الخميس، 1 فبراير 2024

السينما في تونس- 7


محمد عبيدو


قبل رحيله انجز المخرج إبراهيم باباي فيلمه الاخير "الاوديسة " 2003 بعنوان إشكالي للوهلة الأولى" فالفيلم لا يتناول "أوديسة" هوميروس، بل يتناول حكاية تونسية يحل فيها القائد القرطاجي هنيبعل (حنَّبعل، بتسميته التونسية) بدلاً من أوديسيوس (أو عوليس) في أوديسة هوميروس، ويقطع رحلة بحرية من نوع آخر، تربط بين جنوب المتوسط (تونس) وضفته الشمالية (جنوى، مرسيليا) برابط إشكالي هو الآخر.

إذا كان ذلك بعض ما يشكل الخلفية الثقافية والحضارية للفيلم، فإن حبكة الحكاية تطمح أساساً إلى تقديم "أول فيلم تونسي بوليسي" كما جاء في بطاقة تقديم الفيلم. ولئلا يكون الجانب البوليسي فيه مجانيّاً، فقد تم حبك السيناريو حول "موضوع في غاية الأهمية ينزل في قلب الحدث... والحدث طبعاً يتعلق بسرقة الآثار وتهريبها وإتلاف الذاكرة والتاريخ". هكذا يحاذي الفيلم حدثاً قديماً جديداً، زادته حرب العراق ونهب متاحفه وآثاره، حدّة وراهنية.

عملية التهريب في فيلم "أوديسة" تتعلق بتمثال نصفي "متخيَّل" للقائد القرطاجي الذي واجه روما: فبعد ساعات قليلة من اكتشاف تمثال نصفي لحنّبعل، موارى تحت التراب، بين آثار قرطاج، على يد عالم الآثار "مهدي"، يُسرق التمثال في شكل سريع من جانب عصابة دولية متخصصة في سرقة الآثار ولها ارتباطاتها المحلية. بعد تصفيات جسدية كثيرة يتم تهريب التمثال "الذي لا يُقدّر بثمن" على متن الباخرة التونسية السياحية التي تحمل بدورها اسم "قرطاج". وفيها تتواصل الملاحقات والتصفيات الجسدية، قبل الوصول إلى ميناء جنوى الإيطالي.

تتعقد عملية التهريب، بسبب الاختلاف على ثمنه، وتدخّل الإنتربول الخ. لينتهي المطاف بالتمثال النصفي "المتخيَّل"، والذي جُعل مبرّراً لتقديم الأحداث، غارقاً في قاع البحر الأبيض المتوسط، حيث تلقي به زعيمة العصابة "إيناس" (الممثلة الأردنية صبا مبارك)، لحظة تشديد الخناق عليها وانهيارها، في نقطة، أو مسافة بحرية، ما بين تونس وإيطاليا.

وهكذا يتوارى التمثال النصفي الذي لم يكن موجوداً أصلاً بين القطع الأثرية القرطاجية، تاركاً مجالاً لتأويلات متعدّدة...

بعيداً من المضامين الحضارية التي يطرحها الفيلم، تبدو القصة، وبالتالي حبكتها، معتادتين في السينما، مع "بهارات" مسبوقة.

ويقدم جيلاني سعدي دراما تحمل عبق المكان في فبلمه " خورما , ابن المقبرة " ويتناول قصة تدور في قرية معزولة بتونس ويروي حياة شخص لامستقبل له ومجتمع يتعامل بشيفراته الخاصة تجاهه .

يرصد الفيلم ، في البداية ، حركة الحياة في قرية كبيرة ، أقرب لمدينة ، وفي قلبها أي السوق – ينخرط خورما في أعمال تتطلب قوة البدن ، ويبدو سعيداً بنشاطه والعملات الصغيرة التي يحصل عليها . وسريعاً ، يظهر العجوز " بوغالب " بأداء محمد مورالي ، المسيطر على " خورما " الذي يحميه ويستغله في ذات الوقت ، وهي علاقة تذكرنا بعلاقات القهر التي تعرضت لها أفلام السينما مرارا ، فعلى الرغم من وهن الشيخوخة الجاثم على العجوز ، إلا أنه بمزاجه الحاد ، وعصبيته ، واندفاعاته ، وتمسكه بطول البقاء ، يظل قابضاً على زمام أمور " خورما " . وكما يوفق جيلاني فرحات ، مع مصوره الفرنسي جيل بورت ، في تجسيد أجواء المدينة الصغيرة ، بحيوية حركة البيع والشراء ، فضلاً عن معمار بيوتها العربية ، يوفق أيضاً في تتبع العلاقات النفسية ، ليس بين " خورما " وراعيه ، أو سيده " بوغالب " وحسب ، بل بين " خورما " والآخرين ، الذين تنتابهم نزعات وحشية تجاهه ، فيقدم بعضهم على ضربه ضرباً مبرحاً ، بلا مبرر منطقي ، عندما يضبطونه مندمجاً في غناء إحدى أغنيات عبد الحليم ، وحيداً ، عند الشاطئ!

في لقطة قريبة ، حميمة ، يتهادى صوت عبد الحليم ، من بعيد ، إلى مسمع " خورما " ، بوجهه البلل بالدموع ، فتنتعش روحه ، وتعبر نظرته عن حالة فريدة من الرضا ، كما لو أن عبد الحليم يعزيه ، ويغني له فقط .

لكن الفيلم يكاد يخرج من مساره ، حين يصر على تتبع تقاليد جنازة إحدى النساء ، ابتدأ من طواف العجوز وتابعه في الحواري والأزقة ، لإعلان الوفاة ، إلى عويل قريبات الراحلة ، إلى نقل جثمانها إلى الصندوق ، مع مزيد من الصراخ ... هكذا ، حتى فتح باب المقبرة ، وتقديم العزاء ... مشاهد مسرفة الطول مملة ، بلا ضرورة .

الحادث المحوري في الفيلم ، يأتي بعد منتصفه ، العجوز " بوغالب " يظن خطأ أن زفاف عروس هو حالة وفاة ، وعن طريق " خورما " يعلن الخبر السيئ ، وبالطبع ينتاب الغضب أصحاب الفرح ... يصاب العجوز برعب هائل . عندئذٍ يدرك " خورما " ما ينطوي عليه سيده من ضعف ، فيعتمد زيادة جرعة هلعه ، ويوهمه أن الأهالي يبحثون عنه للقصاص منه . ويبدو " بوغالب " كما لو أن جنوناً قد مسه ، عندئذٍ ، يضع " خورما " سيده في قبو ضيق ومظلم ... ويتحول " خرمة " من حال لحال .

" خرمة " ، يرتدي الجلباب الأبيض ، ويمسك بنبوت طويل ، ويلف لاسة حول رأسه . وأمام المرآة ، يكتشف أنه أقرب إلى الفتوات . يقرر الاستفادة من مظهره الجديد ، خاصة أن البعض يظنون أنه " مبروك " ، بينما البعض الآخر يخشون بأسه . بهذه التحولات ، يفتح الفيلم لنفسه مجالاً واسعاً للانطلاق إلى آفاق بعيدة ، فأبله الأمس ، غدا قوة لا يستهان بها – لقد أصبح ، على نحو ما ( أمير المدينة ) .

سعى المخرج الفرنسي ، من أصل تونسي عبد اللطيف كشيش إلى إبراز صورة جديدة عن الأحياء الشعبية الفرنسية عبر فيلمه الثاني ( الزوغان ). 2004

تروي قصة الفيلم علاقة حب بين مراهقين في حي واحد . فكريمو ، ذو الشخصية المنغلقة ، يدور في الحي لا يلوي على شيء ، محاط بأصدقائه ، ولا يجد إلا طريقة واحدة ليعلن عن حبه لصديقته في الفصل ليديا ( ليديا ، الصبية المرحة المليئة بالحياة ) وهي القيام بدور آرلوكان في إحدى مسرحياته ماريفو (( Marivaux )) .

هذه العلاقة الغرامية يقدمها لنا عبد اللطيف كشيش في تلقائيتها المغلفة بعنف لغوي وبذاءة هي النمط اللغوي الوحيد الذي يتقنه شباب أحياء الضواحي .. شتائم تخفي في طياتها الكثير من مشاعر المحبة والصداقة والأخوة والتضامن ، وتخفي في الوقت نفسه خفراً لا حدَّ له .

هذا الأسلوب في التعامل هو الطاغي على أغلب مشاهد الفيلم التي تعالج تلك الأواصر التي تربط الشبان بعضهم ببعض ، الأواصر الخفية التي يعبرون عنها بعنف لغوي ولا يخفي من حقيقة الأمر شيئاً .

وقد عمل المخرج على تجريد هذا النمط اللغوي العنيف في الاتصال من الهالة المحيطة به ومن كل ما التصق به من سلبيات . وبالتالي اختار مسرحية ماريفو (( لعبة الحب والقدر )) لما تحمله من معاني لتبليغ خطابه ذاك .

فالمسرحية يتدرب على عرضها تلامذة الفصل ، وليديا من بينهم . والمسرحية أيضاً تحكي عن المشاعر الإنسانية بكل تعقيداتها وتشعباتها ، وعن حق كل الطبقات الاجتماعية في البعد الإنساني.

إن اختيار المخرج لهذا العرض المسرحي كان من أكثر إيجابيات الفيلم إذ أبرز عبره البعد الإنساني لشريحة اجتماعية ( أو مجموعة من الأفراد ) لها نمط اتصالي خاص بها ، ولطالما عانت من قلة التمثيل الذي تحظى به في القطاع السمعي البصري الفرنسي .

والفيلم بالتالي انعكاس جديد لرؤية لم نعهدها لهذه الأقلية التي تطالب بحقها في الاختلاف . اختلاف نلمسه طيلة عرض الفيلم ، لكنه في حقيقة الأمر اختلاف شكلي ما دام المضمون واحداً . فمشاعر كريمو إزاء زميلته ليديا هي نفس مشاعر آرلوكان في مسرحية ميرافو .

ومن بين محاسن الفيلم الصدق الذي توخاه المخرج في تصوير الحياة داخل الأحياء الشعبية الفرنسية . ومع أن القصة خيالية إلا أنه يمكن اعتبارها انعكاساً صادقاً وقوياً ليوميات شباب الضواحي . فالوضعية الاجتماعية التي يعيشها بطل الفيلم كريمو ليست وليدة خيال المخرج بل هي في قرارتها تنبع من صلب الواقع الذي يعيشه شبان وبنات سان دوني : أب في السجن ، وأم تسعى جاهدة لإعالة أبنائها وأخ مراهق كثيراً ما يلجأ للسرقة لتلبية حاجاته .

وفي فيلم«الامير» لمحمد الزرن 2004 حكاية شارع رئيسي في تونس العاصمة وما يدور به من احداث عاطفية واجتماعية تلخص المشهد الحياتي وتطلعات واشواق شخصيات متنوعة،

أجمع النقاد والمشاهدون معا على أن (باب العرش) لمختار العجيمي 2004 هو فيلم جريء, وقد تجلت هذه الجرأة في العديد من اللقطات والمشاهد سواء تلك التي قدّمتها الفنانة زهيرة بن عمار التي جسدت شخصية (ريم) بنت الجيران, أو المشاهد الأخرى التي يظهر فيها (حميد) وصديقه الحميم (إلياس) في أجواء لا تخلو من الإثارة والتحريض. وملخص القصة مفاده أن حميد (محمد علي بن جمعة) هو صحفي شاب تعدى الثلاثين من عمره غير أنه يرفض الولوج إلى المؤسسة الزوجية, ولا يرضى بالزواج من ابنة الجيران (ريم) تلك الفتاة التي تنتمي إلى جو برجوازي بعض الشئ, ولكنه يذعن لمشيئة أسرته, ويستسلم لإلحاحها الشديد, ظنا منها أن هذه الزيجة ستخرجه من عزلته, وتنقذه من الجو النفسي الخانق, والأزمات الذهنية المتلاحقة التي تفضي به إلى القلق الدائم, والاضطراب المستمر الأمر الذي يدفعه في خاتمة المطاف إلى العزوف عن عروسته, والهروب في ليلة زفافه! لقد قدّم لنا المخرج مختار العجيمي, وهو كاتب السيناريو نفسه, شخصية حميد بطريقة مهلهلة, وغير مقنعة تماما. فهل يعقل أن ينصاع في هذا الزمن شاب في مقتبل حياته, ويتخذ من الصحافة التي توصف بـ(مهنة المتاعب الجميلة) مهنة له, ويذعن للزواج من بنت الجيران لمجرد إرضاء نزوات أهله ورغباتهم العابرة?. ثم إن بعض مقالات حميد كانت تُرفض من قبل هيئة التحرير بسبب جرأتها, وحساسية تعاطيها مع موضوعات ساخنة, وكان حريًا بالمخرج أن يعمق هذه النقطة الجوهرية, وينّميها خدمة لتصاعد الأحداث, وتطويرا لمسار الفيلم. لقد أثارت المشاهد الجنسية الصريحة ردود أفعال شديدة

و يتناول فيلم المخرج محمد دمق "دار الناس"- 2004 مرحلةً ساخنة من تاريخ تونس في قالب كوميدي انتقادي ساخر. تدور احداث الفيلم في بداية الثمانينيات التي شهدت فيها البلاد ازمة سياسية واجتماعية واقتصادية طاحنة ادت الى حدوث غليان كبير في الشارع التونسي، كان من نتائجه اندلاع ما عُرف وقتها بـ "ثورة الخبز" في كانون الثاني 4891. وسط هذه الظروف العصيبة تبدأ حكاية الشاب هادي الذي يتزامن رسوبه للمرة الثالثة على التوالي في امتحان البكالوريا مع احالة والده الى التقاعد، لكن قبل مغادرة هذا الاخير العمل بشهر واحد يطلب منه مخدومه خدمة اخيرة هي حراسة منزله، والواقع في احد الاحياء الفاخرة في العاصمة، خلال فترة العطلة الصيفية. تنتقل العائلة رغم معارضة هادي في البداية الى الاقامة في منزل صغير قرب الفيلا الفاخرة، وهناك يكتشف الابن الشاب عالماً آخر مع وقوعه بغرام فتاة تقيم في الحي نفسه. ورغم تعليمات الاب بعدم دخول الفيلا بما انها "دار الناس" يستغلها هادي لاقامة الحفلات الصاخبة مع اصدقائه الجدد، وفي تلك الاثناء يعود شقيقه الاكبر من بلد اوروبي ليغيّر مجرى الاحداث، ويفتح اعين شقيقه على مجتمع تتآكله الصراعات والتناقضات وينهشه واقع مظلم فتتلاشى احلامه التي تتحول بسرعة الى سراب. يقول دمق: "إن الفيلم هو"دعوة الى التريث ودراسة الاشياء قبل اتخاذ اي قرار او القيام بأي عمل "مؤكداً ان السينما التي يقدمها هي سينما الكوميديا لكنها كوميديا سوداء قريبة من هموم الناس والمجتمع".

امتدح كثيرون قدرة السينما التونسية على الكشف عن المسكوت عنه في غيرها من السينمات العربية، وتكسير التابوهات، وأن الأفلام عبرت عن ذاتية المخرج التونسي ورؤيته عن الواقع وتميزت بمستوى تقني عال، وبراعة اداء الممثلين التونسيين مثل هشام رستم وهند صبري و ريم تركي وآخرين غيرهم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق