قصائد مختارة لروبرتو خواروث ترجمة هنري فريد صعب
ترسم العين على السقف الأبيض
ترسم العين على السقف الأبيض
خطّاً رقيقاً أسود.
السقف يتقبّل وهم العين
ويكتسي السواد.
إذذاك يمّحي الخطّ
وتغمض العين.
وهكذا تولد الوحدة.
قصيدة واحدة تنقذ يوماً واحداً
قصيدة واحدة تنقذ يوماً واحداً.
فهل يمكن قصائد عدة
أن تنقذ الحياة كلها؟
أو تكفي قصيدة واحدة؟
كل ما يُنقذ
يطرح هذه المعضلة.
وحلها هو مفتاح
المصادفة لإنقاذ الذات.
الكلمات روافع صغيرة
الكلمات روافع صغيرة،
لكننا لم نعثر بعد على نقطة ارتكازها.
نضعها بعضاً فوق بعض
وينهار البنيان.
نضعها على وجه الفكر
ويلتهمها قِناعه.
نضعها على نهر الحب
فتمضي مع النهر.
ونستمر نبحث عن مجموعها
في رافعة واحدة،
ولكن بدون معرفتنا ماذا نشاء رفعه،
هل هي الحياة أم الموت
هل هو فعل الكلام بالذات
أم الدائرة المغلقة لوجودنا البشري.
السهاد رقاد آخر
السهاد رقاد آخر.
فهل يكون الرقاد سهاداً آخر؟
ربما السهاد والرّقاد
ليسا سوى نظرتين
لرؤية واحدة، سوى
صورتين جانبيتين لوجه
لا تُحصى صوره الجانبية،
سوى جانبين لجرم كثير السطوح لا متناهٍ
يُدوّم في ريح لا متناهية.
ربما الموت جانب آخر.
والجنون آخر.
ولكن ما قد يحدث
لو الريح مرةً
كفّت عن الهبوب؟
هل كان الجرم الملموم على ذاته
يستمر يدوّم ويدوّم في العدم؟
أم كان توقّف في الأخير
وأضحت جوانبه جانباً واحداً؟
ثمة إسراف في الكتابة
ثمة إسراف في الكتابة.
على كل شيء كُتب شيء ما،
لا نقرأه إلا نصف قراءة.
كل شيء هو طِرس
لا يمّحي إلاّ جزئياً
ثم يضاعف طبقات الكتابة.
حتى الصمت كُتب عليه.
لا يمكننا
أن نمحو حرفاً واحداً.
ولا يمكننا ايضاً
أن لا نكتب فوقه.
ولكن ثمة تسوية ممكنة:
الكتابة نحو الداخل.
فهناك، نسبياً،
المكتوب أقل بكثير.
ثمة غرقٌ في المرآة
ثمة غرقٌ في المرآة.
كل يوم نغوص أكثر
في مائها الصافي.
إلى أن يأتي يوم
يُحطّم فيه الغرق الزائد
المرآة من الداخل.
فيما أنت تقوم بهذا العمل أو ذاك
فيما أنت تقوم بهذا العمل أو ذاك،
ثمة إنسان في هذه اللحظة يصارع الموت.
فيما أنت تلمّع حذاءك
فيما أنت تستسلم للحقد،
فيما أنت تكتب رسالة طويلة
إلى حبك الوحيد أو غير الوحيد.
وحتى إن توصلت إلى عدم القيام بشيء،
فثمة من يصارع الموت آنئذ
محاولاً عبثا أن يستجمع كل الزوايا،
ومحاولا عبثا أن لا يحدّق في الجدار.
وحتى لو كنت تصارع أنت الموت الآن،
فثمة آخر يصارعه في هذا الآن،
برغم رغبتك الشرعية
في الموت في لحظة حصرية.
لذلك، حين تُسأل عن هذا العالم،
أجب ببساطة: ثمة من يصارع الموت الآن.
ثمة ثياب تدوم أكثر من الحبّ
ثمة ثياب تدوم أكثر من الحبّ.
ثمة ثياب تبدأ مع الموت
وتقوم بجولة حول العالم
والعالمين.
ثمة ثياب بدلاً من أن تبلى
تصير أجدّ باستمرار.
ثمة ثياب للتعرّي.
ثمة ثياب عمودية.
سقوط الانسان
يجعلها منتصبة.
الموت وجهة نظر أخرى
الموت وجهة نظر أخرى
قمر الأموات أقدم
ولا يُحدث أيّ مد وجزْر.
وجهة نظرك أيضاً هي أخرى
قمر الحياة كان أفتى،
وكان هو نفسه المد والجزر.
وبين القمرين،
قبل الموت وبعد الحياة،
لنا نظرة جانحة
قرب بحر لا بداية له.
دورياً تجب مناداة الأشياء
دورياً،
تجب مناداة الأشياء،
للتأكد مرّة أخرى من حضورها.
يجب أن نعرف
إن تكن الأشجار لا تزال هناك،
إن تكن الطيور والازهار
تتابع مباراتها غير المعقولة،
إن تكن الاضواء الخفية
لا تزال تغذّي جذر الضياء،
إن يكن جيران الإنسان
لا يزالون يذكرون الإنسان،
إن يكن الله
قد تخلّى عن فضائه لبديل،
إن يكن اسمك هو اسمك
أم اصبح اسمي،
إن يكن الانسان قد أنهى تدرّبه
على أن يرى نفسه من الخارج.
وفي أثناء المناداة
يجب تجنّب الخطأ:
فلا شيء يمكن أن يُدعى باسم آخر.
يجب ألاّ يحل شيء محل شيء غائب.
ثمة نداءات تدعوني إليك
ثمة نداءات تدعوني إليك
فيما أنت لا تدعوني.
نداءاتك في الامس
التي طغت على ماء الزمان،
ونداءاتك في الغد
التي لن أسمعها ربما في الغد،
نداءاتك التي أبتكرها بدون علمي
إذ تصبح الوحدة شرسة
أو نداءاتك
التي لا تصدر عنك ولا عنّي،
كما لو كان بيننا منطقة حرة
تعمل لحسابها الخاص،
منطقة أوجدناها تقريباً بدون إرادتنا
كي تنطق باسمك
وربما أيضاً باسمي
بدون حاجة إلى كلينا.
في كل حال،
أنا محوط بنداءاتك بدونك،
كجزيرة في البحر
أو برج في الريح العابرة.
هل تبقى نداءاتك تدعوني
إذ نغيب كلانا؟
الفم الفارغ لا حاجة له الى أحد
كي يتابع نداءه.
أرغب أحياناً في محو أشعاري
أرغب أحياناً في محو أشعاري
لأكتب قصيدة للمرة الأولى.
كلّ ما كتبتُ لم يمنحني
الشعور بأني كتبتُها.
كذلك لا يكفي أننا حيينا:
دائماً تبدأ الآن الحياة.
أخال في هذه اللحظة
أخال في هذه اللحظة
أن لا أحد ربما يفكر فيّ في العالم،
وأنني وحدي أفكر فيّ،
وإن قدِّر أن أموت الآن،
فلن يفكر فيّ أحد، حتى أناي.
هنا تبدأ الهاوية،
كشأني إذ أستغرق في النوم.
أنا عضدي الخاص بي وأنتزعه مني.
وأستمر في توشية كل الاشياء بالغياب.
لذلك ربما
التفكير في احد ما
يعني إنقاذه
ترسم الحياة شجرة
ترسم الحياة شجرة
والموت يرسم أخرى.
ترسم الحياة عشّاً
والموت ينسخه.
ترسم الحياة عصفوراً
كي يسكن العشّ
والموت في الحال
يرسم عصفوراً آخر.
يدٌ لا ترسم شيئاً
تتنزّه بين كل الرسوم
ومن وقتٍ الى آخر تُغيّر مكانها.
مثلاً:
يحتلّ عصفورُ الحياة
عشَّ الموت
على الشجرة التي رسمتها الحياة.
في أوقاتٍ أخرى
اليد التي لا ترسم شيئاً
تمحو رسماً من المجموعة.
مثلاً:
تحمل شجرةُ الموت
عشَّ الموت
ولكن لا يحتله طائر.
وفي أوقات أخرى
اليد نفسها
التي لا ترسم شيئاً
تتحوّل إلى صورة زائدة،
بشكل عصفور،
بشكل شجرة،
وبشكل عش.
وآنذاك، فقط آنذاك،
لا شيء ينقص ولا يزيد.
مثلاً:
يحتل طائران
عشّ الحياة
على شجرة الموت.
أو ترسم شجرةُ الحياة
عشّين يسكنهما طائر واحد.
أو يسكن طائرٌ وحيد
عشّاً واحداً
على شجرة الحياة
وشجرة الموت.
اليوم لم أفعل شيئاً
اليوم لم أفعل شيئاً
ولكن حدثت فيّ أشياء كثيرة.
طيور لا وجود لها
عثرت على عشها.
ربما توجد أشباح
التقت بأجسامها.
توجد كلمات
استعادت صمتها.
فأنْ لا نفعل شيئاً
يُنقذ أحياناً توازن العالم،
إذ ندرك أن أيّ شيء أيضاً يُرجّح
كفة الميزان الفارغة.
الفم في يد
الفم في يد
والموت في أخرى،
أستعلم الصمت
أزرعه شامات،
أطالبه بضمانات للصراخ،
وأقدّر له حصته من الإجابة
شيء ما كأنه حيوان ضخم حزين
يتعرى إذذاك في صوتي،
لكنه يكتشف أنه كان عارياً.
بينما
إحدى يديّ ظلت فارغة.
ولم أعرف قط أيهما.
الحجر نهد متشنج
الحجر نهد متشنج
حيث مناورة الطائر المفتوحة في خطر،
لكنه أيضاً ذاكرة مفتوحة
حيث قبضة الطائر المطبقة
تنحلّ كتهديد غير متوقع.
لا بد من وجود نقطة ارتكاز
تتعطل فيها تعاقبات النسيان،
وتستذكر الأشكال.
القصيدة تستدعي الدخان
القصيدة تستدعي الدخان
لتُشعل المصباح.
النيران المطفأة
أحسن وقود
للنيران الجديدة.
فالشعلة لا تلتهب
إلاّ بماضيها.
كل يدٍ تضع غيمتها
كل يدٍ تضع غيمتها
في سماء مختلفة.
لكنها ذات يوم تجد غيمتها
في سماء الجميع.
إذذاك فقط يمكنها أن تصبح ثانية
قطعةً من الأرض الموعودة
التي كانتها قبل أن تكون يداً.
وإذذاك فقط ستمطر
غيمتها عليها.
الثلاثة لا تشبه الأربعة
الثلاثة لا تشبه الأربعة
لكن هذه تحتوي تلك.
الحياة لا تشبه الموت
لكن الموت يحتوي الحياة.
وأنت لا تشبهني
لكنني أحتويك.
ربما من الأفضل
أن نغيّر الاحتمالات
بحيث تحتوي الثلاثةُ الأربعة،
وتحتوي الحياةُ الموت
وأن تحتويني أنت.
أو ان يكون الكلّ مساوياً للكل
ولا شيء يحتوي شيئاً.
انتزع الكلام من موضع الكلام
انتزع الكلام من موضع الكلام
وضعْه حيث ما لا يتكلم:
الأزمنة المستَنفَدة،
الانتظارات البِلا إسم،
الانسجامات التي لم تُدرك قطّ،
الحالات المستعجلة المهملة،
والأنهار المعلّقة.
اعمل على أن يختار الكلامُ
المشروبَ المنسيّ
لما ليس الكلام،
بل خَرَسٌ ينتظر
عند حافة الصمت،
في محيط الوردة،
في الظل شبه الفارغ للانسان.
وهكذا، وقد اختُصِر العالم،
افتح الفضاء الجديد كلياً
حيث الكلام ليس فقط
أمارة للكلام
ولكن أيضاً للصمت،
مسلك الكائن السليم،
الصيغة لكي تقول أو لا تقول،
محمّلاً بالمعنى
كإله على الكتفين.
وربما قفا إله،
وربما سالبه،
أو ربما مثاله.
كل شيء يُرخي ظله
كل شيء يُرخي ظله،
حتى اللامرئيّ.
ظلّ الفكر
يخيط شقوق
الواقعِ المحتمل.
ظلّ الكلمات
يقول ما لا تقوله الكلمات.
ظلّ غيابك
ينسج عبارات الحنان
الشاردة في الريح.
كلّ ظلّ يُطلق أيضاً ظلا آخر،
كما لو أن الأشكال لم تتوصل
إلى إنجاز المشهد
الذي عيوننا في حاجة إليه.
وآجلاً أم عاجلاً،
حتى على العيون نفسها أن تُقدّم
حصتها من الظلّ
أحياناً توقظني يداي
أحياناً توقظني يداي.
إنهما تصنعان أو تنقضان شيئاً ما بدوني.
حين أنام،
ثمة شيء مفرط في إنسانيته،
شيء ملموس كظهر إنسان أو جيبه.
أسمعهما في أثناء نومي،
منهمكتين في عملهما في الخارج،
وحين أفتح عينيّ أجدهما ثانية هادئتين.
وتصوّرت أنني قد أكون إنساناً
بفضل ما تفعلانه
بحركتهما، وليس بحركتي،
وبإلههما وليس بإلهي،
وبموتهما، إن كانتا أيضاً تموتان.
أنا لا أعرف أن أصنع انساناً.
ربما يداي تستطيعان ذلك إذ أنام،
وما ن يتم إنجازه
سوف توقظانني كلياً
وتعرضانه عليّ.
——————-
قصائد مختارة لروبرتو خواروث ترجمة مجاهد مصطفى
البحث عن شيء
البحث عن شيء
هو دائما إيجاد شيء آخر
هكذا لكي تجد شيئا ما
يجب البحث عن ما لم يوجد
فالبحث عن العصفور
من أجل إيجاد الوردة
والبحث عن الحب
من أجل إيجاد المنفى
والبحث عن لاشيء
من أجل اكتشاف الإنسان
والذهاب إلى الوراء
من أجل الذهاب إلى الأمام
فمفتاح الطريق
هو مفترقه
وسؤاله الافتراضي للبدايات
حيث وصوله المشكوك فيه
ومزاجه المهتريء
لمعناه المزدوج
فنحن نصل دائما
ولكن إلى مكان آخر
وكل شيء سيحصل
ولكن بشكل معاكس
في عمق الحلم
في عمق الحلم
شيء ما يفتح يدي
من أجل إيجاد يدك
خارج الحلم
ولكن خارج الحلم
شيء ما يفتح يدي
من أجل إيجاد يدك
في عمق الحلم
هل لا يوجد شيء ما في حلمي
والذي يفتح يدي
لكي أجد يدك
في عمق حلمك؟
كما أن شيئا ما هنا
في الخارج
والذي يفتح يدي
من أجل أن أجد يدك
ببساطة هنا وفي الخارج
فاللقاءات المباشرة
والبحث غير المباشر
يفتش أحيانا عن لقاء
اللقاء الذي يحذف الصلة
—————
ضجيجٌ في المشهد الخلفي
ترجمة تغريد عبد العال
ضجيجٌ في المشهد الخلفي
يعترف بوجود الأشياء
نحتاج للكلمة وللهواء
كي نتمكن من تحمّله.
ضجيجٌ في المشهد الخلفي
يوحي بغياب الأشياء
نحتاج لاختراع ذاكرة أخرى
حتى لا نجن من صوته.
ضجيجٌ في المشهد الخلفي
يعلن أن لا شيء يمكنه أن لا يكون
نحتاج للصمت مغلفاً بالصمت
لنقبل أن كل شيء يكون.
ضجيج في المشهد الخلفي
يشير لبرودة الموت
نحتاج لكل الأغاني
وكل قصص الحب مجتمعة
كي نخفض ذاك الصوت
ربما ، في ظهيرة يوم ما
بدون جودة ، لكن بحرية
سيأتي عصفور وينخر الهواء
كأن الهواء غصن آخر
وعندها سيتوقف الضّجيج.
————–
قلّيلة هي المِيتات الكاملةُ
ترجمة وليد سويركي
قلّيلة هي المِيتات الكاملةُ
فالمقابر مليئة بالغشِّ،
والشوارع مليئة ٌبالأشباحْ
قليلة هي المِيتاتُ الكاملةُ
لكنّ الطائر يعرف على أيّ غصن أخير يحطُّ،
والشجرة تعرف أين ينتهي الطائر
قليلة هي الميتات الكاملة
والموتُ أقلّ يقينا في كلّ مرّة،
فتجربةُ حياةٍ هو،
وقد نحتاج حياتين أحياناً لنكملَ ميتةً واحدة،
قليلةُ هي الميتاتُ الكاملةُ
والأجراس تواصل الدّقات ذاتها؛
لكنّ الواقع لم يعد يقدّم ضماناتٍ
وليس يكفي المرء أن يحيا؛ لكي يموت.
—————–
رسائل مصيرها الضياع
هناك رسائل مصيرها الضياع
كلمات سابقة أو لاحقة إلى المرسل إليه !
صور تأتي من جانب الرؤية الآخر
إشارات تصوب إما أعلى هدفها أو أسفله
إشارات بلا شفرة
رسائل مغلفة برسائل أخرى
إيماءات تتكوم إزاء الحاجز
عطر يتضاءل دون أن يجد أصله
موسيقى تلتف حول نفسها
كالحلزون المهجور إلى الأبد
لكن كل ضياع هو ذريعة للقاء !!
فالرسائل الضائعة ..
تبتكر على الدوام هذا الذي عليه أن يجدها !!
الكلمات تسقط على الأرض أيضاً
الكلمات تسقط على الأرض أيضاً
مثل طيور جنت
بحركاتها.
مثل أشياء فقدت توازنها
ورجال يتعثرون عندما لا تكون هناك عقبة حقيقية.
مثل دمى تختنق بصلابتها.
بعدها الكلمات نفسها تصنع سلماً من الأرض
لتصعد للخطاب الإنساني
بتلعثمه
جملته الأخيرة.
لكن بعض الكلمات تظل للأبد هاوية
أو محاكاة ناقصة
كأنها تعرف أن شخصا ما سيأتي
ويجمعها كلها
ليبني لغة جديدة
لغة مبنية بالكامل من الكلمات الهاوية
*
ما الذي سيمحى أولاً
الجسد أم الظل؟
الكلمة التي كتبت أمس
أو التي كتبت اليوم؟
اليوم الغائم
أم المشرق؟
على الواحد أن يجد نظاماً
ليتعلم محو العالم
فنصبح قادرين على محو أرواحنا.
*
أعتقد أنه في هذه اللحظة
ربما لا أحداً في الكون يفكر بي .
أنا الشخص الوحيد الذي يفكر بي
وإذا مت الآن
لا أحد ولا حتى أنا سيذكرني .
هنا تبدأ الهاوية
المساندة الوحيدة التي أمنحها لنفسي عندما أنام
أسحبها مني
أساعد على تغطية كل شئ بالغياب.
ربما لذلك
عندما تفكر في شخص
أنت تنقذه.
روبرتو خواروث: الشعر هويتي
محمد ناصر الدين
وصف أوكتافيو باث يوماً شِعر روبيرتو خواروث (1925-1995)، شاعر الأرجنتين الأعظم بعد بورخيس بما يلي: «إنّ كل قصيدة من قصائد خواروث هي بلورة كلامية مدهشة: اللغة عنده تُختزل إلى نقطة من الضوء». روبرتو خواروث الذي أدار مجلة «شعر» الأرجنتينية ما بين عامي ١٩٥٨ و١٩٦٥ بعد دراسات في الآداب والفلسفة، استعمل في مواجهة الأبدية كلمات أبدية هي الأخرى، بطيئة لا يمكن تجنبها، كلمات منحوتة لكنّها في غاية الحساسية: «حتى الأبدية لا تكون للأبد» كما يقول في أحد أجزاء مؤلفه الشعري الفذ «شعر عمودي»، وقد أخذت «دار جوزيه كورتي» النخبوية على عاتقها مهمّة ترجمته إلى الفرنسية في تسعينيات القرن الماضي. في أنطولوجيا تحمل عنوان «أن نسكن شعرياً في العالم»، اختارت دار Poesis الباريسية عام ٢٠١٦، تنظيرات خواروث حول الشعر والخلق، والعلاقة بين الشعر والشعراء والمجتمع والعلوم كافة كمحور أساسي في الأنطولوجيا التي تشبه المانيفستو الشامل للتفكير في «السكنى الشعرية للعالم». عبارة وردت في إحدى قصائد هولدرلين، وقد جمع الكتاب زبدة ما كتب في الغرب حول الشعر من العصر الرومانسي وحتى اليوم. يذهب خواروث بعيداً في تعريف الشعر كحقيقة عليا، ليضيف بعداً جديداً إلـى جملة نوفاليس الشهيرة: «الشعر هو الدين الأصيل للإنسانية». نقدّم في «كلمات» المحور الخاص بخواروث (الذي لم يُترجم إلى العربية بعد) في الأنطولوجيا المشار إليها، لنعرّف بشاعر «أساسي» يعتبر أن وظيفة الشعر هي إنقاذ الأساسي في الإنسان بالكلمة الأساسية.
الشعر والخلق
تعريف الشعر هو نوع من المستحيل، من اليوتوبيا. هل بمقدورنا تعريف الحياة؟ هل بمقدورنا تعريف الموت، الموسيقى، الحب؟ إنني أحلم بتعريف ما… حين يقوم الأمر على نحوٍ تصبح فيه الأشياء حاضرة في غيابها، فهذا يعني أن الأشياء كائنة. الشعر، يعملُ بالغياب، يعملُ كما في الأعجوبة، بالوسيلة التي نمتلكها لالتقاط الواقع: خير وسيلة لتصوّر شيء ما هي بتسميته عبر شيء آخر.
الشعر ليس تفسيراً لشيء، كما رأى هولدرلين بوضوح، وريلكه، وغيرهما. الشعر، كما نعلم، تجربة. إنه نوع من الشجاعة أو الجسارة، الواعية أو غير الواعية، التي تحملنا على أن نواجه وأن نعيش الحدود النهائية للأشياء النهائية، أن نواجه الظلمات. الشعر هو على العكس تماماً من الجُبن. إنه التجربة العميقة لما هو سرّي، لما لا يمكن شرحه. إذن، حتى وإن لم يزعم تفسير أي مسألة، وحتى لو أنه لا يحمل على الانطباع بأن الأشياء تمتلك تفسيراً أو تناسقاً ما، فإن الشعر لا يتعارض مع العبث، بل يوافقه بالدرجة الأعلى من الانسجام. لا يتعلق الأمر بتجربة عبثية، ولكن بتجربة العبث. من أجل ذلك، لا أعتقد بأنه يمكننا أن نجد للأشياء معنى مفهوماً. فكرة صاغها بول كلي لا تني تستثيرني، حين قال بأن المرئي ليس سوى مظهر واحد للواقع. يصير الشعر من حينها محاولة كشف المظاهر الأخرى المستترة للواقع. الشعر هو تأمل للكون، وتأمل للأكوان التي يخلقها هو. الشعر بحث وخلق للواقع. الإنسان، لاستيفاء شرط إنسانيته، عليه أن يفكر في لحظات ما مثل رجل العلم أو الفيلسوف، وفي لحظات أخرى مثل متصوف، شاعر أو فنان. الشعر اليوم بلا شك، هو لمعظمنا، الإمكانية الوحيدة الممنوحة كبديل عن الميتافيزيقا، وخاصة عن الدين. ليس من العبث أن نوفاليس استطاع أن يكتب: «الشعر هو الدين الأصيل للإنسانية». ويمكِننا إضافة: الأصيل والنهائي. بالنسبة لهولدرلين، فإن هايدغر قد اقترح التعريف التالي، وهو واحد من أعظم التعريفات في تاريخ الفكر: «الشعر هو تأسيس الكائن بالكلمة»، ليعيد التعريف ذاته بشأن ريلكه، مضيفاً: «هكذا تكون وظيفة الشاعر، خاصة في زمن القحط».
أعتقد بأن الإتيقا، والإستيتيقا، والشعر هي أشياء مستقلة عن بعضها وتحيل إلى موضوعات مختلفة. لقد رأينا سابقاً بأن الشعر لا يمكن اختزاله بصنف محدد من المعرفة. إن الطابع الاستثنائي للتجربة الشعرية لا يمكن استيعابه في أي منظومة الإتيقا أو إستيتيقية، أو معرفية. يقوم السؤال إذن على معرفة إن كان الشعر بنفسه مرشَّحاً لأن يفضي إلى الفضيلة، إلى الجمال، إلى الحقيقة. لو أخذنا الإتيقا مثلاً، فسنرى أنها تحيل إلى سلوك الإنسان تجاه قيم معينة، الخير، الشر، إلى ما هو مناسب أو نقيضه، الخلل، الخطأ، الشجاعة. لكن هذه المفاهيم هي في غاية الاغتراب عن الشعر الذي يسمو عليها لأنه في صلب كينونته إتيقا عميقة. إنه في نهاية المطاف طريقة للوجود، للتصرف بعمق، سلوك متكامل في مواجهة الواقع. الشعر محاولة لتنقية الرؤية، لفتح العينين على الأشياء في امتلائها.
لو كان الشعر يبحث عن حقيقة ما، فإن هذه الحقيقة لا يمكنها أن توجد في مصادفة الكلام أو المعرفة مع حقيقة هي غريبة في أصلها عن الشعر. يكون الشعر حقيقة، وإلا فإنه لا يكون. لا تقع الحقيقة ضمن علاقة خارجية معه، ولهذا حين يعتبر الشعر خلقاً للكينونة، فإنه يكون بذاته الحقيقة العليا.
الشعر والشاعر
لا يفسَّر الشعر بظروف خارجية، رغم أن هذه الظروف يمكنها أن تشفي فضول البعض، أو حب الاستعراض لدى البعض الآخر. الأكثر إثارة للاهتمام هو العلاقة بين الشعر والحياة الداخلية. يجب تهذيب المعرفة بالعمق الإنساني، بالمأزق الإنساني بشكل يتجاوز البيوغرافيا، والبيولوجيا، وعلم النفس والتاريخ، دون أن ندَّعي بأننا نفسر الإنسان بالمطلق، لكن ببساطة المعرفة من أجل فهم أفضل لخصائص الإنسان الأساسية، باطنه، اكتشافاته، وأسراره. سننتبه أخيراً إلى أن كل كينونة حين نعيشها بعمق، يمكنها أن تفضي إلى الشعر. فلنسأل عندها لماذا يختار المرء أن يكون شاعراً، لماذا يختار نمطاً من الحياة يعِرف مسبقاً تمام المعرفة أنّ فيه نوعاً من الثِقل؟ هل يختار أحدنا أن يكون شاعراً؟ الادعاء هنا باعث على الشك. ثمة شيء يقدِم من موطن خلفي، دون أن يكون استعداداً مطلقاً، لكنه شيء يخلق قابلية في دواخلنا و يقرّر بالنيابة عن ذواتنا. ما هي هذه القابلية المسبقة؟ لم أقتنع يوماً بتفسيرات علماء النفس، والمحللين النفسية الزاعمة بأن أوّل تجارب الحياة هي الحاسمة. أجهل الدور الذي تلعبه الوراثة، التجارب الطفولية، وأن الإنسان قد يكون عانى نوعاً من الوحدة، أو يمتلك بعض الاستعدادات المزاجية، القابلة للتمدد أو الانقباض؛ لكن يمكن الافتراض أن كلّ هذه الشروط تتوالف مسبقاً في اختيارنا للشعر، اختيارٌ يتبدى مثل القَدَر. أظن أنه في الشاعر الأكثر وحدة، الأكثر عزلة، تسكن الإنسانية جمعاء، الحقيقة كلها، بالرغم من أن قلقه لا يسمح له في الأوقات كلها بالانتباه لهذه السكنى، وأن الشاعر قد يعاني بشكل عَرَضي من نقص في التعامل مع محيطه. لا نقلل هنا من شأن التمسك بالوحدة، لكن ليس في كونها فرادة لا تقبل الاختزال، بل في كونها مثل دأب من يحفر الأرض ولا يعرف على أي عمق سيكون في قلب الاشياء. أتساءل بداية إن كان الشعر يسكن الشاعر، أو أن الشاعر هو من يسكن الشعر. سؤال جديد قد لا نعثر له عن إجابة. في كل الأحوال، طريقة السكنى هذه، أياً كان شكلها، هي غير مشروطة. الشاعر كائن فانٍ، مثل غيره. من أجل ذلك، إنه لمن المدهش أنه من قابليته للفناء ذاتها، تُخلق قدرة لا نتعرف البتّة على مكان ولادتها، وبالرغم من وهنها ومن كلّ المقاومة التي تنتصب بوجهها، فإنّ الإنسان قادر على أن يخلق بها أشكالاً معينة شاهدة على كينونته. العيش، رغم عَرَضيته، هو البعد المطلق للإنسان، والشعر هو الشعيرة المناسبة لهذا البعد. الامتلاء الأكبر للحياة الذي يمكنني وُلوجه، لا أعرف تجربة حية لها مثل هذه القوة. الشعر هويتي.
الشعر والمجتمع
لا يتوجه الشاعر بالكلام للمجتمع، بل للإنسان، عزلة تخاطب عزلة، صمت يخاطب صمتاً، كائن يخاطب كائناً. المجتمع صخب، معسكر اعتقال، منافق بشكل أو بآخر، حافز للريع والسلطة، تشويه للإنساني. الشعر، على النقيض، هو بامتياز احترام للإنسان. لا يطلب الشعر بالمطلق أي امتياز لنفسه. من أجل أن يعطي أو أن يأخذ، يطلب الشعر فقط من الكائن أن يركّز على ما هو عليه، وأن يتنكر للصورة التافهة أو السيمولاكر وأن يتجنب كل الأفخاخ التي تنمطه: الايديولوجيات، الأخلاقيات، السياسة، التجارة، الصفقات، والأفكار المجردة الطموحة. الشاعر كائن هامشي ومنفيّ: من قلب هذه الوضعية بالتحديد، يمكنه أن يخاطب الإنسان. لا يعلّم الشاعر الآخرين: إنه يخلق ويتشارك. يقوم الشعر على الكينونة، وهذا ما يعطيه خشبة الخلاص القصوى في عالم يغرق. الشعر تيار عكسي، هرطقة، وهو أشمل من التاريخ، هو مضاد للتعليم لأنه هوس بالوطن الأصيل للإنسان بواسطة اللغة أو الكلمة التي تغوص في سره وتنقل هذا السر. كل الباقي هو ميثولوجيا مضللة، أو حتى خدعة، ديماغوجيا، هذر عابر. ما يميز الشاعر عن المجتمع ليس الغرور، ولكن احتفاؤه غير القابل للترويض أو الاختزال بالأساسي في الإنسان. الشعر استثناء يمكن تقاسُمه، وتعاقد مضاد للبلاهة. يمكن أن تكون للشعر وظائف أخرى، لكن في العمق ليس له سوى مهمة واحدة: إنقاذ الأساسي في الإنسان بالكلمة الأساسية.
* المرجع: انطولوجيا «أن نسكن شعرياً في العالم» ــــ دار Poesis ــ باريس ٢٠١٦ ماحق كلمات
عن صفحات سورية