البراري النائمةُ
البراري النائمةُ منذُ الولادة
يوقِظُها كناريٌّ ضائع
والأشجارُ المتعبةُ
ترفعُ سواعدَها المائية
لطيورِ الجليد والبحيرات.
الأشجارُ البائسة تفرشُ أحضانَها
لحَيْرةِ الأرضِ والخريف
لغضبِ النجوم وأحاديثِها الطويلة
عن السفرِ والصقيع
تستعرُ حصاتُكِ في القاع
أيتها الذاكرةُ الحزينة
وتلبسين المرارة
لكن المرأةَ التي تملكُ البكاءَ وحدَهُ
أسيرةٌ أبداً
فامنَحي عريَكِ للجبالِ الخجولة
وارفعي مفاتِنَكِ
حيثُ السرُّ مدفونٌ في كنائس الشتاء.
.....
أغنية للجزائر
من أزقة المدينة يصّاعد هزيم النهار
والنهارُ يستيقظ في أسرّة الأطفال
مُبعثر الخصل
يحملُ خُفَّهُ
ويسير
يلطخُ بالفضة الدروب.
صخبُ النهار يطعنُ أعلامَ المساء
يُسرجُ أعوادَ القصب
الدربُ تأكل الأقدامَ الصغيرة
وأنا أسير
بلا ليلٍ
وطني ورائي
والرياحُ قافلتي الكئيبة
** **
أبطالنا يحلمون
خلف العتبة
والسيفُ يعانق الجرح
من سراديب الرعب
يتسللُ ضوؤُنا شامخاً
كعصفور
أكثرَ دفئاً من عنقِ طفل
فاعبري يا أفراسَنا المخمورةَ برزخَ الموت
اجمحي
أيقظي الحجر.
** **
مطرٌ ولا ربيع
مطرٌ على بلادي، مطر
افتحوا الأبواب، مطرٌ على بلادي.
اعجنَّ يا نساء وهران
خبزاً للعائدين
رَصِّعْنَ السراويلَ بالقصب.
** **
ألفُ حصانٍ يصهلُ في دمي
أتدرّعُ بموتي
أرضعُ جوعَ الذئاب
أمتطي شعرَ الريح
ألبسُ الليل
مطرٌ ولا ربيع
اجززْنَ شعورَكن يا نساء
نواحَكنّ يا نساء
واغسلِ الأرض يا نبيذَنا
لحمُ أطفالِنا وليمة
لحم أطفالنا يفرخُ الرعب،
قوسُ الرعبِ فوق المدينة
يُبحرُ في عينيك يا وهران،
حِزَمُ المأساة
في ظهورنا
مظلّتنا موت
موتنا مطر.
** **
هذيان...
الغرابُ يعانق جناحه
والدمُ ينبع من الأرض
الصلبة
** **
هذيان...
أَلبِسُكِ
أَشربُكِ أيتها الحرية.
...
مخصّصات النسر الميت
إنه سكونُ الشعوب المُصابة،
وألمُ الثوّار وهم يلتقطون الصدقةَ ويفرّون،
وحين يُزَجُّون في الأقبية، تظلم روحهم،
فتنتشرُ عصور صفراء،
دمُها الحائلُ يشبهُ دمَ الحشرات،
والثورةُ في الخارج تَثِبُ وتَثِبُ،
تحاول أن تسترد كائناتها،
فتتشابكُ الشرايين بالأوردة،
ويختلط الدم الصاعد بالنازل،
دمُ الثورةِ مع دمِ العبوديّة،
ويتوغّل كلُّ شيءٍ بعيداً ليدنّسَ القلب،
بينما يبحثُ أصحابُ البزّات الرسمية عن امرأةٍ
كي ينالوها خفيةً في مستودعاتهم،
أو يدفنوها في قبورهم،
لتدفئهم في ليالي الموتِ الباردة
** **
لولا تلك الكتلةُ المُتَرهّلةُ من السنين، الرابضةُ على كتفيه،
الكتلة التي تُعيقُهُ عن اللحاق بأحلامه البعيدة والمتوهّجة،
ثم تلك الجُثَث التي تغفو وتستيقظُ
فوق خرائطِ الوطن،
تُحيلُ العمرَ إلى سنين قائظةٍ وكاويةٍ كالجمر؛
كأنه الهدير والصحراءُ تسعى وراءه بنابين من السمّ؛
أنقذوه فتولدَ الثورة.
** **
ثمّة زنزاناتٌ صغيرةٌ تتجوّل في دمهِ وأحشائه المشتعلة
تحتشدُ في حلقه حتى لتوشكَ أن تخنقه،
كان عليه أن يبقى صامداً أمام تلك العواصفِ الخياليّة،
يضربُ العبودية بيديه الباليتين، فتنتفخ جراحهُ،
وتتشقّقُ كالفم الظامئ،
هل يُطبقُ أنيابه عليها ويبصق؟
أم يطبقُ تلك الأسنانَ المهترئةَ الصفراء،
الأسنانُ المرفوةُ بالمعدن والجبس
وأشياءَ أخرى.
يضربُ الوهمَ بجناحيه الكسيرين، فتستيقظُ
حشراتٌ لا حصرَ لها،
تتقدمُ... فيتراجع،
تتضخّمُ... فيتضاءل،
ويدفعهُ انتصارها إلى الوقوع في هلوسة
تامّةٍ من البحثِ والتفتيش عن مفرّ، من الاسترحام
وطلب الغفران.
وأخذت همومهُ تنتفخُ،
ذهل من حجمها الذي صارت إليه،
فالطغاة والجلّادون يجرون وراءه،
وهو يجري هارباً بخفّةِ الريح،
مستجيراً متألّماً،
"هيّا أنقذيني أيتها الثورة"
ارتفعت العاصفةُ الرصينة بما فيها
من طغاةٍ وأقبيةٍ وجلّادين،
وطارت،
يحملها جَناحاها العظيمان،
ويتدلّى بردى من منقارها الصلب،
لقد جاء فصلُ التقلّبات،
فصل الأزهار المتوحّشة،
وأطلق الطاغيةُ كلاب شكّه وغضبه،
أطلق حبلَ أحشائه في جوف الأرض،
فصارت سراديبَ لا حَصرَ لها
هيّا اسكنوها أيها الثوّار،
أيها المشرّدون،
لقد ترهّلت الثورة،
وتَراكَمَ عليها شحمُ القصور،
وجرى في عروقها دمُ الطغاة.
وعندما تدفّقت نقود الزمن
قذفوها جزافاً،
فاغتاظت النسور،
النسرُ القابعُ بلا حراكٍ على صغارِ النقود
ينتظر الفرصةَ كي يَفِرَّ إلى الأبد،
ويتركَ الثورةَ للنسر الفِضّيّ،
الثورة التي يجرجرها الطغاة على الأرض،
يرصدون مخصّصاتِها للتجارات العليا
والتزييف والتقسيم الخاطئ والمِنَحِ البلهاء،
"لقد صرنا جبناء ومُتلعثمين،
والمدن الفضيّة تُلمِّعُ عضلاتها المُدمَّرة،
تحشو بها صدوعَ القلبِ المنهار".
خذ نقودك واعبُرْ أيها الزمن.
ها هي امرأةُ الطاغية تنحني تحت عصا القلقِ والتوجّس،
لتسمعَ موسيقى الثوّار من شقوقِ
المخابئ والسجون،
فتُذعر،
تُسرعُ وتشربُ الزمن، نبيذَها الوحيد.
التاريخ ذاتُه ملوّثٌ بدم الزهرة والسحابة،
بدم نَيسان الغامض،
نيسانُ المختبئُ في أعمارنا،
لم يبقَ أمامه إلا الجسورُ المتداعية
والأنهارُ المتوحّشة،
وعندما أبحرتِ الطفلةُ الشقراءُ ذاتُ العينين الزرقاوين،
مع كلابها القطنية،
لتبحث عن مخابئ الثورة، عن أعلامها الحقيقية،
أسرَتْها مقدونيةُ الشهيرةُ برجالها الأشِدّاء،
وولائمها الحربية.
***
تخرجين من أسوار الجسد
إلى شام وسلافة
أيتها العصفورة، يا ابنتي..
الليل يدقّ أبوابَه
هل نَوَيتِ الغناء؟
ها هو العالم يدور
يُسحب قسراً من أعمارنا
ليُمنح بالمجان لِلّصوص والسّفاحين...
أضرميني يا ابنتي
جّدّيني
لقد تعفّنت في النسيان.
.. شام تقف في المقدمة
سلافة تهز شجرة الغيوم
فتسقط الدموع كلها،
الدموع التي أغفلها التاريخ،
الدموع التي أنكرتها العصور..
.. الصغار يدفنون رؤوسهم في نوافذ الأولياء
تتأرجح صُرَرُهُم؛
بعضها يسقط؛
والباقي لا يُشبع كلاب الطريق.
أما أنا، يا ابنتي،
فقد كنت أدفن نفسي في الظلام وأبكي
أية وحدة تأتيك تحت الغطاء؟!
.. ولكنك الآن، يا ابنتي،
تتكوّرين دافئة في أحضاني..
عانقيني
عانقيني
فذكرى السنين الماضية لا تُلمَس إلا بالروح
أو بورد الشفتين.
عانقيني
لقد عبرتني آلاف السنين الوهمية.
يا ابنتي، شام الملولة،
أو شام التي تَهُبُّ مسرعةً إلى العمل،
شام الإنبهارات،
لست معك،
ولن يلتقط شعري عذوبتك،
فانا مشوّشةٌ بالخسارة.
أستنجد ببراءتك، بضعفك الطفولي،
واصِلي بحرارة ويأس
كي يصير قلبي الضعيف بحجم قدميك....
.... يا سليلة الريفيات
يكتمن صراخ الولادة
ثم يقذفن بالأجنّة إلى أحواض النحاس
والجوع يقرع طبله في الأحشاء،
والفقر يُعَرّي العظام.
مع ذلك أضأتُكِ بأعظم الرغبات.
تخرجين من أسوار الجسد
ومعك أجيال يضيئها عبورك الصاعق.
إنها الولادة.
لا تخافي:
نبدأ عراكنا العظيم،
تلتقطين ظِلّي وتنهضينه،
فيهوي،
وتنهضينه،
فيهوي من جديد.
أنت أيضاً صار لك ظِلٌّ،
وصار يَهوي