الثلاثاء، 11 أبريل 2017

ارتباكات الغيم

ارتباكات الغيم
عناية جابر
في قصائد الشاعر السوري محمد عبيدو <<ارتباكات الغيم>> التي تتشكل على الاغتراب والوحدة، يبدو الجرح باهظا. قصائد قصيرة في أغلبها في إصدار عبيدو الجديد، يتزامن حدوثها مع لحظة ثقل إنساني قصوى، ترخي على الروح. في البيت وحيداً، وفي الصمت التام، وفي الحاجات القليلة، والضرورية للعيش، وفي النشاط الوجداني اللائق للشعر، يكتب الشاعر مجموعته، في شبه اعترافات متعاقبة حميمة، عن حيله البارعة لمصارعة الخواء والسأم.
تجعلني قصائد محمد عبيدو أفكر في أكثر الكائنات وحدة، أشدهم حزناً في انصرافه القسري الى تأمل موجودات حياته: النافذة والحائط والسرير والبعوض والنمل، الكأس والعشاء وخيالات الأحبة القليلة، ثم الغرق في الصمت الكثير الذي لا شفاء منه. تختفي الشخصيات في <<ارتباكات الغيم>> ليحل محلها الحضور القوي للأشياء في الوصف المفصل للعلاقة بين الشاعر وأشيائه، واللعب العالي للخيال، في محاولة استبدال حقيقية، للحياة الفعلية التي يستدعيها الشاعر.
بعد <<وقت يشبه الماء>> و<<الغياب ظلك الآخر>> و<<تمارين العزلة>>، صدرت عن <<منشورات وزارة الثقافة>> سوريا، <<ارتباكات الغيم>> للشاعر محمد عبيدو، في التريث الزمني بين إصدار وآخر، وفي المناخ الحزين المنسحب على المجموعات كافة، مناخ الشاعر وروحه، التي تُبرّحها الوحدة.
دائما الاطار الغائم للقصيدة. اذ لا نعثر على القرين أو الحبيب أو الاهل، باستثناء استحضارات غائمة، وإسقاطات تستدعيها الذاكرة، تذكر بالعالم الخارجي كما وتمنح قصيدة عبيدو دفئها الانساني وترفها الأدبي الذي تبلوره تلك العذوبة التي تستدعي الصور.
رغم شكوى الشاعر، وتبرمه، ومشاعره المهزومة حيال العالم المنسحب من أمامه، نلمح في القصائد، بل نكاد نوقن، ان ازدواجية ما تتضمن رغبة الشاعر الى وحدته التي يشكوها للشعر. يحب الشاعر وحدته ويكرهها في آن. هذا التعارض البائس الذي تظهره هذه القصيدة وتلك، والذي يكابده الشاعر في سطوره، يجعل من وحدته مجازاً وذريعة للشعر، ومن معاناته ايضا، رغبته العبثية الى المعاناة، وكأن الشاعر في اختياراته هذه، قد نجا من العالم المليء بالصخب وبمرارات لا تحصى، ونجا بشعره من عمومية الشعر وشيوع مواضيعه.
بلغة بسيطة ومقتصدة، ومبتعدة عن البلاغة، يؤاخي الشاعر بينها وبين مواضيع قصائده، المتمحورة غالباً على الشغف المقنع بالحياة، وأشيائها القليلة وعلى لا مرئيات الظلام التي تؤدي الى قصيدة حلمية هي نتاج المخيلة الخصبة، المتحررة من الافكار الكبيرة، حيث لا يفضي الحلم إلا إلى قصيدة متآلفة مع فكرة الشاعر إلى وهم الواقع.
يقول الشاعر محمد عبيدو في قصيدته <<صحراء تحت خطوتي>> ومضينا/ مع الاحلام/ لتحط بنا شرفة الخريف/ وعاود كلانا/ الانتظار على حافة/ في المدن البعيدة…/ صحراء تحت خطواتي/ وصحراء حيث أنتِ…/ أنا بكهفي/ أنشئ معمار الموت/ وأنت هناك/ تسيرين بين دمار ورعب/ ورائحة قتل فائحة…/ حيث/ الغبار/ يمجد/ الهزيمة/ والنسيان ينام متعباً، على الارصفة. (ص 43).
الصحراء والموت ورائحة القتل الفائحة، ثمة في العبارات ما ينسحب من العيش، وما يطال قصائد كثيرة كما ذكرنا، خصوصاً في <<ما يسمى الحياة>> و<<البياض المشاكس>> وأكثر في قصيدة <<أي شحوب>> في ذلك الرصد لعبث العيش وفي يومياته المرعبة.
في قصائد تمتد على مئة وعشر صفحات، لا يحضر أحد الى قصيدة محمد عبيدو. المرأة الطيف، أو الحبيبة الغائبة تبدو كزينة لبعض القصائد، في حضورها القليل، وفي مسافتها التي لا تقصر، وفي أطيافها التي لا تتحقق.
قصيدة <<ارتباكات الغيم>> من أجلها ومن أجل وحشتها المتفاقمة، تلعب المرأة، أو الحب على وجه الدقة، ظلاً خلفياً لها، لتلطيف الوحشة هذه ولإرباك التشكيك المخيف والمتمادي بالعالم.
في المجموعة نسب متفاوتة من جماليات القصائد وفنيتها المتراوحة في صياغات غير ذات سوية. غير أن الحذلقة والتكلّف بعيدان عن القصائد، لتبقى العفوية والبساطة وإن احتاجتا إلى بعض شروط الشعر غير المكتملة في بعض القصائد.
مجموعة لا تحكمها أوهام التفرّد، فيها من الرقة البالغة الكثير، الرقة التي تميّز عبارة شاعر <<ارتباكات الغيم>> والتوليف الذكي المتناغم الذي يصنع سطور قصيدته. فلا نقع على انقطاعات إيقاعية في بنية القصيدة، ولا على كثير تباين في هارموني العبارات وسلاستها التي تخدم مناخ القصيدة.
الكاتب: محمد عبيدو
الكتاب: <<ارتباكات الغيم>>
الناشر: <<منشورات وزارة الثقافة>> سوريا

 نشرت بجريدة السفير اللبنانية

محمد عبيدو

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق