عندما آوي إلى آخرتي المنتظرة،
امنحوني شكل موتي، رحلتي المنكسره!
ودعوني أحتفي بالميتة المنفجرة،
واجعلوني أنتهي في صورة مبتكرة،
شيعوني أنا والنغمة في موكب صمت،
شيعوها لغتي المنتصرة..
علي الجندي
****
علي الجندي: حياته شعر وشعره الحياة
غاب الشاعر السوري علي الجندي عن 81 سنة، بسبب المرض الذي أقعده طريح الفراش في السنوات الأخيرة، وبغيابه تنطوي صفحة من حياة ثقافية بامتياز كان علي أحد أقطابها البارزين. هنا شهادات من زملاء كتاب وشعراء عرفوه.
شوقي بغدادي:
مَن يرثيني بعدك
لم يكن موتك يا عليّ مفاجأة، فأنت متّ منذ سنين. هل تذكر حين التقينا في اللاذقية لآخر مرة؟ كنتَ مريضاً ممنوعاً من شرب العرق والتدخين. وهذه كارثة بالنسبة لك أكثر من الموت.
لماذا قسوت على نفسك إلى هذه الدرجة يا عليّ، أيها الصديق الشاعر الظريف الحديث منذ أكثر من خمسين عاماً!
أتذكره الآن بكامل أوصافه، زميلاً في كلية الآداب في جامعة دمشق، شاباً وسيماً أنيقاً ساخراً ضاحكاً باستمرار. أتذكره الآن محاطاً بزميلاته المفتونات به. أتذكره الآن وقد غدا موظفاً في دولة «البعث» الجديدة، مديراً للدعاية والأنباء (وهي وظيفة مثل وزارة الإعلام الآن) وقد اجتمعنا في مكتبه لتأسيس اتحاد الكتاب العرب. أتذكره الآن بالسهرات العامرة، كيف كان يسيطر على الجلسة بمنادمته الحلوة والمثيرة دائماً. أتذكره الآن أكثر من أي وقت مضى، لا لشيء، إلا لأن علي الجندي يعلن الآن بموته انقراض جيل كامل من المبدعين والملهمين المجددين.
لم يتبق أحد يا عليّ سواي ليرثيك، مَن سيرثيني بعدك!
هل أقول فيك ما قاله شوقي في حافظ؟!
رحمة الله عليك يا عليّ.. إذا وجدت باب الجنة موصداً في وجهك فما عليك إلا أن تتعلق بركاب أحد الصحابة، وسوف يدخلونك بالواسطة فتمهل ولا تيأس من رحمته، وهناك لن يمنعوك من الشرب والتدخين بالتأكيد، أما الجواري الحسان فدعك منهن، فهن أصل بلائك. إلى اللقاء يا عليّ.
نبيل سليمان:
لست شيئاً غير إني كلمة
ذات مساء من ربيع 1970 رأيت ذلك الشاب الساحر أول مرة، إنه حقاً بايرون، تلصصت عليه من فرجة الباب، نائب رئيس اتحاد الكتاب العرب الذي كان قد تأسس للتوّ برئاسة المرحوم وزير التربية آنئذ سليمان الخش، أي أن الرئيس الفعلي كان علي الجندي، الذي لقّب نفسه بـ(أبو لهب). بعد أربع سنوات شرّفني وزوجته آنئذ – القاصة المرحومة دلال حاتم ـ بزيارة منزلي: من باب العمارة اتجه إلى القبو. قلت له: إلى الطابق الأخير. قال: طبعاً، أين سيسكن مثلك، في القبو أو في الملحق، وحين رآني لا أدخن وكأسي مترعة بالماء نهرني غاضباًَ: كيف تكتب إذاً؟
بعد سنوات ترك دمشق، التي طال مقامه فيها، وحلّ في اللاذقية حتى غيابه. وعلى الرغم من أن مئات الأمتار فقط تفصل بين منزلينا، فقد كان لقاؤنا ما قبل الأخير منذ سنوات، إما بحضور صديق عمره (اللدود كما كان يؤثر القول) ممدوح عدوان، وإما بحضور سعدي يوسف، ما عدتُ أذكر.
أما لقاؤنا الأخير فلن يكون، ما دمت أتهجد في شعره منذ العهد بالجامعة حين قرأت له «الراية المنكسة» و»في البدء كان الصمت» حتى هذه الساعة التي ستحمله على مآقينا من اللاذقية إلى السلمية، وهو يفضح:
آه إني كلمة
آه إني كلمة
لستشيئاً،غيرأنيكلمة
ثم يفضح:
إنني أمتد، أمتد، أغالي في انتشاري
إنني أورق، أنساح، أواري
منذر مصري:
متْ قبلي وسأكتب عنك قصيدة.
حذار أن تششرب البيرة أمام عمّي أحمد ـ يغمغم علي الجندي مفتتحاً دعاباته ـ يمدُ يده ليتناول زجاجة العرق التي تقدمها له، ثم يضعها بجانبه مهمهماً: فاجتنبوه.
كان علي يأتي من دمشق إلى اللاذقية ـ في قرّ الشتاء ـ وقيظ الصيف ـ كذئبٍ وحيدٍ أغبر ـ صابراً على جلسات مجاعيص الشعراء ـ شاربي البيرة ـ من أمثالنا.
الزمن هو عدوّي ـ يدوس جسدي مخبّصاً عليه بقدميه الحافيتين ـ ويجعلني أشيخ وأموت ـ الموت لا أخافه ولكــن أن نشـيخ ـ هو العار بذاته.
بعد صمتٍ طويلٍ ـ قلت له: (أشعر أنك تكرهني) ـ أجاب: (اطمئنْ، لا أكرهك أكثر من غيرك.
يقهقه ممدوح قائلاً: (متْ الآن وسأكتب عنك قصيدة) ـ يردّ (علي) بضحكةٍ صفراء: (متْ أنت، متْ قبلي، وسأكتب عنك ديواناً).. ـ 28/7/1990
كلاهما.. ممدوح عدوان وعلي الجندي كانا هدفين جميلين للموت. ممدوح الأصغر /1941/ مات منذ خمسة أعوام، لكن علي /1928/ كان قد اختبأ في مكان ما، فبحث عنه الموت طويلاً حتى يئس من أن يجده، فنسيه، وتركه يموت لوحده.
22/12/2004
عادل محمود:
زهور افتراضية
في شهر آذار، مارس 2009، نبشت في أوراقي صفحتين بخط علي الجندي، كُتبت في فندق تونسي وصفاً لبعض الشعراء والرسامين والكتاب الموجودين في جلسة من جلسات علي الحميمة والضاحكة. وقررت أن أنشر هذه الأوراق، فنشرتها في جريدة «تشرين» السورية/ الملحق الثقافي. وكان عليّ أن أكتب المقدمة التالية (أستميح العذر بنشرها الآن، حيث لم يعد علي بيننا أبداً)
الشاعر علي الجندي سجل اختفاءه الصارم منذ عدة سنوات، والسبب التقدم في السن وفقدان الأمل.
كل من تعرف إلى هذا الشاعر أدرك أنه من الأشخاص الذين يتقصفون كأغصان الشجرة الضخمة غصناً وراء غصن، حتى يبدو عليها، فقط، أنها موجودة في المدى اللا مجدي لحقل الحياة، مؤكدة ـ لفرط رسوخها ـ كم كانت على قيد الحياة.
كلّ من تعرّف إليه أدرك أن جيلاً من الشعراء، الذين لم تعرف لهم مهنة إلا الشعر، سوف ينقرض، ويبقى في الذاكرة تلك الشخصيات الحريفة، الحادة، المتطاولة والجميلة.
كان علي شديد الاهتمام بمن وما يظهر على وجه الأرض من أزهار الشعر،.. والشر. ولذلك كان يحتفي بهذه الأزهار في برنامجه الإذاعي، المعمر طويلاً، بصوته الشجي، وهو يقرأ لسواه كأنما هو المؤلف.. كأنه شريك لحظة العاطفة.
وكان علي الجندي حاضراً دائماً كعلامة فاقعة وملونة دائمة الحضور، علامة على الحلم الجميل ببلاد جميلة وعادلة وبشر سعداء يمتنعون عن قطف النجوم احتفالاً بكونها أجمل وهي في سقف السماء، الحلم الذي أحياناً يلاحق امرأة، أو جمالاً غامضاً، أو ثقافة تتسع لكل الناس وتنشر ما يطمحون إليه من الحرية والاكتفاء، الاكتفاء الذي يجعل عفتهم عفة الشبعان، الممتن والشاكر.
ذات يوم قال لي: اسمع برنامجي اليوم. واستمعت إليه وهو يقرأ بصوته المنفعل والشجي، مقاطع شعرية وقصائد مختارة لي. وعندما انتهى البرنامج تلفنت له وقلت ممازحاً: علي، لمن هذه الأشعار؟!
كان صوته وطريقته في الإلقاء يجعل «أي شيء» شعراً!
إذ ننشر هذه هذا البورتريه المتبقي فلأنه، بالدرجة الأولى، لعلي الجندي الذي سجل اختفاءه الصارم حتى الآن. ولم يكن أحد يراه أو يزوره. ذلك لأن «مهنة الصداقة» أحياناًَ تقوم بوضع الزهور الافتراضية على قبر لم يحتو، بعد، صاحبه الحي!
اليوم.. مات علي الجندي. انبعث صوته في أذني متدرجاً طوال سنوات ثلاثين، كنا نسمعه في كل قصيدة وهو يدفع إلى المجهول كلماتِ وصفِهِ المعلومة. وانتشرت فجأة ضوضاؤه الفرحةُ في ذاكرتي، وهو يتطرف في قول ما يريد. ورنّت أشعارُه الحزينة، الحزينةُ دائماً، من صمت فراغ النبأ..
علي مات ليس من الشيخوخة وانعدام الأمل. في الحقيقة مات من الإهمال، من العنوان المعلق في فراغ الجدران في بيته: عنوان «المتروك وحيداً»، فالشيخوخة لا تهجم على الشاعر وحده، بل تصيب، أو تكون قد أصابت الحماسَ والتفتحَ والزهوَ في من حوله.
وانعدام الأمل ليس فرضية، أو صلاة يأس عميم، بل فكرة فروسية عن المهمة التي يقوم بها الشاعر.. بدلاً من الوطن، وقادة بؤسه وخرابه. فكرة الزمن وأفعال الزمن.
في رحلته الطويلة أصغى علي إلى ملذات الحياة وإلى أحلامها الكبرى وعندما نقصته الحياة قليلاً يوماً، شكاها في نص محتشد بالآلام، راثياً ما لم يكن سوى الموت. الموت أو الموات.
برحيله، أعتقد أننا أمام الوداع السحيق لأزمنة احتدام الشعر واحترام الشعر.
من يعرف علي الجندي من الصعب ألا يؤلمه أنه مات، ومن الصعب أن ينساه!
مرحباً، وليس وداعاً، أبا لهب!
السفير8 اغسطس 2009
****
عن علي الجندي الغائب الذي لا يغيب
علي الجندي
راسم المدهون
قبل عقد ويزيد كتبت دون مناسبة مقالة في جريدة الحياة كان عنوانها "شاعر من زماننا".
تلك المقالة تحدّثت فيها عن علي الجندي ، "شيخ شباب" الشعر والأدب والثقافة ومجالس الشعراء والأدباء في سوريا على مدار عقود.
في تلك الأيام كان علي يعيش بدايات انزوائه في اللاذقية بعيدا عنّا ، وكان بصره يخفت فترك للصّديق الشاعر عمر شبانه أن يقرأ له ما كتبت.
بعد أيام كان عمر يجري معه مقابلة حين سأله علي فجأة : هل تتذكّر يوم ذهبنا معا بسيارة سعدي يوسف إلى لارنكا؟
السؤال أثار حيرة عمر شبانة وأدرك أن علي قد اختلطت عليه الأمور. قال له :
أنا لم أكن في جزيرة قبرص يوما.. ربما أنت تقصد راسم.
صمت علي الجندي قليلا وقال بصوت خافت : ألست راسم؟.
علي الجندي أوّل من نشر لي قصيدة في سوريا.
قال الرّاحل ممدوح عدوان إذهب إلى علي الجندي في كافيتيريا النجمة ، ستعرفه حتما..هو الذي تجده ضاحكا بصوت أعلى من الجميع.
بين كل الشّعراء الذين عرفتهم كان الأكثر حبّا للحياة وانغماسا فيها، هو الذي عاش طويلا حقّا، ولكنه عاش حياة عريضة أخذته إلى المجالس والسّهر وبالتأكيد حب الناس وبساطة التعامل مع الأشياء كلّها إلى الحد الذي يجعلنا نقول دون مبالغة إنه عاش الحياة في الشعر مثلما عاش الشّعر في الحياة.
أتذكّر ذلك إذ يمرُ أمامي شريط أيامه، وبالذّات تلك النبرة الخافتة في شعره في أزمنة الصّخب وانغماس القصائد في رنين الأحداث السّياسية وفوضاها. في تلك العقود المزدحمة بالخسارات، والحروب الدّامية كتب علي الجندي لهاثه الذي اختار له وجع روحه، وقلقه الوجودي، وحزنه الشّفيف ووحدته، ورؤاه الملتاعة فاستحقّ دعابة الرّاحل محمود درويش الذي أعلن أنه يحب علي الجندي لأنه بالذّات "شاعر غير تقدمي" في تلميح ساخر إلى ضجره من طنين الشّعارات عند الآخرين.
هكذا انتحى ركنا قصيّا في الشّعر لم يسكنه سواه والرّاحل فواز عيد، رغم أنهما معا لم يكونا قصيّين عن المجالس والعيش الصّاخب، وكأنهما أرادا عن تصميم سابق أن ينغمسا في العيش فيما ينفردان في الشّعر.
علي الجندي هو أيضا "راية منكّسة" ظلّت تهدينا إلى الوجع كلّما داعب النعاس عيوننا وأوشكنا أن نغفو ، وكما هو شاعر اللّغة الفردية والمحتمية بضعفها وتلاوين ظلالها الرّمادية ،هو أيضا حضور الحب بتجلّياته في الرّوح، وفرادات أحزانه حين تعصف بقلب الشّاعر وتأخذه نحو مغامرات التجريب. شاعر كسول لا يحب ولا يرغب "أن يكون موظّفا عند قصائده" كما كان يردّد ، وهو لهذا السّبب نفسه لم يحتفل أبدا بشعره ولم يقم له صخبا من أي نوع ، بل لعلّه أكثر من ذلك كان "ينفض" يده من القصيدة فور انتهائه من كتابتها وكأن هاتف اللّحاق بالسّاهرين يطارده كي يلحق بالحياة كأنها "الباص الأخير" الذي سينقلّه إلى الأصدقاء.
حين صدرت أعماله الكاملة قبل سنوات وجدت نفسي أفتح بسرعة على ديوانه "الرّاية المنكّسة" ، لعلّي كنت أفتش في السّطور والكلمات عن سرّ تلك الجمرة التي لازمته حتى رمق حياته الأخير : اللّوعة.
غاب علي الجندي قبل سنوات طويلة من غيابه الأخير.
ترك مقعده في مجالسنا وترك رنين ضحكاته وأنين قصائده في زمان صار أكثر وحشة وأقل بهاء.
علي الجندي أنت معنا.
المستقبل - الاحد 9 آب 2009
***
رحل زوربا الشعر العربي..علي الجندي نكّس الراية الأخيرة.. وانحاز للغياب!
صحيفة تشرين
ملف تشرين الثقافي
الاثنين 10 آب 2009
زيدقطريب
علي الجندي
رحيل علي الجندي يبدو قاسياً وثقيلاً بحجم شراسته وتمرده وانزياحاته ونزوعه إلى شقّ عصا الطاعة على كل تقليد واعتياد..
فالشاعر الثمانينيّ الذي لم تنل منه السنون أبداً، رغم آثارها الكثيرة على وجهه وجسده ووقع خطاه، استطاع أن يكون متفرداً وذا خصوصية نادرة في تجربته وطقوسه وإصراره على التغريد خارج السرب، وربما برحيل (أبي لهب) تُطوى مرحلة كاملة من الكتابة والمفاهيم بجميع نجاحاتها وخيباتها، وأيضاً أحلامها وانكساراتها ومحاولات تقدمها إلى الأمام..!.
الآن، ستهرع وزارة الثقافة واتحاد الكتاب العرب إلى التنافس في إصدار كلمات النعي والرثاء لشاعر ظل مهملاً طيلة سنوات كثيرة في منفاه الاختياري دون أن يتذكره أحد!.. حتى إن وعد وزير الثقافة منذ عدة سنوات، بطباعة آثاره الكاملة وتكريمه كرائد من مؤسسي الكتابة الجديدة، لم يُنفذ هو الآخر، ليقتصر دور المؤسسات الثقافية الرسمية كما درجت العادة على التعبير عن الحزن وتقديم واجبات العزاء!. والمفارقة التي تدعو إلى الحزن هنا، أن العديدين تفاجؤوا عند سماعهم نبأ رحيل علي الجندي، إذ اعتقدوه قد فارق الحياة منذ سنوات؟!.
لم يكن أبو لهب رجل أضواء ولقاءات ومهرجانات، فما يذكر عنه في هذا الإطار يؤكد نزوعه إلى الابتعاد والتأمل بشاعرية تحسب له على كل حال، ففي عام 2007 وبمبادرة من جمعية أصدقاء سلمية تم تكريم الشاعر في مسقط رأسه بحضور حشد كبير من محبيه وأصدقائه ومتابعي تجربته الشعرية، وكان حضور الشاعر حفل التكريم هذا بمثابة حفل وداع أو زيارة أخيرة لمدينته التي اشتهرت بتصدير الشعراء في بواكير أعمارهم، ومن ثم إعادة استقبالهم في نعوش عندما يرحلون بعد تجربة وترحال لا يخلو من المعاناة والإثارة وترك البصمة المميزة على أكثر من صعيد.
افتتح علي الجندي إصداراته الشعرية بمجموعة (الراية المنكّسة) عام 1962 التي يعدها النقاد بمثابة استشراف لهزيمة عام 1967، ورغم أن الشاعر لا يوليها الكثير من الاهتمام، إلا أنه نادراً ما يورد اسمه غير مقرون بها.. هكذا بدأ علي الجندي بشيء من الرؤيا المتفردة والخصوصية النادرة مسيرته الشعرية، فنشر في دمشق وبيروت مجموعاته الأولى كما عمل في مجال الصحافة الثقافية وكان على علاقة مع مجلة (شعر)، وهو في كل ذلك كان يبني بكل ثقة مملكة سوف تثير الأسئلة والدهشة سواء فيما يتعلق بحياته أو تصاعدية شعره ونزوعه الدائم إلى الاختلاف..!.
علي، أو زوربا الشعر العربي، كما يسميه الأصدقاء، كان على علاقة وثيقة مع المرأة الأنثى والأم، فإذ بالعالم يتجسد بامرأة يعول عليها الشاعر في تغيير طبيعة الأشياء: (هي النعمة والحب الذي يمنح قصيدتي ألوان الخصب وشكل الخلق الكامل، وكيف أجد خلاصي إلا بامرأة...
كانت المرأة منذ طفولتي نعمة، وكنت أحاول بها ومعها تخطي قسوة الأب، وكنت أنهل من بين يديها كل رائحة الشفافية والمتعة، وكانت قصائدي تمتلئ حياة ورغبة).
في مجلة (شعر) ببيروت، نشر علي الجندي كل قصائد ديوانه (في البدء كان الصمت) ورغم أنه كان على صداقة مع الجميع فيها، إلا أنه لم يصبح واحداً منهم وكان عليه أن يختط طريقه الخاص مستفيداً من خزان غني حمله من طفولته الأولى في سلمية ربما كان له الأثر الأهم في صياغة تجربته اللاحقة وحسم مسارها بشكل عام.. هناك في بيت منعزل كان علي الجندي غالباً ما ينشغل بالطبيعة فيغرق في التقاط التفاصيل النادرة التي ظل يحتفظ بها حتى آخر أيامه: (في طفولتي كانت أسرتي تعيش في بيت منعزل عن الضعية، وكنت كثير الحركة، أبحث دائماً عن شيء ألهو به في هذه العزلة، أتتبع أعشاش العصافير، أركض خلف السحالي وأستمع إلى زمزمة النحل. وكان أكثر ما يفتنني صوت الحليب عندما يتدفق من ثدي البقرة.. بقرتي الوحيدة التي كنت أرعاها حافياً.. حتى الآن مازلت أذكر ذلك الصوت السحري، عندما أقطف ورقة تين وأكورها على شكل كأس تحت الثدي ثم أحلب الحلمة: بش بش.. كنت أحس بكل طمأنينة العالم وكل هذا الارتواء. ومن يومها وأنا أحاول أن أنسق بين هذا الصوت الدافئ وبين موسيقا الشعر الذي افتتحت حياتي بها).
تحضر الأسطورة والفلسفة بشكل كبير في قصائد علي الجندي وكلماته، وذلك مرده إلى ثقافته ودراسته الأكاديمية، وفي عودة أخرى للمرأة، فقد سماها الموسيقا التي ساهمت بصياغته ورعايته وحثه دائما على الاستمرار، المرأة الأنثى حاضرة بقوة عند علي الجندي، وهي الملجأ والأمر والنعمة التي ما بعدها نعمة: (موسيقا كعب حذاء نسائي يخطر خلفي على الرصيف، كأصابع فنان تعزف فوق مفاتيح البيانو.. في تلك اللحظة تتفتح مصاريع ذكرياتي وأشعر بالحنين لكل هذا العدد من الحسناوات اللواتي سأغادرهن يوماً.. ولكن، آه يا ولعي المجنون بالحياة، أقفر الساح وعربد الأصيل..!).
منذ سنوات طويلة اختار علي الجندي أن يذهب بعيداً، فغاب فيما سماه منفاه الاختياري في اللاذقية، حيث نادراً ما كان يطل على وسائل الإعلام أو سواها من اللقاءات العامة في المهرجانات مع الشعراء أو الجمهور.. وربما يعود ذلك إلى شيء من الوحشة التي ظلت عصية على الترويض في داخله إضافة إلى شراسته وشعوره الدائم بالتمرد ومقارعة الأشياء.. هكذا غادر علي الجندي دمشق المكتظة والممتلئة بالزحام والناس والسيارات باتجاه البحر الذي للأسف لم يسعفه هو الآخر بزرقته فكان كمن يحاول الهروب إلى الأمام لكن دون جدوى.. (تعلقت بالحياة منذ ما بعد الطفولة، ورحت أداوم على حبها والتشبث بأذيالها، لكني كنت اشعر دائماً وكأنني واقع في هوة، أحاول القفز حتى يكاد الخلاص يكون قريبا، وأكتشف أنني اقفز في مكاني، هربت من السلمية، وكان ظل يلاحقني، وعندما ظهر الظل مرة أخرى في دمشق، هربت من جديد، وقلت أداري عن الخلق منظر حزني واختناقي)!.
حياة علي الجندي مليئة بالإثارة، فقد دأب على إيقادها كلما أحس أنها أصيبت بالملل أو الإعادة والتكرار، وهو في كل ذلك لا يراهن سوى على الحرية، تلك الحرية نفسها التي رافقته في طفولته الأولى عندما كان يجري خلف السحالي وأعشاش العصافير، بقيت تنبض في داخله لكن على نحو مختلف: (لم أكن اخطط لشيء كنت لا أريد سوى أن أكون حراً، اكتب بحرية، وأنشد بحرية متلهياً عن الدروس والواجبات والآخرين، كان إيماني أن اكتب لأني أحب ولأني أعيش، فإذا بي أجد نفسي على الطريق الذي مشيت عليه طوال حياتي، كان يخطر على بالي أحيانا أن أكون صحفياً أو ممثلاً، ولكني فشلت إلا أن أكون شاعراً. وقد حدث مرة إني ذهبت لأجرب التمثيل، لكن النتيجة كانت بأني كتبت قصيدة!.).
الآن، يعود جثمان علي الجندي إلى مسقط رأسه، المكان الذي غادره في بداية حياته، هرباً من (ظلّ) قال إنه طارده أيضاً إلى دمشق.. يعود علي الجندي ليستقر جوار صديقه الماغوط.. في ذات المدينة التي كان عليها دائماً أن تصدّر الشعراء الحالمين، ثم تعيد استقبالهم جثامين ساكنة هادئة.. ورايات
****
رحيل علي الجندي
دمشق
****
علي الجندي
حمل صليبه ورحل وسرج على مهل حصانه من اللاذقية إلى السلمية يرافقه ظله العالي وهو الذي لا يليق به الأقوال.. علي الجندي الذي خربش صبياً معتداً بنفسه أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات كالقامات العالية فصارت خربشاته قصائد وامتلأت قصائده نبضاً وتشكلت سنابل حانية وسط الصحراء أحد عشر كوكباً مضيئاً في فلك الشعر علياً.
علي الجندي انحاز للحياة منذ البداية ولم ينتم إلا لها في حريتها غير المقيدة في هدوء ظاهري وصخب جواني، يتمرد ناشداً الصفاء وهو الشاعر المحتج الذي منذ ديوانه الأول (الذي طبع في بيروت 1962) نكس راياته بتفرد وتباه على أعالي جبال الشعر وراح يرقص مثل زوربا الشخصية التي ابتدعتها مخيلة نيكوس كانتزاكي.
ومنذ البداية أعلن علي الجندي أنه وحيد يخالف خارجاً عن مألوفات الشعر والحياة الرتيبة ويهجر الأضواء واللقاءات والمهرجانات إذ يراها الجندي تفسد أكثر مما تصلح وهو الذي رفض أن يكون شاعراً منبرياً.. يوم كانت تناديه المنابر.
هجر صحراء السلمية مسقط رأسه إلى دمشق العاصمة وإلى بيروت ولم يفارقه ظلها واختار أخيراً بحر اللاذقية باحثاً عن نسمة هواء متشوقاً دائماً لغروب صحراء السلمية طالباً «يوم أموت تختارون لي مكاناً لقبري في ارض السلمية حيث كانت الشجرة الكبيرة هناك إلى جوار النبع».
وعلى الرغم من الحياة الصاخبة التي عاشها الجندي ردحاً من الزمن إلا أن نزفاً تحت جلده ظل منبعثاً بصمت وبهدوء ارتضاه الجندي عن سابق تقصد لأنه أدرك مبكراً أن كيمياءه مختلفة وأن الجسد الذي يسكنه له شطحاته وله مزاجه الخاص وهو الحر الذي لا يقيد فكرة أو قصيدة ولا يلجم قلماً ولا تمرد جسد.
علي الجندي شاعراً وإنساناً- فشل أن يكون إلا كليهما في تفرد قل نظيره- عاش في السنوات الأخيرة منسياً متروكاً وحيداً مثل ناسك، حتى التبس خبر إعلان وفاته، ألم يمت علي الجندي منذ فترة.. لكنه اختار أن يرحل وردة وردة تاركاً وراءه اسماً كبيراً وشاعراً عالياً وأعمالاً غير كاملة.. ترك لأصابع الموت حرية اختيار مداعبته وترك لـ«سنونوة الضياء الأخير» تنقل خبر رحيله.
من أعماله
الراية المنكسة - شعر - بيروت 1962.
في البدء كان الصمت - شعر - بيروت 1964.
الحمى الترابية - شعر - بيروت 1969.
الشمس وأصابع الموتى - شعر - بغداد 1973.
النزف تحت الجلد - شعر - اتحاد الكتاب - دمشق 1973.
طرفة في مدار السرطان - شعر - اتحاد الكتاب - دمشق 1975.
الرباعيات - شعر - بيروت 1979.
بعيداً في الصمت قريباً في النسيان - شعر - بيروت 1980.
قصائد موقوتة - شعر - بيروت 1980.
صار رماداً - شعر - اتحاد الكتاب - دمشق 1987.
سنونوة للضياء الأخير - شعر - بيروت 1990.
***
علي الجندي
علي الجنديولد في سلمية عام 1928.
تخرج في جامعة دمشق - قسم الفلسفة عام 1956.
عمل في حقل الصحافة الثقافية مابين دمشق وبيروت.
كما عمل مديراً عاماً للدعاية والأنباء - في دمشق، وفي حقل الترجمة عن الفرنسية ولم يحترفها.
من مؤسسي اتحاد الكتاب العرب 1969م.
عضو جمعية الشعر.
مؤلفاته:
1- الراية المنكسة - شعر - بيروت 1962.
2- في البدء كان الصمت - شعر - بيروت 1964.
3- الحمى الترابية - شعر - بيروت 1969.
4- الشمس وأصابع الموتى - شعر - بغداد 1973.
5- النزف تحت الجلد - شعر - اتحاد الكتاب - دمشق 1973.
6- طرفة في مدار السرطان - شعر - اتحاد الكتاب - دمشق 1975.
7- الرباعيات - شعر - بيروت 1979.
8- بعيداً في الصمت قريباً في النسيان - شعر - بيروت 1980.
9- قصائد موقوتة - شعر - بيروت 1980.
10- صار رماداً - شعر - اتحاد الكتاب - دمشق 1987.
11- سنونوة للضياء الأخير - شعر - بيروت 1990.
**
القطارات تمر
...واقف منذ صباح الأمس أستجدي على أبواب مينائك
يا...أمي مواعيد السفر
أرقب الغادين والموتى و حمال التوابيت و باقات الزهر
فقطارات بلا ناس تمر
وأرى الحزن على جلد الحقائب..
منذ حين وأنا وحدي, وبرد الصبح يكويني
وقد سافر كل الأصدقاء
وأنا أنتظر الشمس و دفء القاطرة...
غير أن الحارس الجهم اصطفاني من جميع النزلاء,
انتهرتني شرطة الميناء, قالت لي ذؤابات الدخان:
أنت تبقى بعد ان تمضي الى البحر المراكب!
...ها أنا أنتبذ الركن الذي يشرف من بعد على البحر,
وأصطاد الذين انتهروا مثلي لكي أسألهم عن موعد
الأبحار, كي أطلب من عاهرة تمضي على أرصفة
البحر بطاقات لحب أو..رحيل
غير أن الضجة العيدية الحزنى أنتهت من غير أن ألمح
انسانا حوالي ولا أنثى.. ولا وجها نبيل!
كل من أمنت فيهم رحلوا أو ر(و) حلوا عني بعيدا,
والقطارات تمر
القطارات التي اشتقت لترداد أغانيها الحديديات ما عادت
تبالي بالمحطات الصغيرة!
كلها تمضي كلمح الخوف لا صوت لها و لا ناس فيها...
وأنا أرقبها قاطرة, قاطرة تمضي على خط من المطاط
لا تصفر, لا تصخب,
واذا أقترب
فمكان الحارس الليلي ينهاني
فأمضي خائفا أنتحب
و"كشك" هذا الحارس الامر و الناهي خواء
غير أني كلما قاربته اضطرب!!
..اه ياأمي امنحيني لغة الدفء , هبيني دمع عينيك
فأجتاز طريق الضعفاء-
...هوذا الليل على المرفأ و البحر , على كل جهات العالم
المرئي يمتد. وبي طفل يخاف الليل, مذعور من الوحدة
و الريح و أصوات القطارات الخفية..
كل ما أحتاجه ايماءة تذرفها عيناك..
كي أعبر نحو الطرف الاخر في اثر عيون الاصدقاء
..والقطارات تمر,
ونعيق السفن المبحرة الان مع الليل الى الاعماق
لا يمنح غير الرهبة الصماء و الحسرة.. اه
انقضى عهد شباب النورس الحائم في الزرقة
لم يبقى على أرصفة الميناء غيري,
لم يعد للغرباء
بعد أن مر نهار العيد هذا العام غير الانتظار
ربما
ربما جاء لهم في السنة القادمة العيد...
على ..جنحي قطار!!!
****
علي الجندي: حالات الجنون ليست غريبة علي العابث مع الشعر
علي الجندي
ما من شاعر أحب الحياة وغرق فيها وعاش الشعر ووهبه حياته دون غايات, كما فعل علي الجندي, هذا الشاعر الذي اختلطت حياته بأوراقه حتى التبس أمره على الأصدقاء والأعداء منذ بداياته الأدبية أوائل الستينيات مع ديوانه الأول (الراية المنكسة).
شاعر عرفته المقاهي جيداً, وفيها عرفه الأدباء وعرفته النساء الجميلات, عبر عمر من الكتابة اصدر خلاله احد عشر كتاباً, وصدرت له العام الفائت الأعمال الكاملة.
شاعر لم يكترث ابداً بالأضواء وضجيج الإعلاميين والمهرجانات, ولم يستطب المناصب, إذ كان قد وهب روحه لهواء الحرية وقلبه للنساء ويديه للشعر...
وحين أحس ان الحياة بدأت تنسحب وتضيق كثيراً, والعالم بدأ ينكر شعراءه غادر دمشق واحتمى ببحر اللاذقية وجدران بيته الصغير...
وعلي الجندي من مواليد السلمية عام 1928. تخرج من جامعة دمشق ـ قسم الفلسفة عام 1956 عمل في حقل الصحافة الثقافية ما بين دمشق وبيروت, كما وفي حقل الترجمة عن الفرنسية, وفي الستينيات عمل مديرا عاماً للدعاية والأنباء. وكان من مؤسسي اتحاد الكتاب العرب عام ,1969 صدرت له الدواوين التالية: (الراية المنكسة) (في البدء كان الصمت) (الحمى الترابية) (الشمس وأصابع الموتى) (النزف تحت الجلد) (طرفة في مدار السرطان) (الرباعيات) (بعيداً في الصمت, قريباً في النسيان) (قصائد موقوتة) (صار رماداً) و (سنونوة للضياء الأخير).
وفي هذا الحوار نقترب من عوالمه ندنو من هذا الكائن الذي لا يزال مصراً ان يكون مندهشاً بالحياة ومدهشاً لها.
* تمثل الصور التي اختزنتها سنوات الطفولة ذاكرة هامة في البناء النفسي والشعري, فهل بإمكاننا ان نوقظ بعضاً من هذه الصور التي تعتبرها الأهم على صعيد سيرتك الشخصية والشعرية؟
يخيل اليّ إني لست بحاجة لأوقظ ذكرياتي, إنها ذكريات مستيقظة دائماً, وفي لحظة ما تستعيد نضارتها وصباها...
ليكن أبي قاسياً, ولتكن في سذاجتنا من أسباب شقاء الطفولة, حيث كان يخيل لنا ان أبي هو سبب حرماننا من طفولتنا, ولهذا كنا نلومه وحده, فلولاه كنا نعمنا بالمرح على البيادر المطلقة, والنوم تحت النجوم أو فوقها, وحتى قبل رحيله, كنا نترك الحرية لخيالنا على الأقل, فنجلب الصور الشعرية من أي مكان, وكنا قد تركنا للطبيعة ان ترفدنا بكل تلك الصور, كنا حالمين كباراً رغم صغر أعمارنا, ونطلب الصور المستحيلة, التي كانت لنا ملكاً خاصاً حاولنا ان نجسدها في صور لا تعرف الخنوع أو الالتباس, وتظل حرة ومترامية المساحات...
على خلاف أبي كانت أمي تمثل الحنان الدائم ونجرؤ في حضرتها على قول (لا).
* ومتى كانت أولى الكتابات وأول الشعر؟
لا اعرف, كنت أخربش على الورق وأحب ما أخربشه, ثم كنت اقرأه على الأصدقاء فإذا بي محاصر بالشعر.
* وهل بدأت الكتابة بإلحاح ما حول خصوصية الصوت أو الأداء الشعري؟
هذا ما دفعني أصلا للكتابة وبكثافة منذ عمر السادسة أو السابعة عشر, بدأت الكتابة بشكل متواصل غير مبال بشيء أو بأحد, كنت أريد ان أقول شيئاً لم يقله احد وكنت مؤرقاً بأن لا اخذ شيئاً عن احد, ربما كان هذا نوع من التوهم أو علو الخاطر, واهم شيء أحسسته إنني كنت أحب نفسي حين اكتب..
* والى أين كنت تنوي ان يوصلك الشعر؟
لم أكن اخطط لشيء كنت لا أريد سوى ان أكون حراً, اكتب بحرية, وانشد بحرية متلهياً عن الدروس والواجبات والآخرين, كان إيماني ان اكتب لأني أحب ولأني أعيش, فإذا بي أجد نفسي على الطريق الذي مشيت عليه طوال حياتي, كان يخطر على بالي أحيانا ان أكون صحفياً أو ممثلاً, ولكني فشلت إلا ان أكون شاعراً. وقد حدث مرة إني ذهبت لأجرب التمثيل, ولكن النتيجة كانت بأني كتبت قصيدة.
* صورك الشعرية تتميز بغرائبية المشهد, وتنفتح على أكثر من سؤال وتأويل وتفيض إحساسا بالغربة والألم, وأود ان أسألك عن لحظة الخلق الشعري, وكيف تفصل فعلها في لملمة مفردات هذا المشهد وهذه الأحاسيس؟
لحظة الخلق الشعري, لحظة تختلط فيها أشياء العالم, ويشعر الشاعر انه ينزلق من بين اللاشيء, ولا يدري كيف يهيئها, فلحظة يراها هامدة وفي اللحظة التي تليها يتولاها النشور, وهكذا حتى تصل اللحظة الشعرية الى الانكفاء على ذاتها.
حالات الجنون ليست غريبة على العابث مع الشعر, هدوئي الظاهري يتحول في تلك اللحظة الى فوضى يجمعها ويشتتها شاعر لا يدري كيف...
* ألهذا تنساب الدموع من ثنايا قصيدتك؟
نحن نبكي كي ندافع عن وجودنا الهش..
* وتظل المرأة في هذا الوجود الهش والمشهدية الغرائبية, صورة الرحمة والحظ الذي يمنح قصيدتك ألوان الحياة والخصب, أليس كذلك؟
مرة أخرى أفاجأ باللحظة الشعرية, أمام أكثر من بوابة, الحب العميق والموت, رعشة الانتهاء والرغبة في التدفق من خلال هذا العالم, تأتي الحالة من خلال اختناق في داخلي وابدأ في البحث عن مفتاح, ويتجسد العالم بامرأة تغير كل طبيعة الأشياء فإذا هي النعمة والحب الذي يمنح قصيدتي ألوان الخصب وشكل الخلق الكامل, وكيف تريدينني ان أجد خلاصي الا بامرأة...
كانت المرأة منذ طفولتي نعمة, وكنت أحاول بها ومعها لتخطي قسوة الأب, وكنت انهل من بين يديها الهمومتين كل رائحة الشفافية والمتعة, وكانت قصائدي تمتلئ حياة ورغبة في ان تكون.
* وكانت بيروت محطة مهمة على صعيد تعريف القراء بتجربتك الشعرية, واخص بالذكر هنا مجلة (شعر) فماذا تحدثنا بهذا الخصوص؟
صحيح... في بيروت التقيت ببعض الأصدقاء الذين نشروا لي أول قصيدة (شكراً يا وطني) وهي غير موجودة في كتبي التي نشرتها فيما بعد. أما ديواني الأول (الراية المنكسة) الذي لا أحبه, رغم أني اعرف ان الكثيرين يحبونه, لا أقول انه نشر هناك غصباً عني, بل بشيء من الغصب.
في مجلة (شعر) نشرت كل قصائد ديواني (في البدء كان الصمت) وكان الجميع أصدقائي, ولكني لم أكن اشعر بأني واحد منهم فقد كانوا رغم ظهورهم بمظهر الديمقراطيين, يمارسون سيطرة وتشنجاً اتجاه شعرهم وأفكارهم, ومع ذلك فقد أحببتهم واحترمتهم جميعاً.
* رغم الشهرة التي نلتها لم يعرف عنك يوماً حب الظهور أو المشاركة في المهرجانات والأمسيات الشعرية, فما هو سبب هذا الموقف؟
وجهة نظري ان هذه اللقاءات تفسد أكثر مما تصلح, لم اشعر يوماً شعوراً طيباً في أي مهرجان, وكنت أشارك سابقاً مضطراً, واعتقد انه يجب ان يكون هناك تفكير بعلاقة الجمهور مع الشاعر والبحث عن علاقة صحيحة.
* لماذا هجرت صخب دمشق واعتزلت في اللاذقية؟
أنا تعلقت بالحياة منذ ما بعد الطفولة, ورحت أداوم على حبها والتشبث بأذيالها, لكني كنت اشعر دائماً وكأنني واقع في هوة, أحاول القفز حتى يكاد الخلاص يكون قريبا, واكتشف أنني اقفز في مكاني, هربت من السلمية, وكان ظل يلاحقني, وعندما ظهر الظل مرة أخرى في دمشق هربت من جديد, وقلت أداري عن الخلق منظر حزني واختناقي.
البيان الثقافي
الأحد 24 ديسمبر 2000
****
أُطفِئَتْ شمعة "أبي لهب" فمات "علي الجندي"
الموت لا يخيفه... ويرى في الشيخوخة عاراً
محمد القصير
الأحد 09 آب 2009
علي الجندي
إلى مدينته "سلمية" عاد محملاً في نعش، وهو الذي أبصر النور فيها في العام 1928، رحل "علي الجندي" وهو الشاعر الذي عرف كيف تصاغ الكلمة، فكان صاخباً رغم البدء الذي كان هو الصمت، هو شاعر من جيل لا يعترف بالقوانين غير أنها تأتي لصالحه، فكتب لغته التي أحبها، وأعجب بها الكثير من رواد الأدب، 81 سنة كانت كافية لتجعله يعيش أبداً، وهو الذي قال في حق نفسه: "آه إني كلمة.. آه إني كلمة.. لست شيئاً، غير أني كلمة.. إنني أمتد، أمتد، أغالي في انتشاري
إنني أورق، أنساح، أواري".
موقع eSyria حضر تشييع جثمان الشاعر العربي الكبير "علي الجندي" في مسقط رأسه "سلمية" يوم السبت 8 آب 2009. بحضور شخصيات أدبية وسياسية وشعبية، واستطلعنا رأي البعض منهم.
فالتقينا الروائي "نبيل سليمان" وسألناه عن "علي الجندي" وماذا يريد أن يقول في يوم تشييعه، فرد بعين تكاد تدمع، غير أنها تماسكت بعنفوان الرجال، فقال: «الآن؟.. أنا عاجز.. لا أستطيع أن أقول كلمة واحدة، ربما غداً أو بعده أستطيع البوح، لكنني اليوم وأنا أسير في جنازته... في "اللاذقية" يبعد عني ثلاثمئة متر...فترة صمت انتهى اللقاء.
يحكى عن موقف بينه وبين الراحل "ممدوح عدوان" حول من يموت قبل. النص كما ورد يقول: "يقهقه "ممدوح عدوان" قائلاً: (متْ الآن وسأكتب عنك قصيدة). يردّ "علي الجندي" بضحكةٍ صفراء: (متْ أنت، متْ قبلي، وسأكتب عنك ديواناً".
والتقينا الدكتور "محمد صادق الدبيات" رئيس جمعية أصدقاء "سلمية" الذي نعى الشاعر الراحل وتابع يقول: ("علي الجندي" قامة كبيرة من قامات الشعر العربي، نحن اليوم نفقد شاعراً كبيراً بعد أن فقدنا قبل ثلاث سنوات شاعراً آخر هو "محمد الماغوط"، في جمعيتنا كنا قد كرمنا الشاعر الراحل في العام 2007 ربما لأننا سمعنا بمرضه فأحببنا أن نكرمه في حياته، وقد كان سعيداً بهذا التكريم حتى أنه مكث لفترة ليست بالقليلة إثر ذلك).
أما في سيرته الذاتية فقد تخرج "علي الجندي" في جامعة "دمشق"ـ قسم الفلسفة عام 1956 عمل في حقل الصحافة الثقافية .
ما بين "دمشق" و"بيروت"، كما وفي حقل الترجمة عن الفرنسية، وفي الستينيات عمل مديراً عاماً للدعاية والأنباء. وكان من مؤسسي اتحاد الكتاب العرب عام 1969، وهو عضو جمعية الشعر، صدرت له الدواوين التالية: (الراية المنكسة- في البدء كان الصمت- الحمى الترابية- الشمس وأصابع الموتى- النزف تحت الجلد- طرفة في مدار السرطان- الرباعيات- بعيداً في الصمت، قريباً في النسيان- قصائد موقوتة- صار رماداً- سنونوة للضياء الأخير).
وفي موته يقول القاص "محمد عزوز" الشخص المقرب مما كتبه الشاعر الراحل "علي الجندي" فقال: "إذا كان "محمد الماغوط" ملك النثر، فإن "علي الجندي" ملك التفعيلة، لكن الإعلام لم يعطه حقه، خاصة وأنه من الشعراء الستة الذين غيروا في النمط الشعري العربي، رحم الله "علي الجندي".
أجاب الراحل "علي الجندي" عن سؤال يخص البكاء فقال: «نحن نبكي كي ندافع عن وجودنا الهش"..
والتقينا الأستاذ "رومل القطريب" رئيس جمعية العاديات في "سلمية"، الذي قال في رحيل الشاعر "علي الجندي": "من جديد يخسر العرب عموماً وسورية خصوصاً، و"سلمية" على وجه التحديد قامة أدبية كبيرة لها شأنها الثقافي الهام والمؤثر، لا يسعنا في هذه اللحظة إلا أن نطلب لروحه الرحمة".
والتقينا الأستاذ "نضال الماغوط" الذي اعتبر أن الشعر يفقد قامة من قاماته الكبيرة، ويضيف: "يبدو أن الشواغر باتت كثيرة، فما من قامة ترحل ويأتي البديل، ولن أذكر بعض الشعراء الذين حاولوا شغل الشاغر إن كان شاغر "الماغوط" أو "الجندي" هذا اليوم... نحن في أزمة شاغر".
علي الجندي
موقع eSyria يشاطر الأمة العربية، والشعب السوري، والساحة الشعرية حزنهم على فقدان الشاعر الكبير "علي الجندي" ويقدم لقراء الموقع هذه القصيدة والتي تحمل عنوان "أعمى البصر، وأعمى البصيرة" وفيها يقول:
صدقتَ، أنا الأعمى وإن كان لي نظر
يـكاد يرى المخبوءَ في باطن الحجر
وأنـت بـصيرٌ تلحظ الشيءَ واضحاً
بـعينِ قـطاميّ، وإن خـانك البصر
ولـيس الـعمى أن تفقد العينُ نورها
ولـكـنه نـورُ الـعقول إذا اسـتتر
وكـائن تـرى أعمى من الناس بيننا
ومـقلتُه لا تـشتكي الـطولَ... والقصر
***
شـهدت عـلى نفسي بأني أخو
عمىً وإن فـي كـنتَ شـك أتيتُك بالخبر
فـلو لـم أكـن أعـمى لما بتُّ وارداً
مــواردَ لـلآمال مـذمومةَ الـصَّدَر
ولـو لـم أكـن أعمى لأدركتُ
أنني أدور بـسوق لا تـروج بـها الدُّرر
ولـو لم أكن أعمى لما عشت ساخطا
ولي من خيالي الزهرُ والكأسُ والوتر
وحولي عذارَى الشعر يسبحن في السنا
ويـرقصن في الوشي المنمنم والحِبَر
كـواعبُ لا أرضـى بـهن كـواعباً
يَـصُلن بسحر البدو، أو فتنةِ الحَضَر
***
فـيا أيها المحجوب عن رؤية الورى
وعن رؤية الدنيا، حُجبت عن الضرر
عــزاءَك! إن الله أعـطاك فـطنةً
وأعـطاك فـكراً لم يشُب صفوَه كدر
وأعـطاك نـوراً، فـي فـؤادك نبعُه
علي الجندي
يـريك وراءَ الـغيب مـا سطَر القدر
وأعـطاك ألـحاظاً تـسمى (أنـاملا)
ســواءٌ لـديهن الأصـائلُ والـبُكَر
وأعـطاك حـسَّا رقَّ، حـتى كـأنه
دموعُ الهوى العذري، أو نسمة السحر
وغـطَّى على عينيك أن تبصرا الذي
بـه فَـدَيت عـيناي من هذه
الصَّوَر
فـرؤيةُ بـعض الناس شرٌّ من العمى كـأن الـذي يـلقاه يـوخِز بـالإبر
يـعيش عـلى الـدنيا شـقاءً لأهلها
ويـوم يـقومُ الـناس تشقى به (سقر)
***
أعـيذك أن تـأسى عـلى مـا فقدته
فـما هـو إن روَّيـت فيه بذي خطر
فـربَّ ضـرير قـادّ جيلا إلى العلا
وقـائدُه فـي الـسير عُودٌ من الشجر
وكـم مـن كـفيف في الزمان مُشَهَّرٍ
لـيـاليه أوضـاحٌ، وأيـامه غُـرر
إذا حـل نـورُ الله فـي قـلب عبده
فـما فـاته مـن نـور عينيه محتقَر
لـقد طـبَّق الـدنيا (الـمعريُّ) شهرةً
وسـارت مسيرَ الشمس ذكراه والقمر
وعـمِّـر فـيـها مـبصرون كـأنهم
هـواناً على التاريخ ليسوا من البشر
فـلا تـحسب الـعينَ البصيرةَ مغنما
لـمن ليس ذا قلب، وإن زانها الحور
أخـي يـا بـصيرَ القلب، خير تحية
وغَـفْر ا لأعـمى القلب أذنب واعتذر.
مات الجندي وخمد اللهب، فأي الشيئين باقٍ في زمن لا يوقد اللهب.
****
علي الجندي في نبوءة الحياة:.. أبداً أنا استسلمت لا وهناً- مني ولا خوفاً ولا جهداً ..لكنني ، الموت يلجمني- ولهاث قلبي هاتف: أبداً
جريدة الثورة
الأحد 9-8-2009م
ديب علي حسن
علي الجندي
ليس أول قائمة المبدعين الراحلين ولن يكون آخرهم.. إنهم يرحلون واحداً تلو الآخر.. وكأن الطريق الذي رصفوه ذات يوم وكانوا كوكبة
من الشعراء والفنانين والروائيين ,كأن هذا الطريق وصل نهايته واكتمل المشهد بأن ترسخت معالم جيل ترك لنا إرثاً إبداعياً في مختلف الفنون .. رحل نزار قباني وعمر أبو ريشة ومن قبله بدوي الجبل وشفيق جبري وآخرون وقبل علي الجندي رحل ممدوح عدوان وسعد الله ونوس ومحمود درويش رحل ورحل.. الرحيل جسداً سيأتي مهما نأت المسافات وابتعدت الأمكنة.
علي الجندي الشاعر الذي انكفأ على جراحه بعيداً عن أضواء العاصمة لم يكن شاعراً عادياً في المشهد الثقافي السوري بل تركت تجربته الابداعية بصماتها التي لا تمحى ويشكل أحد أعمدة الحداثة في الشعر السوري ومعلماً بارزاً وأساسياً لمن يريد أن يقف على خصائص التجديد في الشعر العربي في سورية ولاسيما في أواخر الستينات وبداية السبعينات..
ترى من الذي يجعل المبدع ينكفىء على جراحه وآلامه بعد أن يكون في أوج اتقاده وعطائه أهو الجرح الذي يغدو في الكثير من الأحايين أكبر من الجسد.. أهي خيبة الأمل في الانسان الذي وهبناه صفوة سرائرنا .. نديم محمد المنكفىء على جراحه إلى حين الرحيل يتبعه علي الجندي، ، وكلاهما لهما في الحزن الشفيف قصب السبق.
محطات في حياته..
علي الجندي من مواليد السلمية عام 1928م تلقى تعليمه الابتدائي فيها ومن ثم الاعدادي في حلب، والثانوني في حماة، بعد ذلك انتسب الى كلية الآداب جامعة دمشق / قسم الفلسفة وتخرج منها ثم انتقل إلي الحياة العملية فعمل مدرساً في مصياف، ودمشق ولبنان ما بين 1960م و1963.
بعد ذلك تم تعيينه في وزارة الاعلام وشغل فيها عدة مناصب إذ كان مديراً للنصوص الاذاعية والتلفزيونية ، وبعد ذلك مديراً عاماً للأنباء ، ومن ثم محرراً في جريدة البعث نشر الدراسات والمقالات الكثيرة في الفلسفة والأدب والنقد في المجلات العربية داخل سورية وخارجها ( المعرفة / المثقف العربي/ المجاهد/ الأسبوع العربي/ الطليعة) وهو عضو اتحاد الكتاب العرب.
من أعماله:
في البدء كان الصمت - مجموعة شعرية
الراية المنكسة/ مجموعة شعرية
الشمس وأصابع الموتى/ مجموعة شعرية
صلاة إلى بتول/ مسرحية مقتبسة عن قصة وليم فولكنر الحرام
الصيف الأخير لألبير كامو ترجمة
طرفة في مدار السرطان / مجموعة شعرية
الحمى الترابية / مجموعة شعرية
قصائد موقوتة / مجموعة شعرية
رحلة أحزان
علي الجندي
في مجموعته الجميلة ( النزف تحت الجلد) الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب عام 1978م يبدو حزن الشاعر في كل نص شعري يقدمه حتى اسم المجموعة هو دفق من الحزن الداخلي الذي لا ينتهي إلا بانتهاء مبدعه، يقدم علي الجندي نصه إلى : نجيب سرور الذي جن ثم طق ابتهاجاً والنص كأس أحزان مترعة ألماً ويأساً وحسرة:
هذا زماني : إني انتميت إلى الفرقة النازفة
وصار التماع السراب جميلاً بعين الملايين
واختلطت بالبحار الصحارى
توازى الصراط القديم مع الشارع الزفت
والشاطىء المتجدد ودوماً بخير الأمومة
ماء الغسولة .. هام على وجهه الشاعر
المستجير من الجوع
بالموت، فاغتاله سيد العتبات الغمام الخلاسي
بالسيف والصلوات، وآواه تحت سلالم دارته
أو سلالم أقبية الخمر
فئرانها تزدريه فتحصره خائفاً في زوايا الجنون
تسول، تسول أيا قائد الكلمات المضيئة
لا شيء
عنوان قصيدة من مجموعته ( الراية المنكسة) الصادرة في حزيران 1962م بيروت في هذه القصيدة يقدم الشاعر هويته ويقرأ ملامح غده القادم:
شردت أيامي على طرق الهوى - فحملتها في زورق مخمور
وغسلت بالماء المقدس جبهتي - فإذا أسود وضميري
واذا الدروب طويلة محمومة - محفوفة بتهتك الديجور
تفضي إلى اللاشيء إلا أنها- تغري به في خسة وحبور
ورفاقي : الشعر الرجيم معتقاً
في كأس خمر سمحة وشعوري وخيال حواء الأثيمة ماثلاً
أبداً أمامي في دمي المسعور
وفي المجموعة ذاتها ثمة قصيدة تحت عنوان (أبداً) في هذه القصيدة يمهد لعزلته القادمة إذ يقول:
علي الجندي
أبداً وأكره هذه الأبدا- وأحس فيها الموت والكمدا
فحروفها السوداء حاقدة- تلقي علي الهم والسهدا
أبداً تعربد في دمي فأرى - أن الوجود تفاهة وسدى
أبداً تعذبني ، تمزقني - وصريف أحرفها يلوح مدى
أبداً أنا استسلمت لا وهناً - مني ولا خوفاً ولا جهداً
لكنني الموت يلجمني- ولهاث قلبي هاتف : أبداً..
علي الجندي الشاعر المبدع يرحل جسداً ويبقى إبداعاً وعطراً فواحاً.
***
شـــــــــــاعـــر من بلاد الغيم
الثورة - ملحق ثقافي
الثلاثاء 28/11/2006
د.إبراهيم الجرادي
أمن حبٍ أكتب عن علي الجندي...أم من واجب أكتب عنه..؟ بخٍ..بخٍ علي الجندي أكبر من هذا وذاك! لأنه يقف دائماً في الجهة المضيئة من العتمة!
علي الجندي
من تسنى له معرفة علي الجندي عن قرب، سيكتشف بسهولة فائقة، أن هذا الشاعر التراجيدي، لايتشبث إلا بأوصافه التي يعدها أوصافاً خيّرةً وهي كذلك، وسيكتشف بسهولة أكبر، أنه لا يقيم وزناً لما يسعى إليه الاخرون: الجاه والمال والمهابة،وسيكتشف، وبسهولة أيضاً، أن أناقته اللافتة، والعصرية، المفرطة، أحياناً تشير، بل تشير في آن معاً، الى بساطة أسرة تسعى الى ما يجعل الحياة أجمل وأفضل ومنذ الستينات-زمن فتوته الشعرية وصباه-كان علي الجندي يستخف بكل شيء إلا الشعر، ولا يعتد بنفوذ إلا نفوذه، ففي الوقت الذي كانت فيه صفة الجندي لها نفوذ الجنرال، كان مشغولاً بإعادة تأثيث الحياة بأدوات الشعر لا سواها، يشي بذلك عملاه «الراية المنكسة» و«في البدء كان الصمت» 2691 إنه الشعر، بيان الخيبة، وقد أصبح المعنى الكثيف لحياته المضطربة، وأحلامه المستعجلة التي لم تستقر أبداً ولم تكن شخصيته أبداً، فقد قادته الى موازين خاسرة، كان يمكن تلافيها لو أراد لشعره وحياته، أن يقفا على حافة النهر، هو الذي كان يرى (آماله) الكبرى تتداعى أمام عينيه كالأنقاض، وفي غمرة اليأس الذي كان يقوده الى «عدمية» لها أصل في فكره وثقافته خفف من سطوتها شعوروطني عال وإحساس بالأرض تجلى في صورتين هما أساس شعر علي الجندي: المرأة والخيبة اثنان من ثالوث لم يخرج عنهما علي الجندي وشعره الذي ما أظنه حسب حساباً لسواه، وما عداه كان هباء وقبض ريح وقد ربطهما بوثاق محكم، صنوان لحلة واحدة: أنا وطنٌ مثخنٌ بالجراح وأنتِ بلا وطنٍ فاسكنيني.. وكأن جريرة «العدم» توقدها نارها، في حزيران لاسواه لتسجل معنى آخر: كانت رائحة حزيران في ثيابه، في لغته، في سخطه وانكساره، وهكذا لم ينتحل لشعره صفاته المعروفة، فبدا مكسوراً، خائباً، وكانت الأرض تنوح في شعره كما ينوح شاعرها: حمامة بيضاء في منتصف الليل، أجراسٌ نائحة توقظ في المكيدة ذئابها، وتستفحل الفجيعة، حتى تصبح مرثيةً، لم أر لها في إهابها المؤثر (شكلاً ومعنى) قريناً في الشعر العربي الحديث، ففي قصيدته الفجائعية (سقوط قطري بن الفجاءة) (الحمى الترابية 9691) تبدو النزعة الذاتية المفرطة في شجنها في مرثية هي إحدى علامات الشعر السوري الحديث إحالة الى معاناة (وطنية) تشير فيما تشير الى أن شقاء علي الجندي يتأتى من معاناة أبعد بكثير مما تدركه النظرة العابرة وأن قلقه الدائم تأتى من سعيه الدائم لأن تكون الرايات رايات والمرتفعات كالقلوب، مرتفعات لا يصل إليها العدو: (..وداعاً يا ديار العزّ والمنفى، وياقبر الهشيم الرطب، يالحم الأعاصير الخرافية..وها أنذا أجي إليك يابلدي من الصمت، محملة غصون شبابي المضنى بأثمار تفيض بنكهة الموت..) (وماذا بعد؟ ماذا بعد؟ حسبي في هواك المرِّ أني السيد العبدُ وحسبي أنني أحيا فقيراً معوزاً في الكون لا أملك، ولن أملك سوى من أرضك المعطاء مايحتاجه قبري) لاهٍ، هكذا تبدى للعابرين القلة والطارئين. هو الذي كان جريحاً، كما ينبغي أن يكون الجريح، لم يكن مصاباً بداء الصفوة ولا ممسوساً بداء المهابة الكاذبة/الشاعر وقد لسعته جمرة الخلق، يتسلل وحيداً الى مخدع مرثيته التي يحب، يحضنها كالغزالة، يستحم برذاذ رائحتها النفاذة كالليمون، لتفرد على راحتيه أسبابها، ويتوارى خلف مكيدته الذئب. من قفرٍ مثقل بقفر، من قاموس أوجاع يتسع حتى يضيق علي، من لغة كاليتامى من أرق يقظان من تعب، من هنا، أضع بين يديك الشعريتين، باقة من نثر كسير، عرفاناً من ثلة الشعر، من يتامى الوقت، بوجودك الآسر في حياتها، علي الجندي أيها الشاعر! لتظل قصائدك تتزيا بنفسها بثياب من مديح الضوء! ولترتح مزاياك في ميراثها وتداري نفسها ذكرياتنا بحضورك الأليف. عم صباحاً، يافتى الشعر!
****
أجمل حوار مع يعسوب الشعراء وظريف دمشق علي الجندي
26/08/2007
الثورة - ديب علي حسن
موسيقي يستمع إلى صوت الطبيعة ويستمتع بمخالفة الأعراف في الحياة كما في الشعر
حملنا روحنا وذهبنا إليه:
علي الجندي
صباح الخير أيها الشاعر.. استقبلنا بابتسامة وأشار أن أجلس حتى لا تكدر استرسال الموسيقى اليونانية.. موسيقى زوربا وهي تنساب عبر اصص الزهور ثم ترفرف في الفضاء فوق البيوت المتناثرة في شعاب جبل الفقراء كما يدعوه هو.. في كل صباح يقف بنافذة بيته العالي كعش النسر ليتأمل حركة الناس في هذا الحي المخالف على اطراف جبل قاسيون.. يشرد مع الموسيقى.. عبر الدروب القديمة. خلال ضجيج الأزقة، يمضي مجرجراً خطواته المتعبة كأنه ينساب فوق وحول السنين، خائضاً لجة الذكريات..
بعد ساعة من النشوة وأنا أتأمل انفعالات وجهه: وجه رجل في الستين عرف معنى النشوة وشغف الحياة.
* قلت: كأنني أرى طيف زوربا في ملامح وجهك؟
قال: - قد سمعتها من كثيرين.. ولكني اؤكد لك أني اشبه بزوربا الذي كان يسكن روح كازاتنزاكي من ذاك الزوربا الواقعي الذي عاش معه في جزيرة كريت.
* والموسيقى، كيف بدأت علاقتك بها وكيف تموسقت مع لغتك الشعرية؟
في طفولتي كانت اسرتي تعيش في بيت منعزل عن الضعية، وكنت كثير الحركة، ابحث دائماً عن شيء ألهو به في هذه العزلة، اتتبع أعشاش العصافير، أركض خلف السحالي واستمع إلى زمزمة النحل. وكان أكثر ما يفتنني صوت الحليب عندما يتدفق من ثدي البقرة.. بقرتي الوحيدة التي كنت ارعاها حافياً.. حتى الآن مازلت أذكر ذلك الصوت السحري، عندما أقطف ورقة تين وأكورها على شكل كأس تحت الثدي ثم أحلب الحلمة: بش بش.. كنت أحس بكل طمأنينة العالم وكل هذا الارتواء.
ومن يومها وأنا أحاول أن أنسق بين هذا الصوت الدافئ وبين موسيقى الشعر الذي افتتحت حياتي بها.
* هذي هي الموسيقى التي تعيد لك طفولتك.. ولكن ماهي الموسيقى التي تعيد لك شبابك؟
موسيقى كعب حذاء نسائي يخطر خلفي على الرصيف، كأصابع فنان تعزف فوق مفاتيح البيانو.. في تلك اللحظة تتفتح مصاريع ذكرياتي وأشعر بالحنين لكل هذا العدد من الحسناوات اللواتي سأغادرهن يوماً.. ولكن، آه ياولعي المجنون بالحياة، اقفر الساح وعربد الأصيل..
* ألا تخشى من ان تسمعك زوجتك؟
دلال؟ هذه آخر حسناء اقفلت علي الباب.. لقد ولت ايامي والصبايا الان ينادينني (عمو علي) وللحقيقة فقد غدا شعوري أبوياً نحوهن.
* ضحكت متخابثاً وأنا اردد مقولة زوربا: (عندما يفقد أحدنا أسنانه يصرخ قائلاً: من العار أن تعضوا أيها الأصحاب).
هيه.. كن طيباً وإلا امتنعت عن الحوار معك!
* في هذه الحالة سأجري معك حواراً غيابياً..
وأنا لا مانع عندي لقد مللت من اولئك الصحفيين الذي يسألونني عن تاريخ ولادتي واسم قريتي وشهاداتي واسماء مؤلفاتي ووزني أيضاً.. وما أرجوه هو الا يسألونني عن تاريخ وفاتي.
* الشعراء لا يموتون يا عزيزي، وانما يبقون احياء في اغاني الناس وذاكرتهم...
اذن هيا بنا ننزل إلى الناس..
اعطاني آخر ديوان مخطوط له ريثما ينتهي من حلاقة ذقنه.. تأنق ثم تعطر ولما خرجنا زادت ابتسامته اتساعاً...
* هل ننزل في المصعد؟
لا أحب السجون المغلقة.
* وهل جربتها يوماً؟
اختفت ابتسامته ثم أجاب:- لماذا تود تعكير مزاجي؟
* عفواً، (أبا لهب) لم أقصد ذلك.. ولكن، لماذا اخترت هذا الاسم المشاكس لابنك الأكبر: لهب؟
كنت استمتع بمخالفة الاعراف، في الحياة مثلما في الشعر.
خرجنا إلى النور. وقبل ان نقطع الطريق صافح آذاننا صوت نسائي ناعم:
علي.. ياعلي.. انتبهت إلى سيدة اربعينية تحمل بيدها أكياس خضار قلت
* هي زوجتك، السيدة دلال حاتم؟
كيف عرفت!
* لانها نادت بـ علي (حاف) بكل بساطة.. أهلاً مدام.. تعارفنا ثم مدحنا بعضنا.
كتاباتك لطيفة..
شكراً لقد تربينا على قراءة قصصك في مجلة أسامة.
قبل ان تودعنا سألت مازحة: - ماهي اخبار بقرتك الثقافية؟
انها تعكف على كتابة مذكراتها بعد تحسن وضعها المعيشي..
في الطريق كانت التحيات تأتي من كل أهل الحارة مستفسرة عن أحوال الاستاذ..
* سألته: إلى أين يا مولانا؟
إلى مطعم "الشرفة" لنعمل بنصيحة سيدنا المسيح: كثير من الخمر يفرح قلب الإنسان!
* قلت مصححاً: - قليل من... يجب ان تعلم أن قليل الانبياء كثير بالنسبة لنا...
حسنا، انك تشرح النصوص بطريقة ممتعة...
هاقد وصلنا إلى مبنى الاتحاد الفخم. المصعد معطل. نرتقي الدرج. كانت الساعة قد بلغت الثانية ظهراً وموظفي الاتحاد يغادرون.. بينما كنا نصعد التقينا برئيس الاتحاد وهو هابط سلاماً فكلاماً:
اهلا استاذ علي.. امازلت تسرج القوافي؟
لكنها تغير نحو الموت دونما أعنة..
تحيات سلامات... ابتسامات ليعسوب الشعراء وظريف دمشق.. في الطابق الرابع أخذه التعب.
* قلت ساخراً:- أنهم يقتلون الخيول؟
هذا أفضل من أن تنفق مللاً...
* وهل تخشى الملل؟
علي الجندي
ولماذا برأيك نحن بحاجة للأولاد والأحباب والأصدقاء!؟ و.. اسمع .. هناك أسطورة تؤكد على أن الملل هو السبب في تطور الحياة!! تقول الأسطورة: أن الملال أصاب الآلهة فخلقوا الإنسان.. وأصاب الملال آدم لانه كان وحيداً فخلقت حواء.
وهكذا دخل الملال في العالم. وازداد بقدر ازدياد عدد السكان.. وكان آدم في ملال وحده، ثم أصاب الملال آدم وحوء معاً فأنتجوا أولاداً للتخلص من هذا الملال.. ثم أصاب الملال آدم وحواء وقابيل وهابيل كأسرة.. ثم ازداد عدد سكان العالم فأصبح المجموع في حالة ملال بالجملة كجماعة...
كنا لا نزال نصعد الدرج المتعرج عندما توقف من جديد:
- اسمع! هل تذكر ما قاله فاوست: ندور في حلقة مفرغة، على دروب متعرجة وقويمة.. واعرف جيداً أن الجهل مصيرنا. وهذا أكثر ما أبغض وأكره..) أكملت له المقطع: وهذا أنا ضائع بين ركام من كتب يفتك بها الدود والغبار...
أخيراً وصلنا إلى "شرفة" كتاب الوطن.. كان المكان فارغاً سوى من بعض الندلاء وشاعر شاب ينظر بلهفة إلى وجه صديقته وشفتيها اللتين تتحركان باستمرار.. قبل أن نجلس قطب علي الجندي وجهه فجأة وكأنه تذكر شيئاً!
- هيه؟ لماذا لم تقرأ في مخطوطتي التي أعطيتك إياها قبل أن تخرج.. شاهدتك وأنت تلقي بها جانباً يا... (قام بشتمي بطريقة فنية وناعمة).
لأني أعتقد أن حياتك أكثر شعرية من شعرك، وأنا قد أتيت لمتابعة تفاصيلها بدلاً من تبديد الوقت في تصفح دواوين يمكنني قراءتها فيما بعد..
أنت تشتم بطريقة ممتعة أيضاً..
جلسنا في الجهة الغربية لنطل على المساحات الخضراء المتبقية من هذي المدينة التي استعمرها الاسمنت.. وكأمير متقاعد كان الندلاء يحتفون بأبي لهب: غطاء الطاولة الأبيض والكؤوس البلورية الشفافة، قفص الطيور وعازف البيانو.. الجميع يخدمونه بسرور. امتلأت الطاولة وأترعت الكؤوس. وكنت أفكر بأننا سنعيش امتلاء اللحظة كحبة حنطة ناضجة.. أمسكت قلمي ثم تناولت ورقة وخططت عليها:
وهذا أنا رهيف كسيف حزين وهذا رغيفي، وأنت.. أنا وكل الصحارى، وكل الندى تودع فصل الخريف وهذا بقايا الرغيف فهيئ لنا الزاد والمحبرة.
أخذ الورقة والقلم وخط عليها "وهذا زمان الحكايا الرديئة وتحت فروع الفلاسفة الصيد يورق صخر الخطيئة".
قلت له: - صحيح أن الفشل الدائم في الحب هو الذي يخلق الفلاسفة والفنانين..
- لأنه عندما يكون لديك أنياب قوية ومعدة جيدة لن يتوفر لديك الوقت للتفكير..
ولكن، لماذا نحن ضعفاء أمام كل هاته النساء اللائي يحاولن امتلاكنا؟
عندما تحبك المرأة أكثر مما ينبغي يصبح حبها سجناً لك.. وأنت كرجل معشوق تنتقل من ملكية الأم إلى ملكية الزوجة.. ما أغبانا ونحن الذين نظن أننا نحرك العالم! إنما النساء هن اللواتي حركن التاريخ. ولو أردت دراسة التاريخ لبحثت في سيرة زوجات السلاطين والفاتحين وعشيقاتهم.
صمت علي وسرح بصره فوق دمشق. كان في عينيه التماعة من حزن وحنين.
تنحنح ثم قال: -كانت أمي تسرّح لي شعري وتزرر لي قميصي. تقبلني ثم تربت على ظهري: - هيا إلى المدرسة يا حبيبي.. أيضاً زوجتي كانت تفعل الشيء نفسه قبل ذهابي للعمل.. أيتها النساء لقد تعبنا من حبكن..
ولكنك قد أدمنت هذا التعب.
لأنه يساعدني على فراق الأصدقاء.. كل هذا العدد من الذين أحببتهم وغابوا.. بعضهم ابتلعتهم الأرض، وآخرون ابتلعتهم ديمقراطية الغرب بعدما رحلوا..
وأنت بقيت هنا كطائر مقيم.
اعشب الحزب على ارماس أحبابي، ولم يبق لحقلي من تخوم.. "ذهب الذين أحبهم وبقيت مثل السيف فردا".
سيف!.. ولكن البشر استغنوا عن السيوف هذه الأيام.. لقد غدا الشعر ترفاً أيها السيد.
بعد ما كان خبزاً يقاتل البشر من أجله..
وبعفوية أخذ يخط على الورقة التي ملأها بالخطوط المتشابكة كحياته: جالس وحدي على مائدة الإيقاع أستجدي من الصمت قصيدة طاعن في الوهم، لا شمس على دروبي، قوافيّ حزانى، وأمانيّ فريدة.
* أنت تبكي يا أبا لهب!
لأن العالم مازال يصدمني، كالطفل ساعة الولادة: يبكي محتجاً لمجيئه إلى هذا العالم المجنون.
مع ذلك فأنت تحب هذا العالم وتحاول تجميله بالشعر.. كم أنت شبيه بدون كيشوت..
تبسم من جديد وقال: -أهذا مديح أم شتيمة؟
كلاهما معاً.. الشعراء فاشلون كبار، يقدمون حياتهم لإضاءة العالم.
والذي يحصل هو أن يحرقوا أنفسهم.. كل جيل يضم رجلين أو ثلاثة يضحى بهم من أجل الآخرين ومهمتهم أن ينشدوا في الآلام المروعة ما يستفيد منه سائر الناس. هذا ما كان يردده كير كيغارد..
بعد هذه الكلمات الجدية تابعت وبشيء من الشقاوة:
* أستاذ علي، أنت الآن في الستين. ألم تنته من اللهو بعد؟
(شتيمة).. أنا أكبر من أن يرضيني اللعب واللهو، وأصغر من أن أحيا بلا رغبات.. كلما تقدّمنا في العمر تعلقنا بالحياة أكثر وعرفنا قيمتها.. وأنا لا أستطيع أن أعزف عنها عندما تهتز أمامي بكعب عال وساقين ممشوقتين.. كلما ابتعدت عن الماء عرفت قيمته أكثر يا صديقي الشاب..
كان يبحث عن فسحة بيضاء على الورقة الممتلئة فسارعت بوضع صفحة أخرى أمامه.. فبدأ يكتب بخط جميل:
وأمضي، أنقل خطوي برفق خلال المدينة إذا لاح طفل يحدق فيّ، يخيل لي أن أمسي يلوح بعينيه احزن يوقظ آلام عمري الدفينة، مررت على كل شيء قديم وصار يهلّ عليّ نشيد المطر لقد جمد اللحن في خاطري.. وأمسى جنون شبابي حجر!!
وعندما قرأت «نشيد المطر» علمت أنه تذكر صديقه الراحل بدر شاكر السياب فتركته لأشجانه ومضيت تاركاً إياه مع أحلامه القديمة المنسلة عبر شقوق المرارة والفرح وأنا عالم أني وأنتم وأنتن سنتسرب عبر رمال شبابنا داخل لعبة الزمن.. وكان لسان حالي يردد قوله:
كان نهر البكاء ينساب من أول الحقل المدمى إلى مشارف أهلي.. كنت من كوة الغيوب مطلاً، وعلى وهجها المريع.. أصلي.
نبيل صالح- الجمل
علي الجندي
على مقربة من تكريمه في سلمية...الشاعر علي الجندي : ليكن لي مستراح أخير في جهة التراب المجاورة للروح
وقبل أربعة عقود علي الجندي : لم يعد للشعر مكان فوق الارض..
أحد المغتربين الجميلين , باتجاه فوضى العمر و القصائد و أرض الشهوات , و الكتابة المتعالقة مع شجون النفس و النساء ..
و قدر القصيدة أنها كالمرأة المحبوبة , تتآمر على ضعف الشاعر , و تتحاور مع صبواته و خيباته, على أنها محطُّ اهتمامها و انشغالها .. و هي حقاً منشغلة و شاغلة , و تشد ُّ الشاعر إلى أرض الفتنة , و حقول البهجة المسورة بالفوضى الحنونة , و الأمطار المتغاوية ..
علي الجندي كاهن عجيب يدير أسقفية أحزان , رهبانها الأحلام و الضلالات , التي يهتدي بها إليها ..
في ستينات القرن الماضي بدأ رحلته في غابة الدهشات , و أشعل قناديل أشواقه , في حارات النساء , اللواتي تصادقن مع ضوء أبهته, المشهودة ,في حينها.. و لم تنم قناديل الأشواق في رحلة علي الجندي , و لم تتوقف المرأة عن صداقتها الحميمة مع أشواقه و احتراقاته , التي لم تصر رماداً , بل صارت شعراً و شعوراً , أحيا في جسد المفردات نيران الدلالات و الإشارات , وأيقظ الخلايا النائمة , في تكوين الجمل الشعرية , نداءات القصيدة , و حروف جر و رفع و ضم الأفعال الإبداعية ..
علي الجندي و فايز خضور متجاوران في البدايات , و الطفولة و العيش, و خصوصيات الشخصية الحياتية اللافتة و الجديدة باستحضار اهتمام المرأة أولاً , و المجتمع ثانياً و التقيا و تشابها في تجربة الكتابة الشعرية , التي تميزا في غمارها , كتميزهما حضوراً جمالياً شخصياً صار اختلافاً لافتاً لكليهما : علي الجندي و فايز خضور شاعران متميزان حضوراً شخصياً و حضوراً شعرياً..
و في مرات كثيرة جمعتني و الشاعرين الكبيرين قال علي الجندي :
فايز خضور شاعر شرس , يسيطر على القصيدة ,و يملك روحها و مفاتيح إدهاشها , و يحرضها باتجاه فتنة اللغة , كما يفعل حيال المرأة , التي يسقط إليها , أين تكون كسقوط الشهاب إلى محترقه ...
أنا و فايز خضور تأتينا امرأة الضوء , و تصادق أغانينا , و تشعلنا إلى آخر الأغصان و الثمار و الشموس و الوهج..
و محمد الماغوط الغريب الراحل , كان شاعر الزَّبد : ترك الموج و اختص بالزبّد.. و الزبّد.. أرقى و أعلى شأناً من الموج ..قبل غياب الماغوط خيوط الكلام تربط بين شطين للأحزان و الذكريات , و أيام الحياة ..
محمد الماغوط في دمشق لم يتركها كما فعلت اذ اتجه بي درب العمر إلى اللاذقية , حيث المقهى القديم هنا , و الزرقة النائمة التي يفكّ أزرار معطفها الغروب أو رحيل النوارس..
محمد الماغوط و فايز خضور و أنا مثلهما , جميعنا غرباء باتجاه أرض الشهوات و الحب و الكتابة الموجعة ..
لا يغيب عني صوت و شعر فايز خضور:
قدر النوارس أن تبيض فراخها بين السفائن
لا البحر يعرفها و لا الجزر القصية
نغّصت جلجانها صيغ المرارة في البراري
الشاعر يقطف من عناق الفصول مواسم الأغنيات..
وحين يرحل لا يصادف عند الزمان خريفاً أو ربيعاً أو شتاءً أو صيفاً ظامئاً..
الشاعر يعصر الأزمنة في جرار من كلام
ويسافر على متن زورق من غرائبه الجميلة..
ولا يطوي الشراع و كيف يطوي الشراع , و قدام عينيه فتنة الزرقة و امتداد المدى و البحور:
.. تجئين مستوحده
ذراعاك مفرودتان لعشب البحار
ووجهك مرآة هذي القفار
و قامتك المائدة .. و.. أطلع صوبك من غصة القلب مستنفراً وحزيناً , أصعد في ذكريات إهابك كالنار ...
أحرق خلفي غبار الطريق و أحلف : إني لن أنهده !
.... و.. ماذا ترومين قولي ؟
فإن السنين تولى وعشب البراري يولّي
وتورق أشجار بيتي اصفراراً
وتفتح في الأفق نافذة للتجلي ولكنها نافذة ! و.. أتبع آثار حبي ,
ألاحق خطوات موتي !
في الأيام القادمة تحتفي سلمية أم علي الجندي الأولى به وتقيم له مهرجاناً تكريمياً , يتشارك فيه محبو الشاعر والنقاد وأبناءسلمية ومثقفون وشعراء من اللاذقية ودمشق وحماه وطرطوس والمحافظات الأخرى ...
لم يبق ل علي الجندي , في سلمية بيت يرجع إليه , وبقيت له أمه الأرض , اتصل بمصعب الجندي ولد شقيقه المترجم والمثقف الراحل المشهود له د. سامي الجندي مترجم كتاب لويس أراغون مجنون إلسا الذي حمل هموم وتعبيرات روح شعرية كبيرة , إنها روح أراغون الشاعر الكبير , الذي استفاد عنوان كتابه الشعري, من مجنون ليلى الشاعر العربي الكبير , الذي عاشها ومات في محبوبته ليلى, قيس ين الملّوح ...
ليلاً هتف الشاعر ل مصعب الجندي ليسأله عن الأرض المجاورة للبيت القديم .. .قال له : يا مصعب : عشت معها وفيها , وزرعتها بالأشجار , وربيت فيها الدجاج والماعز .
يوم أموت تختار لي مكاناً لقبري في أرض سلمية حيث كانت الشجرة الكبيرة , وحيث الدرب المؤدي إلى النبع القريب رتب حدود الأرض وقسمها كما ترى , لكن لاتنس يا مصعب أن تختار ل عمك الشاعر الغريب مكاناً لمستراحه الأخير في جهة التراب التي تجاورت مع الروح أيام الطفولة والشباب , وإلى اليوم , رغم البعد , لم تزل متجاورة مع الروح ونهدات القلب المتبقية : وديوانه الأخير المطبوع سنونوة للضياء الأخير ارتحل علي الجندي بين العناوين الأخرى والقصائد , وتاه بين المرافىء وصوت النوارس وبين زاويتين من كحل وماء ... أصدرت جورجيت عطيه ابراهيم أعمال علي الجندي شبه الكامله ... وظل في والروح متسع للغناء , وأوجاع الغربة والرحيل باتجاه الزرقة المتعبة وقبرات البكاء والوجد وأسئلة الوقت الضائع في خراب عجيب , لايليق بالشعر وسوسن الشعراء.
في اللاذقية حيث وقت الزوجة والجسد المتصدع من ثقل العمر والوجع ومواسم الفرقة والغياب , ينام ويصحو علي الجندي على بحة مزمور الحنين ونهدات ريح المسافة , بين شط القلب وأوجاعه , بين مستراح الفؤاد غير المهيأ للاستراحة وبين طفولة ودروب وأم من تراب هي سلمية , وأم من الحب واللقاءات والكتابة والأصدقاء والحبيبات هي دمشق ...
الهجرة التي يبدؤها الشاعر ويختمها بلعنات العمر الضائع في مجاهيل الكلام والرغبات المتمرسة بالاحتراق واللقاء والافتراق ...
علي الجندي صديق الحبر والقصائد والمرأة وصديق الشعراء والمحبين على مقربة من دمعة وحب المكان الأول ( سلمية ) وتكريمها الحاضن لسرب قطا ونايات عناق بين المسافر والمحبين المنتظرين المتورطين بأحوال الحب الثقافي الجميل , رغم كلّ المرارات والهجرواللعنات .
الثورة ـ حسين عبد الكريم
وقبل أربعة عقود علي الجندي : لم يعد للشعر مكان فوق الارض..
علي الجندي بدأ بالصمت وانتهى بالصمت, في ( البدء كان الصمت) المجموعة الشعرية التي تحمل في نهايتها رأي الشاعر بالشعر وبالشعراء
ومنذ عام 1962 م اي قبل ا ربعة عقود ونصف .. هذه المجموعة التي شكلت انعطافة هامة في تجربته الشعرية واضافت الى التجربة الشعرية العربية لوناً وطعماً جديدين, لا تأتي اهميتها من هذا وكفى انما برأيي تأتي بما حوته الخاطرتان اللتان نشرتا عن الشعر في نهايتها .
أكره التفرج على رقصة الأفاعي ..
الاولى كانت بعنوان : ويرحل الشعر عن كل المدن
وفيها يقرأ الشاعر ما هو قادم, فالحياة بألوانها القاتمة القاحلة تحمل ما هو الاسوأ بالنسبة للشاعر وللشعراء .. تفقد الحياة معالم جمالها, لم تبق فيها محطات تبعث الالق.. الكل غريب وغريب عن الزمان والمكان , المبحرون في الزمان غرباء, التائهون خلف الافق ضائعون العائدون ضائعون يقول الشاعر في خاطرته الاولى:
متعبة وجوهكم ايها البحارة المرهقون , النسيان يخط عليها قصة اشرعة سوداء.. عبرت برزخ الجنون برشاقة لفظة خائفة!!
ثيابكم نشر ربيع على اوتار يهزها الرعب!!
لماذا هجرتم منافيكم في سبيل منفى جديد ? العالم يتوضأ في ظلمة الحنين يشمر عن ساعديه ليرفع تجديفه ا لمحموم الاخير للغيوم العابرة.
الشعر سحابة سوداء..
لم يعد الشعر خلاصا او املا لم يعد ملاذا بل صار يباسا لم يعد خيالا بل سرابا ونذير شؤم : ( الشعر يخيم على المدينة يرفرف في سمائها سحابة سوداء عقيما وعيناه تطلان على الابعاد !!
انه يسحب ذيوله رويدا رويدا و.. يهم بالرحيل, أجنحته ملونة بدموع النائحين مع الفجر وبرنات الحزن يطلقها الحديد والنحاس!!
المداخن تعلق اثواب الشعر على شفاهها, وتنشرها في وجه الشمس الغائبة الاسلاك الشائكة تحجب عن اسرابه البيوت العالية, وترتسم وشما على خدود الحدائق العامة.
المدن الباردة
المدن التي اغتالت اللحظة الانسانية الدافئة هي التي تغتال الشعر, هي الحياة الباردة هي التي تعيش بالدم الاسود لا الاحمر: ( لقد امتصت ازقة المدن كل دم الشعر , ونفثت في عروقه سمها الاسود..!
الشعر سحابة سوداء عقيم لا تهطل بالمطر!!
الشعر يهم بالرحيل عن كل المدن , هو ذا على اهبة الرحيل ولكن قوائم الاخطبوط شدته اليها .
لقد انتهى عهد الشروق, وها هو جسد الشعر يزحف دبقا هلاميا ويجاهد لكي يرفع رأسه في الهواء من منفذ او يمده من شق باب من ابواب المدينة عله يتنفس . . الشعر غاب عن وليمة الشعراء تنكر للسماسرة والمرابين هجر المدينة ابدا ليموت عند حدود الصحراء..
مضى عهد البراءة ..
في الخاطرة الثانية يبدو علي الجندي اكثر يأسا واشد قدرة على استشراف القادم من الزمن وكأن الحزن يفتح آفاقا على المجهول العالم الذي رآه شائنا خان الشعر وخان كل شيء ( شائن هو وجه العالم وعروقه متصلبة جافة من الدم والافاعي تؤدي كل الرقصات دون حاجة للسحرة عازفي الناي الليل لم يعد يتحدر من الاعالي, فقد امتد نهار القطبين على العالم والسلالات المنقرضة عادت تهزج لمولد الشمس لم يعد للشعراء مكان فوق الارض والنبوة غدت جثة للنفي في حدائق الضباب .. لقد اشهر الشعراء سيوفهم المتخمة بالحبر الاسود على طواحين الهواء وكل يركب رأسه وينادي: على الجهاد.. لم يعد للشعراء مكان في عصر الجماهير ومتى كان لاصفيائهم مكان هناك ..
شاعر مهموم..
يقدم نفسه دون مواربة او خجل, يقرأ خارطة ابداعه القادمة: انا شاعر ومهموم وفي وحول الغربة غاصت قدماي انني ارفض نجدة الجماهير واحمل صليبي بعيدا عن مائدة العشاء المقدس, واكره التفرج على رقصة الافاعي وابذر احتقاري سوى على الشعراء وقبيلتهم . .ولن اقول كلمة بعد اليوم إلا لهم, ولأبق ملعونا تلاحقني اللعنة حتى القبر.. فما يهمني شيء ما دامت قدما الحياة تنغرسان على حافتي الهاوية وما دام الصمت اله العالم والقلب ساعة معطلة ..
قدم علي الجندي بيانه الانساني والابداعي في هاتين الخاطرتين اللتين تحتاجان الى اعادة قراءة غنية والبحث بعمق في رؤى الشاعر التي تقطف الآن ثمارها البائسة ابداعا وانسانية.
محطات
قدم علي الجندي للشعر العربي اكثر من مجموعة شعرية من مجموعاته نذكر :
في البدء كان الصمت . -الراية المنكسة.
الحمى الترابية -الصيف -قصص مترجمة- الشمس واصابع الموتى- مجموعة شعرية - صلاة الى بتول - مسرحية مقتبسة- الصيف لألبير كامو ترجمة -قصائد موقوتة.
والشاعر من مواليد 1927 م في السلمية تلقى تعليمه الابتدائي فيها , تخرج في كلية الاداب ( قسم الفلسفة) عمل في التعليم في مصياف ودمشق , عمل في وزارة الاعلام وتسلم مناصب رفيعة فيها نشر مقالاته النقدية في الدوريات العربية ونال شهرة عربية واسعة . للشاعر الصحة والعافية والعمر المديد.
****
أصدقاء.. وعلي الجندي .. صورٌ بقلم شاعر
دمشق
صحيفة تشرين
ثقافة وفنون
الاحد 29 آذار 2009
من أوراق وإعداد: عادل محمود
الشاعر علي الجندي سجّل اختفاءه الصارم منذ عدة سنوات والسبب التقدم في السن وفقدان الأمل.
كل من تعرّف الى هذا الشاعر أدرك أنه من الأشخاص الذين يتقصّفون كأغصان الشجرة الضخمة، غصناً وراء غصن، حتى يبدو عليها، فقط، أنها موجودة في المدى اللامجدي لحقل الحياة. مؤكّدة، لفرط رسوخها، كم كانت على قيد الحياة!
كل من تعرّف إليه أدرك أن جيلاً من الشعراء، الذين لم تُعرف لهم مهنة إلا الشعر، سوف ينقرض. ويبقى في الذاكرة تلك الشخصيات الحريّفة الحادة المتطاولة والجميلة!!.
كان علي شديد الاهتمام بمن وما يظهر على وجه الأرض من أزهار الشعر.. والشرّ. ولذلك كان يحتفي بهذه الأزهار في برنامجه الإذاعي، المعمّر طويلاً، بصوته الشجيّ وهو يقرأ لسواه، كأنما هو المؤلف.. كأنه شريك لحظة العاطفة!
وكان علي الجندي حاضراً كعلامة فاقعة وملوّنة دائمة الحضور.. علامة على الحلم الجميل ببلاد جميلة وعادلة، وبشر سعداء يمتنعون عن قطف النجوم احتفالاً بكونها أجمل وهي في سقف السماء، الحلم الذي أحياناً يلاحق امرأة، أو جمالاً غامضاً، أو ثقافة تتسع لكل الناس، وتنشر ما يطمحون إليه من الحرية والاكتفاء الذي يجعل عفّتهم عفة الشبعان.. والممتنّ والشاكر.
ذات يوم قال لي: اسمع برنامجي اليوم. واستمعت إليه وهو يقرأ بصوته المنفعل والشجي مقاطع شعرية وقصائد مختارة لي. وعندما انتهى البرنامج تلفنت له وقلت مازحاً: علي، لمن هذه الأشعار؟
كان صوته وطريقته في الإلقاء يجعل أي شيء شعراً.
وذات يوم كنا في تونس، في مؤتمر اتحاد كتّاب آسيا وافريقيا. جلسنا في غرفته مجموعة من الكتّاب والشعراء والفنانين، وفي لحظة ما طلب أوراقاً، وكتب عليها مجموعة من البورتريهات، احتفظت ببعضها وضاع الآخر، ضاعت الأوراق التي ربّما كان فيها صور لأشخاص لم يعودوا بيننا، وفي هذه الأوراق التي ننشرها الآن يوجد واحد ممن لم يعودوا بيننا هو الكاتب القصصي الذي مات شاباً جداً.. «جميل حتمل».
إذ ننشر هذه البورتريهات المتبقية، فلأنها، بالدرجة الأولى، لعلي الجندي الذي سجّل اختفاءه الصارم حتى الآن، ولم يعد أحد يراه أو يزوره، ذلك لأن مهنة الصداقة، أحياناً، تقوم بوضع الزهور الافتراضية على قبر لم يحتو بعد.. صاحَبهُ الحي!
وثمة بين من كتبَ عنهم مَنْ يسرّه أن يرى صورة نفسه، كما رآه علي الجندي، في تلك الغرفة في الفندق، من تلك اللحظة من الزمن قبل عشرين عاماً بالتمام والكمال.
صور جانبية.. بقلم ومن علي الجندي
جميل حتمل
...برّاقٌ وليس مُذهّباً. خافت بحرية. مهموس بمايكروفون. أملس وكثير الشوك. قلب فظ في معاملته، ويعشق فجأة في الهجر. أكثر نظراته تفرّ الى الداخل ولا يتأوّه وحيداً. نصف قميصه دامع، والنصف الآخر مشمس وسري. تأمّلوه، وهو يصعد درج السحابة، ليُغلق صنابير الرعد. استمعوه، وهو يثغو أمام الأنوثة، واحزروا من أين يأتي الموت...؟
منير الشعراني
تنبت فجأة شوكة لها رائحة الدم. طائر بلا قائمتين. فراشة ترفرف فوق الموتى الطازجين... تطير بجناح واحد ومنقار مكسور. تبدع حروف الصبر ونقاط الحرية، وتغنّي بأناة على حافّة الهاوية.
منير جرس الرعاة، وصوت السكون. ينام في قصور الخيال، ويستيقظ في ملعقة خشبية. كم غنّى في قاعات الحمامات، ولم يسمع صوته سوى المرياع... واحزناه.
يوسف عبدلكي
شيخ الضباب القادم، وعروس الثلوج المفاجئة.
عازف المزمار العتيق، درويش القنابل بأصابع من ديناميت!
ربّان الشرفات المشرقة، وقرصان الصحارى الخاوية. يعرّش على الباستيل، ويرشق أكمامه خارج الأسوار. ماض بحذاء الحرائق، وفي موازاة مع الخابور. ينسج خيوط لهاثه على دولاب السفينة الغارقة. يعاشر صواريخ القرش ويطعمها بالتمر البري ودموع النحل الراحل من الخوف..
يوسف: حامل الماء أعلى فأعلى. تمثال الحرية بيد تحمل فرشاة وسكّيناً وقبّرة وألوان قوس قزح!!
عادل محمود
قارسٌ وصيفي. كظيم قبل المطر. مُشْهَرٌ في الظلمة وتحت رياح الشمس. طويل في الاعتداد بحزنه المستتر. فارغ الحب وممتد صوب عمق الجرح الصديق. ديّان على الأعداد الزوجية، يحمل بذوره ليسافر تحت الإيماء والنضارة والشرود. مستهتر بإيجاز المسافة بين القطب والقطب. عامر بالتصدّي والتحدّي والاستفزاز للعبارات الباهتة. يسافر بين كتفيه نفياً نحو سيبيريا، وقد قضم الكثير من مساحة التأمّل ولا ارتوى من شيء. وفي عشرين السنوات القادمة لا تتسع لجسده المساحات مهما اتسعت، فقد فصّل أنفاسه على فراغ الحرية. يثقب قلمه البياضات فيسدُّ الثقب بالنهنهة السريّة... وها هوذا يفجّر ضحكة تكذب التنبؤات، ويرقص على طول ذراعيه، وصدره المشدود، وحدّة عينيه الغائمة.. يقول لي: مرحبا!!
وليد خازندار
يعدو وراء الغزالة لتهرب. يقطع الطريق على العصافير لتتابع الطيران، ويحول دون الرصاصة والقلب بكفيّه، وأحياناً برصاصة من الزيتون. يقود السحابات من خيوط مطرها بسبّابته ويمررها من ثقب بالولادة في سمعه. يحتال على الشمس ليخدعها بالزيزفون. يناوش الصولجان عند حدود النعاس، ويغترب داخل المزهريات والأقفاص والصخب والحب الأبوي ليتمنى للجميع ليلة طيبة.. يختار وجهاً للحرية، ويتخذ له مكاناً بعد أن يباعد بعض النمش ويرتاح. يسير في نومه باحثاً عن الأصحاب البعيدين ويعود فيغفو حالماً بالمسافات!
نوري الجرّاح
عاش ثلاثين دمعة بلا ملل، وقاد كوكبة من اليعاسيب وعلّمها احترام الرياح.. حذف حبالاً صوتية وأسكنها ربابة. أضاف وتراً لحنجرته وغنّى بصوت مشروخ، وعمّر على طرفي خدّه كوخاً من الزغب حتى لا يُرى عن قرب.. فاقعٌ ومهموس. عاشق بلا صوت ويدخل في اللهب. يضحك بلا ألوان، ويرفع يده محتجاً على الجلبة. طريقه في الجبل وباتجاه الأقبية. إنه نوطة وقلم ناشف وموسيقا حجرة أو موسيقا مدرجات. وعلى صحن ظهره وشم كافكا، وخارطة الصراخ وميزان العدالة الفضّي، وسامه الذي يطلّ على الوطن من بعيد بلا صدأ...!
هوامش وملاحظة:
جميل حتمل: كاتب قصة سوري، توفي في باريس بنوبة قلب بعد جراحة.
منير الشعراني: رسام سوري معروف بتشكيلاته الجميلة للخط العربي.
يوسف عبدلكي: فنان تشكيلي سوري معروف.
عادل محمود: شاعر سوري.
وليد خازندار: شاعر فلسطيني.
نوري الجراح: شاعر سوري.
ملاحظة: هناك أوراق ضائعة لشعراء وفنانين عرب كانوا في تلك الجلسة، موضوع الصور الجانبية.
****
علي الجندي : حالات الجنون ليست غريبة على العابث مع الشعر
ما من شاعر احب الحياة وغرق فيها وعاش الشعر ووهبه حياته دون غايات, كما فعل علي الجندي, هذا الشاعر الذي اختلطت حياته بأوراقه حتى التبس امره على الاصدقاء والاعداء منذ بداياته الادبية اوائل الستينيات مع ديوانه الاول (الراية المنكسة).
شاعر عرفته المقاهي جيداً, وفيها عرفه الادباء وعرفته النساء الجميلات, عبر عمر من الكتابة
اصدر خلاله احد عشر كتاباً, وصدرت له العام الفائت الاعمال الكاملة. شاعر لم يكترث ابداً بالاضواء وضجيج الاعلاميين والمهرجانات, ولم يستطب المناصب, اذ كان قد وهب روحه لهواء الحرية وقلبه للنساء ويديه للشعر...
وحين احس ان الحياة بدأت تنسحب وتضيق كثيراً, والعالم بدأ ينكر شعراءه غادر دمشق واحتمى ببحر اللاذقية وجدران بيته الصغير...
وعلي الجندي من مواليد السلمية عام 1928. تخرج من جامعة دمشق ـ قسم الفلسفة عام 1956 عمل في حقل الصحافة الثقافية ما بين دمشق وبيروت, كما وفي حقل الترجمة عن الفرنسية, وفي الستينيات عمل مديرا عاماً للدعاية والانباء. وكان من مؤسسي اتحاد الكتاب العرب عام ,1969 صدرت له الدواوين التالية: (الراية المنكسة) (في البدء كان الصمت) (الحمى الترابية) (الشمس واصابع الموتى) (النزف تحت الجلد) (طرفة في مدار السرطان) (الرباعيات) (بعيداً في الصمت, قريباً في النسيان) (قصائد موقوتة) (صار رماداً) و(سنونوة للضياء الاخير)
وفي هذا الحوار الذي خصه الشاعر لـ (بيان الثقافة) نقترب من عوالمه ندنو من هذا الكائن الذي لا يزال مصراً ان يكون مندهشاً بالحياة ومدهشاً لها.
* تمثل الصور التي اختزنتها سنوات الطفولة ذاكرة هامة في البناء النفسي والشعري, فهل بامكاننا ان نوقظ بعضاً من هذه الصور التي تعتبرها الاهم على صعيد سيرتك الشخصية والشعرية؟
يخيل الي اني لست بحاجة لاوقظ ذكرياتي, انها ذكريات مستيقظة دائماً, وفي لحظة ما تستعيد نضارتها وصباها... ليكن ابي قاسياً, ولتكن في سذاجتنا من اسباب شقاء الطفولة, حيث كان يخيل لنا ان ابي هو سبب حرماننا من طفولتنا, ولهذا كنا نلومه وحده, فلولاه كنا نعمنا بالمرح على البيادر المطلقة, والنوم تحت النجوم او فوقها, وحتى قبل رحيله, كنا نترك الحرية لخيالنا على الاقل, فنجلب الصور الشعرية من اي مكان, وكنا قد تركنا للطبيعة ان ترفدنا بكل تلك الصور, كنا حالمين كباراً رغم صغر اعمارنا, ونطلب الصور المستحيلة, التي كانت لنا ملكاً خاصاً حاولنا ان نجسدها في صور لا تعرف الخنوع او الالتباس, وتظل حرة ومترامية المساحات... على خلاف ابي كانت امي تمثل الحنان الدائم ونجرؤ في حضرتها على قول (لا) ....
* ومتى كانت اولى الكتابات واول الشعر؟
لا اعرف, كنت اخربش على الورق واحب ما اخربشه, ثم كنت اقرأه على الاصدقاء فاذا بي محاصر بالشعر.
* وهل بدأت الكتابة بالحاح ما حول خصوصية الصوت او الاداء الشعري؟
هذا ما دفعني اصلاً للكتابة وبكثافة منذ عمر السادسة او السابعة عشر, بدأت الكتابة بشكل متواصل غير مبال بشيء او بأحد, كنت اريد ان اقول شيئاً لم يقله احد وكنت مؤرقاً بأن لا اخذ شيئاً عن احد, ربما كان هذا نوع من التوهم او علو الخاطر, واهم شيء احسسته انني كنت احب
نفسي حين اكتب..
* والى اين كنت تنوي ان يوصلك الشعر؟
لم اكن اخطط لشيء كنت لا اريد سوى ان اكون حراً, اكتب بحرية, وانشد بحرية متلهياً عن الدروس والواجبات والآخرين, كان ايماني ان اكتب لأني احب ولأني اعيش, فاذا بي اجد نفسي على الطريق الذي مشيت عليه طوال حياتي, كان يخطر على بالي احياناً ان اكون صحفياً او ممثلاً, ولكني فشلت إلا ان اكون شاعراً. وقد حدث مرة اني ذهبت لاجرب التمثيل, ولكن النتيجة كانت بأني كتبت قصيدة.
* صورك الشعرية تتميز بغرائبية المشهد, وتنفتح على اكثر من سؤال وتأويل وتفيض احساساً بالغربة والالم, واود ان اسألك عن لحظة الخلق الشعري, وكيف تفصل فعلها في لملمة مفردات هذا المشهد وهذه الاحاسيس؟
لحظة الخلق الشعري, لحظة تختلط فيها اشياء العالم, ويشعر الشاعر انه ينزلق من بين اللاشيء, ولا يدري كيف يهيئها, فلحظة يراها هامدة وفي اللحظة التي تليها يتولاها النشور, وهكذا حتى تصل اللحظة الشعرية الى الانكفاء على ذاتها. حالات الجنون ليست غريبة على العابث مع الشعر, هدوئي الظاهري يتحول في تلك اللحظة الى فوضى يجمعها ويشتتها شاعر لا يدري كيف...
* ألهذا تنساب الدموع من ثنايا قصيدتك؟
نحن نبكي كي ندافع عن وجودنا الهش..
* وتظل المرأة في هذا الوجود الهش والمشهدية الغرائبية, صورة الرحمة والحظ الذي يمنح قصيدتك الوان الحياة والخصب, اليس كذلك؟
مرة اخرى افاجأ باللحظة الشعرية, امام اكثر من بوابة, الحب العميق والموت, رعشة الانتهاء والرغبة في التدفق من خلال هذا العالم, تأتي الحالة من خلال اختناق في داخلي وابدأ في البحث عن مفتاح, ويتجسد العالم بامرأة تغير كل طبيعة الاشياء فأذا هي النعمة والحب الذي يمنح قصيدتي الوان الخصب وشكل الخلق الكامل, وكيف تريدينني ان اجد خلاصي الا بامرأة... كانت المرأة منذ طفولتي نعمة, وكنت احاول بها ومعها لتخطي قسوة الاب, وكنت انهل من بين يديها الهمومتين كل رائحة الشفافية والمتعة, وكانت قصائدي تمتلىء حياة ورغبة في ان تكون.
* وكانت بيروت محطة مهمة على صعيد تعريف القراء بتجربتك الشعرية, واخص بالذكر هنا مجلة
(شعر) فماذا تحدثنا بهذا الخصوص؟
صحيح... في بيروت التقيت ببعض الاصدقاء الذين نشروا لي اول قصيدة (شكراً يا وطني) وهي غير موجودة في كتبي التي نشرتها فيما بعد. اما ديواني الاول (الراية المنكسة) الذي لا احبه, رغم اني اعرف ان الكثيرين يحبونه, لا اقول انه نشر هناك غصباً عني, بل بشيء من الغصب.
في مجلة (شعر) نشرت كل قصائد ديواني (في البدء كان الصمت) وكان الجميع اصدقائي, ولكني لم اكن اشعر بأني واحد منهم فقد كانوا رغم ظهورهم بمظهر الديمقراطيين, يمارسون سيطرة وتشنجاً اتجاه شعرهم وافكارهم, ومع ذلك فقد احببتهم واحترمتهم جميعاً.
* رغم الشهرة التي نلتها لم يعرف عنك يوماً حب الظهور او المشاركة في المهرجانات والامسيات الشعرية, فما هو سبب هذا الموقف؟
وجهة نظري ان هذه اللقاءات تفسد اكثر مما تصلح, لم اشعر يوماً شعوراً طيباً في اي مهرجان, وكنت اشارك سابقاً مضطراً, واعتقد انه يجب ان يكون هناك تفكير بعلاقة الجمهور مع الشاعر والبحث عن علاقة صحيحة.
* لماذ هجرت صخب دمشق واعتزلت في اللاذقية؟
انا تعلقت بالحياة منذ ما بعد الطفولة, ورحت اداوم على حبها والتشبث بأذيالها, لكني كنت اشعر دائماً وكإنني واقع في هوة, احاول القفز حتى يكاد الخلاص يكون قريبا, واكتشف انني اقفز في مكاني, هربت من السلمية, وكان ظل يلاحقني, وعندما ظهر الظل مرة اخرى في دمشق هربت من جديد, وقلت اداري عن الخلق منظر حزني واختناقي.
حاوره : علي كنعان
البيان الثقافي - الأحد 28 رمضان 1421هـ 24 ديسمبر 2000-العدد
***
القطارات تمر
...واقف منذ صباح الأمس أستجدي على أبواب مينائك
يا...أمي مواعيد السفر
أرقب الغادين والموتى و حمال التوابيت و باقات الزهر
فقطارات بلا ناس تمر
وأرى الحزن على جلد الحقائب..
منذ حين وأنا وحدي, وبرد الصبح يكويني
وقد سافر كل الأصدقاء
وأنا أنتظر الشمس و دفء القاطرة...
غير أن الحارس الجهم اصطفاني من جميع النزلاء,
انتهرتني شرطة الميناء, قالت لي ذؤابات الدخان:
أنت تبقى بعد ان تمضي الى البحر المراكب!
...ها أنا أنتبذ الركن الذي يشرف من بعد على البحر,
وأصطاد الذين انتهروا مثلي لكي أسألهم عن موعد
الأبحار, كي أطلب من عاهرة تمضي على أرصفة
البحر بطاقات لحب أو..رحيل
غير أن الضجة العيدية الحزنى أنتهت من غير أن ألمح
انسانا حوالي ولا أنثى.. ولا وجها نبيل!
كل من أمنت فيهم رحلوا أو ر(و) حلوا عني بعيدا,
والقطارات تمر
القطارات التي اشتقت لترداد أغانيها الحديديات ما عادت
تبالي بالمحطات الصغيرة!
كلها تمضي كلمح الخوف لا صوت لها و لا ناس فيها...
وأنا أرقبها قاطرة, قاطرة تمضي على خط من المطاط
لا تصفر, لا تصخب,
واذا أقترب
فمكان الحارس الليلي ينهاني
فأمضي خائفا أنتحب
و"كشك" هذا الحارس الامر و الناهي خواء
غير أني كلما قاربته اضطرب!!
..اه ياأمي امنحيني لغة الدفء , هبيني دمع عينيك
فأجتاز طريق الضعفاء-
...هوذا الليل على المرفأ و البحر , على كل جهات العالم
المرئي يمتد. وبي طفل يخاف الليل, مذعور من الوحدة
و الريح و أصوات القطارات الخفية..
كل ما أحتاجه ايماءة تذرفها عيناك..
كي أعبر نحو الطرف الاخر في اثر عيون الاصدقاء
..والقطارات تمر,
ونعيق السفن المبحرة الان مع الليل الى الاعماق
لا يمنح غير الرهبة الصماء و الحسرة.. اه
انقضى عهد شباب النورس الحائم في الزرقة
لم يبقى على أرصفة الميناء غيري,
لم يعد للغرباء
بعد أن مر نهار العيد هذا العام غير الانتظار
ربما
ربما جاء لهم في السنة القادمة العيد...
على ..جنحي قطار!!!
علي الجندي
***
علي الجندي : عشت كما أحببت... ويقهرني العجز لا الموت كرهت البياتي.. وعلاقتي بالسياب كانت مأساوية
حاوره : علي كنعان
بعد مطاردات كثيرة، التقيت به، مع أصدقاء له، في اللاذقية. كان بادي الضعف والهزال. بصره لم يعد ذلك الثاقب، فهو بصعوبة يبصر الكأس أمامه. لكنه ما يزال يصيخ السمع لدى مرور رائحة الأنثى. لم يكف عن الضحك، لكنه لم يعد يملك تلك القهقهة الصاخبة التي ميزته وعرَّفت به حانات العالم. ما يزال يتناول ابنة الكروم، لكن ليس بالقدر الذي سمح له طوال عمره باقتحام الحياة طولاً وعرضاً..الخ.
اتفقنا على لقاء آخر، نكون فيه وحدنا، هو وأنا. وكنت أخبئ فكرة حديث صحافي معه. والتقينا في شرفة فندق في المدينة الساحلية شمال سورية.
تحدثنا في كل شيء؛ الحياة، السفر، الخمر، والمرأة، بل خصوصاً المرأة التي يحمل لها الجندي قدراً هائلاً من الحب، ويحتفظ لها بمساحة واسعة من ذكرياته. وفجأة خطر لي أن أسجل جانباً من الحديث الصريح. فقلت له: لو تدري كم طاردتك قبل سنوات. سألت عنك في دمشق، في مطعم وبار "الشرفة" في اتحاد الكتاب العرب، فقيل لي: لقد تزوج صديقته ورحل عن العاصمة إلى الشمال. ستجده- قالوا- في قريته. وسافرت- تابعت حديثي له- وراءك إلى "سلمية"، وقابلت شقيقك الدكتور سامي (رحمه الله)، فقال لي إنك هجرت القرية إلى اللاذقية، فسافرت خلفك و.. لم أجدك. وها نحن معاً.
وبعد محاولات عدة وافق، على أن لا نتوغل في..
ينتمي علي الجندي (مواليد سلمية 1928) إلى فئة الشعراء الملعونين والخوارج، من دون مواربة أو استحياء. يظهر هذا الأمر في شعره جلياً، لكنه يبدو أكثر تجلياً في سيرة حياته التي لم يكتبها بعد، وإن كنا نجد ملامح منها في قصائده. سيرته هذه نجدها لدى أصدقائه وندمائه القادرين -حتما- على كتابة أهم محاورها ومحطاتها، على نحو ما كتب صديق الجندي الأشد قربا إليه،الشاعر ممدوح عدوان، في تقديمه الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر علي الجندي (صدرت حديثا عن دار عطية، دمشق/بيروت، ألف صفحة).
هو من جيل الرواد، زمنياً على الأقل، وقد عاش معهم وبينهم زمناً، لكنه على رغم ذلك لم يكن منهم، ولم يحسب رائداً، ليس لأنه أقل شاعرية أو اندفاعاً نحو التغيير والثورة، بل لأنه-أساساً- قد اختار أن يكون، وأن يظل، بعيداً عن كل ما يمكن أن يؤطر اندفاعه وجنونه، اختار أن يكون الشعر لعنة أو ورطة لا بد منها، لأنه (الشعر) يأخذه إلى الكتابة التي تأخذه من الحياة-العيش، فيما هو منهمك ومهجوس ومطارد بالحياة وبالحب وبالمرأة وحسب!
ظل علي الجندي بعيداً عن الشهرة والأضواء التي يسعى الكثيرون إلى بلوغها بأي ثمن.
من يقرأ الأعمال الكاملة للشاعر، لا بد أن يلفت اهتمامه ذلك الإهمال الذي يشوب مسألة تشذيبه لقصيدته، حتى ليخيَل إليك أنه لا يمنح هذه القصيدة إلا الوقت الكافي لكتابتها، ثم كفى! وهو قد يكتب في المقهى والحانة والرصيف، ولا يتوقف كثيراً أمام ما يكتب.
ولكن... لا يسع قارئ شعر الجندي إلا أن يتوقف أمام هذا التدفق والتنوع والغنى في هذه التجربة الشعرية، وما تعكسه من تجربة معيشة. ففي هاتين التجربتين- الشعرية والحياتية- من الخصوصية ما يضع صاحبهما موضعا مميزاً في الحياة الثقافية العربية عبر خمسين عاماً.
إن اللعنة الأولى التي حملها الشاعر في حياته، كما في شعره، هي لعنة البحث عن حرية مطلقة، بلا قيود.. حرية مستحيلة، إذاً، تتضح استحالتها كلما توغل فيها الشاعر تشرداً وتمرداً، وكلما حاول أن يقبض عليها كي يمنحها روحه ونكهته، وكلما أوغل فيها غربة وعزلة ووحشة.. هو الذي لم يكن يطيق الحياة بعيداً عن الناس، كما لم يكن يطيقها في الاستمرار معهم.
منذ وقت مبكر، راح الجندي يطوي ضلوع نفسه على يأس عظيم حيال ما يمكن أن يفعله الشعر الذي هو محض سحابة سوداء عقيم.. حيث لم يعد للشاعر مكان تحت الشمس، وحيث " الجمهور ظلال سوداء، صماء، غير عابئة إلا بطعام النمل. ومنذ البدايات، كان يتردد في شعر الجندي سؤال: من أنت يا شاعر؟" ويرد صوت الشاعر أنه "دودة ترتعي عشباً على قبر فؤاد حزين!". ويعلن أنه "من نطفة سيئة التكوين" وأن "الموت صليبي".. الخ.
ذلك التكوين الذي سيرافق الشاعر في مراحل حياته، فيظل يحفر في الحياة ممرات ومخارج، ولكن كمن يحفر قبره بضربة خرساء أو عمياء، وكمن يقطف أزهار الحديقة حتى تغدو الحديقة خاوية. لقد امتص الشاعر حياته قطرة في أثر قطرة، وكان يدفن الموت في الحياة، غير آبه بالمصير الذي يعرفه جيدا ويهرب منه أو يخاتله ويخدعه. وما بين بدء الرحلة ووصولها محطة العقد الثامن (تجاوز سن السبعين)، يعيش الشاعر الحياة غالباً، ويتأمل فيها أحيانا، لكنه يغرق في فضاءاتها تماماً. يمنح ذاته للحياة، ويفتح أبواب الحياة كي تغرق ذاته فيها. عاش نعيمها وجحيمها، ملذاتها وآلامها. عاشها بجد محارب واجتهاده إذ يسعى إلى الانتصار والحياة الأفضل، ولا يخشى الهزيمة أو الموت، لأنه أحب الحياة وعشقها عشقاً صوفياً: "يا ولعي المجنون بالحياة ". صرخته المدوية هذه ليست سوى صدى تلك الحياة، تلك الرحلة، وذلك "الترحال من حان إلى حان" وذلك " التجوال من كهف إلى كهف، أفتش عن نبيذ لم يذقه، بعد، إنسان".
ومثل كل ملعون، متمرد، تنطوي تجربة حياة علي الجندي على تناقضات رهيبة. وهي ما يجعل الحياة لعبة غنية ومثيرة دونما قصد أو تخطيط، بل ببراءة وعفوية تجعلان لحظة الضعف معادلاً إنسانياً للحظة القوة، والسقوط في الهاوية معادلاً للارتفاع إلى قمة النشوة، وربما كان في إمكان المعاناة أن ترفع من قيمة اللذة.. مثلما تعلي التضحية قيمة الحرية ومعنى الحياة، ومثلما يطلع النهار من قلب الظلمات.
وفي شعره، كما في حياته، كان علي الجندي يولّد الأشياء من نقائضها: الحلم من اليأس. والخوف من الأمان. مثلما يدفن الموت في قارورة الخمرة أو يجعل عنوان "اللياليين" شط الحياة الرحب. أليست لحظة اللذة هي نفسها اللحظة الهاربة من العمر؟ أليس العيش الجميل سبيلا إلى الهاوية مثله في ذلك مثل المأساة؟ ألا تبتلع الموسيقى الظلمة كما تبتلع لحظات العمر؟!
لقد كتب علي الجندي شعراً إنسانياً يخلّد لحظات ومشاعر الإنسان الذي أراد أن يكونه. كتب بإخلاص عميق لذاته، التي كان يقبع في ذروتها السكرى، أو حين كان قابعاً- كما يقول "في ذروة ذاتي السكرى ". كتب من وحي تجربة شجونه التي ليست -ولم تكن يوماً- سوى شجون الإنسان.
كتب من قلب العبث والفوضى والمجون والجنون، ومن قلب اليأس والهزيمة، لا هزيمته هو فقط، بل هزيمة القوم والأمة، النخلة اليابسة من ألف عام، والأم التي روّعنا عقمها من ألف عام. من قلب الواحة الكاذبة حيث الخضرة نار، وحيث جذورنا تأكلها الديدان.
ورأى علي الجندي نفسه في شعراء مثلوا له ملامح من ذاته؛ في عروة بن الورد حيناً، وحيناً في قطري بن الفجاءة (الخارجي الذي طارت نفسه شعاعاً)، وفي المتنبي أيضاً، لكنه أكثر ما رأى نفسه في طرفة بن العبد رغم أنه- كما يقول الجندي "هوى مبكراً وما أزال أهرم"، لكنه يلتقي مع طرفة في أنهما معاً "عرضة للانهيار في أية لحظة! وأن "السرطان" يقرض حياتنا أبداً". إلا أن تخصيص قصيدة مطّولة "سقوط قطري بن الفجاءة / سيرة حياة داخلية فاجعة في أناشيد"، وتحميله هذه الشخصية أبعاد حياته وشخصه وهزائم جيله الذين سمّاهم جيل "القعد" (كان الرجل من الخوارج عندما يشيخ فما يعود يحسن المشاركة في الحرب، يغدو من قَعَد الخوارج..)، واستلهام الرمز الذي في اسم الشاعر الخارجي (إنه القطر المفاجئ)، إن هذا الصنيع لهو دليل التأثر الكبير بالشاعر المذكور خصوصاً، وبالخوارج أيضاً.
وإلى هذا كله، فثمة اقتراب من عالم السياب الذي بدأت علاقة الجندي به في وقت مبكر، وربما كانت مأساة السياب تلقي بظلالها في شعر شاعرنا دون أن تكون جلية الحضور.
ويبدو في شعر الجندي أثر ثقافة دينية ترتبط بالنص القرآني حيناً، وتتعلق بالمأثور حيناً آخر. كما يتضح حضور الشعر العربي عبر الاستيحاء والتضمين. ومن ذلك ما يجعلنا نقرّب الجندي من مالك بن الريب مثلاً، حين يستعير شطر بيته الشهير "خُذاني فجُرّاني بثوبي إليكما/ فقد كنت قبل اليوم صعباً قياديا"، أو نرى اقترابه من أبي نواس وهو يردد مثله "إذا مت فادفني إلى جذع كرمة.. "، أو من الحمداني أبي فراس وهو يعاتب الحمامة "لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة.. "، فكيف استطاع أن يرى نفسه في هؤلاء جميعاً، وأن يراهم في نفسه هذه؟ أهو القلق، أم هو البحث عن مثال، أم الاثنان وسواهما هو ما كان يسوق خطى الشاعر في الدروب والرحلات؟
عاش الشاعر بصخب واتساع، بما تيسّر له من حرية وتمرد، بكل ما أوتي من رغبة في العيش هنا وهناك؛ مع المرأة أو مع الخمر، اللذين يشكلان أبرز أقانيم حياته.
****
علي الجندي قمر يجلس قبالتك على المائدة
منذر مصري
الحوار المتمدن - العدد: 714 - 2004 / 1 / 15
ما أن سمع صوتي ، حتى صاح : أين أنت ! وعدتني مراراً أن تأتي .. ألم نتفق ، آخر مرة ، أن نذهب للبحر صباح يوم الجمعة !
أول ما حطَّ علي الجندي في اللاذقية ، كنت حريصاً أن ألزمه ما أمكنني ، كنت أحد الأصدقاء ، الاثنين أو الثلاثة ، الذين حضروا عرسه ، ولازمته حتى صرت صديقاً لكل أفراد عائلة ابتسام زوجته ، وخاصة حماته التي كانت تبزُّ علي في حفظها لأشعار المتنبي وبدوي الجبل و... عمر أبو ريشة ! كما كنت ذاك الذي نقل زوجته إلى مشفى التوليد العسكري عندما ولدت ابنته ( نفور ) . لكن ، علي ، ( أبو لهب ! ) لم يذهب إلى المشفى إلاّ في اليوم التالي للولادة ، وعندما جاء لم يمكث طويلاً ، مدارياً وهنه العاطفي ، ربما ، بعدم سماحهم بالتدخين في الغرفة !
ثم راحت تتباعد المناسبات التي أزوره بها ، حتى بعد سكنه بيتاً خاصاً بعائلته الجديدة الصغيرة ، كل مرةٍ أرجئ زيارتي للغد أو الأسبوع القادم ، فتمضي الشهور وربما السنين .
أما هو ، فلا يعمد للقائك أبداً ، إذا صادفته ، في مقهى ، مقهى السويس على الأرجح ، أو بصحبة غازي أبو عقل صديقه القديم ، فإنك تستطيع أن تجابه نظراته المستفسرة ب : ( لماذا لا تتصل أنت ؟ تعرف رقم هاتفي!) لكنك تشعر مباشرة بأنك تماطل وتكذب ، فعلي ، أنت تعرف والجميع يعرفون ، لا يتصل ولا يقول ، تعال ..أحتاجك في أمر كذا ، أو زرني هذا المساء هناك شيء أريد أن .. . ليس علي الجندي من يتصل ويقول شيئاً كهذا لأحد .
علي الجندي ليس فقط يجب ، ليس فقط يستحق ، بل يسر ويفرح ويمتع أن تلقاه وتجلس معه في أي مكان وفي أي وقت ، لوحده أو بصحبة من كان يكن ، أليس هو من وُصِفَ بأمير السهرات وقمر الموائد ، صاحب الأقاصيص عن الجميع ، نزار قباني ، أي فتى رقيق الإهاب كان ، أدونيس ، الآن تراه الآن لا تراه ، يوسف خال الذي جعل من بيته مضافة للشعراء ، شوقي بغدادي وملاحقته عصافير المطابخ أيام الشباب ، وعمه أحمد الجندي وأقاصيصه العجيبة ، أسأله : ( من ترى في هذه الأيام ؟ ) يجيبك بصوت حيادي : ( لا أحد ) .
كان اللقاء الذي سأحاول نقل ما أمكنني من مجرياته لكم ، في قبوي ، أي في ما أسميه مرسمي ، الذي أبطلت الرسم منذ أن انتقلت إليه ! أُعجب علي بالمكان ، لم يدقق كثيراً بالأشياء ، اللوحات أو الكتب .. في السابق كان أحرص على مثل هذا ، أحبَّ الجو العام للقبو .( ماذا تحب أن تسمع ؟) سألته ، أجابني : ( اسمعني أنت ما تحب ) وجدت أنه لا بأس باسطوانة لعازف البيانو الكوبي روبن كونزاليس بإيقاعاته اللاتينية الراقصة ، أنصت إليها قليلاً ثم لم يعرها انتباهه ، وكذلك نحن . كنت أعلم أن أي برنامج للقاء مع علي سيكون لا نفع منه ، سيطوح بكل ما تخطط له ، عليك أنت أن تميل بالدفة إلى حيث يهب ، ولا فرق في أن تتبعه بفانوس أو بدون فانوس ، لأنك ستضيع حتماً .
أدرت آلة التسجيل ، وبدأت معه الحوار هكذا :
أنا : أتذكر ، علي ، أني قلت لك مرة ، إن قصيدتك ( الجنون ) التي نشرت عام 1991 في مجلة اللوتس ، هي واحدة من أحب قصائدك إلي . قدمت له المجلة مفتوحة على صفحة القصيدة ، فراح يقرأ .
علي : لنسترق السمع
إن الفراغ أحاديث الميتين
و أوجههم لا ترى
لكنهم يسمعون
أضاعوا علينا هدوء أماسينا
بانخطافاتهم بيننا واشتراكهم
في الحديث وبعض الشراب
يأكلون لماماً
منتهكين المائدة
ويغنون همساً
مخافة أن يوصفوا بالجنون
يعبون من خمرةٍ نافذة
ليحترسوا من جهات الكلام
فأمس ومستقبل الصمت
من خامةٍ واحدة ...
أنا : قصيدة جميلة ولكنها غريبة عن شعرك .
علي : غريبة حقاً وأحبها .
أنا : إنها عن الموتى الذين يضيِّعون علينا هدوء أماسينا بانخطافاتهم بيننا ، وينتهكون موائدنا رغم أنهم لا يأكلون إلا لماماً ، ويغنون همساً مخافة أن يوصفوا بالجنون . ولكن إذا فهمتُ لماذا جئتَ بالجنون هنا ، فأنا أستغرب دفعك بقصيدة عن الموتى بعد عدة سطور من هذا المقطع إلى :
علي : .. وجن الهواء
وصار الخلاء
بلا هيبة تحت وكف الجنون
فقلنا الجنون
الجنون
الجنون الجنون ...
وكذلك النهاية :
جذور الجنون
جنون ... الجنون
... الجنون !!
علي : الجنون إحدى حالاتي الشعرية . أجاب ببساطة
أنا : علي .. من البداية ما الذي جعلك تكتب الشعر ؟
علي : لا أعرف ولم أكن أريد أن أعرف ، كنت أخربش على الورق وأحب ما أخربشه ، ثم كنت أقرأه على الأصدقاء ، فإذ بي مجنون بالشعر ..
أنا : هل جاء هذا بتأثير محيطك ؟ هل كان للآخرين دور في وضعك على هذا الطريق ودفعك به ، للحد الذي وجدت أنه لم يكن باستطاعتك العودة عنه ؟
علي : قطعاً لا ، لم يكن للآخرين أي دور ، أبداً ، كنت أستيقظ وأبدأ الخربشة ، وقبل النوم كنت أخربش قليلاً ، لم يكن لأحد علاقة بما أفعله ، هذه الخربشات صارت قصائد .
أغلب الشعراء يُعرفون بقصيدة ما ، ليست بالضرورة أهم أو أجمل قصائدهم ، لوركا يقول أن قصيدته ( كنت أحسبها عذراء فإذ بها ذات بعل ) هكذا ترجمت ، كان الناس يوقفونه في الشارع ويسألونه عنها ، هل هناك قصيدة كهذه في تجربتك ، قصيدة ( الحمى الترابية ) مثلاً ، هل يعني لك شيئاً أن أذكرك أنا أو نزيه أبو عفش أو ممدوح عدوان أو سهيل إبراهيم أو عبد القادر حصني أو عبد النبي تلاوي بمطلعها الذي أحفظه غيباً من ثلاثين سنة :
ساهر وحدي
على مائدة الإيقاع أستجدي
من الصمت قصيدة
طاعن في الوهم ...
علي : لا .. أرفض أن أُعرف من خلال قصيدة واحدة ، لا يوجد قصيدة تختصرني، قصائدي تتنوع وتختلف كثيراً ، أجرب دائماً ، أصرخ منادياً نفسي .. كل مرة كأنه أول مرة ، كما لا منفعة لي في أن يذكرني بعض ممن ذكرتهم بهذه القصيدة أو ذلك البيت من الشعر ، وربما العكس ، أفضل لو ينسوني ، كتبت ( الحمى الترابية ) كيفما جاءت ، غير متأثرٍ بأحد ، وأثارت ضجة كنت آخر من يتوقعها .
ولكن هل بدأت الشعر بتصور خاص ، في طريقة الكتابة أو في الموضوع أو المضمون ، هل كنت تشعر بأنك صوت خاص ؟
علي : صحيح .. هذا ما دفعني أصلاً للكتابة وبكثافة ، منذ عمر السادسة عشر أو السابعة عشر بدأت الكتابة وبشكل متواصل ، غير مبالٍ بشيء أو بإنسان ، كان ديدني أن أقول شيئاً لم يقله أحد ، كنت مؤرقاً بأن لا آخذ شيئاً من أحد ، ربما كان هذا نوع من التوهم أو عفو الخاطر .
أنا : إذن لم يكن لديك وجهة نظر خاصة محددة ، بل فقط شعور بالاختلاف ، رغبة بالاختلاف ؟
علي : أهم شيء أحسسته ، هو أني كنت أحب نفسي عندما أكتب ما أكتب ، وأقرأ ما أكتب ، أو عندما لا أكتب ولا أفعل شيئاً بالمقابل أيضاً .
أنا : علي .. ما الذي كنت تعول عليه بكونك تريد أن تكتب وتصير شاعراً ، أي غاية أو إيمان كان لديك ، وهل مازال ؟
علي : لم أكن أخطط لشيء ، كنت لا أريد سوى أن أكون حراً ، أكتب بحرية وأغني بحرية ، متلهياً عن الدروس والواجبات والآخرين ، كان إيماني أني أكتب لأني أحب ، ولأني أعيش ، أو لأني أي شيء يخطر على بالك ، فإذ بي أجد نفسي على الطريق الذي مشيتُ عليه بعد ذاك طوال حياتي . كان يخطر على بالي أحياناً أن أكون صحافياً أو ممثلاً ، ولكني كنت أعرف أن كل ما أريده هو كتابة الشعر ، كانت حياتي مكرسة له ، وقد حصل لي مرةً أن ذهبت لأجرب التمثيل ، و نتيجة هذه التجربة كانت أني كتبت قصيدة .
أنا : عن البداية أيضاً ، كيف عُرف شعرك ، هل بدأت بنشر قصائدك في المجلات والصحف أو بقراءته في مناسبات عامة ، أو ظهرت مباشرة في كتابك الأول ؟
علي : لم أفعل سوى قراءته على أصدقائي ، حتى بعد أن عرف الكثيرون أني آخذ الكتابة على محمل الجد لم أرسل للنشر شيئاً ، ثم قليلاً قليلاً رحت أتسرب إلى بيروت .
أنا : تسللت إلى بيروت !
علي : لا .. تسربت إلى بيروت ، أجمل .. هناك التقيت ببعض الأصحاب الشعراء ، الذين نشروا لي أول قصيدة ( شكراً يا وطني ! ) وهي غير موجودة في كل كتبي كقصائد كثيرة ، أما ديواني الأول ( الراية المنكسة ) الذي لا أحبه رغم أني أعرف أن الكثيرين يحبونه حتى الآن ، لا أقول نشر غصباً عني ، بل بشيءٍ من الغصب .
أنا : تعلم أني واحدٌ منهم . قلت وأنا أقدمه له ، وهو الكتاب الوحيد الذي بقي لدي من كتبه ، بعد أن أعطيته ، بناءً على طلبه كل مجموعاته الشعرية التي كانت متوفرة عندي ، وبعضها ما كان نادراً حقاً . وذلك عندا راح يجمع كل أعماله استعداداً لطبعها . فراح يقرأ .
علي :
هزِّي بجذعك هزِّي
يا نخلةً في الفيافي
وعربدي واستفزِّي
نار الهوى والقوافي .
أنا : ما هي حقيقة علاقتك بالشعراء اللبنانيين والعرب الذين يعتبرون رواداً والذين كانوا مثلك في بيروت ، فأسمك يذكر في رسائلهم العديد من المرات ، وكأنك دخيلٌ عليهم ، أو ، حتى ، بشيءٍ من الغيرة ، هكذا شعرت ، ربما لأنك كنت سورياً ؟
علي : لم يكن هناك سبباً للغيرة ، بالنسبة لي . ولم يكونوا لبنانيين فقط ، بل كان هناك خليط من كل العرب ، عدا عن أن يوسف الخال ، شيخهم ، كان سورياً ، وفؤاد رفقة أيضاً وأدونيس سوري سوري ، صداقتي الكاملة كانت مع خليل الحاوي ، كنت أحبه وأحترمه كشاعر وكإنسان ، وكان يبادلني هذا الشعور ، كان يقول : علي شاعر . لم يكن ينقص صداقتنا سوى الموت ، في السنين الأخيرة تخربطت حياته .
أنا : علي .. قلت مرةً أن هناك قصيدتان أثرتا بك ، هما قصيدة ( اليعازر ) لخليل الحاوي و ( هذا هو اسمي ) لأدونيس ، هل تذكر ذلك ؟
علي : لا أذكر أني قلت هذا عن قصيدة أدونيس ، ربما . ولكن قصيدة (اليعازر ) مازالت تؤثر بي للآن ، كان خليل الحاوي قادراً على خلق كونٍ من الأصدقاء ، أما أدونيس فقد كان خبيثاً في تهربه من الجميع ، كنت تجده في لقاءات خميس مجلة شعر ، يتحدث ويقرأ وكل شيء، وبعد ذلك تبحث عنه ولا تلقاه ، لكنه شاعر، ويحق له كلَّ شيء ، حتى الكذب .
أنا : ذكرت أنك كنت تحضر خميس مجلة شعر، هل نشرت فيها، وهل كنت تشعر أنك واحدٌ من شعرائها ؟
علي : قصائد مجموعتي ( في البدء كان الصمت ) نشرت كلها في المجلة ، والجميع كانوا أصدقائي ولكني لم أكن أشعر بأني واحدٌ منهم ، كانوا رغم ظهورهم بمظهر الديمقراطيين والمتفلشين يمارسون سيطرةً وتشنجاً تجاه شعرهم وأفكارهم ، مع ذلك أحببتهم واحترمتهم جميعاً .
أنا : كان هناك حوارٌ شعري لحدٍ ما بين تجربتك وتجربة الخال وأدونيس والحاوي ، ولكن ماذا عن أسماء كأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا ؟
علي : لم تختلف علاقتي بهما عن علاقاتي بالآخرين ، كنت أقيم مع الجميع علاقات إنسانية وحياتية ، لم يكن هناك تحزبات على هذا الشكل بينهم . وكان الحوار قائماً بين الجميع .
أنا : وماذا عن جبرا إبراهيم جبرا وتوفيق الصايغ ؟
علي : جبرا كان يكتب في كل شيء ، أما توفيق فقد كان صديقاُ حميماً ، كان النموذج الذي كنت أمتلئ به شعراً ، مثله مثل يوسف الخال ، ولكن توفيق بضحكته ، لو سمعتها لما نسيتها في حياتك ، كان يخلق عالماً كاملاً ، كان توفيق كبيراً ، كبيراً في كل شيء ، وذا ثقافة تزيد عن ثقافة الجميع بدون استثناء ، ولم تكن ثقافته غربية فقط ، بل عربية أيضاً ، في ( معلقة توفيق الصايغ ) قام بلعب عظيم في البناء واللغة ، وكتابه عن جبران لا مثيل له في النقد الحديث ، لا ليس له أي علاقة بكل ما أتهمت به مجلته ( حوار ) ، كان بريئاً من كل التهم ، شعرت بأنه أفلت من أيدينا ، لكني لم أشعر بأنه مات ، لأنه حقاً شاعر ، والشعراء الشعراء لا يموتون .
أنا : في ( الراية المنكسة ) قصائد ومقاطع نثرية ، لكن هذا النوع كاد يختفي تماماً من تجربتك ليحل بدلاً عنه قصائد طويلة غنائية ، واسمح لي ، فجائعية ، ما سبب هذا برأيك ؟
علي : هذا صحيح ، نعم أنا شاعر فجائعي ، وعليك أنت أن تعرف السبب .
أنا : يقول ممدوح عدوان في بداية مقدمته لأعمالك الكاملة ، قرأتها منشورة في مجلة ولم أر الكتاب بعد ، بأنك في عاصفة شبابك كتبت ما يشبه كتابة العجائز وهم يودعون شهواتهم ، مستشهداً بمقطعٍ من قصيدة :
إني تمثالٌ طيني
مسحوب من روح الإنسان ..
علي : ليس الأمر هكذا ، واحدٌ مثله يكتب كالعجائز ، قل له ، في تلك الأيام كان هناك صراع بين أفكار وفلسفات ، كالوجودية والماركسية وغيره ، وكنت كشاعر لدي تصوراتي وأفكاري ، كنت دائماً ذاتياً ، بينما كان الآخرون يرفعون كليشهات وشعارات قومية وثورية في قصائدهم .
أنا : سمعت مرات عديدة وصفهم لك بأنك كنت عدمياً !
علي : سعيد حورانية ، الله يرحمه ، من كان يقول عني هذا ، لم أكن عدمياً كنت فوضوياً ، فوضوياً فقط .
ولكن يعرف عنك أنك شاعر حياة ، كيف كانت تتفاعل في تجربتك شعرية الحياة مع شعرية النص ، وإلى أي مدى كنت تنحاز إلى الأولى ؟
علي : انهمكت كثيراً بالحياة ، كان هذا صدى لحقيقة بداخلي ، ذلك النوع من الحياة الذي لم أكن أشبع منه ، وما زلت أحنُّ إليه ، ولكني كنت أخلط كلَّ شيْ بكل شيء ، وأحياهما معاُ ، كان الشعر والحياة بالنسبة لي شيئاً واحداً، على الآخرين الانتباه إلى ذلك عندما يتحدثون بمثل هذا الكلام عني ، انحيازي كان إلى تلك الحياة التي تجمع الاثنين في كأسٍ واحد ، كنت أكره الدرس والعمل والوظائف ، وكنت أجد نفسي في أجمل حالاتها مع امرأة تشاركني هذه الحالة ، وأيضاً مع صديق .
أنا : علي .. هل عملت يوماً في حقل الثقافة ، هل شاركت بإقامة رابطة أدبية أو اتحاد ما ؟
علي : عملت يوماً مدرساً ، وكنت ناجحاً ، أظن ، وتوظفت مرة في ما يسمى دائرة الدعاية والإعلان ، وقد عملت بجدية في تلك الفترة ، لدرجة أن البعض كان يجلس عندي ويحدثني ولا أشعر به ، ثم بعد ذلك جاء أحدهم وشطب اسمي ، أحد المناضلين ! ولكني لم أستلم أي منصب رسمي ، مرة كنت نائباً لرئيس اتحاد الأدباء ، أي معاوناً ، ما رأيك بتعبير معاون أديب !
أنا : أعتقد أنه وظيفة عظيمة ، إذا كان الأديب هو أنت ! ولكنك لا تعطي راتباً كغيرك ، ليس معك إلا خمسين ليرة ، وتتباهى !! علي ... كيف تنظر إلى الحركة الشعرية السورية في حالتها الراهنة ، فكما يقال ، لم تظهر أسماء كبيرة في سوريا بعد عقد الستينات وذلك الجيل الذي تنتمي إليه ؟
علي : الناس الآن يسعون لرزقهم ، ليس بسبب قلَّته ، ما أقصده هو مفهوم التكسب ، الآن الشعراء يرسلون ما يعرف بأنه يصلح للنشر في مجلات الخليج أو اللبنان ويقبضون على أربع مقالات /25/ ألف ليرة سورية .
أنا : ما أريد إضافته هو أن شعراء الستينات ومن قبلهم ، كنوع من الشعر ، وكشخصيات ، تواجدوا في زمن احتاجهم أن يزج بهم على المنابر ، شيء يشبه خطباء الجمعة ، ولكن في الأمسيات الشعرية بالجامعات والمراكز الثقافية ، بمناسبة وبدون مناسبة ، تلك الادعاءات والمنبريات ، كانت تسمح لهم بذلك السطوع .
علي : أضف ما تريد ، شعراء الستينات مازالوا يكتبون كما كانوا يفعلون سابقاً دون منابر ودون سطوع ، إلا في رؤوسهم ! يوماً لم أكن شاعراً منبرياً ، شعري كله يخلو من عنترياتهم وادعاءاتهم ، الجميع بعرف هذا ويقولونه . وأنا حقاً لا أجد ما يجمعني بكل هؤلاء ، منذ البداية لم أكن منهم ولم أحاول أن أكون فيما بعد .
أنا : يقول ممدوح عنك ، في مقدمته لأعمالك الكاملة ، أنك كنت تحب أن تدعي للأمسيات الشعرية والمهرجانات ، ولكن لم تكن حريصاً على أن تذهب ! ما رأيك بما يقام من أمسيات في المراكز الثقافية والمهرجانات الأدبية في سوريا أو في غيرها من البلدان العربية ، حيث يذكر أن عدد الحضور في بعضها، كان يكفيه غرفة صغيرة وعدد قليل جداً من الكراسي . إلا في حالة كون الشاعر مثل محمود درويش أو أدونيس مثلاً ؟
علي : وجهة نظري ، إنها تفسد أكثر مما تصلح . لم أشعر يوماً بشعورٍ طيبٍ في أي مهرجان ، فعلت هذا في السابق مضطراً ، يجب أن يكون هناك تفكير جديد بعلاقة الجمهور مع الشاعر ، يجب العمل على إقامة علاقةٍ صحيحة ، يحترم فيها الطرفان . كلاهما الآن ، أعتقد في هكذا مهرجانات ، غير محترمين على الإطلاق .
أنا : وماذا عن الجوائز ، معروف أنك رشحت مراراً ، وأنك رفضت بادئ الأمر ، ثم وافقت ، ولكنك لم تنل بعد أي جائزة ؟
علي : هم رشحوني ، وهم من أعطوها ، لحنا مينة في الوقت الذي كان يصرح بأنه يرفضها ، لكنه قبلها ، جائزة العويس أقصد ، ثم أعطوها لعبد الوهاب البياتي قبيل وفاته ، والآن أنا مرعوب من حصولي على هذه جائزة أو غيرها ، كيف سأوزعها .
أنا : أعمالك الشعرية الكاملة ، طلب الكثير من أصدقائك ومحبيك ومنهم رياض الريس أن تجمعها ليطبعوها لك ، رياض عن طريقي طلبها أكثر من مرة ، طبعت أخيراً في دار عطية ، ماذا شعرت وأنت تحملها وتنظر إليها ، وهي بين يديك ؟
علي : الذين يحبونني لم ينفعني حبهم بأكثر مما ضرني كره الآخرين . جاء رياض إلى دمشق مراراً ولم يتصل بي . ثم ما عاد يهمني أي دار تطبعها ، لم أنقح أو أعدل أي شيء بها ، حتى الأخطاء المطبعية تركتها لهم ، المقدمة كتبها ممدوح ، والسيدة جورجيت عطية صاحبة الدار هي التي سافرت إلى حلب وانتقت لوحة الغلاف من رسوم سعد يكن ، وقد كان أول ما شعرت به وأنا أتصفحها هو أنها ليست ..كاملة ، وأن هناك ما يمكن إضافته عليها ، كتبت قصائد جديدة ويجب علي تبييضها ، منها واحدة طويلة جداً ، يختلط بها النثر والشعر ، لا أدري إن كنت سأتمكن من إنهائها .
أنا : هل شعرت بخيبة ما ؟
علي : لا يهمني أن اشعر بشيء كهذا ، ولكن يوجد خيبة في نهاية كل شيء .
أنا : بالنسبة لي يهمني أن لا تشعر بالضجر من أسئلتي ، قل لي إذا كنت تريدني أن ، نستطيع أن نكمل المقابلة في وقت لاحق ، لا أريدك أن تكرهني.
علي : اطمئن ، لن أكرهك أكثر من غيرك ، ولكن حسناً تفعل إن أسرعت بانهائها .
أنا : ها أنا إذن أختم معك مقابلتنا ، وسأرسلها غداً أو بعد غد في الملف الذي يعد عنك في جريدة الثورة ، هل يهمك أو يسرك أمور كهذا ؟
علي : نعم تهمني وتسرني ، تهمني وتسرني لحدٍ ما ، ولكن لماذا يهمك أنت أن تسحب اعترافاً مني ! في النهاية أنا شخص أناني وأحتاج من حينٍ لآخر إلى ما يغذي أنانيتي .
أنا : علي ..سؤال أخير أخير :يبدو وكأنك في اختيارك اللاذقية لتحيا فيها منذ أكثر من عشر سنوات تقريباً ، آثرت غروباً بحرياً ، ذلك الأفول الأليق بالشعراء ، أي ندم لا يعرف عنك , أي عزاء ، تجده في هذا ؟
علي : أولاً ، لا أجد أن هناك أي نوع من الأفول يليق بي ، وثانياً ، أحب الغروب على البر أكثر من الغروب على البحر الذي لا أحبه هو نفسه ، رغم ما يعنيه لي من اتساع وعمق , وعزلة وصمت . وثالثاً ، اللاذقية التي كنت أعرفها ، بمرفئها القديم الضيق ، وأهلها اللطفاء على نحو دبق ، ما عادت هي هي ، ما عاد هكذا مرفأها ، ولا أهلها ، ولا مقاهيها ، فوا حسرتاه واحسرتاه ( يردد يضحك ) أما الندم ، هذه العاطفة المتنقلة الجميلة التي لم أعرفها سابقاً، فهل سمعتني الآن ، أو يوماً في جلسة معاً أو سهرة مع الأصدقاء ، أذكره ؟؟ نحن لم نتحدث ندماً على الإطلاق ! أليس كذلك ؟ و الآن ، ربما من باب التغيير ، أبحث عن العزاء ، أي عزاء ، ولكن ، مثل أي شيء ..كل شيء.. حاولت العثور عليه في حياتي كلها ، فلم .. ولا .. ولن .. أجده .
اللاذقية
****
عن موت علي الجندي وعن النسيان الخسيس / عبدالله ونوس
2007-10-03
( 1 )
يركنُ جامعو الحثالات إلى نصّهِمْ بنهمٍ يوازيركونهم إلى لَصََّهمْ ، بغال الحزبِ تجرُّ عرباتهم ، ومئة حوذيٍّ يجلدون الهواءَنقيقاً ..
الصحيفةُ السمينة والوحيدة كجرذٍ مدللٍ ، تقيءُ كُلَّ صباحٍ على قارئيها البؤساء ، هو غبطة استمراءُ قيءِ الآخر عليك ، آليّةِ المثقفِ السعيد في وطنٍ بائسْ .. ننتظرُ قيءَ صحيفة الصباح كما ننتظرُ الرغيف، افتتاحيةُ رئيس التحرير وجهها ، وما دبّج الشعراء قفاه ، ولأنَّ عنايتنا أزليّة بالقفا ، تقيءُ علينا الصحيفة من صفحتها الأخيرة .. ـ هو ما قبل الشعرـ ، ملاحق وصفحاتٍ ثقافية وكتباً شهرية لتبديد البلادة الأزلية ، وجحافل من الأجراء والأميين .. معلمين بالوكالة في مدارس بلا تلاميذ ، حاصدي شهاداتٍ عليا في غفلة الرعب الأزلي على رقاب العباد ، وموفدينَ لخارجٍ أنظفُ منهُ خروج المبطون ، حيثُ الشهادات المزركشة الأطراف بزجاجة - grantis – أصلية ، يكتبون الشعر حيثُ عزّت المهنْ ، كراسيّهم مقاعدُ مراحيض ، وطاولاتهم وَضمْ .
هو إذاً ثقافةُ القيء ـ أو قيءُ الثقافة .
الحقيقيون من ظلٍّ إلى ظلّ كعجائز الحواري ، بلا تفاحة الرغبة ، ولا هسيس أفعى الفتنة ، هم مبعدون عن فردوس المؤسسة الذي يكون الجحيم عنده أصلاً ـ برداً وسلاماً .
( 2 )
إذ ذاك تفرّخ القمم ، ويعود المبعدون طوعياً ، ويبنون مؤسساتهم الخاصة بهم ، متناغمةً تماماً مع المؤسسة الأم ، والذي إن بدا بينهما نفورٌ ما ولو على عيون الحسّاد .
أعداء الأمس يتراثون ، مهرجاناتٌ من الدرجة العاشرة تُلمّعُ وتغدوـ مَطْهَرَاً ـ ، حيثُ : ـ غفرتُ لك ذنوبك فادخل جنّتي آمناً ـ كلُّ شيءٍ جديرٌ بأن يُمدح ، الطريقُ إلى الوصي ، عرشهُ ، عباءته التي تتسعُ للجميعْ ، نحولهُ وقامته التي لا يُعرف مداها حيثُ لم يُرَ أبداً إلاّ جالساً . تماماً حيثُ ينتصفُ الصيف ، يجتمعُ الخطاءون في مَطْهَرِ الوصي ، من يقرضُ ومن يرسمُ ومن يغنّي ... مسبحين بكهنوتهِ ، ومن كُلِّ أصقاع الشعر ـ فلا يفهم الحدّاث إلاّ التراجمُ ـ . القلوبُ الشتّى تأتلفُ على مائدتهِ .. الخصومُ يتصافونَ على محبّتهِ ، آلية الخسارة الدائمة رابحةٌ بحضوره ، ابتسامتهُ مبعث الرضى ، سقفُ بيته رحمه ، يتذكّرُ الجميع ... ولا يتذكّر أحداً ، فالتناقضُ بناءُ كيانه ومحتواه ، ستحشى الجرائد والكتب بأخبار الوصي وكرنفاله السنوي ، ولا بدَّ لتلك القرية اللابدة أبداً في تلك الخضرة الأزلية أن تتمدد بعمادة وصيّها على صفحات التاريخ .
( 3 )
غيرُ بعيدٍ عن الكرنفال .. " وفي شقّةٍ نصفُ مفروشةٍ " ، مالحة الهواء ، تتقشّرُ عن جدرانها وحشةُ الشيخ السّاكن فيها ، يقبعُ أبو لهب "متبوب اليدِ والصوتِ والوجه " ، شائخاً وسَئِماً حتّى الثمالة ، " ومن يعش ، ثمانين حولاً لا أبالك يسأمِ" عكازه مسوّداته التي فاض عليها خزان المياه ذات بلل ، والتي تراكمت خلال عقدٍ ونصف ، غضَّ الجميع أعينهم وقلوبهم عنها وحضنها عبث الشاعر الوحيد والمستوحش كإلهٍ ضَجِرْ .
علي الجندي .. كما الجميع أنا ، وبفارغ صبري سأنتظر موتك ، هيأتُ شارات الحداد والمراثي ، مناديل التلويح المطوية جيداً نظيفة ومعطرة ، فور سماعي بغيابك سأنفض الغبار عن كتبك لأستعيد أشعارك ، وسأدبج المراثي والمدائح , وكما قبل ألفي عامٍ خلت سأمارس كناطقٍ بالضاد هذه المثيولوجيا " الطللية " العريقة العرف في تاريخ العرب ، وكيف لا وقد غاب شاعر عظيم.
ولكن الآن .. من تُرى يجرؤ على تذكرك ، من يجرؤ أن يقول أن هناك شاعراً مركوناً ومهملاً ووحيداً بين اللاذقية التي لم تحفل تاريخياً بأبنائها الحقيقيين ، وبين مدينتك سلميه العاقة أبداً لأبنائها ، والمشغولة عنك وعن غيرك بعطشها الأزلي ، وبأبواب السماء ومن ملكوا رقاب العباد الموصدة جيّداً في وجهها .
ليس لك مكان يا أبا لهب في صحفِ القيء ، ولا في كرنفالات الصامتين عن سنوات الرعب في منافيهم الطوعية الفردوسية ، والعائدين الآن شيوخاً ببخورهم وعباءاتهم وأياديهم الملثومه ، وتلاميذ الأمس الأغبياء ، لم يسمعوا بك بعد ، أما الأصدقاء فقد تابوا وأنابو ، ـ كلٌّ إلى ربّهِ ـ ، وهيهات لتائبٍ أن يعرف أو يتعرّف على متبوب اليد إذا كان قدّام ربّهِ مسؤولا .
وحيداً ستتأمل خزانة نسائك الفارغة عن آخرها ، هدأ غبار غزواتك ، وفتنتك بهتت ألوانها ، وعيناك المشتعلتان ناستا .... بلا يديك القابضتين على كلِّ ما تكوّر ، وبلا فمك إذ كان يدكُّ حصونهنَّ قُبلاً وشعراً ، ما عساك فاعل ؟ .
علي الجندي .. بعد قليل ، سَيُخرجُ الجميع رؤوسهم ، بعدّة الرثاء الكاملة والجاهزة ، وبكل أناقة ضميرهم المطعون بغيابك ، سيصطفون على قبرك جميعاً فرحين ، بأن غُبت وغابت معك جريمة صمتهمْ .
.. وحيداً في " مدار سرطانك " و " حمّاك الترابية " و " قصائدك الموقوتة " التي لم ولن يقربوها أبداً ، خشية انفجارها في وجوههم .
***
سماء أخرى " علي الجندي " ، أخذ ذاكرته ورحل
مرسل: 08 أغسطس 2009
أعماله الشعرية الكاملة صدرت بعد سبعين عاماً من اللعنة والتشرد
علي الجندي : عشت كما أحببت، ويقهرني العجز لا الموت
كرهت البياتي، وعلاقتي بالسياب كانت مأساوية :
بعد مطاردات كثيرة، التقيت به، مع أصدقاء له، في اللاذقية. كان بادي الضعف والهزال. بصره لم يعد ذلك الثاقب، فهو بصعوبة يبصر الكأس أمامه. لكنه ما يزال يصيخ السمع لدى مرور رائحة الأنثى. لم يكف عن الضحك، لكنه لم يعد يملك تلك القهقهة الصاخبة التي ميزته وعرَّفت به حانات العالم. ما يزال يتناول ابنة الكروم، لكن ليس بالقدر الذي سمح له طوال عمره باقتحام الحياة طولاً وعرضاً..الخ.
اتفقنا على لقاء آخر، نكون فيه وحدنا، هو وأنا. وكنت أخبئ فكرة حديث صحافي معه. والتقينا في شرفة فندق في المدينة الساحلية شمال سورية.
تحدثنا في كل شيء؛ الحياة، السفر، الخمر، والمرأة، بل خصوصاً المرأة التي يحمل لها الجندي قدراً هائلاً من الحب، ويحتفظ لها بمساحة واسعة من ذكرياته. وفجأة خطر لي أن أسجل جانباً من الحديث الصريح. فقلت له: لو تدري كم طاردتك قبل سنوات. سألت عنك في دمشق، في مطعم وبار "الشرفة" في اتحاد الكتاب العرب، فقيل لي: لقد تزوج صديقته ورحل عن العاصمة إلى الشمال. ستجده- قالوا- في قريته. وسافرت- تابعت حديثي له- وراءك إلى "سلمية"، وقابلت شقيقك الدكتور سامي (رحمه الله)، فقال لي إنك هجرت القرية إلى اللاذقية، فسافرت خلفك و.. لم أجدك. وها نحن معاً.
وبعد محاولات عدة وافق، على أن لا نتوغل في..
ينتمي علي الجندي (مواليد سلمية 1928) إلى فئة الشعراء الملعونين والخوارج، من دون مواربة أو استحياء. يظهر هذا الأمر في شعره جلياً، لكنه يبدو أكثر تجلياً في سيرة حياته التي لم يكتبها بعد، وإن كنا نجد ملامح منها في قصائده. سيرته هذه نجدها لدى أصدقائه وندمائه القادرين -حتما- على كتابة أهم محاورها ومحطاتها، على نحو ما كتب صديق الجندي الأشد قربا إليه،الشاعر ممدوح عدوان، في تقديمه الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر علي الجندي (صدرت حديثا عن دار عطية، دمشق/بيروت، ألف صفحة).
هو من جيل الرواد، زمنياً على الأقل، وقد عاش معهم وبينهم زمناً، لكنه على رغم ذلك لم يكن منهم، ولم يحسب رائداً، ليس لأنه أقل شاعرية أو اندفاعاً نحو التغيير والثورة، بل لأنه-أساساً- قد اختار أن يكون، وأن يظل، بعيداً عن كل ما يمكن أن يؤطر اندفاعه وجنونه، اختار أن يكون الشعر لعنة أو ورطة لا بد منها، لأنه (الشعر) يأخذه إلى الكتابة التي تأخذه من الحياة-العيش، فيما هو منهمك ومهجوس ومطارد بالحياة وبالحب وبالمرأة وحسب!
ظل علي الجندي بعيداً عن الشهرة والأضواء التي يسعى الكثيرون إلى بلوغها بأي ثمن.
من يقرأ الأعمال الكاملة للشاعر، لا بد أن يلفت اهتمامه ذلك الإهمال الذي يشوب مسألة تشذيبه لقصيدته، حتى ليخيَل إليك أنه لا يمنح هذه القصيدة إلا الوقت الكافي لكتابتها، ثم كفى! وهو قد يكتب في المقهى والحانة والرصيف، ولا يتوقف كثيراً أمام ما يكتب.
ولكن... لا يسع قارئ شعر الجندي إلا أن يتوقف أمام هذا التدفق والتنوع والغنى في هذه التجربة الشعرية، وما تعكسه من تجربة معيشة. ففي هاتين التجربتين- الشعرية والحياتية- من الخصوصية ما يضع صاحبهما موضعا مميزاً في الحياة الثقافية العربية عبر خمسين عاماً.
إن اللعنة الأولى التي حملها الشاعر في حياته، كما في شعره، هي لعنة البحث عن حرية مطلقة، بلا قيود.. حرية مستحيلة، إذاً، تتضح استحالتها كلما توغل فيها الشاعر تشرداً وتمرداً، وكلما حاول أن يقبض عليها كي يمنحها روحه ونكهته، وكلما أوغل فيها غربة وعزلة ووحشة.. هو الذي لم يكن يطيق الحياة بعيداً عن الناس، كما لم يكن يطيقها في الاستمرار معهم.
منذ وقت مبكر، راح الجندي يطوي ضلوع نفسه على يأس عظيم حيال ما يمكن أن يفعله الشعر الذي هو محض سحابة سوداء عقيم.. حيث لم يعد للشاعر مكان تحت الشمس، وحيث " الجمهور ظلال سوداء، صماء، غير عابئة إلا بطعام النمل. ومنذ البدايات، كان يتردد في شعر الجندي سؤال: من أنت يا شاعر؟" ويرد صوت الشاعر أنه "دودة ترتعي عشباً على قبر فؤاد حزين!". ويعلن أنه "من نطفة سيئة التكوين" وأن "الموت صليبي".. الخ.
ذلك التكوين الذي سيرافق الشاعر في مراحل حياته، فيظل يحفر في الحياة ممرات ومخارج، ولكن كمن يحفر قبره بضربة خرساء أو عمياء، وكمن يقطف أزهار الحديقة حتى تغدو الحديقة خاوية. لقد امتص الشاعر حياته قطرة في أثر قطرة، وكان يدفن الموت في الحياة، غير آبه بالمصير الذي يعرفه جيدا ويهرب منه أو يخاتله ويخدعه. وما بين بدء الرحلة ووصولها محطة العقد الثامن (تجاوز سن السبعين)، يعيش الشاعر الحياة غالباً، ويتأمل فيها أحيانا، لكنه يغرق في فضاءاتها تماماً. يمنح ذاته للحياة، ويفتح أبواب الحياة كي تغرق ذاته فيها. عاش نعيمها وجحيمها، ملذاتها وآلامها. عاشها بجد محارب واجتهاده إذ يسعى إلى الانتصار والحياة الأفضل، ولا يخشى الهزيمة أو الموت، لأنه أحب الحياة وعشقها عشقاً صوفياً: "يا ولعي المجنون بالحياة ". صرخته المدوية هذه ليست سوى صدى تلك الحياة، تلك الرحلة، وذلك "الترحال من حان إلى حان" وذلك " التجوال من كهف إلى كهف، أفتش عن نبيذ لم يذقه، بعد، إنسان".
ومثل كل ملعون، متمرد، تنطوي تجربة حياة علي الجندي على تناقضات رهيبة. وهي ما يجعل الحياة لعبة غنية ومثيرة دونما قصد أو تخطيط، بل ببراءة وعفوية تجعلان لحظة الضعف معادلاً إنسانياً للحظة القوة، والسقوط في الهاوية معادلاً للارتفاع إلى قمة النشوة، وربما كان في إمكان المعاناة أن ترفع من قيمة اللذة.. مثلما تعلي التضحية قيمة الحرية ومعنى الحياة، ومثلما يطلع النهار من قلب الظلمات.
وفي شعره، كما في حياته، كان علي الجندي يولّد الأشياء من نقائضها: الحلم من اليأس. والخوف من الأمان. مثلما يدفن الموت في قارورة الخمرة أو يجعل عنوان "اللياليين" شط الحياة الرحب. أليست لحظة اللذة هي نفسها اللحظة الهاربة من العمر؟ أليس العيش الجميل سبيلا إلى الهاوية مثله في ذلك مثل المأساة؟ ألا تبتلع الموسيقى الظلمة كما تبتلع لحظات العمر؟!
لقد كتب علي الجندي شعراً إنسانياً يخلّد لحظات ومشاعر الإنسان الذي أراد أن يكونه. كتب بإخلاص عميق لذاته، التي كان يقبع في ذروتها السكرى، أو حين كان قابعاً- كما يقول "في ذروة ذاتي السكرى ". كتب من وحي تجربة شجونه التي ليست -ولم تكن يوماً- سوى شجون الإنسان.
كتب من قلب العبث والفوضى والمجون والجنون، ومن قلب اليأس والهزيمة، لا هزيمته هو فقط، بل هزيمة القوم والأمة، النخلة اليابسة من ألف عام، والأم التي روّعنا عقمها من ألف عام. من قلب الواحة الكاذبة حيث الخضرة نار، وحيث جذورنا تأكلها الديدان.
ورأى علي الجندي نفسه في شعراء مثلوا له ملامح من ذاته؛ في عروة بن الورد حيناً، وحيناً في قطري بن الفجاءة (الخارجي الذي طارت نفسه شعاعاً)، وفي المتنبي أيضاً، لكنه أكثر ما رأى نفسه في طرفة بن العبد رغم أنه- كما يقول الجندي "هوى مبكراً وما أزال أهرم"، لكنه يلتقي مع طرفة في أنهما معاً "عرضة للانهيار في أية لحظة! وأن "السرطان" يقرض حياتنا أبداً". إلا أن تخصيص قصيدة مطّولة "سقوط قطري بن الفجاءة / سيرة حياة داخلية فاجعة في أناشيد"، وتحميله هذه الشخصية أبعاد حياته وشخصه وهزائم جيله الذين سمّاهم جيل "القعد" (كان الرجل من الخوارج عندما يشيخ فما يعود يحسن المشاركة في الحرب، يغدو من قَعَد الخوارج..)، واستلهام الرمز الذي في اسم الشاعر الخارجي (إنه القطر المفاجئ)، إن هذا الصنيع لهو دليل التأثر الكبير بالشاعر المذكور خصوصاً، وبالخوارج أيضاً.
وإلى هذا كله، فثمة اقتراب من عالم السياب الذي بدأت علاقة الجندي به في وقت مبكر، وربما كانت مأساة السياب تلقي بظلالها في شعر شاعرنا دون أن تكون جلية الحضور.
ويبدو في شعر الجندي أثر ثقافة دينية ترتبط بالنص القرآني حيناً، وتتعلق بالمأثور حيناً آخر. كما يتضح حضور الشعر العربي عبر الاستيحاء والتضمين. ومن ذلك ما يجعلنا نقرّب الجندي من مالك بن الريب مثلاً، حين يستعير شطر بيته الشهير "خُذاني فجُرّاني بثوبي إليكما/ فقد كنت قبل اليوم صعباً قياديا"، أو نرى اقترابه من أبي نواس وهو يردد مثله "إذا مت فادفني إلى جذع كرمة.. "، أو من الحمداني أبي فراس وهو يعاتب الحمامة "لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة.. "، فكيف استطاع أن يرى نفسه في هؤلاء جميعاً، وأن يراهم في نفسه هذه؟ أهو القلق، أم هو البحث عن مثال، أم الاثنان وسواهما هو ما كان يسوق خطى الشاعر في الدروب والرحلات؟
عاش الشاعر بصخب واتساع، بما تيسّر له من حرية وتمرد، بكل ما أوتي من رغبة في العيش هنا وهناك؛ مع المرأة أو مع الخمر، اللذين يشكلان أبرز أقانيم حياته.
ما يشبه سيرته
"شاعر الظلال" (كما يسمي نفسه في إحدى قصائد الحب الطارئ) كان لا يزال خجولا حد المرض من الحديث عن نفسه بوصفه شاعراً كبيراً، وصاحب واحدة من أهم التجارب التي تجمع الحياة والشعر في قصيدة، في الشعر العربي المعاصر كله. ولم يكن سهلاً إقامة حوار معه في المعنى المتداول للحوارات، فتحدثنا عن وضعه الراهن، عن صحته الآخذة في التراجع منذ سنوات. تحدث عن ابنته الأخيرة (نَفور/ 5 سنوات) من زواجه الثالث والأخير، ربما. قال إنه يقضي معها وقتا طويلاً- في غياب أمها- يلاعبها ويبتكر لها الألعاب، فهي من تبقى له بعد أن كبر الابن الوحيد والبنات، وطاروا.
تحدث عن الطقس الجميل المشمس، وانتقل ليحكي عن رحلته الأخيرة إلى بيروت لتوقيع كتابه (الأعمال الكاملة) في معرض الكتاب. قال إنه تحمس للذهاب إلى بيروت، على رغم أنه لا يتحمل أعباء السفر، من أجل أخيه عاصم (لم يكن عاصم قد توفي بعد)، يقول عنه "صار عاصم يهتم بي بعد أن كنت أهتم أنا به. صار يخاف علي من قطع الشارع.. فيمسك بي من ذراعي و.. إنه يصغرني بأربع سنوات تقريباً. سامي كان هو الأكبر ثم رعد. وخالد أصغر مني أيضاً).
قلت له إنني قرأت (في كتابه "هواجس أخيرة") عن رغبته في كتابة سيرته الذاتية، فأخذ يتحدث- بذلك البطء الذي بات يميز أسلوبه في الحديث- عن هذا الكتاب الأخير الذي لم ينشر من قبل أن تضمه الأعمال الكاملة.
قال: إنه عبارة عن يوميات، لم أفكر إن كانت شعراً أم نثراً، لكن الناشر أصر على نشره باعتباره شعراً، فوافقت.
* ولكن أستاذ علي دعنا نتناول محاور ومحطات وملامح من هذه السيرة التي لم تكتبها. وأبدأ أولاً بالسؤال: لماذا السيرة الذاتية، أما كان الشعر كافياً؟
حتى الآن شعرت بخيبة أمل. كان الشعر جزءاً أساسياً من حياتي، وحياتي موجودة في شعري، إلا أنني أقول، وبكل أسى، إنني لم أعبر بالشعر عن مأساتي الحقيقية؛ مأساة الإنسان. وأشعر أيضاً بأن الناس لم تقرأ شعري، ولهذا فلا بد من توضيح بعض الأمور. هذا ما يدعوني لكتابة السيرة، وسأكتبها إذا أتيح لي.
* من أين ستبدأ بها؟
من سن المراهقة والشباب.
* وليس من الطفولة، من القرية الأولى.. ؟
في القرية لم تكن طفولتي سعيدة أو مرحة. كانت قاسية، فقد كنت ميالاً إلى الحلم، أبحث عن عالم آخر أقل قسوة، وأسعى لأخلق لنفسي عالماً جميلاً.
* وكنت تهرب من واقعك.. إلى أين؟
لم أكن أهرب منه. كنت موزعاً بينه وبين الحلم، خصوصاً عندما كنت أذهب لأرى الأبقار في سهول القرية، فأقف حيالها كشيء غير معقول. أفكر في هذا الكون الواسع، ولكنني أرتد إلى الواقع القاسي. كنت أغذي النزعة الحالمة بقراءات كثيرة، وخصوصاً بقراءات شعرية، وبأحلام اليقظة التي سرعان ما تختفي. ولم يكن هناك مثال محدد أسعى إليه.
* ماذا عن قراءاتك الأولى؟ وكيف كنت تحصل على الكتب؟
كنت قارئا نهماً. كنا نخرج في أيام الصيف إلى الأرض التي نعيش منها، فأقرأ كل ما يصل إلى يدي من كتب. وقد اهتديت مبكراً إلى ترجمات لويس عوض وغيرها من الترجمات المصرية، وكان من أوائل الكتب رواية أوسكار وايلد "صورة دوريان غري" الجميلة جدا. بعدها... جاءت مرحلة الجامعة ودراسة الفلسفة، والقراءات الأدبية. وقد كانت لدى عمي أحمد (الجندي) مكتبة جيدة، ولدى أخي سامي أيضاً، ولدى أصدقاء العائلة كذلك.
* هل كان لأخيك سامي تأثير في تجربتك ؟
سامي لم يطلع على تجربتي الشعرية إلا حين صرت في الثلاثينات (أي عندما اصدر علي مجموعته الأولى، عام 1961، ربما). فهو كان ناشطاً حزبياً وسياسياً، ويعتقد أن شعري غير مهم، وأن علي أن أكون معه في الحزب.
* نظل في قراءاتك في الخمسينات، المرحلة التي اتسمت بصراعات حادة: الماركسية والوجودية والقومية؟
في هذه الفترة كنت أهتم بالفلسفة الوجودية، وأقرأ كتبها بنشوة. كنا- صديقي علي حيدر وأنا- متهمين بالوجودية، ولم أنكر التهمة. وقد اهتديت أيامها إلى ألبير كامي، وكان يشدني بحثه عن الإنسان المتمرد، وأسلوبه الجميل في الكتابة. كان التمرد يعني- لي- الرغبة في أن تكون لي طبيعة (شخصية ربما) مختلفة عن كل من في بيتنا الذي كان يضم خمسة ذكور وفتاة واحدة. طبعاً حاول بعض الأصدقاء اليساريين استمالتي، لكني كنت أعتقد أن من طبيعة الوجودي أن لا يكون مؤطراً في اتجاه، فكنت أتمرد وأعيش الفوضى بكثير من النشوة.
* ولهذا توجهت إلى دراسة الفلسفة في الجامعة؟
لهذا الأمر قصة طريفة؛ فقد ذهبت إلى الجامعة لأدرس الأدب العربي، ولكن منذ البداية كانت ثمة محاضرة لأستاذ يتحدث بالأسلوب الركيك- أسلوب الكتب الصفراء- ولم أحتمل أكثر من محاضرتين، فقمت بنقل أوراقي إلى قسم الفلسفة، لأن الفلسفة كانت تشعرني بنشوة فكرية. وكان مما شجعني على ذلك وجود صديق لي يدعى إسماعيل، الذي كان له أثر كبير عليّ. فقد كنا نذهب ونجلس في مقهى الجسر ونناقش المقولات الفلسفية و..
* هل كنتم تحلمون بتغيير العالم؟
كانت فكرة تغيير العالم تخطر لنا أحياناً.
ينابيع الشعراء
* لنبقَ في البدايات، ماذا عن الينابيع الأولى، والقصيدة الأولى؟
بعيدا عن التحديد، لم تكن هناك ينابيع محددة. كنت في البداية أعيش لأكتب. وكنت كثيراً ما أبدي الملاحظات ذات الطبيعة الشعرية، إذا جاز القول. كنت أحس أن هذه الرغبة في الكتابة تلخص وجودي كله. أحاول أن أكتب كثيراً، وأبحث عن شكل جديد من الكتابة مختلف عن كتابة الآخرين. لكنني كنت أضيع بين ثقتي الشديدة بنفسي وبين انعدام الثقة بما أفعل.. أشعر أن الشعر هو هدفي، وأنني سأصبح شيئاً ما مهماً، وأحس بالرغبة في أن أغدو كذلك، فأشعر أنني أقوم بعمل عظيم حيناً، ثم أعود وافقد الثقة بما يمكن أن ينتج من كتابتي وبحثي عن الجديد. هذا البحث عن الجديد عذبني كثيراً، حتى عثرت على قصيدة للسياب، فشعرت أنه أعطاني طرف خيط، وأمسكت به.. وكتبت قصائد جديدة، شعرت أن هذا هو الذي أريد، هي ما أبحث عنه. كانت قصيدة السياب بعنوان (السوق العتيق)، ونشرناها في مجلة "النقاد" السورية. كانت فيها تلك الرغبة في التمرد.
بدر شاكر السياب.. كان - قبل نازك (الملائكة) و(عبد الوهاب) البياتي- يكتب أشياء ترى المستقبل وتفكر ( تتنبأ) به. في تلك الفترة بدأت أحس بالغيظ من البياتي. لم يكن يعجبني رغم محاولاته أن يكون لطيفا معي. كان يرى أن من لا يكتب مثله (بطريقته السياسية) فليس شاعراً، بل "صائد ذباب". وعلى سبيل الطرفة، كتبت أيامها - عام 1951 - قصيدة أقلد فيها أسلوبه، أسميتها "صائد الذباب" وأهديتها "إلى البياتي..صائد الذباب الكسول"، أحفظ بعض أبياتها " ويقول لي جار صديقْ هلا خرجنا للطريقْ للشارع المزدان بالعيد الجديدْ نلهو كما تلهو وفود الناس في المرج البليدْ فأجيبه إني لأخجل يا رفيقْ من عاري المرذول... من فقري اللعينْ وأخاف تهزأ فاتنات الحي من ثوبي العتيقْ.. " (قرأ الجندي الأبيات من ذاكرته). وقد تقصدت أن تكون بهذه البساطة، لتكون في مواجهة صائدي الذباب. (هنا توقف علي الجندي وسألني إن كنت أحفظ هذا الحديث المتشعب كله، وأستطيع أن أتذكره، لم أفهم بادئ الأمر، لأن جهاز التسجيل كان أمامه... وكان هو يراه، وقد أسقطه مرتين بحركة يده... وشعرت حين شرحت له دور المسجل في حفظ الحديث، أنه لم يقتنع، وواصل حديثه بسؤال : أين وصلنا ؟).
* وصلنا إلى قصيدتك عن البياتي، وأرغب لو تتوقف عند السياب... علاقتك به، كيف ومتى بدأت...؟
علاقتي بالسياب بدأت حين بدأت أقر له، وأخذت أكتب، في مرحلة الجامعة، وأنشر، وأتردد إلى الأماكن التي يجتمع فيها الشعراء والكتّاب... كنت، أيامها، استفز الأصدقاء كي يسهروا ويشعروا بصخب العالم والعيش فيه، وكان هذا هو قاموس اهتماماتي في البدء. وما نشرته في تلك المرحلة كان القليل من قصائدي، ولم يبق منها شيء، إذ لم تنشر في مجموعة.
في العام 1948 أو 1949 تعرفت - بالمراسلة - إلى السياب. كان لي صديق ( هو دحام الدندل.. ) يعرف السياب... أبديت رغبتي في التعرف إليه، فقال تعال نكتب له. وكتبنا رسالة شعرية فيها ( تنكيت) على السياب، فرد علينا برسالة أكثر سفها مما توقعت. كانت قد صدرت مجموعتي الشعرية الأولى "الراية المنكسة " ( 1961 )، وندمت لنشرها، إذ أحسست أن هذا الشعر لا يمثل الصخب الذي أعيشه، ورحت أبحث عن شعر آخر.
بعد فترة من تلك الرسالة، التقيت بالسياب في بيت غسان كنفاني حين كنت أسكن معه. قبل ذلك، كان غسان يأتي إلينا من الكويت إلى الشام، ونسهر ونقضي وقتاً معاً. وكانت حواراتنا مع السياب من أكثر الحوارات متعة... لكن علاقتي به كان فيها شيء مأسوي... يأتي إلينا من الشام، نجتمع عند صدقي إسماعيل غالباً. وأذكر حين قرأ علينا قصيدته الشهيرة " أنشودة المطر " بصوته القوي الذي لا يتلاءم مع نحوله. ومرة كنت أجلس في مقهى البرازيل، فرأيت سيارة تتوقف، وهبط السياب وزوجته. كان يتكئ عليها حتى تكاد تحمله. كان جسمه يتأرجح كما لو أنه مجموعة من الخرق البالية. وكان المشهد مأساويا حد البكاء.
آخر مرة رأيته حين جاء إلى إذاعة دمشق وطلب أن يراني، فنزلت من مكتبي، فوجدته يتوكأ على عكازين لأن رجليه ما عادتا تحملانه. وذهبنا - وكانت زوجته وابنه معه - إلى مطعم الوادي الأخضر ( في الربوة )، فكان يتأمل المكان والمناظر الطبيعية كأنما يخاف أن لا يراها ثانية، كأنه كان يودع. بعدها... مات في الكويت، ودفن في بغداد ولم أعرف بذلك إلا بعد مدة.
في بيروت
* قلت إنك قد هربت، عام 1961، إلى بيروت... هربا من نظام عبد الناصر، وندمت. هل كنت ضد الوحدة ؟
لا، أبدا. أنا كنت وحدويا في الصميم. ولكن الوحدة كانت تتجسد في رئيس الأمن القومي في سورية.. وكان كل المصريين قد تجسدوا في شخصه آنذاك. وفي تلك الفترة، جرى تسريحي من الجيش، وكنت أتقدم لوظائف فيأتي الرد " يمنع تعيينه " فهربت عن طريق طرابلس. وفي بيروت كتبت مقالا جميلا جدا أقول فيه "شكرا يا وطني" (نشر في النهار، أواخر 1961، وأتمنى لو أحصل عليه). وقد عملت في التدريس، ونشرت في صحيفة النهار، وكنت أعمل في المحرر (لرياض الريس) بنصف راتب تقريبا. وتعرفت إلى جماعة " شعر ". الماغوط كنت أعرفه من قبل. شهدت أكثر من سهرة في بيت يوسف الخال... سهرات أصدقاء، لم أجد فيها ما أريد، ونشرت في مجلة " شعر " قصيدتي الطويلة " الصمت الكبير " التي لفتت الانتباه إليّ.
كنت مقلا في النشر لأنني كنت مشغولاً بالحياة وممتلئا بضجيجها ومتعها وجمالها.
كانت بيروت - آنذاك - مدينة المدن، في الجمال والحرية، خصوصا لشاعر هارب من القمع والإرهاب. كانت تحتضن القادمين وتحميهم وتوفر لهم المناخ الملائم. فوجدت فيها الكثير مما أريد. وقد أفادتني مثلما أفادت من حضوري فيها. ديواني الأول نشرته لي دار نشر تملكها لور غريب وأخوتها. وقليلا ما شعرت بحنين إلى دمشق (لجرح في قلبي). وعلاقتي كانت يومية مع غسان كنفاني ورياض الريس وسواهما. لم يكن يهمني أن نملك مشروعا فكريا أو سياسيا. سكنت مع غسان في بيته في الخندق الغميق، ثم في أبي طالب، وحين تزوج تركت البيت وسكنت مع أخي عاصم في الحمرا. ولكن لقاءاتي مع غسان استمرت، وبقيت أزوره في مكتبه حتى حدثت بيننا مشكلة في بيت ليلى عسيران، حين كنا - هو وزوجته وأنا - نسهر عندها، وأخذت كعادتي عندما أكون أمام امرأة، أتغزل بها... فانزعج غسان لأن زوجته معه. فافترقنا فترة، وعدت إلى الشام... ثم في زيارة لي إلى بيروت، رأيته وأنا أدخل إلى الأنكل سام، فنهض واقترب وسألني " هل ستصافحني أم ستصفعني ؟" فاحتضنته وجلسنا.
* هل ستحدثنا عن علاقاتك النسائية؟
لا أحب التحدث كثيرا عن علاقاتي النسائية في بيروت أو في سواها. يمكن - فقط - القول إنني كنت ناجحا في ذلك، لأنني كنت عفويا ومنطلقا ومعروفا... ومثل أي شاعر شاب في الثلاثينات من عمره، وكنت قد بدأت أكتب ما أرضى عنه.
* حدثتني عن خليل حاوي، كيف كانت علاقتكما؟
خليل حاوي كان من أصدقائي الأساسيين، كنا نقضي ساعات طويلة في التسكع.. وكثيرا ما نجد نفسينا في الهزيع الأخير من الليل. كان الأكثر أصالة... على مستوى إحساسه بحريته وبحرية الآخرين. كانت له علاقة مع "خميس شعر"، ثم ساءت لأنه كان يتحدث بالقومية، والعروبة. وهذا ما كان يحببني به. آخر مرة رأيته في مربد الشعر في بغداد (عام 1978... ربما). وفرحت به رغم غضبي منه في فترة سابقة كان قد جاء فيها إلى دمشق، وأقام في الزبداني شهرين أو ثلاثة دون أن يتصل بي، فعاتبته و... لم أره بعدها. وحين استشهد لمت نفسي لأنني كنت أغضبه... فمرة كان يتحدث عن شعر سعيد عقل ويقول : أدعو الله أن أصمت في الوقت المناسب. وحين قرأت قصيدة جديدة له، فقلت أدعو الله أن أصمت... فغضب مني. لم يكن طبيعيا تماما، لكنه لم يكن مضطربا تماما أيضا.
* ماذا عن جان جينيه؟
جان جينيه ... لم يكن لقائي به عميقا... ولا أدبيا... جاءنا إلى دمشق، وكان منهمكا بالقضية الفلسطينية، لذا قلت عنه إنه رجل شريف لأنه ينتمي إلى القضايا العادلة. فأنا أعتبر القضية الفلسطينية من صلب اهتمامي. لم ألتزم يوما ولم أمارس العمل السياسي، لكني كنت قريبا من المقاومة والعمل الفدائي... وفي شعري ما يظهر ذلك، خصوصا قصيدتي عن اغتيال القادة الثلاثة كمال عدوان، وكمال ناصر، والنجار.
في شعرك وحياتك
* نتوقف أمام مقولات شعرية أساسية في تجربتك. ماذا عن التشرد الذي يظل يتردد في شعرك ؟
التشرد، الرفض، الملاعين... أنا كنت - في أعماقي - واحدا من هؤلاء. أذهب إلى آخر العالم، وأعيش حريتي ونفوري من المألوف لدى الآخرين. ولكني كنت أخشى التشرد عمليا. كنت أحاول أن أبني نفسي، وقد ولد نصف قصائدي تحت مشاعر الضياع بين الرغبة في التشرد والخوف من عواقبه. وبقيت أهرب من الاستقرار، وأقارن بين حرية تؤول إلى التشرد وبين التمرد. فصرت أغرق في التشرد النفسي. هو تشرد ناقص، لكنه مهزوم أمام رغبة عيش الحياة بزخم. بل كان وسيلة للوصول إلى هذه الحياة. الآن أكتشف هذا الأمر. التشبث المهين بالحياة... لأنه كان بحثا عن حرية لم أحصل عليها، لم تكن كما أردت.
دور الشعر الذي هو ورطة.. أنه قدم البديل النفسي لمواجهة الواقع. تورطت به، ولا أستطيع العودة... حياتي كلها ارتبطت به، تشردي، أو بحثي عن تشرد خاص وتراجعي.
* بين المصير المعتم الذي آلت إليه حياتك- كما تقول - وبين الأمجاد الصغيرة التي أحرزتها... هل عشت كما أردت ؟
لا أحس أنني حصلت على أمجاد ذات قيمة. كل الشعراء حصلوا على الكثير من الشهرة، مثلا. أما أنا فأردت أن أعيش، وعشت كما أردت. كنت استسفه أن أقدم نفسي كما يقدم الشعراء أنفسهم... كمن يحمل على صدره نياشين بطولة. بل إنني كنت أخجل من تقديم نفسي كشاعر.
* وفكرة الخلود... ألا تعني لك شيئا ؟
ما اهتممت يوما، في حياتي كلها، بالبحث عن الخلود. أشعر بأن كل شيء باطل وقبض ريح، ولا أرغب الآن في تحقيق شيء. حياتي التي عشتها واستمتعت بها هي كل شيء.
* المرأة التي شكلت محورا أساسا في حياتك، ما سرها، كيف جعلتها كذلك؟
المرأة... كنت أشعر، وأنا معها، بكل إخلاص العاشق. لم أكن أقبل بأقل من أن أندفع بكل نفسي. كانت المرأة كل شيء لي. في البداية كانت العواطف الجياشة تحكم العلاقة. وفيما بعد، صرت أقدم للمرأة ما تريد كي تظل. ولم أكن ابحث في المرأة عن شيء محدد، كنت مشغولا بها. لم يكن الجمال أساسيا. كنت احتاج المرأة كي تلهيني عن وساوسي. ولكن... كنت موزعا أيضا بين بقائها معي ورحيلي عنها. وبكل أسف، فقد كنت ابحث عن امرأة لم أجدها، لذلك تعددت النساء. وأنا لا أقول كما قال الشاعر "ليت لكل النساء ثغرا واحدا، لقبلته واسترحت "، بل أقول " ليت لكل امرأة أكثر من ثغر لأقبلها جميعا ". الجسد طاغية... لأنني كنت أخضع لرغباته، لكني كنت أخالفها وأتمرد عليها أيضا. الشعر والحب... صديقان متلازمان، يجب أن يكون للشعر نكهة خاصة هي نكهتي ونكهة حبي.
* والموت... هل تخشاه أو تفكر به ؟
ما يقهرني هو العجز، وليس الموت. فالموت مثل الحياة والولادة، لا بد منه.
****
هواجس الشعر.. الإصدار الثالث لدار ممدوح عدوان
بقلم: أُبيّ حسن
كان من المفترض أن يكون ممدوح عدوان هو من يتولى تقديم كتابه (هواجس الشعر) الذي كان مقرراً أن ينشره أثناء وجوده بيننا (كما جاء في كلمة الناشر), وهو الإصدار الثالث لدار ممدوح عدوان التي سبق لها أن أصدرت الأعمال المسرحية الكاملة للكاتب في ثلاث مجلدات إضافة إلى إعادة طباعتها لروايته (أعدائي) التي صدرت طبعتها الأولى عن دار رياض نجيب الريس عام 2000.
علي الجندي يسأله: هل معك شيء من شعري؟
ينطوي الكتاب, المكون من 240 صفحة, على زبدة آراء الشاعر النقدية طوال أربعة عقود هي عمر رحلته مع الشعر التي بدأت بـ (الظل الأخضر) في منتصف ستينيات القرن الماضي وأسدل الستار عليها بـ (حياة متناثرة) الذي صدر قبيل رحيله بأشهر قليلة عام 2004.
يعالج الشاعر في كتابه علاقة التكنولوجيا بالشعر وأثرها على الشاعر والمتلقي في آن. نجد هذا في فصل (الشعر والكمبيوتر) الذي يستشهد فيه كاتبه بتجربة الشاعرين المكسيكي (أوكتافيو باز) و التشيكي (ميروسلاف هيلوب). قد تكون هواجسه إزاء الشعر ومستقبله هي مادفعه لإيلاء المزيد من الاهتمام في أثر التكنولوجيا على الشعر: (فكلما تحقق إنجاز علمي جديد, أو حدث حادث دراماتيكي مرتكز على التكنولوجيا, تصاعدت عندنا, وربما عند غيرنا, أصوات تعلن موت الشعر وتدعو إلى دفنه أو تأبينه...) ص 55. إلى أن تتصاعد لهجته إزاء من يعلنون موت الشعر ليأتي جوابه كتلة من غضب: (لماذا أنتم مستعجلون على دفن الشعر؟ أيأكل من طبق أبيكم؟) ص71.
يرفض ممدوح مقولة (موت الشعر) واضعاً اللوم على المتلقي ليعلن (موت القارئ), معتبراً أن الأزمة التي يمر بها الشعر العربي جاءت من خارجه (لا من داخله), مستفحلة بتأثير النمط الحديث للحياة, وموجة الشعراء الجدد الذين تماهوا مع الشعر المترجم, معتقداً أنه كان لابد من ظهور كم هائل من الزيف باسم الحداثة والتحديث, ممن ليس لديهم مايقولونه أصلاً, وممن لم يكونوا يصدرون عن تجربة. إنما كانوا يصدرون عن رغبة في ركوب موجة, إلى أن يشبه هؤلاء بأية انتهازية سياسية أو نفعية.
ونزار قباني أحد المكونات الأساسية لثقافة أجيال, وأًسيء إليه من جمهوره!
يمكننا تلخيص أزمة الشعر, من وجهة نظر هواجس عدوان, ببضعة أمور: غياب الحركة النقدية الجادة, وسهولة النشر التي فتحت الباب واسعاً لكل من هبّ ودبّ, وانحسار الثقافة الجادة من جميع ميادين الحياة لصالح الثقافة الاستهلاكية, إضافة إلى الأزمة الاقتصادية, وأخيراً تعزز الإقليمية السياسية التي كان لها انعكاسات كرست العزلة الثقافية داخل كل بلد.
فالنقد, بحسب وجهة نظر الكاتب, (مشغول, إما بالتنظير للنقد وبخوض المعارك والمجادلات حول المفاهيم النقدية النظرية, وجلُّها مستورد دون تدقيق, وإما بدراسة التراث, أو بدراسة الأسماء المكرسة مثل السياب والبياتي وأدونيس ومحمود درويش).
لايجافي الشاعر الحقائق والوقائع عندما يقول بأن جيلهم (جيل الستينيات) ليس فقط جيلاً دون آباء, إنما هو كذلك جيل بلا طفولة فنية. فما كان يجري حول ذلك الجيل من أحداث, أكبر بكثير من أن يترك لهم مجالاً للعب, إذ فقدوا الكثير من الابتسامات واكتسبوا الكثير من التجاعيد والغضون التي لاتليق بطفولة لم تسعفها الأيام بالتسلح ببعض المهارات البهلوانية الجميلة, وإن كان شعرهم متوجه دائماً لغاية.
في ما يخصّ الحركات الثورية والانقلابية, يعتقد الكاتب أن الثامن من آذار ساعد (على تقديم شعراء الستينيات في سورية على أسس لاعلاقة لها بالإبداع, أي أنهم تقدموا بوصفهم شباناً مسيسين تحتاج إليهم تلك المرحلة), هذا مايفسّر لنا كيفية احتلالهم مواقع مؤثرة في الإعلام والثقافة والنشاطات الجامعية.
من جانب آخر, لايخلو الكتاب من نقد مُر لبعض شعراء الحداثة في الوطن العربي, نجد ذلك وهو يبحث في الوجه الآخر للتطور الشعري, تحت فصل يحمل ذات العنوان, إذ يستشهد بالشاعر اللبناني عباس بيضون, من خلال حديث أدلاه الأخير للكفاح العربي في (5/4/1997), يقول فيه بيضون: (بالنسبة لي نادراً ما ألقي شعري. وغالباً ما ألقيه دون رغبة. إذ لا أجد نفسي مستعداً للوقوف على منبر وقراءة الشعر...), يعلق ممدوح هنا:
(والطريف في الأمر أن هؤلاء الحداثويين المعادين للإلقاء, حين تتاح لهم فرصة إلقاء أشعارهم فإنهم لايعرفون معنى للاكتفاء. ولايتقيد أحدهم بالوقت المحدد لكل شاعر, حين تضم الأمسية أكثر من شاعر. بل يأخذ وقته ووقت غيره, هذا على الأقل مافعله عباس بيضون في كل من المغرب والملاجة في سورية).
يخصص الكاتب القسم الثاني والثالث من كتابه لشهادات قالها في زملاء له, سابقين ومعاصرين ولاحقين, كشهادته في نديم محمد وعلي الجندي ونزار قباني الذي خصه بثلاث شهادات, ومحمد عمران وأمل دنقل ومحمد الماغوط وسنية صالح, ولقمان ديركي من جيل الشباب.
يقول عدوان في معرض حديثه عن علي الجندي: (إنه شاعر مكرس, ولو في دائرة غير واسعة, ولم يعد من الممكن الانسحاب من ذلك. وإنه المعشاق الباحث عن المرأة والمتعة..), ويذكر ممدوح (برودة دم) ولامبالاة صديقه الجندي خلال سفراتهم إلى الخارج بغية إلقاء الشعر, فما إن يصلون إلى البلد المضيف حتى يسأل الجندي عدوان: (هل معك شيء من شعري؟ أما كنت تستطيع أن تجلب معك إحدى مجموعاتي؟ مجموعاتي كلها عندك)!.
يعتقد صاحب (تلويحة الأيدي المتعبة) أثناء شهادته في نزار قباني أنه: (لايمكن الحديث عن نزار قباني بصفته شاعراً وحسب, إنه أحد المكونات الأساس لثقافة أجيال متلاحقة منذ أوائل الخمسينيات), ومع ذلك يرى عدوان أن صاحب (خبز وحشيش وقمر) شاعر مغموط الحقوق على الرغم من شهرته الكبيرة, وقد أسيء إليه من قِبل جمهوره الغفير هذا, إذ تحول الشاعر إلى مجرد شائعة (جنسية) أو (سياسية) يرددها المكبوتون جنسياً أو سياسياً. وبرغم هذا حتى الآن لم تأت دراسات جادة تدرس نزاراً وتعرّف بإنجازه الشعري. فمن وجهة نظره إن نزاراً رفع الكلفة بينه وبين اللغة الشعرية, فقد تعلموا من نزار أن كل كلمة في الدنيا تصلح للشعر, فربما كان نزار هو الشاعر العربي الوحيد الذي يمسك بأي كلمة, فيغسلها من مدلولها الشائع المبتذل, معيداً لها رونقها وجدتها!
من الصعب الإلمام بجوانب الكتاب كافة،خاصة أن واضعه قال شهادته في مايقارب العشرين شاعراً سورياً ومصرياً (أمل دنقل) ويمنياً (عبد الله البردوني) ولبنانياً (جون ميخائيل عصفور, مقيم في كندا), وعراقياً (بدر شاكر السياب ونازك الملائكة). وتبقى شهادات لها قيمتها الأدبية وجديرة بالاهتمام, ليس فقط لأن ممدوح عدوان من شهد بها فحسب, بل, وهذا هو الأهم، لأنها قيلت في لحظتها, فضلاً عما تتضمنه من تفاصيل تغني المتابع ناهيك بالشاعر أياً كان هذا الشاعر!.
هواجس الشعر.. الإصدار الثالث لدار ممدوح عدوان
،،،
بعدما أتعبه حب النساء ورثاء البلاد
علي الجندي عاش مع الجميع ورحل وحيدا
أنور بدر
شكل علي الجندي ظاهرة في الحياة الثقافية لمدينة دمشق في ستينات القرن الماضي، بعد أن سكن لأربع سنوات في بيروت التي كان يعتبرها عاصمة الدنيا، عاد إلى دمشق يحمل ثقله الشعري الذي باركته مجلة "شعر" إذ نشرت أغلب قصائده في النصف الأول من الستينات، لكنه يُصر "لم أشعر بالانتماء لهم" مضيفاً في إحدى اللقاءات الأخيرة معه "كانوا غير ديمقراطيين في نقاشاتهم السياسية والثقافية رغم ادعائهم غير ذلك".
ورغم تسلمه الإدارة العامة للدعاية والأنباء التي تعادل وزارة الإعلام حالياً، إلا أنه اعتبر نفسه شاعراً أولاً وأخيراً، مارس الصحافة وقدم بصوته برنامجاً إذاعياً عن الشعر، لكنه وكما يقول في حوار متأخر معه سنة 2000 "كان يخطر ببالي أن أكون صحافياً أو ممثلاً، لكنني فشلت إلا أن أكون شاعراً".
وفي شعره كان الجندي مخلصاً لنفسه وقناعاته، لم تستطع أن تأخذه الوظيفة أو الصحافة، بل ركن إلى زملاء القصيدة ممدوح عدوان وعلي كنعان، وفي تلك الفترة كان محمد عمران والماغوط وظهر إبراهيم الجرادي وآخرون، فقط أدونيس كان بعيداً في بيروت، أو في فرنسا لاحقاً، وفد غلبت على هذه المجموعة نزوعات قومية يسارية شكلت المناخ العام لمدينة دمشق.
في عام 1969 اجتمعت شلة موسعة من الأدباء في مكتب علي الجندي وبرعاية قريبه عبد الكريم الجندي حيث تم إعلان تشكيل اتحاد الكتاب العرب، وشغل الجندي فيه منصب نائب الرئيس، وتسلم الرئاسة وقتها د. سليمان الخش، وكان وزيراً للتربية، مما يعني نهوض الجندي بأعباء الاتحاد لتلك الفترة.
لكن الدور الأهم لعلي الجندي كان في ترسيخ الحداثة الشعرية لجيل الستينات،لم يذهبوا مع الماغوط أو أدونيس باتجاه قصيدة النثر، لكنهم أكدوا سيادة التفعيلة في القصيدة الحديثة والتي منحت نتاجهم غنائية متفاوتة، كما اشتغلوا على اللغة التي مالت باتجاه ما هو يومي ومعاصر مع الابتعاد عن الخطابية والإنشائية السابقة، وقد استفاد الجندي من دراسة الفلسفة في الذهاب مع قصيدته إلى أقصى بواطن الشاعر الذي صنعت المرحلة تراجيديا جيله بأكمله، جيل عاش الهزيمة حتى أعماقه، مع أن بعض دارسي شعر الجندي يؤكدون تنبؤيته في حدس واستشراف الهزيمة منذ ديوانه الأول "الراية المنكسة" سنة 1962، فالهزيمة صنعت مأساة شعوبنا العربية كما صنعت تراجيديا ذلك الجيل الذي رأى وطناً يستباح وأحلاماً تنهار، فكتب الجندي في مرثيته للوطن قصيدته الشهيرة "سقوط قطري بن الفجاءة" والتي ضمنها ديوانه "الحمى الترابية" سنة 1969 ويقول فيها:
"..وداعاً يا ديار العزّ والمنفى، ويا قبر الهشيم الرطب، يا لحم الأعاصير الخرافية..وها أنذا أجي إليك يا بلدي من الصمت، محملة غصون شبابي المضنى بأثمار تفيض بنكهة الموت" ... "وماذا بعد؟ ماذا بعد؟ حسبي في هواك المرِّ أني السيد العبدُ /وحسبي أنني أحيا فقيراً معوزاً في الكون لا أملك/ ولن أملك/ سوى من أرضك المعطاء ما يحتاجه قبري".
هذه المشاعر صنعت مفارقة لجيل اتهم بالصعلكة والتمرد، لكنه كان في خلفية تمرده يبني موقفاً من الواقع القائم، ومن سلطاته السياسية. لذا كنى علي الجندي نفسه بـ"أبي لهب" ضد كل المخزون الرسمي للثقافة التي أنكرت أبا لهب. كما كتب في مجموعته المتأخرة "النزف تحت الجلد" الصادرة سنة 1973:
متعب بالبلاد التي طال فيها حنيني إليها
مرهق من ترابها الذي صار في العين شوكاً
وتحت اللسان حليباً وخبزاً مريراً.
أما في قصيدته "صلاة لزمن يجيء" من مجموعته "بعيداً في الصمت" 1981 فيقول:
أرى الوطن المتبحر في القهر يغرق،
يوشك أن ينتهي
في القرار العتيم
أرى الوطن، القهر يغدو سلافة أرض،
بقايا بلاد تُرسب
ملجأ يتم عقيم
دعوني أرى وطني، وطني لم يعد وطني.
بينما في ديوانه "قصائد موقوتة 1986 يتابع الجندي مرثية الوطن:
وطني صار ملفاً حائل اللون على طاولة التاريخ
آه يا أحبابي البعيدين، وأمجاد بلادي
لم تعد غير عتابا وربابة
يتبكاها الحزانى في نهايات الليالي
كما يقول في ديوانه "صار رماداً" 1987 :
أنا وطن مثخن بالجراح
وأنت بلا وطن فاسكنيني
أُملح جسمك من ترابي
وأحنّي يديك بماء عيوني
تقيمين في وطن متعب فيواسيه أنك فيه
ويواسيك أنك تستوطنين بلاداً
مكرسة لحنينك
حتى أن الشاعر ممدوح عدوان يكتب أن " أول حرف من اسم علي الجندي هو الوطن" لكنه الوطن المثخن بالجراح والمستباح، حتى أن عدوان يقول عن هذه الفجائعية في شعر الجندي أنها "طاقة هائلة من الحزن والشهوات المكسورة".
ونحن فعلاً نستطيع أن نقرأ كل مفردات الحزن واليأس والقهر والانكسار والخوف، والموت في قاموس علي الجندي الشعري، قاموس اشتغل فيه على موضوعتي الهزيمــة والموت، ولعل الأولى تورث الثانية، أم أن الموت ينبثق منها . حتى انه يبشر بالموت المقبل، موت يقرأه كما العرّاف في قعر كأسه، فيكتب في قصيدته "نخب البشرى":
أكتم آهاتي في صدري، وأبكي في صمت
خجلاً من أن ألمح في المرآة دموعاً
في أجفاني
أتأمل مستقبلي الملوي العنق
بقعر الكأس
وأحكي للأصحاب القصص السكرى
أرفع كأسي مبتسماً في حزن
نخب الصمت الجارح يا أصحاب
الموت المقبل
نخب البشرى.
هذه البشرى التي تغدو حقيقة، يقرر أن يواجهها في ديوانه الأخير "سنونوة الضياء الأخير" الصادر في بيروت سنة 1990 إذ يقول:
إلى أين المفر؟
كل مجرى الموت قدامك والماضي وراءك
أنت لا تهرب من ماضٍ
ولا من مقبل أسود
بل تهرب من أعماقك المشتعلة.
هذه الأعماق التي أحرقت بنارها جيلاً بل أجيالاً إثر الهزيمة التي ما زلنا نعيش في مناخاتها التي صاغت حياتنا طيلة تلك السنوات، ولكن مع يقين الشاعر بهذه النهاية يكون قد قرر الاستسلام "أسلمت نفسي للزمن" ويطوي أوراقه مغادراً المدينة التي شهدت كل معاركه وغزواته وهزائمه، يغادرها متجهاً صوب البحر، هو الذي ولد في مدينة سلمية على قوس البادية أو الصحراء، ليملح الوطن في جسده أو يتملح في ماء البحر بعدما صنع من شعره جناحي سنونوة وطار بهما إلى حيث النهاية. نهاية جيل عاش الهزيمة بشجاعة وحب وفروسية، حتى لو قيل عنها الآن أو عنه "دون كيشوتية" فالأحلام كانت قناعات في الزمن الغابر.
وقد عاش علي الجندي شعره وقناعاته كجيل، بل عبر عن جيل بأكمله في العشق والثقافة وحب الوطن، لكنه مات مفرداً في عزلته في مدينة اللاذقية، حتى أن اتحاد الكتاب العرب الذي أسسه لم يكلف نفسه في هذه المناسبة وفي حضرة الموت أكثر من نعوة في الصحف الرسمية وكفى الكتاب شرّ العزاء، علما بأن معرض الكتاب الدولي في دمشق كان مناسبة لتكريم هذا العلم في الشعر العربي وفي الحداثة الشعرية، لكنهم ضيعوا هذه الفرصة التي كان يمكن أن يكبروا بها لو كانوا يعلمون.
القدس العربي
14/08/2009
****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق