الأكثر تميزا وإبداعا في الطبعة السابعة لمهرجان أدب وكتاب الشباب في الجزائر العاصمة هو معرض المصور الإيطالي فرانسيسكو غاتوني بعنوان “كتاب العالم، عالم كتاب” والذي يمكن مشاهدة أعماله في محطات المترو “تافوره وحديقة التجارب والمعدومين” وأيضا برياض الفتح مقر النشاط الفعلي للمهرجان الذي يعد رحلة عبر عالم الفن والأدب العالمي عبر سنوات طويلة، ابتداءً من 2003 من خلال 50 بورتريها مرفوقة بنصوص لشخصيات مختلفة.
في نص خصّصته لمعرض فرانسيسكو غاتوني، قالت صوفي ماليكسي، صحفية بجريدة “لوموند” الفرنسية، وهي تحلّل نظرة هذا المصوّر المتميّزة: “إنه رجل من الجنوب، يجعل من النور حليفه الرصين، يقبض بملامحه ويغيّره ليرسم خطوطا واضحة وآفاقا وهندسة حيث يتّخذ الكُتّاب مكانتهم في إطار يتحكّم فيه.... يكون نجاح البورتريه في هذا التبادل الحاذق بين المصوِّر والكاتب، في هذه العلاقة الغريبة للسلطة، للمقاومة، للاتفاق الصامت أو للتراخي الذي يسمح لصاحب العدسة بأنْ يمسك عند “الآخر” بشيء من السرّ. بهذه الكيفية التي يملكها فرانسيسكو غاتوني في النظر إلى البشر، فإنه ينتمي إلى نوع من القنّاصين الذين يجب حمايتهم.”
ولدغاتوني في روما عام 1956، أقام في باريس منذ 1979. بدأ اهتمامه بالتصوير في بداية الثمانينات. في 1985 أنجز أول تحقيق مصور له في النيبال وأقام معرضه الأول في باريس. في 1987 بدأ عمله المهني بجريدة “لوموند”، واشتغل معها لمدة 17 سنة وكان متخصصا في بورتريهات الكتاب، وفي 2003 عمله التصويري بإقامة معرض “كتاب العالم، عالم الكتاب” في أروقة مكتبات “لافناك” في فرنسا ثم في دول أخرى. وبالتوازي مع تصوير الكتاب، أنجز غاتوني تحقيقات في بلدان العالم من بينها مصر، النيبال، موسكو، رومانيا، سردينيا، كوبا... في 2008 نشر كتابا في فرنسا بعنوان “كوبا دروب الصدفة” مع نصوص للكاتبة الكوبية كارلا سواريس. ومن بين الأعمال المنجزة والتي نشرها في الصحافة في 1998، سلسلة صور حول المهاجرين “بلا وثائق هوية” والذين رافقهم لمدة سنة كاملة في أماكن عملهم وإقامتهم والجهود المبذولة لتسوية أوضاعهم، وفي 2009 أنجز لمؤسسة “ايمايوس” مجموعة بورتريهات للأجانب الذين يعيشون في فرنسا بهذه السلسلة المعنونة “الأوديسات الصامتة” بالتعاون مع الكاتب خوزيه مانويل فاجاردو الذي كتب النصوص ...
التقت “الجزائر نيوز” فرانسيسكو غاتوني Francesco Gattoni في حوار أضاء عالم إبداعه في الصورة:
ما الذي يجذبك إلى الشخصية لتلتقط عدسة كاميرتك “بروفيل” لها؟
لكل شخص أشياء معينة جذبتني إليه. بعضهم على مستوى النظرة، بالنسبة لنجيب محفوظ مثلا وأنا معجب به، عندما صورته وهو مريض أعجبتني ملامحه وتواضعه. كان متواضعا ولطيفا جدا، وهذا التواضع نابع من كونه إنسانا كبيرا.
ما الذي منحه لك التجوال الواسع مع الأمكنة والوجوه؟
ربحت أشياء كثيرة على الصعيد الشخصي. هذا سمح لي بمعاشرة الكتاب والتعرف عليهم وكلهم أناس يسكنهم عشق للإبداع، وعوالمهم ثرية جدا. إلى درجة أنني أصبحت صديقا للكثير من هؤلاء الكتاب. وقد أنتجت 3 كتب بورتريهات لكتاب وكانت كلها بمشاركة الكتاب. أعمل الصور والكتاب يكتبون النصوص عليها. وأنا أعتقد أن النص والصورة يشكلان قوة البصر والكلمة. علاقة تكاملية بينهما، الصورة هي عالم الصمت بينما الكتابة ليست كذلك ولذلك يخلق هذا التكامل. وإذا بحثنا عن تقاطع بين العنصرين الكلمة والصورة نقول إن كليهما عمل الذين يعيشون الوحدة.
وكيف كان هذا التوجه نحو بورتريهات الكتاب فوتوغرافيا ونص؟
كان هذا محض صدفة بالبداية، لأنني سابقا قدمت صوري لجريدة لوموند الفرنسية وبالتالي اشتغلت مع هذه الجريدة وكانت تكلفني بإعداد بورتريهات للكتاب، انطلقت من هنا. ثم تعودت على ذلك ثم أحببته، وهذا خلق بيني وبينهم علاقات وأصبحت أتعامل معهم بشكل دائم.
كيف ترى الفرق بين الصورة الفنية والصورة الصحفية؟
بالنسبة لي ليس هناك فرق لأن مهمتي في كل الصور عمل الصورة الفنية حتى لو كان غرضها صحفيا. أنا أقوم بالتصوير الفني مهما كان الغرض سواء لمعرض أو صحافة أو لكتاب. وأغلبية الكتب التي أنجزها بالأبيض والأسود تأتي تحت الطلب وأعمل لها تصويرا فنيا لأن الصورة بالنسبة لي في كل الأوضاع صورة فنية.
وبالنسبة لي لا فرق لدي إن أصور شخصية معروفة أو أصور الناس المنبوذين والمهمشين. الصورة بالنسبة لي هي الأهم لا تقل من قيمة الشخص الذي أصوره. أضع الطاقة نفسها والاهتمام نفسه بغض النظر عمن تكون له هذه الصورة.
وهل تتابع الجانب التنظيري حول الصورة وجمالياتها ودورها، هناك كتاب قدموا إضافات بهذا المجال كسوزان سونتاغ ورولان بارت؟
نعم وهناك نظريات للصورة. و لكن بالنسبة لي لا يهمني الجانب التنظيري، لأن الذي يهمني هو العمل والصورة كفعل. ما يهمني أكثر هو أن أخترق قوانين الضوء في الصورة وليس أن أهتم بما قاله هذا الكاتب أو هذا المنظر عن الصورة لأن الضوء هو شيء عجيب حسب رأيى ويشكل إغراء. دائما أقول إن الضوء هو مثل المرأة الغامضة والتي يجب اكتشافها وأحب أن اخترقها واكتشفها. لكن هذا الضوء لا يمنح نفسه بشكل كامل دائما، يبقى مستعصيا. ومثل الذي يطارد المراة الغامضة أبقى أطارد الضوء حتى أكتشفه.
لأي درجة يمكن أن تكون الصورة معبرة عن الحقيقة وأن تكون مخاتلة ؟
مهمتي ليست أن أحدد أو أوضح شيئا، عندما آخذ صورا أعتمد على الحقيقة وذلك عندما يعنى الأمر بروبرتاج ما. ورغم ذلك فإنني أضيف شيئا مني على هذه الصورة، فعيني التي ترى هذه الحقيقة، وبما أنني أمنحها شيئا مني يمكن أن تفتح على قراءة أخرى. إنها تخلق حالة أو قراءة ليست بالضبط ما تعنيه تلك الصورة. بالنسبة لي الصور الناجحة إضافة للمعايير المعروفة للصورة مثل التأطير والأضواء إلى غير ذلك، هي التي تخلق حالة انفعال عند مشاهدتها. الصورة التي يكون أثرها جيدا وتحتوي كل العناصر هي صورة جميلة، لكن إذا توصلت هذه الصورة أن تخلق حالة انفعال لدى من يشاهدها لا تسمى صورة جميلة فقط، بل صورة عظيمة.
ماذا تضيف لك الصورة الملتقطة؟
حسب الاشياء التي أشاهدها وأصورها، هناك أشياء تؤثر بي أكثر من غيرها.
ما الذي تحبه أكثر الأبيض والأسود أم الألوان؟
الأسود والأبيض لأن الحقيقة المجردة لا لون لها. وهنا نعود لسؤالك السابق عن الحقيقة.
المشهد العربي، ما الذي يغريك فيه كعين مصور؟
بداية أحب الخط العربي، تشكيل الحروف حسب رأيى بالكتابة العربية فيها شيء فني كثير. مجرد ما تقع عيني على الأحرف العربية أشعر أنني دخلت عالما بعيدا جدا عن عالم الغرب. كل ما أشاهده في العالم العربي من ألوان وأشكال يجعلني أدخل في فضاء مختلف. هو عالم غامض بالنسبة لي لأنه ليس عالمي. هناك من المصورين من صوروا فقط ما حولهم، مثلا “doisneau” صور في كل عمله باريس وما حولها فقط. فخارج عوالمهم لا يستطيعون التصوير، بينما أنا أهفو دائما إلى عوالم أخرى جديدة لاكتشفها. بالنسبة لي العوالم التي أعرفها لا تغريني كثيرا. وأنا الآن مقيم بباريس ولكن قلما أحمل كامرتي وأنا أتجول فيها. وكلما اعترضني عالم غامض كلما كان توقي أكثر وكلما كانت دهشتي أكثر وكان اشتغالي عليه أكثر. وبالتالي هنا بالجزائر أشعر أن العالم مختلف وفعلا أخذت صورا أعتبر أنها جميلة. بينما في مكاني الذي أسكنه لا يمكنني أن احمل الكاميرا لأنه مكان معتاد ومألوف. وبهذا كلما سافرت إلى بلد، طوال إقامتي لا أعمل سوى أخذ الصور. وهذه الفرصة لم تتح لي كثيرا في الجزائر لأنني محكوم بمعرض وموضوع محدد.
وأنا أختار الوجهة التي أنتقل إليها بناء على ما تمنحه هذه الجهات من دهشة. زرت القصبة بالجزائر. أنا أحب كثيرا وتدهشني الأحياء القديمة الشعبية وسكانها لأنهم حسب رايي يختلفون عن سكان الأحياء الأخرى.
حوار: محمد عبيدو ترجمة: فاطمة بن شعلال
ثنائية درامية من النور والظلام تعيد اختراع قلب الصور: |
في نص جميل خصّصه لعمل غاتوني، يقول الكاتب والصحفي الإسباني خوسي مانويل فاجاردو: “ولد هذا المصوِّر الرومي منذ خمسين سنة، نحيف، بوجه جاد ومُركَّز، عليه دوما ابتسامة مخفية، انتقل إلى باريس في 1979، في خضّم “سنوات الرصاص”، تلك الحلقة المأسوية للتاريخ الإيطالي المطبوع بالعنف، فطوّر عمله الصحفي في جرائد مهمة، سواء منها الفرنسية “لوموند” أو الإيطالية “لاريبوبليكا”، “لاسطامبا”، “إيلكوريير دي لاسييرا”، وأخريات. ولم يكن عمله يختصر على قبض انتهازي لصور الأحداث، وإنما استعمله كمخبر تجريبي في بحثه الدؤوب عن نظرة متعاطفة حول العالم، قادرة على الحفر تحت قشرة الواقع الصلبة. وخلال عشريتَين، شكّلت التحقيقات والبورتريهات إقليم شغله، فصقل نظرته -هذه الآلة اللامادية التي يتعلم المصوِّر كيفية قولبتها كما لو كانت قطعة طين- إلى أنْ وجَد أسلوبه الخاص الذي نتعرّف عليه بسهولة، ذلك الذي يولد من مكانه الأصلي في مواجهة العالم.
إن نظرة غاتوني نظرة تجمع بين النور والظلام، مليئة بالظلال، إلى حد الحصول على ثنائية درامية من النور والظلام تعيد اختراع ما ليس إلا قلب الصورة نفسه: النور وغيابه. أتساءل دوما كيف نجح غاتوني في التسلل بين ابتسامتين، بين طرفتَيْ عَين، بين تنفسين للشخص الذي يأخذ صورته، ليمسك بتلك اللحظة المتراخية، تلك اللحظة الاستبطانية، لحظة عزلة أو حزن تطبع كل وجود، حتى في اللحظات السعيدة، والتي تذكرنا بحدود وضعنا البشري. نظرة تذكِّر ما قاله الكاتب الأرجنتيني الكبير خوليو كُرْثازار -واحد آخر من أولئك الفنانين المتميّزين بموهبة النظرة الفريدة-: “كنت أريد التجاويف، أو لنقل، الفضاء الموجود بين كرسيَين، وليس الكرسيين”. الموقف نفسه الذي أدّى بالكاتب نحو الأدب السحري والذي أدّى بالمصوِّر نحو واقعية أساسية بدت كما لو أنها تلامس ما وراء الطبيعة.
إن الذي يدهشني أكثر عند غاتوني أنه يتمكن من قبض هذه اللحظات دون أن تتحوّل إلى شيء مثير للعواطف، للشفقة، وهو يلفها بحنان، لا يمكنني إلا أن أصفها بالورِعة، بالمعنى المدني والتضامني للكلمة. هناك حميمية عميقة ومتساوية في بورتريهات الكُتّاب المشهورين كما لدى أولئك السكان المجهولين لضواحي باريس أو في مدن كوبا، والتي تعبّر عن احترام لا محدود تجاه المصوَّر، الشيء الأساسي كي يتحوّل البورتريه إلى اكتشاف عوض الخطف. إنّ مأساوية الحياة بين النور والظلام التي يصوِّرها غاتوني مأساوية دون تورّمات ولا إضافات ولا أخلاق. إنها عقد نقي مع الحياة المجسّدة، تلك التي لا تتزيّن بالكلمات الفضفاضة ولا بالحركات المعظّمة، ولكنها تظهر نفسها عارية ومزيّنة بالجمال الرهيب الذي ينبثق مما هو حقيقي. حينما أنظر باستمرار إلى مؤلفات فرانسيسكو غاتوني، أحسّ برغبة منقذة، وفي الأخير يفرض الامتنان نفسه دوما، ذلك أنني أعرف، بفضله، أنّ ما أراه للحظة عابرة يشكِّل قلب الحياة ذاته”.
|