محمد عبيدو
روزا لوكسمبورغ من أبرز زعماء الشيوعية في مطلع القرن المنصرم، وهي منظّرة ماركسية وفيلسوفة واقتصادية وإشتراكية ثورية من أصول بولندية، عُرفت بمواقفها الداعمة لشعوب العالم الثالث.
في يناير 1919 وقفت لوكسمبورغ إلى جانب الانتفاضة الاشتراكية في برلين، مراهنةً على تكرار النجاح الذي حققته ثورة أكتوبر في روسيا، وسُجنت عدة مرات. في منتصف الحرب العالمية الأولى ساهمت مع آخرين بتأسيس العصبة الأسبرطية الثورية المعادية للحرب العسكرية، ثم شاركت في إنشاء الحزب الشيوعي KPD. وافقت على انتفاضة سبارتاكوس في يناير 1915 في محاولة للاستيلاء على السلطة. ولكن الرابطة سُحقت بوحشية على يد فرايكوبز، الذي كان النسخة المبكرة من هتلر .. قُتلت لوكسمبورغ بالهراوات، ورميت جثتها في قناة لاندفير بين ما أصبح لاحقا برلين الغربية وبرلين الشرقية. وقال ضابط في جيش القيصر الالماني: إن القحبة العجوز تسبح الآن. كانت في السابعة والأربعين من العمر ولم يُحاكم أحد بتهمة قتل روزا الحمراء.
متطرفة ألمانية
في عشية الذكرى المئوية لاغتيال روزا لوكسمبورغ المفزع، وصفت صحيفة الغارديان روزا وأتباعها بأنهم “متطرفون” (العنوان الأصلي الذي لم يعد مرئياً في الصفحة الأولى للموقع، وصفها بأنها “متطرفة ألمانية”).. في انحراف عميق ولوي للقيم. يتم إعادة إصدار سيرتها السينمائية من أجل الكشف والتذكير بأنها لم تكن سياسية “راديكالية”، ولكن إنسانة متوازنة للغاية وأخلاقية وعاطفية.
قدمت السينما هذه الشخصية البارزة في أكثر من فيلم وثائقي وطويل.. لكن فيلم المخرجة مارغريت فون تروتا هو الفيلم الأبرز عنها، وهذه المخرجة التي صنعت عدداً من الأفلام عن شخصيات نسائية بارزة، قدمت بفيلم “روزا لوكسمبورغ ” عام 1985 صورة شخصية جداً عن هذه المرأة الثورية، مع باربرا سوكوفا في دور البطولة.
لاشك أن المهمة التي تصدت لها المخرجة كانت صعبة للغاية، إذ ليس من السهل أن يحيط فيلم سينمائي يستغرق ساعتين، بالجوانب المتعددة والثرية لمثل هذه الشخصية التاريخية، التي لعبت دوراً سياسياً وفكرياً بارزاً في تاريخ ألمانيا الحديث، وفي تاريخ الحركة العمالية والثورية العالمية.
كما كان تجسيد هذه الشخصية مهمة شاقة، تمكنت بربارا سوكوفا (التي اشتهرت بأفلام برلين ألكسندر بلاتز 1981، ولولا 1981) من القيام بها بإبداع وموهبة كبيرة، وفازت بجائزة السعفة الذهبية لأفضل ممثلة.. تقول سوكوفا بعد أن أمضت شهوراً طويلة في قراءة أعمال روزا لوكسمبورغ ورسائلها: ” لقد اكتشفت امرأة سلام عنيدة، ومناضلة تحتقر الأفكار الجاهزة، بل وكاتبة مليئة بالدعابة، تؤمن بالمشاعر الإنسانية بقدر ما تؤمن بالايديولوجيا “.
إن نقل هذه الشخصية وسيرتها المليئة بالأحداث الكبيرة والمشاعر الجارفة إلى السينما كان أمراً صعباً، لولا أنه تمكن من النفاذ إلى روزا الانسانة .. العاشقة .. المرأة التي عاشت الحب وعاشت الخيبة، وتمكن من ربط المناضلة بالإنسانة، وتمكنت سوكوفا من تجسيد هذه الشخصية بإبداع في مختلف لحظات سيرتها .. لحظات النضال والسجن، ولحظات الحب والفشل، ناقلة تلك الشخصية التي رفضت الانحناء أمام العدو الطبقي وأمام الانتهازية اليمينية والفاشية، ولم تقبل المساومة حول مصالح الطبقة العاملة، وكانت الشجرة الصلبة التي لم يستطع أعداءها سوى أن يقتلوها .
اعتمد الفيلم على رسائل روزا لوكسمبورغ وخطاباتها أثناء وجودها في السجن، والتي قدمت صورة جديدة لها، حيث صورتها كثورية ومناضلة وصورتها كامرأة، لا سيما من خلال سلسلة من ذكريات الماضي، من طفولتها إلى اغتيالها. لقد تم تصويرها كفرد غير أناني ويعاني من ألم هائل عندما يصبح الآخرون ضحية للعنف والظلم.
يعتمد أيضاً المخرج اللبناني غسان سلهب، على رسائل لوكسمبورغ في محاولة للاقتراب من عالمها، ليقدم فيلماً يظهر في بعض مقاطعه استمرارية لنبض الحياة في هذه الرسائل. صوّر الفيلم في مدينة برلين حيث عاشت لوكسمبورغ وقتلت، منطلقاً من الجسر الذي رميت منه جثتها والأمكنة المحيطة به. في خضم السيرة لروزا لوكسمبورغ في فيلم غسان سلهب “وردة” (72 د ــ 2019)، يبدو لنا أن التوثيق الذي يقوم به الفيلم، ليس توثيقاً عادياً، بل ابحار في عدد من الامور التي تتشكل بين ذاكرة روزا وحاضرنا..
يُحضر المخرج روزا لوكسمبورغ إلى عالمه في قصة نضال تتقاطع مع ما تمّر به المنطقة العربية حالياً. هناك مشهد تقرأ فيه ممثلتان عربيتان رسائل روزا لوكسمبورج باللغة العربية والألمانية، وأحياناً بالتزامن، يصنع المخرج خيطاً خفياً يربطها بالحدث اللبناني، ويمرّ في النضال الفلسطيني أيضاً. يقول غسان سلهب: أردت أن أُحضر روزا لوكسمبورج إلى عالمي، لذلك صورت ذلك المشهد في بيروت، وترجمنا رسائلها للعربية. فهل أراد أن يبعث روح روزا لوكسمبورغ في العالم العربي. من بين العديد من فضائل روزا لوكسمبورغ الإحساس الجمالي والسياسي الذي تتخذه معتقدات وسلوكيات الأشخاص، الذين عاشوا ذات يوم ليصنعوا عالماً أفضل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق