لم تعد أفلام هوليوود تعرض في صالات السينما المحلية (ألكسندر زمليانيشنكو/أسوشييتد برس)
يحكي فيلم "الشاهد"، المموّل من الحكومة الروسية، عن عازف كمان بلجيكي يصل إلى كييف لتقديم عروضه في فبراير/شباط 2022، لكن رحلته تنقلب رأساً على عقب مع بدء القصف الروسي في أوكرانيا. ينجو الفنان من سلسلة من "الجرائم اللاإنسانية والاستفزازات الدموية التي ارتكبها القوميون الأوكرانيون"، وهو على استعداد لإخبار العالم "حقيقة الأمر"، بحسب وكالة أسوشييتد برس.
وانطلقت عروض الفيلم في 17 أغسطس/آب الحالي في روسيا، وهو الفيلم الروائي الأوّل الذي يتطرّق للحرب الروسية على أوكرانيا، بعد مرور قرابة عامٍ ونصف على انطلاقتها.
تظهر القوات الأوكرانية في "العائد" على أنها من النازيين الجدد العنيفين الذين يعذبون ويقتلون شعبهم، حتى إنّ أحدهم يرتدي قميصاً عليه صورة هتلر، فيما يتساءل صبي صغير: "أليست أوكرانيا روسيا؟"، في تطابق مع الرواية التي ظل الكرملين يروج لها منذ الأيام الأولى لبدء الحرب.
ويأتي إطلاق العمل بعد أن أعلنت السلطات الروسية عن خطة لتعزيز إنتاج الأفلام التي تمجد تحركات موسكو في أوكرانيا.
ولكن في عصر المعلومات السريعة والمضللة، تبرز تساؤلات كثيرة حول ما إذا كانت مثل هذه الأفلام ستجذب المشاهدين، خاصةً أنّ نتائج تجارب مماثلة في السابق كانت كارثية في شبّاك التذاكر. إضافة إلى ذلك، يقول علماء الاجتماع إن الاهتمام العام بمتابعة الحرب قد تضاءل، وإنّ الناس يريدون الهروب من كآبة الأخبار القادمة من أوكرانيا.
يقول مدير مركز ليفادا، دينيس فولكوف، وهو أكبر مركز مستقل لاستطلاعات الرأي في روسيا لـ"أسوشييتد برس": "نسمع بانتظام (من المشاركين) أن الحرب تمثل ضغطاً كبيراً وألماً كبيراً". كذلك يشير إلى أنّ بعض الروس يصرون على أنهم "لا يناقشون، ولا يشاهدون، ولا يستمعون" إلى الأخبار المتعلقة بأوكرانيا في محاولة للتأقلم مع الوضع.
لقد كان التحكم بالمحتوى السينمائي أمرا عاديا في الديكتاتوريات، وأنتجت الأفلام الدعائية في الاتحاد السوفييتي وألمانيا النازية وإيطاليا في عهد بينيتو موسوليني. أما في روسيا اليوم، فتتحدث السلطات بصراحة عن اعتزامها نقل سرديتها للحرب الأوكرانية إلى الشاشة الكبيرة.
وسبق للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن أمر وزارة الثقافة بضمان عرض الأفلام الوثائقية حول "العملية العسكرية الخاصة"، كما يسميها الكرملين، في دور العرض. كذلك أعطت الوزارة الأولوية لتمويل أفلام تتناول مواضيع معينة، بما في ذلك "بطولة ونكران الذات للمحاربين الروس" في أوكرانيا، و"محاربة المظاهر الحديثة للأيديولوجية النازية والفاشية"، وهو اتهام يوجهه بوتين لقادة كييف.
ووصل حجم التمويل الحكومي، الذي يمكن لصانعي الأفلام الروسية الاستفادة منه هذا العام، إلى أعلى مستوى ممكن، وهو 30 مليار روبل (حوالي 320 مليون دولار).
ويصف الناقد السينمائي الروسي أنطون دولين سيطرة الحكومة على القطاع السينمائي بأنّها "شريرة"، مشيراً إلى أن جميع الأفلام يجب أن تحصل على ترخيص عرض من وزارة الثقافة، وبالتالي فالرقابة مفروضةٌ حتى بالنسبة لأولئك الذين لا يأخذون تمويلاً من الدولة.
لكن هذا لا يعني أن صانعي الأفلام الروس الذين يحصلون على تمويل من الدولة ينتجون دائماً أفلاماً دعائية، إذ تبرز من بينها "أعمالٌ جيدة جداً"، بحسب الناقد والخبير الثقافي يوري سابريكين.
وحصل بعض المرشحين لجوائز الأوسكار من روسيا على تمويل حكومي، إضافةً إلى أعمالٍ أخرى نجحت محلياً، لا سيّما الدراما التاريخية وأفلام الخيال العلمي، وقصص الرياضيين السوفييت الأسطوريين.
بعد حرب روسيا القصيرة مع جورجيا عام 2008، بثّ التلفزيون الرسمي الروسي فيلماً يعكس رواية موسكو عن الكيفية التي بدأت بها جارتها الصراع، وهو يتبع قصة مشابهة لقصة "الشاهد": أجنبي يشهد بداية الحرب ويشرع في نقل الحقيقة إلى العالم.
بعد ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، وصلت روايات الكرملين إلى دور السينما. روّجت وسائل الإعلام الرسمية بشكل كبير لفيلمين تمولهما الدولة: "القرم" (2017)، والذي برّر استيلاء موسكو على شبه الجزيرة، وصوّر الأوكرانيين وهم يضربون ويقتلون مواطنيهم بوحشية. فيما صوّر العمل الآخر الصادر عام 2018، كيف تزدهر حياة سكان الجزيرة في ظل حكم روسيا.
وكان الفشل نصيب كلا الفيلمين في شباك التذاكر.
في ذلك الوقت كان لدى الروس بديل، وهو أفلام هوليوود التي حققت أكبر النجاحات على الدوام، إلى حدٍ بدأت معه السلطات الروسية في تأجيل إصدار أفلام هوليوود الناجحة حتى لا تنافس أو تؤثّر على شعبية الأفلام المحلية التي ترغب بنجاحها.
وفي حديث مع "أسوشييتد برس"، قال المدير التنفيذي لشركة أي آر كونتن، إيفان فيليبوف: "أي فيلم أميركي ضخم يعرض في روسيا يحقّق ثروة، من سلسلة سبايدرمان وحرب النجوم وصولاً إلى مارفيل".
بشكل عام، لم يبدِ المخرجون الروس حماسة كبيرة لإنتاج أفلام دعائية حول الصراع الروسي مع أوكرانيا، فمن بين مئات الأفلام التي تصدر سنوياً، لم يتطرق إلّا 12 عملاً للقضية منذ عام 2014، وفقاً لفيليبوف.
لكنّه يتوقع أن ينمو هذا العدد قريباً، لافتاً إلى عملين جديدين عدا عن فيلم "الشاهد". يتطرّق الأوّل إلى فنانٍ من موسكو يقرر الانضمام إلى التمرد الانفصالي الذي يدعمه الكرملين في شرق أوكرانيا. أمّا الثاني فيحكي محاولة القوات الروسية إنقاذ مجموعة من الطلاب الهنود المحاصرين في مدينة أوكرانية من قبل "القوميين" بعد "بدء العملية العسكرية الخاصة" لموسكو.
وإثر امتناع استوديوهات هوليوود الكبرى عن عرض أعمالها في روسيا العام الماضي، لم تعد المنافسة شرسة، وإن كانت الأفلام الهوليوودية الناجحة متوفرة عبر نسخ مقرصنة، إضافةً إلى الأفلام الأجنبية.
وعلى الرغم من ذلك نالت بعض الأفلام المحلية شعبية كبيرة بين رواد السينما، أبرزها "تشيبوراشكا"، وهو قصة خيالية ملونة يصور شخصية رسوم متحركة اشتهرت في الحقبة السوفييتية، الذي حقّق بعد صدوره في عطلة رأس السنة الجديدة هذا العام ما يقرب من 7 مليارات روبل (74 مليون دولار)، مقابل 850 مليون روبل (حوالي 9 ملايين دولار) أنفقت على إنتاجه.
نجوم وفن
انتهاء موسم الحفلات: رجعت الشتوية
بحسب فيليبوف، "لم يكن أحد في الصناعة يتخيل تحقيق أرباحٍ بهذا الحجم"، الأمر الذي دفع صانعي أفلامٍ آخرين لإعادة إنتاج كلاسيكيات سوفييتية وقصص خيالية. مضيفاً أنّ "الروس لا يريدون مشاهدة أفلام عن الحرب".
وعرض فيلم "الشاهد" لأوّل مرة في روسيا دون ضجة كبيرة. في إحدى دور السينما في موسكو بعد ظهر أحد أيام الأحد الممطرة من الأسبوع الماضي، قال ما يقرب من اثني عشر من رواد السينما إنهم جاؤوا لمشاهدة أفلام أخرى، على الرغم من أن العديد منهم قالوا إنّهم خططوا لمشاهدته في وقت ما. خلال عطلة نهاية الأسبوع الأولى، حقّق الفيلم ما يزيد قليلاً عن 6.7 ملايين روبل، أي قرابة 70 ألف دولار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق