الثلاثاء، 3 فبراير 2015

انطونيونى : سينمائى غياب التواصل والحب المستحيل

محمد عبيدو
مايكل انجلو انطونيوني، المخرج الايطالى الكبير الذى توفى عن أربعة وتسعين عاماً بالعاصمة الإيطالية روما، هو أحد آخر الكبار، وقد تميّزت سينماه بغلبة الصورة على الكلمة، وكان قد مُنح فى عام 1995 جائزة الأوسكار للحياة الفنية.
وبغيابه من المشهد، تفقد السينما العالمية ليس فقط علماً هاماً من اعلامها، بل أيضاً أسلوباً متفرّداً من أساليب السينما، مثّل ما يُشبه عصراً من عصور الصورة السينمائية. وضع أنطونيونى العين فى قلب بصيرته الشعرية..
وتميّزت عين أنطونيونى بقدرتها على اكتشاف تناقضات النفس البشرية، وتحقيق كمال الصورة. كان مبدعاً قادراً على إدراك دواخل الشخصيات النفسية، والرغبات الكامنة والمتوالدة لدى الشخصيات،.
اعتبر سينمائى غياب التواصل وقلق الحياة والحب المستحيل، افلامه تدور حول الانفصال بين الرفاهية المادية والفراغ العاطفي، واغلب شخصياته من الاثرياء، والناجحين والاذكياء الذين يشعرون رغم ذلك باستياء جماعى من حياتهم . فكيف اذا تحقق ذاتك؟ والى أى حد يمكنك التكيف مع المجتمع الذى تعيش فيه ؟ وبالمقارنة مع كل مخرجى الستينات كان انطونيونى أفضل من قدم الاغتراب فى قالب ساحر، كما منحه شكلا مرئيا مذهلا، بتحديد اماكن الكاميرا لتجعل من كل لقطة تعليقا بليغا على التوتر بين ابطاله وبيئتهم.
اثناء تصوير ثلاثية الكسوف، قال انطونيونى هذه العبارة عن صناعة السينما و الروح الانسانية: "ماذا فعلنا حتى الآن؟ لقد تفحصنا المشاعر بدقة، وشرحناها وحللناها بشكل كامل، هذا ما استطعنا فعله، لكننا لم نستطع اكتشاف مشاعر جديدة".
وان اكتشاف عواطف جديدة هو الذى يعين الهدف الايجابى والطوباوى الذى لا تمثل الغربة السلبية الا مرحلته الاولى. واذا استعدنا فى الاذهان اهتمام انطونيونى المبكر بكتابات هيغل وماركس والموقف التقدمى أو التحولى الذى ينطوى عليه فكرهما، عندها فان مدى صلة توقعاته بما يخص العواطف الجديدة لن يكون مستغربا أو غريبا على طريقة تفكيره فى كل اهتماماته، الموضوع المشترك هو تقدم الذات "الروح" خارج الماضى والى الحاضر , باحثة عن توافقات جديدة أو علاقات "تماثلات شخصية وتعاطفات" مع عالم متغير على الدوام .
في كتابه (بناء الرؤية) يتحدث انطونيوني عن ولادة فكرة الفيلم في رأسه و يرجعها الى ما يشبه الهام الشاعر: (بالنسبة لي يولد الفيلم كما تولد القصيدة عند الشاعر، لا اريد ان اتظاهر بانني شاعر ولكني ارغب باجراء قياس على الشعر. يتأثر الذهن بكلمات وصور ومفاهيم تختلط وتنصهر معا لتشكل شعرا واعتقد ان الشيء نفسه يحدث فيمتا يتعلق بالسينما. كل ما نقرأه ونسمعه ونفكر به ونراه ينطبع في ذاكرتنا بشكل صور محسوسة وتولد القصص من هذه الصور. )
ولد أنطونيونى فى فيرارى فى ايطاليا العام 1912، ، يقول أنطونيوني عن طفولته: ” كانت طفولتي سعيدة، وأمي كانت امرأة ذكية ودافئة المشاعر، وكانت عاملة في أيام الشباب، أما أبي فقد كان رجلا صالحا هو الآخر، ولد في عائلة تنتمي للطبقة العاملة، ونجح في الاستحواذ على وضع مريح من خلال الدورات التدريبية الليلية والعمل الشاق، لقد أطلق والدي ووالدتي لي العنان لفعل ما أرغب فيه”.عمل محررا فى مجلة السينما، تعلم الاخراج السينمائى عبر تجارب ذاتية محضة. كان مساعدا لكارنيه فى "زوار المساء" و أنجز عمله السينمائى "الوثائقي" الأول "ناس نهر البو ـ 1947". أما فيلمه الأول الروائى فهو "يوميات حب" 1950..‏ قدم "المنهزمون" 1952 و"سيدة بلا زهور كاميليا"، و"المحبة" .
ثم "الصرخة" 1957 وهو فيلم بارز عبر عن نبوغ انطونيونى وثبات قدمه فى مجال الاخراج كواحد من فنانى روما الكبار الجدد ، ومع فيلم "المغامرة" 1960 اكتمل له اسلوبه المتميز والشديد التفرد، واهتمامه الخاص بهشاشة وزوال العواطف الانسانية الاساسية فى العالم الحديث.
وفيلم المغامرة هو الجزء الاول من ثلاثية " الليل -1960 " و"الكسوف 1962" التى انصب فيها اهتمام أنطونيونى على استكشاف المشاعر والانهيارات فى العلاقات والتواصل البشرى والشعور بالملل والوحدة والخيبة وعدم القدرة على التفاهم فى المجتمع المعاصر الذى جسد انطونيونى تناقضاته فى عدد من أفلامه، و"الصحراء الحمراء" ولعل الكيفية التى استخدم فيها انطونيونى الالوان على المستوى التجريبى فى الفيلم ليعكس حالة القلق والاضطراب النفسى لدى البطلة ولحياتها ضمن بيئة صناعية متجهمة وساحقة، لعل هذه الكيفية أهم ما يستدعى اعجاب المشاهد، والكثير من النقاد نظروا الى تجربة انطونيونى هذه بذهول مفعم بالتقدير.
هذه المواضيع المتكررة، لاديمومة الحب، صعوبة التواصل، سهولة الخيانة، خيانة الشخص لنفسه ولغيره – تسيطر على انطونيونى الى حد الامتلاك، لقد قال: الناس قد عافو الحب، ولابد من تقدم ما فى المواقف الاخلاقية والعاطفية مقابل تقدمنا التكنولوجي" واخرج فيلم "بلو أب" 1966 و"زابريسكى بوينت" 1970 و"المهنة صحفي"1975 و"تعريف امرأة".
لم يقف أنطونيونى مكتوف اليدين أمام ما حلّ بجسده، إثر تعرّضه لأزمة صحيّة خطرة. ففى العام 1985 أصيب بشلل نصفى أقعده عن الحركة، ودفعه إلى مزيد من التأمل والصمت والتحليل السوي، من دون أن يُبعده عن الرسم و كتابة القصة والرواية و الكاميرا التى جعلها تلتقط له أدقّ التفاصيل الإنسانية المستلّة من يوميات الفرد ومأساته وآلامه وخيباته وعزلته وانكساراته.


فبمساعدة فيم فيندرز، أنجز فى العام 1995 "ما وراء الغيوم"؛ وأنجز فى عام 2002 جهده الأخير عندما أخرج جزءاً بعنوان "إيروس" فى العمل الكورالى "الخيط الخطير للأشياء" مع كل من وونغ كار واى وستيفن سبيبلبيرغ. المخرجان اللذان تتلمذا على إبداع أنطونيونى واستوعبا بالتأكيد دروس المايسترو الكبير.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق