يوم حزين للساحة الفنية الجزائرية، مع وفاة أيقونة السينما والتلفزيون الجزائرية الفنانة شافية بوذراع، عن عمر ناهز 92عاماً، بعد ثلاثة أيام من رحيل مبدع احمد بن عيسى المبدع الذي رافقها بعدد من الاعمال الفنية.
شافية بوذراع ممثلة جزائرية مخضرمة برزت بحضورها القوي في الفن الجزائري الحديث مسرحًا وتلفزيونًا وسينما. ممثلة متميزة يعدّ اسمها علامة فارقة في الفن الجزائري المسرحي والتلفزيوني، مسيرة حافلة بالجمال والإبداع لفنانة كبيرة قدمت الجميل من الأعمال والرقي من الإبداع.
أبصرت شافية نور هذا العالم في الثاني والعشرين أفريل من عام 1930 بمدينة الجسور المعلقة، ومدينة العلم والعلماء، مدينة قسنطينة الساحرة التي تشربت من ينابيع العلم والمعرفة، وقد نشأت في أسرة ثرية، ودخلت المدرسة القرآنية ثم المدرسة الفرنسية قبل أن يخطف الموت والدها وعمرها 12 عاما، ثم تتزوج في الرابعة عشرة من عمرها، قبل أن تؤدي واجب الجهاد والنضال ضد الاستعمار إبان ثورة التحرير الكبرى التي فقدت فيها زوجها الشهيد صالح بوذراع الذي بقي مسجونا ما يزيد عن عشرين سنة ، حيث أطلق عليها الجزائريين لقب “أم الجزائريين”.
شقت شافية بوذراع طريقها بصعوبة في عالم النجومية، وعادة ما تحكي الفنانة شافية بوذراع بأن دخولها عالم التمثيل الذي قضت فيه اكثر من 50 سنة إلى حد الآن ، جاء بفضل الفنانة الراحلة فتيحة بربار، تحديدا من الإذاعة الجهوية و المسرح القسنطيني، حيث قدمت المسرحية الإذاعية الموسومة “الهزّي” (القبضاي)، وأدت أول دور الأم حرية الذي يعتبر أول دور في مسيرتها بشكل رسمي، الذي منحه لها المخرج مهداوي، وقد التحقت أيضا بالمسرح أين التقت بالفنان مصطفى كاتب الذي منحها “دائرة الطباشير القوقازي”، “المرأة المتمردة”. قبل أن تشارك في عدة أعمال أنتجتها فرقة المسرح التابعة لإذاعة الجزائر بحر ستينات القرن الماضي، ثم كانت لها تجارب مميّزة مع مسرح قسنطينة – عنابة في سبعينات القرن الماضي، بالتزامن جرى توزيعها في مسرحيات أخرى بالجزائر العاصمة.
بيد أنّ شافية بوذراع برزت بشكل خاص في المسلسل الدرامي التلفزيوني “دار سبيطار” (1977)، حيث منحها المخرج مصطفى بديع (اسمه الحقيقي أرزقي برقوق) دور البطولة عبر شخصية “لالاّ عيني” في عمل اقتبس عن ثلاثية “الدار الكبيرة” للأديب الجزائري الكبير “مصطفى بديع”، وأسهم الأداء القوي لشافية بوذراع وكوكبة ضخمة من الممثلين الجزائريين في تحقيق نجاح كبير. ليبقى في وجدان الجزائريين واحدا من أجمل المسلسلات التي قدمها التلفزيون الجزائري، ومتابعا بشغف من قبل المشاهدين مع إعادة بثُّه مرّات كثيرة بعد ذلك الوقت.
كل الجزائريين من أجيال مختلفة يتذكرون شخصية “لالة عيني”، التي اشتهرت بها الممثلة القديرة شافية بوذراع عندما جسدت دور الام الكادحة و بقي اللقب لصيقا بها ،حيث نحجت في اختزال حنان الأم، وحزنها على ابنها عمار كلما أصابه أذى، و ربطت المشاهد الجزائري للتلفزيون بعد الاستقلال بواقع أليم للفقر و مآسي الجزائريين خلال الثورة، وكذلك باقي أدوار الممثلين كعايدة كشود، و بيونة ” لالا دوجة ” المشاكسة والأداء المميز للفتى عبد الرحمان لوطاسية في دور عمار الصغير، وحميد السراج المناضل الملتزم وديدي كريمو المغامر، وقد أدارهم المخرج بعبقرية .
قدّمت شافية بوذراع في المسلسل نموذجا للمرأة المناضلة بالمفهوم الشّعبي، الأمّية التي لا تعليم لها، ولكنّ الوضع الوجودي جعلها في امتحان صعب أمام مسؤوليات كبار في مناخ استعماري، فتوزّعتها ضروب الحياة بين توفير لقمة العيش والإشراف على البيت، إضافة إلى تداعيات علاقاتها البينية في منزل مشترك بين عدّة عائلات هو “دار السبيطار”.
نعود لقول “شافية بوذراع” الذي يضيء أسرار العمل، أن معظم الممثلين الذين ظهروا على الشاشة في هذا المسلسل لم يكونوا ممثلين أصلا بل لم يمارسوا مهنة التمثيل في حياتهم “ونجح مصطفى بديع في جعلهم يؤدون أدوارهم بصورة طبيعية ومهنية عالية” كما قالت إن المسلسل تم تصوير مشاهده الخارجية كليا في ولاية تلمسان، وتحديدا تلك التي تظهر فيها “لالا عيني” وهي تمارس التجارة والبيع بسوق شعبية، ناهيك عن المشاهد الخارجية في الغابة، رفقة الطفل عمر، أما عن المشاهد الداخلية فقد تم تصويرها داخل بيت تم إنشاؤه بالكامل في قصر المعارض بالصنوبر البحري في العاصمة، ويعود الفضل في ذلك، لمهندس الديكور حسان الشافعي الذي تعتبره شافية بوذراع أحد أهم صناع العمل، ويضاف إلى ذلك موسيقى الراحل ليمين بشيشي .
إلى جانب التراكمات في مسيرتها بين المسرح والدارما التلفزيونيّة، كان لشافية بوذراع حضور متنوع في السينما، واقتحمت عالم السينما عبر فيلم “كحلاء وبيضاء” للنابض عبد الرحمن بوقرموح (1980)، ثم شاركت في فيلم “الامتحان الصعب”، وفيلم “شاي بالنعناع” لعبد الكريم بهلول (1984) دورها فيه ، يمثل المرأة كمصدر للقيم الاجتماعية التي لا يمكن أن تتخلى عنها حتى وهي وسط مجتمع تجهله (فرنسا)، إذ سافرت للاطمئنان على ابنها المغترب، وبالتالي يصبح الشّاي رمز التواصل بين الثقافت المختلفة، على أساس شعبية هذا المشروب وخصوصيته، والنّعناع هو هذه القيم التي بدونها لا يمكن أن يتفاعل الأشخاص والأفكار، إذ اندهاش الشرطي الذي ينظم المرور وهو يرى شافية بوذراع تأتيه بصينية شاي، يمثل الفاصل بين بنيتين ثقافيتين ومجتمعيتين، فالتآزر هو شان المجتمع التقليدي، والتعاقد هو شأن المجتمع الحداثي ، وفيلم “شرف عائلتي” لرشيد بوشارب، وفيلم “صرخة الرجال” لعكاشة تويتة، وفيلم ” عربي، أبيض، أحمر ” 2006 لمحمود زموري ، وفيلم “مال وطني” للمخرجة فاطمة بلحاج (2008 )، وفيلم “لالاّ البتول”، واستمرّ تألق شافية بوذراع في فيلم “الخارجون عن القانون” (2010) لرشيد بوشارب والذي ترشّح لجائزة الأوسكار في مهرجان “كان” (ماي 2010)، كما افتكّ الجائزة الكبرى لمهرجان دمشق السينمائي (2010). تجسّد شافية بوذراع في الفيلم دور أمّ لثلاثة أبناء، هم: مسعود (سامي بوعجيلة)، عبد القادر (رشدي زام) وسعيد (جمال دبوز). ثلاثة إخوة تحكمهم في البداية علاقة تصادمية، لكنّهم يعلنون صراحة انخراطهم في دعم ثورة “جبهة التحرير الوطني” ضدَّ المستعمر الفرنسي. بما أن جلّ أحداث الفيلم تدور في فرنسا الخمسينيات، جاءت غالبية الحوارات بالفرنسية، إلّا أنّ شافية بوذراع أدّت مشاهدها باللغة العربية، وبلهجتها المحببة.
تجسّد في الشريط امرأة جزائرية، قروية النشأة، مناضلة، ومتشبثة بحق العودة إلى أرض الأجداد. تلك المرأة الصبورة
تظلّ ثابتة في مواقفها رغم أنّها تجد نفسها وحيدة في مواجهة تقلبات الحياة عقب استشهاد زوجها (الممثل أحمد عيسى) في أحداث 8 أيار (مايو) 1945. “شعرت، فعلاً، بالنظر إلى الواقع والتفاعل الذي أثاره الفيلم، أنّني أمّ القضايا العادلة، وليس فقط أمّ الثلاثي مسعود وعبد القادر وسعيد”. تقول عن دورها : ” كنت مرشحة في البداية لدور الجدة حسب النص الأصلي، ولكن المخرج رشيد بوشارب رأى أن أكون أم الشبان الثلاثة، السجين والعسكري في الجيش الفرنسي وأصغرهم الباحث عن الثروة بأي طريقة ولا يسمع كلامي. قبلت الدور لأني اقتنعت بالنص، يتحدث عن تاريخ الجزائر، ويصور معاناة الجزائريين تحت الاحتلال، ودوري كأم جزائرية تمثل معاناة آلاف الأمهات آنذاك، وأنا نفسي واحدة منهن عانيت، استشهد زوجي ونحن على أبواب الاستقلال، فدوري في فيلم “خارجون عن القانون” هو تكريم لزوجي الشهيد، وعرفانا للشهداء، ولتضحيات الشعب الجزائري حتى نال الاستقلال “.
كما شاركت في فيلم “عرفان” لمخرجه سليم حمدي الذي عُرض لأول مرة في 2019 ، وفيه نتابع قصة المجاهدة يمينة- التي تؤدي دورها شافية بوذراع- إذ تعبر هذه الأخيرة عن حاجتها في نشر قصتها و الثاني هو قصة حفيدها و خطيبته و أصدقائهما، مجموعة من الشباب على قدر واسع من الموهبة يعيشون دون مخططات مستقبلية. و يقرر حفيد المُجاهدة الذي استوعب مدى حاجة جدته لنشر قصتها تنظيم تمثيلية لقاء تلفزيوني بمساعدة أصدقائه بعدما باءت بالفشل كل محاولاته في الحصول على مساعدة لإنجاز فيلم وثائقي حول التاريخ العائلي .
كما شاركت في مسلسل “الامتحان الصعب” (2008) لنزيم قايدي الذي جمع بين كوكبة من أهم الممثلات الجزائريات مثل بهية راشدي وفريدة صابونجي.
وعن اختياراتها وشروطها لاي عمل تقوم به تقول : ” أنا لا أقبل بأي عمل وإذا لم يكن هادفا ومحترما لا أشارك فيه، ومعروف عني أثناء تفاوضي مع أي منتج أنني قبل أن أتحدث عن المبلغ المالي أطلب أولا معرفة باقي الممثلين لكي أعرف مع من أعمل وكيف سأعمل ،لأنهم لو كانوا شبانا لا يملكون الخبرة أحاول أن أساعدهم وإذا كانوا مخضرمين فإن طريقة العمل ستختلف أيضا”. وتضيف : “لما أقول للمخرج أو المنتج كم ستعطيني أريد من خلال سؤالي بالدرجة الأولى أن أعرف قيمتي عنده فإذا أعطاني قيمة صغيرة لا أقبل، ليس من أجل المال وإنما لأنه لم يقيمني جيدا، وهناك أعمال شاركت فيها مجانا خصوصا الأفلام التي يود أصحابها أن يشاركوا فيها في مهرجانات دولية، وهو ما حصل معي يوم جاءتني مخرجة رفقة عبد الكريم بهلول ، حيث شاركت معها في الفيلم دون مقابل و قد فازت بجائزة في فرنسا، و قد تنقلت إليها ولمتها لأنها لم تخبرني بفوزها، وبعد 8 أشهر فقط عرض علي فيلم “شاي بالنعناع” سنة 1982 الذي كان بوابتي للمشاركة في عدة أعمال في فرنسا، بلغ عددها 35 فيلما بما في ذلك مسلسل فرنسي من 50 حلقة صورته في تولوز وكان له صدى واسع وقتها في فرنسا “.
وتقول أيضا في حوارات معها : “عاهدت نفسي منذ دخلت ميدان الفن ألا أستهين بالكلمة، ولا أقول كلاما تستحيي منه العائلة الجزائرية، أو أغض الطرف عن جملة وأقول لا ينتبه لها المشاهد، لم أفعلها قط، أكون حريصة على كل كلمة تصل للجمهور، فكما أحترمه يحترمني. لهذا يحبني الجزائريون . ومرة كتب صحفي “شافية بودراع أم الجزائريين” فرددت عليه هل يقبل الجزائريون أن أكون أمهم؟ تصوري لم أستطع قراءة الرسائل التي وصلتني تؤكد أني أم الجزائريين، والآن الجميع ينادونني “يما” أو “ميمة”.
كما اشتهر اسم شافية بوذراع ، في التلفزيون، خلال التسعينيات من خلال المسلسل الكوميدي “عيسى سطوري” مع المسرحي والممثل عنتر هلال. وتنقل مراجع عن الفنان الجزائري عنتر هلال قوله: “شافية بوذراع بعد رحيل زوجها المكافح خلال الثورة، تجشّمت معاناة المرأة الجزائرية، التي كابدت أعباء الحياة لتربية أبنائها، ومنحها وضعها العائلي الصعب آنذاك قدرة كبيرة على الصبر، ومجابهة تبعات الحرمان والجهل والفقر، وعذابات ما بعد التحرّر من ربقة الاستعمار الفرنسي”.
شافية بوذراع هي “أسطورة” السينما الجزائرية برأي الفنان المسرحي علي عبدون، والذي لازال “يستنشق رائحة بقايا الحريق”، كما قال، في أزقة المدينة القديمة لتلمسان، التي احتضنت أحداث رواية الأديب الكبير محمد ديب.
عانت الراحلة شافية بوذراع في السنوات الأخيرة من متاعب صحية تفاقمت إثر سقوطها في مهرجان مسقط السينمائي (ربيع 2018)، بعدما جرى تكريمها في سلطنة عمان.
ورغم ثقل السنين و الاحتفال بالشمعة الـ91 ، صمّمت شافية بوذراع حتى ايامها الأخيرة ، على الوفاء بالتزاماتها كدأبها دومًا، وتنوّه معاصراتها إلى أنّ شافية ظلّت أمّا لأبنائها وتموقعت أنموذجًا للأم الجزائرية الناشرة لثقافة الحب وبهاء الابتسامة، ما جعل الجماهير لا تملّ من مشاهدة “لالاّ عيني” التي لا تزال مصدرًا محببًّا للمتعة والفرجة.
محمد عبيدو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق