حسين كمال يملك فهما عميقا للأداء التمثيلي, مع الجيل الجديد وقتئذ, قدم مع أشرف فهمي أربعة أفلام يرى ان (ليل وقضبان) أفضل أعماله كمخرج وأدواره كممثل. ويتحدث عن زملائه في المشوار الفني, فريد شوقي بروحه الحانية وسلوكه اللطيف.. فاتن حمامة .. التي أعطته درسا تكريميا.. الدرس في جديتها بالحضور للاستوديو قبل الموعد بساعة.. والتكريم حينما صفقت له بعد أن أدى دوره أمامها, وتبعها الجميع بالاستوديو, لقد كانت المرة الأولى والأخيرة التي أحظى بها بالتصفيق داخل الاستوديو! سعاد حسني.. موهبتها طبيعية عفوية تتصرف أمام الكاميرا بشفافية مذهلة.. يثني على نور الشريف ويتابع مسيرته التي رحلت إلى مستويات رفيعة في مسلسل (لن أعيش في جلباب أبي) .. نادية لطفي توافق بينهما أضاف الكثير لكل منهما, وهي انسانة تتمتع بالشهامة وخفة الظل, أمينة رزق تنتقل بسلاسة من مدرسة في الأداء إلى أخرى. يعترف محمود مرسي في حديثه عن الفارق بينه وبين يحيى شاهين في أداء دور أحمد عبد الجواد: بدون تواضع خسرت هذه الجولة أمام شاهين حتى أنني أحس بالندم أحيانا لأني قمت بهذا الدور بعد يحيى شاهين حتى ليبدو ان نجيب محفوظ رسم هذه الشخصية ليتواءم معها فناننا الكبير.
محمود مرسي في السينما والتلفزيون.. استطاع بقدراته وثقافته الواسعة ان يجسد أدوار الوداعة بذات الدرجة من الاقتدار الذي يعبر عن أقصى درجات الشراسة وان يصل بمستوى التمثيل العربي إلى قمة من قمم الابداع الخلاق. كما في دوري الشقيقتين المختلفتين المتواجهتين في مسلسل (عصفور النار) أو الشخصيتين المتشابهتين مع تباين في العلاقات في فيلم (شيء من الخوف) عتريس الجد وعتريس الحفيد. مسحتين في أسلوب محمود مرسي: (السطو العقلي) حيث يمكنه (التعبير عن موقف مستتر دون الاعلان عنه حيث يملك امكانية هائلة للايحاء بما يضمره) والأخذ والعطاء, حيث يحقق انجازات كبيرة مع فنانين زملاء ليس ثمة تنافس بل أخذ وعطاء بني على التفاهم العميق.
في حقل الدراما التلفزيونية اخرج عددأ من المسلسلات والأعمال الدرامية ومنها مسلسل «القط» عن قصة لاحسان عبدالقدوس و«زوجة وسكرتيرة» و«أم أولادي» وسهرة «الحب الكبير» التي تدور حول ضرورة حب الوطن والولاء له.
بعدها انتقل إلى التمثيل فقدم مسلسل «عصفور النار» وأبو العلا البشري، لمحمد فاضل، زينب والعرش عن رواية فتحي غانم وبنات أفكاري، ليحيي العلمي، العائلة لاسماعيل عبد الحافظ، ومن أعماله الدرامية التلفزيونية المتميزة الرجل والحصان وسفر الاحلام،- وقدم مع اسامة أنور عكاشة ويحي الفخراني المسلسل الكوميدي «لما الثعلب فات»، ثم أبناء الصمت، وأخيراً مسلسل وهج الصيف الذي رحل قبل أن يتمه.
وقدم آخر أعماله في الاذاعة قبل 3 أسابيع من وفاته حيث قدم شخصية الدكتور طه حسين. وقام بترجمة العديد من الأعمال الروائية العالمية وقدمها للمكتبة الثقافية، وكان يمارس العديد من الهوايات الثقافية ومعروف عنه إمتلاكه لمكتبة ضخمة لتراث الموسيقى ومعروف عنه أيضا شغفه بالدراسات السياسية، وكان ينظم أحيانا ندوات ثقافية وسياسية في مراكز متخصصة في مدينة الاسكندرية مسقط رأسه .وقد حصل محمود مرسي على العديد من الجوائز من بينها جائزة الدولة التقديرية عام 2000 تتويجا لمشواره الفني الطويل . كماحصل على جائزة أحسن ممثل عن دوره في «شيء من الخوف» والجائزة الأولى عن دوره في «الليلة الأخيرة» ، ويقوم مهرجان دمشق السينمائي بتكريمه بتظاهرة خاصة لأعماله بدورة سابقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق