تحتفل فرنسا طيلة عام كامل بالذكرى المئوية لرحيل صاحب “في البحث عن الزمن المفقود”، الكاتب الفرنسي مارسيل بروست (1871 – 1922) عبر عدد من الفعاليات الثقافية، والمنشورات، والدراسات، والبرامج التلفزيونية والإذاعية، وحتى بمعارض عنه في أروقة الفن.
ورغم تخوف صناع السينما من الاقتراب من عوالم بروست الروائية لعقود طويلة الا ان عدد من المخرجين غامروا بصياغة سيناريوهات وافلام مقتبسة من جوانب في عمله الشهير “في البحث عن الزمن المفقود”… وكانت هناك محاولات لم يكتب لها الاكتمال من قبل المخرج الإيطالي الكبير لوكّينو فيسكونتي الذي كتب سيناريو وامضى وقتا بالتحضيرات قبل التوقف، ثم المخرج الأمريكي جوزيف لوزي في محاولة غير مكتملة مماثلة .. غير ان اول التجارب المجسدة بصريا كانت في فيلم بيرسي أدلون “سيليست” Celeste(1981) الذي تناول أيام الكاتب الأخيرة من وجهة نظر مدبّرة شؤون المنزل سيليست ألباريت، التي كانت تتولى أيضاً تدوين ما كان المؤلف يمليه عليها.وبعده في فيلم المخرج الألماني فولكر شلوندورف “سوان العاشق” Swann in Love(1983) الذي اخرجه انطلاقاً من النص الذي أنجزه بيتر بروك وأكمله جان كلود كاريير، وتعامل مع الجزء الوحيد من “بحثاً عن الزمن الضائع” الذي يمكن اقتباسه على نحو مقبول ظاهرياً بوصفه قصة مستقلة، تامة في ذاتها، حيث التركيز على علاقة الحب بين سوان، العضو البارز في المجتمع، وأوديت العابثة والمراوغة.. وهذا يعبّر عن آلام الراوي اللاحقة وصراعاته العنيفة.
وتأتي معالجة المخرج السينمائي وكاتب السيناريو الفرنسي من أصل شيلي راؤول رويز الذكية والبارعة، وإخراجه الرائع، لرواية “الزمن المستعاد”، وهو الكتاب الأخير في ملحمة بروست “بحثا عن الزمن الضائع” عبر تحويله الى الشاشة هذه الدراما النفسية الكلاسيكية الشهيرة لمارسيل بروست مع التشبث بالمونولوجات الداخلية وتيارات الوعي. ذات مرّة صرّح رويز بأنه كان يقرأ، ويعيد قراءة، بروست طوال حياته، وكان يهيئ نفسه منذ سنوات لتحقيق هذا الفيلم. وفي إحدى لقاءاته، في العام 1997، مناقشاً فيلمه “في مرآة” (1986) قال رويز: ” هذا الفيلم هو التأمل الأول لما أريد أن أحققه يوما ما.. رواية بروست (الزمن المستعاد). رجل يأتي ليزور رجلا آخر من المفترض أن يكون مريضا، وأثناء انتظاره يتحدث مع شقيقته. ثمة نزاع عنيف بينهما. كل منهما يهين الآخر، وأنت لا تعرف أبدا سبب ذلك. في النهاية نكتشف بأن النص يكتبه صبي ينسخ ما يقولانه، ناظرا إلى المشهد من خلال مرآة. لكنه يفوّت الكثير من الكلمات، لهذا السبب يبدو غامضا وملتبسا. إنه عن الاستماع على نحو خاطئ، عن الرؤية على نحو خاطئ”. “الزمن المستعاد” يأتي مثقلا بتاريخ الراوي .. مارسيل بروست (مارتشيلو ماستورياني ) ، يقلب ذاكرته وهو في لحظة الصفاء: وهي لحظة الاستعداد للموت ومن على فراش الموت الوشيك في شقته الصغيرة في شارع هاملين، يملي على مدبّرة منزله الجمل التي سوف تشكّل روايته “الزمن المستعاد” (والتي سوف تنشر في العام 1927، أي بعد خمس سنوات من وفاته). وبعد ان يشعر بالتعب يأذن لها بالانصراف ويبحث من خلال الصور القديمة ويتذكر حياته، كشخصيات حقيقية تختلط بأخرى من رواياته الخيالية. يسترجع اضطرابات طفولته وما اتسمت به مرحلة شبابه من عبث وطيش. من معشوقاته إلى شخصيات تركت أثراً في نفسه افتتحها بطفولته التي كانت النقطة الأساسية بحياته وبحياة أي شخص. ومارتشيلو في الفترة 1914-1918 ، عندما تستعر الحرب العالمية الأولى. في باريس، وذلك بفضل مرضه. آثار الحرب تؤثر على معنويات جميع الشخصيات، تعجيل انحطاطها أو تحويلها إلى رسوم كاريكاتورية. في دوامة شبح الحرب البشعة، مارسيل يجد ملجأ في ذكريات طفولته هربا من الفظائع التي حوله. الموت والانحطاط، والتلاش للوجود الإنساني، والعلاقات بين المكان والزمان هي بعض من المواضيع الرئيسية التي بحثت في هذا الفيلم، الذي يعكس أعمال مارسيل بروست في كل تفاصيلها.
في فيلمه “الزمن المستعاد” يختار رويز بوعي وحكمة أن يسبر الصلات المجازية الغنية بين أحلام اليقظة والذكريات التي يستدعيها الفيلم – الأكثر اتصالا بالزمن . ويوظف مجموعة من الحيل البصرية للإيحاء بسوء الفهم الذاتي هذا: زوايا كاميرا غريبة وفلترات ألوان (خصوصا للماضي البعيد) وحشد من الظلال والمرايا. إيقاعات متباطئة والتي توحي بالحلم . بالفيلم حبيبة الراوي الميتة تظهر كشبح شفاف يسكن أحلامه. التحام الزمن والمكان يتيح لشخص ميت أن يشهد جنازته فيما المقبرة تتحوّل، على نحو سحري، إلى شاطئ، وهو المنتجع الأثير للراوي على ساحل نورماندي. على هذا الشاطئ أيضا يتم إحياء ماضي الموتى أخيرا، في المشهد الختامي.
مجلة (دفاتر السينما الفرنسية) وجّهت إلى رويز سؤالا عما إذا فيلمه سيكون مفهوما بالنسبة لشخص لم يقرأ بروست.. أجاب رويز: ” لا أحد قرأ بروست. ثمة أثر غريب من فقدان الذاكرة يتصل بأعمال بروست. كل مرّة أقرأ فيها رواية (الزمن المستعاد) – ولابد أنني قرأتها عشرين مرّة- أكون كما لو أقرأ رواية مختلفة.. إنه أشبه بكتاب من رمل.”
راؤول رويز قدما فيلما بارعا، وإلى جانبه كاتب سيناريو جيد، جيل توران، مع تصوّير مذهل جميل، تحت إدارة ريكاردو أرونوفيتش الذي وظف كل وسائل التصميم التاريخي الواقعي، ومشاركة طاقم من الممثلين العالميين البارزين : كاترين دونوف وجون مالكوفيتش، الذين تعاونوا مع رويز من قبل، ومارسيلو ماستورياني .
بروست يظهر في فيلم يعود للعام 1904.
“لم يكن يخفى عنا شيء يتعلق بحياة مارسيل بروست”. كان هذا هو الاعتقاد السائد بخصوص هذا الروائي الفرنسي الكبير، قبل الإعلان المؤثر عن اكتشاف فيلم قديم يظهر فيه مؤلف “البحث عن الزمن الضائع” وبعد أن كان يظن أنه لم تظهر له أية صورة متحركة رغم وجود السينما إبان الحقبة التي عاشها.
وأفادت مجلة “لو بوان” الفرنسية والتي كانت أول من نشر الفيلم: أنه تم تصوير الروائي الفرنسي في العام 1904 أثناء حفل عقد زواج أرمان دو غيش، المعروف بصلته الوثيقة ببروست، على إلين غريفول ابنة الكونتيسة غريفول والتي ألهمت بروست شخصية الدوقة أوريان دو غيرمانت في “البحث عن الزمن الضائع”.
محمد عبيدو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق