مقدمة:
للمرّة الرابعة، أجدّ نفسي أعمل في انتقاء عدد من قصائدي لتكون مختارات شعرية. المرّة الأولى، عندما أصدرت لي دار رياض الريس - بيروت (مزهرية على هيئة قبضة يد) 1997، ويظهر العنوان الذي اخترته لها، للقارئ الذي يحدّق بالكلمات، أنها مختارات متفرقة مختلفة متضاربة من أشعاري، يحتاج حزمها لقبضة يد ما. والثانية، عندما أصدرت لي الهيئة العامة لقصور الثقافة في القاهرة: (... لأني لست شخصًا آخر) 2010. بعد أن استبدلوا ببعض الكلمات وبعض المقاطع، صفوفًا من النقاط. أمّا الثالثة، التي لم تصل ليدي قط، فقد صدرت عن مجلة (انزياحات) اليمنية 2011، بعنوان مناقض للعنوان السابق، وكأنه ردّ عليه، ذلك أنّي لم أحزم أمري على شيء كهذا في حياتي: (لا ريب أن لي وجهًا آخر).
وهكذا أجد نفسي الآن أمام معضلة، ماذا سأنتقي لمختاراتي هذه؟ الأشبه ببقايا مائدة قام عنها جنود سكارى، وماذا سأسمها؟ إذ أنه لا بد أن يكون لكلّ شيء اسم ينادى به، ويعرف من هو منه. غير أنّي، كما سترون، سرعان ما وجدت، الحلّ المناسب والعنوان المناسب. وهكذا، ستتضمن (أسوأ قصائد منذر مصري) قصائد لم تنشر في أي من المختارات الثلاث، أعدكم. أمّا عن صفة (أسوأ) فلا تصدقوا، لأن السؤال هو: "من أنا لأعرف ما أسوأ قصائدي وما أفضلها.. فلست سوى كاتبها".
الآن يخطر لي، لأوّل مرة، أن انتقاء مختارات شعرية لشاعر ما، مهمة يجب أن تلقى على عاتق الآخرين. ولكن هذا، لحسن الحظ، لا يحدث عندنا. نعم لحسن الحظ، فما بالك إذا انتقى أحدهم قصيدة مثل (ساقا الشهوة) وضمنهما مختاراتي.
أنا شخص يكتب الشعر، أو ما يعدّه شعرًا، منذ خمسين سنة، نشرت وأصدرت عددًا من المجموعات الشعرية وغير الشعرية، أصدقكم القول، أني لا أعرفه بالدقة الكافية. ربما الثماني مجموعات، التي ستصدر قريبًا عن إحدى دور النشر المعروفة، باعتبارها أعمالي الشعرية الكاملة، وربما أربع عشرة مجموعة شعرية، منها، ما أظنه يكفيني أني نشرته مرّة واحدة، ونجوت منها، وليس هنا والآن، الفرصة المناسبة لشرح هذا الإشكال. وقد كتب عنّي خلال هذا النصف قرن، الذي لا أصدق أني، حقيقة، عشته، الكثير من القدح والمدح، التعظيم والاتهامات. فهناك من يعتبر كل ما كتبته، بقضه وقضيضه، لا علاقة له بالشعر، ولا حتى بأيّ ضرب من ضروب الأدب، ومنهم، أيضًا، هؤلاء، الذي أستميحهم العذر، لإيراد بعض ما كتبوه عني، كمقدمة لهذه المختارات، وهذا تحسبًّا لكونهم، ربما غيّروا رأيهم بشعري وبشخصي، خاصّة، لم أوفر جهدًا في أن أخيب آمال الجميع بي.
-----
من مجموعة: (آمال شاقّة)
(أشدُّ ما أكرهُهُ في اليأسِ .. سهولتُه)
---------------
1- الأرضُ خادِمة
في الصَيفِ تكنُس - فيلوحُ لنا فَخذاها وخَدَّا أليَتَيها
وفي الشِتاءِ تشطُف - فتبرُد وتبكي.
/
الأرضُ طِفلةٌ
أحضرَها أبوها لتعملَ عندنا - خادِمة..
ـــــــــــ
2- الغِربانُ ضُيوفٌ ثُقلاء
تسلَّقَت شجَرةُ اللَوزِ حائطَ قبرِ الوَليّ - وبعيدًا ما أمكنَ لها
اخضرَّت وأزهرَت.
/
للعصافيرِ قالت: "أهلًا وسهلًا - الغِربانُ ضيوفٌ ثقلاء"
ولِمُريديهِ أطعمت ثمرًا حامضًا ولذيذًا.
/
لكنَّهم قبلَ أن يناموا - شحَذوا على طيبةِ قُلوبِهِم - فؤوسَهم اليابسة -
وسكاكينَهم العائليَّة..
ـــــــــــ
3- مَن أحرقَ الليل؟
تآمروا ضِدِّي - وحرَّضوا علَيَّ القارِسَ والهاطِل
لكنَّ مِعطفيَ الخاكي - كَهف
وقُفَّازيَ الصوفي - موقِدُ فحم.
/
أنا المكَّار
الَّذي سوفَ يبحثونَ في جُيوبِه - عن عُودِ ثِقابٍ واحدٍ - فلا يجِدون
والَّذي سوفَ يسألونَهُ ألفَ مرَّة: "مَن أحرقَ اللَيل"؟
فيُجيب:"لا أعرِف"..
ـــــــــــ
4- في جيبي وسيلتانِ للتَّعبير
"إلى الماغوط الأكبر"
في جيبي وسيلتانِ للتَعبير - ووسيلةٌ لتسريحِ الشَعر
وفي حِذائي قدَمايَ تمضيانِ بي - إلى حيثُ - لا أُريدُ أن أذهب.
/
أخُطُّ على التُرابِ ولا أُبالي - اسمي واسمَكِ - وجُملةَ أُحِبُّكِ الطَويلة.
/
في رأسي خليَّةُ دبابير - وفي جسدي أجهزتي تعمَلُ بصَمت - ولأنَّها لا تُردِّدُ الشِعارات
أعلَمُ بَيني وبَيني - باستِحالةِ كَوني آلةً
أو مواطِنًا حُرَّا.
/
لم يبقَ من أحلامي - إلّا توزيعُ المنشوراتِ السِريَّة
والخوفُ منَ الشَرِطة..
ـــــــــــ
5- العِشقُ القائمُ على طرفٍ واحِد
لأنِّي كائنٌ حَيّ - وأُفضِّلُ البَقاءَ هكذا
لم أُشارِك في إبادةِ الأحياءِ الأُخرى - ولم أُعلِن احتِجاجي على ذلكَ.
/
أعيشُ على سطحِ اليابِسةِ - بحُكمِ مَولِدي
ولأنِّي لا أعرِفُ الوطنَ - الَّذي أحِنُّ إليهِ كثيرًا
لذا تراني - في أغلبِ الأحيان - أكتفي بالشَواطئ والكلمات.
/
وهكذا - كُلُّ ما لَديَّ من أُمور - رضِيتُ لها بحُلولِ البينَ بين
ما عدا حُرِّيتي
فما زالت مُعلَّقةً كالمشنوق - والعِشقِ القائم
على طرَفٍ واحِد..
ـــــــــــ
6- ذقنُهُ شابَت في الحرب
ابتاعَ صوفَ الفِراش - قبلَ أن يُفكِّر بامرأة
وقال: "ذَقني شابَت في الحرب".
/
سرقوهُ منَ الجُغرافيا والحُقوق - وفي تدمُرَ الَّتي سَمِعَ عنها -
هجَروه
استلهمَ التاريخَ ليلتَين - وفي الثالثةِ جاعَ ولم يقدِر
فالتهمَهُ وهوَ - يسُبُّ ويكفُر.
/
وتعلَمونَ - مَن ذاقَ مُرَّ الزَمانِ وطابَت لهُ مَرارتُه - ليسَ شِرِّيرًا دائمًا - فقد قالَ لنا: "شُكرًا والحمدُ للَّه"
وبنيَّةٍ صادقةٍ - بالَ على الأعمِدة
ورطَّبَ الجو..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مجموعة: (بشر وتواريخ وأمكنة)
إلى (خالدية نحلوس) أُمّي الأولى
-----------------------
7- سيزيف
أنا سيزيف... الَّذي
ركَلَ صخرتَهُ اللعينةَ بكعبِ قدمِه - فصعِدَتِ الجبلَ كعَنزةٍ بريَّة
ووقَفَت على رأسِه - كغُرَّةِ شَعر.
/
أنا سيزيف الَّذي...أدارَ لكم ظهرَه - وراحَ يتصفَّحُ
عناوينَ جريدةٍ يوميَّة..
ـــــــــــ
8- طفل.. رجل
طِفلٌ
تسَلَّقَ سورًا - صعِدَ عليهِ جبل
استلقى على بَحرة - سقَطَت عليهِ
أرض.
/
مَن يصيحُ بهِ: "لا"
رَجُلٌ
يصفَعُ الأشجار - ويبصُقُ على العُشب..
ـــــــــــ
9- الاستيقاظُ باكرًا قليلًا
لأرى الدُنيا سَوداءَ
ابتعتُ مِنظارًا أسودَ - وغمَّستُ بالحِبرِ الصيني الأشجارَ والبُيوت
ولقَّنتُ لساني وأصابعي - نظَراتِ الفلاسفة.
/
في حينَ أنَّ الآخَرين - لَم يتكَلَّفوا شيئًا أكثر
منَ الاستيقاظ - باكرًا قليلًا..
ـــــــــــ
10- تكفيني شجرة
لأسقي زَرعي - لأستحِمَّ ثلاثَ مرَّاتٍ في النَّهار
وأغرَقَ ثلاثَ مرَّاتٍ في النَّهار - تكفيني نُقطةُ ماء.
/
لأفتحَ عينَيَّ طوالَ الوقت - لأشعُرَ بأنِّي على ما يُرام
ولو بدونِ امرأة - تكفيني شجَرة.
/
تكفيني حبَّةُ عِنَب - لأمتلئَ بالرَّغبة - وأسهرَ في الخَمَّارة
وأعودَ سَكرانًا إلى البيت - وقد ضيَّعتُ
كُلَّ تعبِ الشِتاء..
ـــــــــــ
11- القُبَّرةُ الذبيحة
خضَّبَ دمُ الحُريَّة - القُبَّرةِ الذَّبيحة - مياهَ الساقية.
/
وهكذا ابتدأت من ضِفافِها - وعلى صُدورِ مَن شرِبوا منها - رَحَلاتُ - شقائقِ النُعمان - الخاطِفة..
ـــــــــــ
12- رِعشةُ عُشبِكَ الدامي
إلى (أرنستوَ تشي جيفارا): "عندما رغِبوا أن يصنعوا عنهُ فيلمًا، لم يجدوا في هوليوود مُمثِّلًا بجمالِه"
مُنذُ سَبعِ سَنوات - يومَ تناهى إليَّ خبرُك
مُنذُ سبعِ سنواتٍ تقريبًا
كانَ علَيَّ أن أفتحَ صوتي عنك.
/
وكانَ أمامي - كي لا تختلطَ كلماتُهم بكلماتي
سبيلان
فإمَّا أن أقِفَ بعيدًا عنِ الجميع - وفي جَوقةٍ مُفردة
وإمَّا أن أنتظِرَ - ريثَما يُفرِغونَ تمامًا ما عندَهم
وأعزِفَ وحديَ - المَقطعَ الخِتامي للَّحن
...
وقد اخترتُ يا أرنستو تشي جيفارا
السَبيلَ الثاني.
/
والآن حينَ جاءَ دَوري - وعلَيَّ أن أبذُلَ كُلَّ جُهدي
أعلَم أنِّي لن أكونَ الأخير - فدائمًا سيبقى رَجُلٌ أفضلُ
ينتظِر
وأعلَم أيضًا - أنَّ كلِمتي الخاصَّةَ هذه - لن تستحِقَّ كما يبدو
كُلَّ تِلكَ السِنين.
/
يا تشي
ما أعرِفُهُ عن حياتِكَ - لا يعدو اسمَكَ - وبعضَ صُورِكَ
وقليلًا منَ اليوميَّاتِ والوَصايا
وما كانَ لي أن أعرِفَ هذا - إلَّا بعدَ أن قُتِلتَ
لكنَّ ما أعرِفهُ جيِّدًا
هوَ موتُكَ - موتُكَ النابِض - موتُكَ الحَيُّ
موتُكَ الَّذي لا يَموت
...
وفي احتِضارِكَ الرَبيعي - وفي احتِضارِكَ الشِتائي
في احتِضارِكَ اللَيليَ - والنَهاري
في احتِضارِكَ الَّذي أينعَ - مواسِمَ موتِك
موتِكَ المطر - موتِكَ الغابة - موتِكَ النَهر
أشياءُ كثيرةٌ تُقال
حتَّى التعابيرُ البالية - تعودُ وتَجِدُ بكَ براءتَها القديمة
وصِدقَها الجديد
لكنِّي يا تشي
سأكتفي بأن أدعَها لهم
ورُبَّما هذا بالمُقارنةِ - كافٍ بالنِسبةِ لي - غيرَ أنَّكَ لا ريبَ
تطلُبُ المزيد - وكما لا يوجدُ عُذرٌ لغيري
لا يوجدُ لي.
/
وهكذا يا تشي
حتَّى الكلماتُ الآتية - كلماتُ مَن هُم أفضلُ منِّي
والكلماتُ الَّتي ستستحِقُّ - كُلَّ ذلكَ الانتِظار
لن توفيكَ حقَّكَ - ولن تلمُسَ أبدًا
رِعشةَ عُشبِكَ الدامي..
ـــــــــــ
13- الأبطال
من راحاتِ الآباء - ومن أحواضِ النِساءِ الفائضة
تُختَتَمُ أقاصيصُ الحُبِّ التافِهة - وتُحصَدُ أحلامُ الأبطال
قبلَ الأوان.
/
بصُدورٍ ضيِّقة - وحناجِرَ جافَّة - يَحزِمُ الأبطالُ أعمارَهم
يغيبونَ في الأُفُق - وهم ينظُرونَ - إلى الخلف.
/
دونَ سابقِ معرِفة
الأبطال
يفترِشونَ أجسادَهم - يتنفَّسونَ زفيرَهم - وعُطورَ أقدامِهِم
وبأعيُنٍ جاحِظة - وأُنوفٍ نِصفِ مُغمَّضة - يُقَلِّبونَ - صفحاتِ الليل.
/
الأبطال
يضعونَ جانبًا رُؤوسَهُم - ما دامَ لا عملَ لها إلَّا أن تكونَ - مَحشوَّةً بذِكرياتِهِم
عُيونُهم يُغلِقونَها على صُورٍ - تحيا فيها ظِلالُهم
وآذانُهم يُرسِلونَها بعيدًا - لتسمعَ أصواتًا تُناديهم - بأوَّلِ أسمائِهِم.
/
بعيدًا عن قُلوبِهِم
الأبطال
داخِلَ معاطفِهِم - وتحتَ أغطيتِهِم - ينفُخونَ وينفُخونَ في قبضاتِهِم
ليُدفِئوا - أطرافَ الوطنِ الباردة.
/
الأبطال
لا يُصدِّقونَ ما يُقالُ عنهم - ولا حتَّى يُصدِّقونَ أنفُسَهم
وحينَ يأتي الوقتُ - لتبادُلِ الأكاذيبِ والفضائح - سُرعانَ ما يُخرِجونَ - كُلَّ ما عندَهم
يشتُمون - وتُفرقِعُ الضَّحِكاتُ بينَهم
وكُلُّ هَمِّهِم - أن يُبعِدوا ما بينَ أرجُلِهِم
ويدَعوها تمُرُّ
تلكَ الحُروبُ اللَعينة..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مجموعة: (الكُرهُ أعمى الحبُّ يرى)
14- شجَرَتانِ بِجِذعَينِ مُتلاصِقَين
في البَدءِ ارضي بنا هكذا - وبالصمت - وتظاهري أمامَ الناس - بالصبر.
/
يومًا سيكتشِفون - فجأةً - ولكن - بعدَ فَواتِ الوقت - أنَّنا شجَرتان - بأغصانٍ كثيفةٍ متشابكة - تُظلِّلُ جِذعَينا المُتلاصقَين..
ـــــــــــ
- عُصفورةُ السُنونو
رسمتُكِ بنَجمةٍ محترِقة - على شَرشَفِ سريري الأبيض - فغَضِبت أُمِّي وصاحت - ومرَّتِ الطائراتُ من فوقِ رأسي.
/
لا تصفَرِّي ولا تخضَرِّي - يا مجنونة - أنتِ عُصفورةُ السُنونو - الَّتي ينكَحُها المسلم - لبطنِها الأبيض - وعِطرِ قدمَيها..
ـــــــــــ
15- الوردةُ المُشتعِلة
لو كانَ علَيَّ أن أكونَ أميرًا ثُمَّ مَلِكًا - لأعلَنتُ الجمهوريَّة
ولو كانَ علَيَّ أن أكونَ فنَّانًا أو شاعِرًا - لَطعَنتُ لَوحاتي بالسِكِّينِ حتَّى الموت - ومزَّقتُ دفترَ قصائدي - ورقةً ورقة
وعَشِقتُ امرأةً واحِدة.
/
يا جَماعة - لو كانَ على المرأةِ - أن تُقيمَ مَعرَضًا - لكُلِّ ما لَديها من روائع - لَكانَ على حبيبتي أن تتنَزَّهَ عاريةً
وهيَ نائمةٌ على ساقي
كالوردةِ المشتعِلة..
ـــــــــــ
16- غداً عندما تخرجين
سَواعِدُهم ثَعابين - وعُيونُهم - مُعَبَّأةٌ حَصى
/
ولكن لا تخافي كثيرًا - غدًا عندما تخرُجين - للمرَّةِ الأخيرة
تنبُتُ لكِ أجنحة..
ـــــــــــ
17- الحب قاطع طريق
ليكُن الحُبُّ - قاطِعَ طريقِكِ - ليكُن الحُبُّ- خاطِفَكِ.
/
بيعي على عَجَلٍ - كُلَّ ما لَدَيكِ
الخفيفُ يذهبُ بعيدًا - ولا تتعَبُ قدَماه
لكنَّ هنالكَ ... أثقالَ القلب..
ـــــــــــ
18- شَفَتاكِ أجملُ من عينَي
منَ الخُمورِ - خَمريَ النبيذُ الأحمر
ومنَ النِساءِ - نَبيذيَ الأحمرُ
أنتِ.
/
لستُ أنا مَن تعرِفينَهُ بدونِكِ - ولستُ أنا - مَن يعرِفُ نفسَهُ معكِ - أقول:
"عندما يكونُ البشَرُ سعداء - لا طَعمَ للفلسفة - لا حاجةَ للذِكريات".
/
متاعِبي في الخارج - تدخُلينَ - أنتِ فقط
ويُغلَقُ الباب
شَفَتاكِ أجملُ من عينَي - وجسدُكِ أرقُّ من عَواطفي - أطمَعُ بالقليلِ منكِ - وأنتِ تسكُبينَ علَيَّ كُلَّ شيء - أقول:
"هكذا الملكُ يجلِسُ على المائدة - وهكذا الفقراءُ يدخُلونَ الجنَّة"..
ـــــــــــ
19- البَحَّارُ مقامرٌ حزين
هذا ما أقولُهُ - وأنا أخُطُّهُ - وأبصُمُ عليهِ
أمامَ الجميع
ويُمكِنُكِ - دونَ أيِّ تردُّدٍ - الأخذُ بهِ
كمرجِعٍ ودليل!
/
أمَّا ما تقولينَهُ عنِّي - فهوَ بَحر - وعدا عن كَونِ البحرِ ليسَ لهُ أمان
البَحَّارُ
مقامرٌ حزين..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مجموعة: (دعوةٌ خاصّة للجميع..عامّة لشخصٍ واحد)
20- أحلامٌ واقعية
(محمَّد كامل الخطيب)
تبدأ - بنوارِسَ ممزَّقة - وأحلامٍ أُصيبت بعَدوى
النِهاياتِ الواقعية.
/
وتنتهي - بأطفالٍ يشِبُّونَ بجُملةٍ واحدة - وأعشابٍ تنبُتُ على
سُطورٍ قاحلة - مُتَخطِّيًا على الدَوام... امرأة..
ـــــــــــ
21- البريء
(بندر عبد الحميد)
وأنتَ تخُطُّ - شُطآنًا ونُجومًا - موسيقى وأسماء - انتبِه - انتبِه أيُّها البَريء - كُلٌّ شيءٍ يُمزَّق - وخلفَ ظهرِ يدِكَ - تقِفُ وردة..
ـــــــــــ
22- وجهٌ واحدٌ ورأسان
(ميشيل كيلو)
لكلٍّ مِنَّا - رأسٌ واحدٌ - ووجهان
ولكَ - وجهٌ واحدٌ - ورأسان.
/
الثاني للشطرنجِ والوِسادة
والأولُ - بقَرنَي جاموسٍ وحشي - نبتا عليه
عَبرَ سنينٍ طوال - احترفتَ بها
نطاحَ الجُدران..
ـــــــــــ
23- شالٌ منَ الشَمس
(بوعلي ياسين)
استمِع إلى هذه القصيدة - إنَّها عن حَفنةٍ منَ الرِجال
احتفَلوا في ليلةِ رأسِ السَنة - بقضاءِ نَحبِهِم.
/
وأرجو ألا تضطرَّني لأن أُعيدَ - أكثرَ من مقطعينِ منها
مرَّةً بحُجَّةِ صوتيَ المُنخفض
ومرَّة بحُجَّةِ
سَمَعِكَ الضَعيف.
/
تُرى أيُّ مصيرٍ ينتظِرُكَ - وأنتَ تجلِسُ الآنَ أمامي - غيرَ مُبالٍ بشيءٍ سوى - بشالٍ منَ الشَمس
ألقتهُ النافذةُ - على
كَتِفَيك..
ـــــــــــ
24- بذاتِ الفَمِ والقلبِ واليدَين
(محمَّد سَيدة)
لغيري أن يُقاضيكَ - ولغيري أن يحكُمَ -
لكَ أم عليك.
/
ولي.. حينَ هذَيتَ وهذَيتَ عنها - وأقسمتَ إنَّكَ لا تعني
شيئًا آخرَ على الأرضِ - سِواها
أن أُصدِّق أنَّكَ
بذاتِ الفمِ - وذاتِ القلبِ - وذاتِ اليدَين
كُنتَ تعني - كُلَّ شيء..
ـــــــــــ
25- وِسادةُ التاريخ
(إلياس مُرقُص)
ها أنتَ تسنُدُ رأسَكَ التَعِبِ - على وِسادةِ التاريخ - يملأُ عينَيكَ الواسعتين - تَلوِّي واصطِفاقُ ذوائبِ الأشجار - بمُرورِ الرياح
وتدافُعُ الغُيومِ - في صفحةِ السماء.
/
ها أنتَ تُسَلِّمُ جسدَكَ التَعِب - إلى مجرى التاريخ - يمضي بكَ إلى بُحيراتٍ - راكدةٍ في النِسيان
أو رُبَّما
إلى مصبَّاتٍ صاخبة - يملأُ أُذُنَيكَ هديرُها
وقاسيةِ الانحِدار..
ـــــــــــ
26- سُيورُ أحذيةٍ خفيَّة
(محمَّد سَيدة)
مَن ينظُرُ إلى جَبينِكَ - يُمكِنهُ أن يرى
ستائرَ رَصاصيةً ثقيلة
تحجُبُ مشارِقَكَ البعيدة.
/
مَن ينظُر بعيدًا في عينَيكَ - يُمكِنهُ أن يرى
غُيومًا تُمطِرُ في حُلمِكَ
ونُجومًا تتهاوى على سريرِك.
/
ومَن يُطيلُ النَظرَ إلى فمِكَ - لا بُدَّ لهُ أن يرى
شفتَينِ يابستين - أحكمت إطباقَهُما
سُيورُ أحذيةٍ خفيَّة..
ـــــــــــ
27- المُرورُ من خَرمِ الإبرة
(فؤاد بَلَّة)
رفيعًا - تحلُمُ بالمُرورِ - من خَرمِ الإبرة
شاهرًا سَيفَي - شاربَيكَ المُشَعَّثين!
/
خفيفًا - لَم تُثقِل على أحد - وما أنَّ شيءٌ تحتَ نعلَيكَ
عِشتَ تنُطُّ وتلعب
حتَّى تلقَّفَتكَ - بشِدقِها - الأرض.
/
تُرابٌ قليلٌ - يكفيكَ..
ـــــــــــ
28- صباحاتٌ مُؤبَّدة
(رياض الصالح الحُسين)
لا أحسُدُكَ - على - سماءِ قميصِكَ الزرقاء - ولا على غُيومِ سقفِكَ الماطرة
من دُخانِ السَجائر - وبُخارِ أباريقِ الشاي.
/
لا أحسُدُكَ - على - نظَراتِكَ الطليقةِ - ولا على مُسدَّسِ فمِكَ الآلي -
ذي العَشرِ ضِحكات.
/
لا أحسُدُكَ - على شعرِكَ (بفتحِ الشينِ أو كسرِها) الرقيقِ المُنفلِش
ولا على نساءٍ لا حصرَ لعددِهِنّ - مجنوناتٍ بك.
/
لا أحسُدُكَ على - قَمرتِكَ القزحِيةِ في قلبِ العاصمة - ولا على
سريركَ العريضِ ذي الفِراشَين - والثلاثةِ أغطية.
/
لا... لا أحسُدُكَ على شيء - سوى صباحاتٍ مُؤبَّدةٍ
لا يُفسِدُها - صوتُ - مِذياع..
ـــــــــــــــــــــــــــــ
29- جريمةُ إلقاءِ تحيَّةِ الصَباح
(عادل محمود)
حتَّى وإن لَم تكشِف بقصائدِكَ الأُولى - عن اسمِكَ الحقيقي - فذَيلُكَ المُستعارُ - كانَ دليلًا كافيًا - لنُمسِكَ بكَ مُتلبِّسًا
بجَريمةِ - إلقاءِ تحيَّةِ الصَباح - على مَن كانا
يتبولانِ على بابِ بيتِكَ:
"باكِرًا على البيرة
يا شباب".
/
حتَّى وإن أبدلوا - بفضلِ غبائهِم الأزلي - بِدايةَ كُلِّ مقطعٍ
من أوَّلِ قصيدةٍ نشَرتَها - "للَّتي" - وطبعوا بدلًا عنها- "سِتِّي"
وبدَوتَ وكأنَّكَ - رجلٌ يَهيمُ غَرامًا بجَدَّتِه - فإنَّ ذلكَ لَم يُثبِط من َعزيمتِكَ - على إفهامِنا بأنَّ الشِعرَ - هوَ أن تُفاجئَ الجَميع
بتلكَ العاطفةِ المائعةِ - تحتَ قشرتِكَ القاسية.
/
حتَّى وإن لَم تمُت بعد! - فإن ذِكراكَ - باقيةٌ - باقية - كما حينَ يزورُ المُدُنَ المُحرَّرة - وُفودُ الدُولِ الصَديقة - والغُرباءُ ذَوو النَظَّاراتِ السود - "فيجِدونَ في استقبالِهِم - بِضعةَ كِلابٍ
ودُجاجاتٍ ومُحافظ"
/
حتَّى وإن نفثتَ الضَبابَ - على زُجاجِ النافذة - وكتبتَ
بإصبعٍ مُرتَجفة - فإنَّهُ ما زالَ يُقرأ
ما زالَ يُسمَع
"عودي"..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مجموعة: (داكن)
30- تيبَّسَت أصابعي وجفَّ فمي
زمنًا مكثتُ- تيبَّست أصابعي - وجفَّ فمي - أترقَّبُ صُعودَهُ درَجي.
/
جاءَني - ليسَ من بابٍ - ولا من نافذة - قلَبَ الطاولة - وحطَّمَ الكراسي - وارتمى في حُضني - كالزَوبعة.
ـــــــــــ
31- لن أفعلَ بالرَغمِ من رَجائكَ
في مقدوري أن أتحدَّثَ لكَ عن العالَم - أعرِفُ جميعَ النعوتِ الدارجة
وأعرِفُ أخرى لم تُستعمل بعد - لكنِّي لن أفعلَ
بالرَغمِ من طلبِكَ.
/
لا تحسَب أنِّي لا أستطيعُ - أن أُخبِرَكَ عن المستقبل
أعرِفُ تقريبًا - كُلَّ التوقُّعاتِ المعمَّمة
كما أعرِفُ توقُّعًا - أو توقُّعَين
لم يخطُرا على بالِ أحدٍ من قبل - لكنِّي لن أفعلَ
بالرَغمِ من رَجائكَ.
/
ما أسهلَ أن أقولَ لكَ - إنِّي رجلٌ ذو رؤيا
وأن أتنبأَ بهذا وذاكَ منَ الأحداث - فقد اضطررتُ لذلكَ يومًا
وعرَفتُ - وأنا مُغمَضُ العينَينِ
كيفَ أُصيبُ - الدائرةَ الحمراءَ من الهدف - لكنِّي لن أفعلَ
رَغمَ أنِّي أسمعُ
صُراخَكَ..
ـــــــــــ
32- أ تظُنُّ أنِّي أخافُ الموتَ
أ تظُنُّ أنِّي أخافُ الموتَ؟
انظُر - إنَّهُ يرتعُ في حديقتي - يقضُمُ ورودي
ويلعقُ دمَ أشجاري.
/
أ تظُنُّني أخافُ الموتَ؟
الواقفَ على شفرةِ سطوري - في ضجيجِ حُروفي
في سُكونِ نِقاطي.
/
انظُر
ألا تراهُ يكمُنُ لي - في البياضِ الَّذي
يُحيطُ بكلِماتي..
ـــــــــــ
33- خَطوةٌ أخيرة تِلوَ خطوةٍ أخيرة
مفتوحًا على مِصراعيه - أو مُغلقًا بحِجارةٍ صمَّاء
ذلكَ الأفقُ
لكنَّهُ... مازالَ إذن.
/
ذلكَ الطريقُ الَّذي - سوفَ يصِلُ بي إليه
أو ذلكَ الطريقُ الَّذي - سوفَ ينتهي - قبلَ أن أُطِلَّ على مشارفِه
لكنَّهُ… مازالَ إذن.
/
مازالَ إذن
كُلُّ شيءٍ أمامي - كما كانَ - وكما سيبقى دائمًا
وكلُّ ما علَيَّ - هوَ أن أُكمِلَ هذهِ - الخَطوةَ الأخيرة
الَّتي تقومُ بها - الآن - قدمايَ
دونَ أن أبالي غدًا - سِوى أن أُكمِلَ
الخَطوةَ - الأخيرةَ - التالية..
ـــــــــــ
34- يسرُّني أنَّكَ قد أتحتَ لي الفُرصةَ
يسرُّني أنَّكَ قد أتحتَ لي الفُرصةَ - لأُخبرَكَ لماذا أُكابدُ كُلَّ هذا العناء
كي أكونَ شاعرًا
أو فقط - لأكتُبَ هذهِ القصيدةَ
واسمح لي أن لا أُبيَّنَ لكَ - الفَرق.
/
وسوفَ بالمُقابلِ أجيبُكَ - بما أظُنُّهُ سوفَ يُرضيكَ - وما كانَ باستطاعتي أن أُبرِّرَ بهِ - كُلَّ جرائمي : "إنِّي أفعلُ ذلكَ - بدافعِ الشفقة - فلقد خُلِقَ الغِناءُ - لمساعدةِ البشر".
/
لكنَّ هذا لا يزيدُ - عن نِصفِ الحقيقةِ العاري - وهي تمضي بقدمَيها الداميتين - على الطريقِ - الَّتي يراها بها - الجميع
ويسمعُها بها - الجميع
ولا يصدِّقُها
أحد..
ـــــــــــ
35- أُحِبُّ هذهِ الأُغنية... تنتهي بشَهقة
القصيدةُ الَّتي أودعها (رياض الصالح الحسين) جيبَ
قميصِه، ووعدتُه أن أبقيها له، ولا أنشرَها أبدًا.
أُحِبُّ هذهِ الأُغنية - تبدأ بتنهيدة - ثُمَّ هَمهمة.
/
أُحِبُّ هذهِ الأُغنية - تأتي بشِفاهٍ زائغة - وعيونٍ مُغمَضة
وتذهبُ بعيونٍ زائغة - وشِفاهٍ مُغمَضة.
/
أُحِبُّ هذهِ الأُغنية - لا تعرِفُ من أينَ تأتي - لا تعرِفُ إلى أينَ تذهب
الَّتي تنتهي - بهَمهمة - ثُمَّ تَنهيدة ـ ثُمَّ ... شَهقة..
ـــــــــــ
36- إنَّها حياةٌ جميلة
مع (رياض صالح الحسين) على الطريقِ من غُرفةِ (بندر عبد
الحميد) في أحدِ فروعِ شارعِ العابد إلى غرفتِهِ في (الديوانيَّة).
هذهِ اللحظة - وعندَ هذا الشهيق - إنَّها حياةٌ جميلة.
/
هذا المساء - وعندَ هذهِ الخَطوة - إنَّها حياةٌ جميلة.
/
هذا الليل - ونحنُ نعبُرُ الجبَّانةَ بخُطىً واجفة - نسمَعُ أنفاسَ الموتى ... إنَّها حياةٌ جميلة..
ـــــــــــ
37- بينما كُنتُ لا أفعلُ شيئًا
بينما كنتُ لا أفعلُ شيئًا - رُحتُ أحاولُ كتابةَ هذهِ القصيدة
عن لا شيءَ أفكِّرُ به - رُحتُ أكتبُ هذهِ القصيدة
لا شيءَ في يديّ - لا شيءَ على حافَّةِ فمي.
/
بينما كنتُ لا أفعلُ شيئًا - كانَ الليلُ يوشِكُ أن ينقضي
وكانت السماءُ - قد أضاءَ خدَّها الشرقي - دمٌ معدني
نعم.. أستطيعُ القول - دمٌ أحمرُ معدني.
/
بينما كنتُ لا أفعلُ شيئًا - سمعتُ همهماتٍ غامضة - واصطفاقَ أجنحةٍ مضطربة - وأنينَ أبوابٍ ثقيلةٍ - تفتحُ - وتغلقُ.
/
كانَ هناكَ - بشرٌ
لمحتُهم ينسلُّونَ بصمتٍ - فوقَ أرصفةِ العَتمة
كأنَّهم يستعجلونَ النهار - أو ربَّما
يريدونَ اللَحاقَ بالليل..
ـــــــــــ
38- الشِعرُ عَسلُ الشُعوب
إلى (هو شي منه).. أيُّ تنطُّعٍ هذا؟
يقولونَ - الشِعرُ عسلُ الشعوب - وأنا أجدُ في هذا الشبيه
عدا عن ثقلِهِ ودَبقِهِ - ما يزيدُ الشِعرَ طراوةً وحلاوة.
/
وأفضِّلُ - وهذهِ أيضًا مبالغةٌ ظاهرة - لو يقولونَ
الشِعرُ خُبزُ الشُعوب
فهوَ أحيانًا - كما تعلمون - دونَكم الشَعيرُ والنُشارة
يُصنَعُ - منَ المرارةِ والغضب..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
39من مجموعة: (بولونيزات)
- إنَّهُ يعتبِرُ صَريرَ الأبوابِ موسيقى، وضجَّةَ الشارعِ في الصباحِ والظُهرِ والمساء، (سوناتا) موسيقيَّةً بثلاثِ حركات، فما بالُكِ بما يعتبِرُهُ شِعرًا!.
-----
39- الأُرثوذوكس لَيسوا مَسيحيّين
تصِلُ إلى مَسامِعي وكأنَّها أصواتٌ مُبهمةٌ في حُلمٍ أو هَمَساتُ بشرٍ يتدبَّرونَ في الخفاءِ مكيدةً ما.
/
تنبَّهتُ إليها مرّاتٍ عديدةً ولَم أُبالِ بها - كانَ ميعادُها يأتي في الساعةِ الأخيرةِ منَ الليل فتوقِظُني ثُمَّ تعيدُني إلى النوم بذاتِ الوقت.
/
كانَ لا بُدَّ يومًا أن يدفعَني الفُضولُ لأُغادِرَ فِراشي وأمُدَّ رأسي من شَقِّ البابِ فأرى شَبحينِ مُعتِمين تبيَّنتُ بمُساعدةِ شمعةٍ صغيرةٍ مثبَّتةٍ على حافَّةِ الرَفِّ الرُخاميِّ للمِرآةِ يمسَحُ ضوؤُها الخافتُ وجهيهِما بطبقةٍ رقيقةٍ منَ الزَيتِ أنَّهُما صاحبةُ البيتِ وحفيدتُها راكعتانِ أمامَ أيقونةِ العذراءِ والطِفلِ تُتمتِمانِ بالصلَوات.
/
عِندَ الفُطورِ قُلتِ لصاحِبةِ البَيتِ مُتودِّدًا: "تعلَمَينَ يا سيِّدتي أنَّني إنسانٌ مُسلِم ولكنَّ أُمّي الَّتي تُشبِهُكِ كثيرًا مَسيحيَّةٌ أُرثوذوكسيَّة" أجابَت السيِّدةُ المؤمِنةُ دونَ أدنى رَغبةٍ بالإساءة: "عفوًا يا سيِّد... الأرثوذوكس ليسوا مَسيحيين"..
ـــــــــــ
40- الفرقُ بينَ (برهانيه تازاكي) و(إلياس إي بيبي)
(برهانيه تازاكي) نحيلٌ ومتوسِّطُ الطول
(إلياس إي بيبي) نحيلٌ جدًا
ولكنَّهُ يزيدُ (برهانيه) طولًا ببعضِ السنتيمترات.
/
(برهانيه تازاكي) يقاربُ وزنُهُ خَمسةً وخَمسينَ كيلو غرامًا
(إلياس إي بيبي) أقلُّ أو أكثرُ من خَمسينَ كيلو غِرامًا ببعضِ الأوقيّات.
/
(إلياس إي بيبي) يرتدي سُترةً جِلديَّةً قصيرةً سوداء - ويضعُ على رأسِهِ قُبَّعةً رماديَّة
(برهانيه تازكي) يرتدي سُترةً جِلديَّةً قصيرةً سوداء - ظننتُ في بدايةِ معرِفتي بهما أنَّهما يتبادلانِها - ويطوِّقُ عُنقَهُ بلَفحةٍ رماديَّة.
/
(برهانيه تازاكي) فهدٌ أسودُ أفريقي
(إلياس إي بيبي) حيوانٌ أسودُ أفريقي - لا أعرِفُ نوعَهُ.
/
(إلياس إي بيبي) من (إثيوبيا)
(برهانيه تازاكي) من (إثيوبيا) - ولكِن من شَمالِها.
/
(برهانيه تازاكي) من (أسمَرة)
(إلياس إي بيبي) من (أديس أبابا).
/
(إلياس إي بيبي) شابٌّ قليلُ الكلام - يتكلَّمُ جُملةً أو جُملتينِ مع أصدقاءٍ قلائل - ليسَ منهم (برهانيه تازاكي)
(برهانيه تازاكي) - يُكثِرُ الكلامَ معَ الجميع - ولكِن ليسَ معَ (إلياس إي بيبي).
/
(برهانيه تازاكي) صديقي - يُسِرُّ لي بكُلِّ شيء
(إلياس إي بيبي) بدورِهِ صديقي - يُخبِرُني ببعضِ الأشياء
ولكنَّ
(برهانيه تازاكي) و(إلياس إي بيبي)
ليسا صديقين..
ـــــــــــ
41- لكِنَّ (مونذير) شاعر
"لا يعني إذا كُنتَ شابًا سمينًا - أنَّهُ ليسَ من حقِّكَ أن تُحِبَّ فتاةً نحيلة
ولا يعني إذا كُنتَ ذا قامةٍ قصيرة - أنَّهُ محظورٌ عليكَ أن تكونَ على علاقةٍ عاطفية مع فتاةٍ تزيدُكَ طولًا بعِدِّةٍ سنتيمترات
ولا يعني إذا كُنتَ بشِعًا - أنَّ الفتياتِ الجميلاتِ لسنَ من نصيبِك
بالعكس بالعكس بالعكس
الفتياتُ النحيلات - يلائمُهُنَّ أكثرَ الشُبّانُ ذوو البُطونِ المُنتفِخة
والفتياتُ السامقات - يفضِّلنَ الشُبّانَ الَّذينَ ليسوا على حظٍّ وافرٍ من طولِ القامة - أخبرتني بهذا فتاةٌ طويلةٌ وهي تعرضُ عني
أمّا الفتياتُ الجميلات - فليست مُصادفةً أن ترى أجملَ فتاةٍ في العالَم
تتأبَّطُ ذِراعَ أبشعَ شابٍ في العالَم"
يقولُ (باكو) لـصديقِهِ (تشيبو) مواسيًا.
/
"وإذا رغِبتَ أن تعرِفَ شخصاً قصيرًا وسمينًا وبَشِعًا تولَّهت بهِ لحدِّ الجُنونِ فتياتٌ نحيلاتٌ وطويلاتٌ ورائعاتُ الجمال... انظُر إلى صديقِنا (مونذير) - ها هو أمامَك بلحمِهِ وعظمِه"
يتفاصحُ (ريكاردو).
/
لا يرُدُّ (تشيبو) بأنَّ (مونذير) ليسَ قصيرًا ولا سمينًا ولا حتّى بَشِعًا لتلكَ الدرجةِ الَّتي يستطيعُ أن يقولَ الناسُ عنهُ بسُهولةٍ إنَّهُ شابٌ قصيرٌ وسمينُ وبَشِع - بل:
"ولكنَّ (مونذير) شاعر"..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مجموعة: (تجارب ناقصة) *
42- هالةُ (يهوذا)
(العشاءُ الأخير) ليوناردو دافنشي/1498/.
بعدَ أن غسَلَ بيدَيهِ المعروقتَينِ أقدامَ جميعِ تلاميذِه عادَ وألبسهُم صنادِلَهم واحدًا واحدًا وها هوَ يقومُ بآخرِ حيلِةٍ في جُعبتِه مُحوِّلًا لحمَهُ إلى خُبز ودمَهُ إلى خَمر.
/
ما لم ينتبه لهُ أحدٌ أنَّهُ عندما قالَ: "خذوا هذا جسدي فكلوه" وكسرَ رغيفَ الخُبز ووزَّعَ فُتاتَهُ عليهم "وهذا دمي فاشربوه" ساكبًا ما توفّرَ من خمرٍ قليلٍ في كؤوسِهم فلم يفزِ الواحدُ منهم بأكثرَ من جرعة - كانَ يعني أنَّ جسدَهُ سيُكسَر وأنَّ دمَهُ سيُراق.
/
الأجسامُ تتكلَّم - العيونُ تتكلَّم - الأيدي تتكلَّم - الأقدامُ أيضًا تتكلَّم - الأفواهُ
دقَّق جيِّدًا
وحدَها صامِتة.
/
أحدُهُم بسببِ تقواهُ الزائدةِ أضافَ على الطبعةِ الشعبيَّةِ المعلَّقةِ على حائطِ مطبخِ بيتِ (أبو ميَّالة) هالاتِ النورِ السماويِّ الَّتي بخلَ بها (دافينشي) على رأسِ المسيحِ وعلى رؤوسِ تلامذتِهِ الاثني عشرَ تِلميذًا - الذينَ توزَّعوا بإنصافٍ وعدلٍ على يَمينِهِ وعلى يَسارِه
...
(يهوذا) - مرَّةً ثانية - دقِّق جيدًا - هالتُهُ
تحتَ قدمَيه..
ـــــــــــ
43- مَن عرَفَ حقَّ قدرِك
(صباحُ الخير مسيو كوربيه) 1854 غوستاف كوربيه/ زيت.
متحف فابر - فرنسا
... بل التابِعُ الوضيعُ وحدَهُ من عرَفَ حقَّ قدرِك وطأطأَ رأسَهُ الصغيرَ خجَلًا وهو يشارِكُ الآخرينَ بتحيَّتِك.
/
ولَم تكُن أنتَ مَن يغُضُّ النظَرَ عن شيءٍ كهذا فلقد خصَصتَهُ بنظرةٍ عاتِبة وكأنَّكَ تقولُ لهُ:
"ليسَ على هذا النحوِ يتِمُّ لِقاءُ الأُخوة"..
ـــــــــــ
غيرُ مبالٍ بكُلِّ هذهِ الفروق
44-(كوربيه في سان بيلاجي) آخر صورةٍ شخصيَّةٍ
رسمَها غوستاف كوربيه لنفسِه.
بعد أن وجَّهَ الضَرَباتِ الأخيرةَ في رُسومِ الأسماكِ والعُجولِ والظِباءِ الذبيحة - جلَسَ بحافَّةِ مؤخَّرتِهِ على الإطارِ السُفليِّ البارزِ للنافذةِ ذاتِ القُضبانِ المُطلَّةِ مُباشرةً على ساحةِ السِجن.
/
الشُجيراتُ الثلاثُ المُصطفَّةُ على نَسَقٍ بجُذوعِها الرقيقةِ الطالعةِ من المَساكِبِ التُرابيَّةِ ذاتِ الحوافِ المرصوفةِ بالحجارةِ البيضاء لا يُمكنُ أن تعنيَ لهُ الشيءَ الكثير بل لا يُمكنُ أن تعنيَ لهُ شيئًا على الإطلاق لو كانَ يبغي مُقارنتَها بمناظرِ الأريافِ الطليقة والأحراجِ المُتوحِّشة الَّتي جابَها ورسمَ بعضًا منها.
/
غيرُ مبالٍ بكُلِّ هذهِ الفُروق - راحَ ينفُخُ من فُوَّهةِ غَليونِهِ دُخانَ نارٍ لا تُرى عاقِدًا حولَ عُنُقِهِ شالًا حريريًا ذا
حُمرةٍ صارخة..
ـــــــــــ
45-يا عاريةً دونَ عيب
(نجومٌ مُحتشِدةٌ في السماء). مجموعةُ الشاعرِ الوهميَّة.
يا متلألئةً
يا نجومًا تنظرُ دونَ أن تَرى
يا عيونَ عُميانٍ يبكون.
/
يا نجومًا تطُلُّ
دونَ أن تُنادي
دونَ أن تُشير
من فُوَّهةِ بئر.
/
عذراءٌ
لا تطالُكِ أصابِعُ
لا ترتوي منكِ شهوة
يا عاريةً
دونَ عيب
بينَ فخذَيِّ الليل..
ـــــــــــ
46-درسُ المطواة
(لمن تقرعُ الأجراس)
تعلَّمي من (بيلار) - كيفَ يجبُ أن تعتني بالرجُل - كيفَ تُعرِّضينَ كُلَّ صباحٍ فراشَهُ لأشعَّةِ الشمس - وكيفَ ترتُقينَ جوربَيه - وكيفَ بمزيدٍ من الدعك تغسِلينَ ياقةَ قميصه.
/
تعلَّمي من (بيلار) - كيفَ تحتفظينَ بهذهِ المطواة مخبَّأةً في جيبِ نَهدَيكِ - وكيفَ تُخرجينَها - عندَ الضرورة - من غِمدِها الحيِّ - وتمُرّينَ بها عميقًا - وهذا كُلُّ شيء - تحتَ الأُذُنِ مباشرةً - حيثُ شريانٌ كبيرٌ ليسَ في وسعِ أيَّةِ سكينٍ أن تُخطِئَه.
/
تعلَّمي من (بيلار) - فهيَ لن تبخُلَ في تعليمِكِ - كيفَ تتعلمينَ باقي الدُروسِ - لوحدِك..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مجموعة: (سيَرٌ مشبوهة)
46-يلمَعُ البحرُ كنَصلِ سكّين
مِثلُ تلكَ التعابير - التي خرجَت من فمِكَ يومًا - دونَ تدبيرٍ مِنك
نوعٌ من الارتجالِ الحُر - قامَ بِهِ لِسانُكَ بالتَواطؤ - مع سَقفِ حلقِكِ وشَفتَيك: (ذهبتُ إليكِ وعُدت - ولم أعرِفْ مصيري)
ونسيتَ ماذا كانتِ المناسبة - أو مَن هي المرأة - إن كانَ هُناكَ - بالنِسبةِ لكَ - امرأةٌ - أو مدينةٌ - أو أيُّ شيءٍ آخر - يُمكنُ أن يحمِلَ في طيَّاتِهِ - هذهِ الخُطورة
أو: (ثلاثُ رؤوسٍ مُعتمة - والبحرُ يلمعُ كنصلِ سكين)
أو: (رافقَها الغِناءُ حتّى الشُرفة التي ألقَت بنفسِها منها)
كلماتٌ كهذهِ توحي بأنكَ - غامِضٌ وسحيق - كما ينبغي على الشاعر - عندما يأخذونَ لهُ الصُورَ النِصفية - أن يبدو
شاعرٌ من وزنِ بابلو نيرودا - ذي الكِرشِ الكبيرِ المَحشو بالقصائد
أو على الأقلّ - نَزيه أبو عَفَش -العُصفورُ العاري الريش.
ـــــــــــ
47-طائرةٌ ورقيةٌ محطمةٌ على السرير
للشعراءِ سَطوةٌ تُثيرُ الحَنَقُ - يجلِسُ الواحدُ منهم - صامتًا دهرًا
نظَراتُهُ تعبُرُ الموجودات - وكأنهُ لا يراها
ثم فجأةً يتلوى ويفُحُّ أمامَكَ - وتَبرُقُ كالأفعى عيناه
وبقفزةٍ واحدةٍ - وكأنَّ هذا ما صارَ شاعرًا لأجلِهِ - يعتلي صَهوةَ كتفيكَ - فخذاهُ تعُصّانِ على رقبتِكَ - وساقاهُ ذاتا الأظلاف -تشُدّانِ مُتصالبتينِ على صَدرِكَ
إلاّ أنكَ تعرِفُ حدودَكَ - شاعرٌ من النوعِ الخفيف - أشبهُ بطائرةٍ ورقيةٍ - حَلَمتَ مِرارًا أنكَ مِثلُها - تطيرُ محلِّقًا - وحينَ تعصِفُ الريحُ
وينقطِعُ الخيط - تهُبُّ من نومِكِ هلِعًا
وكأنَّكَ تصدقُ حقًّا - أنكَ طائرةٌ ورقية - محطمة.
ـــــــــــ
48-مَلاكُ حيِّ الموتى
هذا إن كانَ من حقِّكَ استخدامُ الرُموز:
كيسُ القمامةِ الذي حَسِبتَه - جُثَّةً مشلوحةً على قارعةِ الطريق
الحمامةُ السوداءُ التي غمَّستَ ذَيلَها بالكحول - ثم أولَعتَ فيهِ النار - وأطلقتَها في غيهبِ الليل
حِصانُ وثور (يوسف عبدلكي)- أحدُهُما بقَرَ بطنَ الآخر بقَرنَيه - احزرْ مَن هو يا ذَكي
قوسُ قُزحٍ - بالأسودِ والأبيضِ والرمادي
شاهدَ ابنُكَ شجرةً مُثمِرةً - فصاحَ: (انظُري يا أمّي - البُرتقالاتُ معلقةٌ على الشجرة)
وشاهدتَ أنتَ شجرةَ سَروٍ - تنتصِبُ شاخِصةً على حَدبةِ التَلِّ - الذي اختارَهُ الموتى من أهلِ مدينتِكَ - منذُ قتلِهم أوَّلَ أبائهم - حيًّا لهم
فكتبتَ قصيدةً عن مَلاكٍ مُخيفٍ - جعَلَ من هذهِ السَروةِ - التي ترتَجِفُ - كُلَّما هَبَّ مِنها أو حَطَّ عليها - عُشًا لهُ
وكيفَ في غدوِهِ ورواحِهِ - تلبيةً لنِداءاتٍ بعيدة - وقضاءً لِمَهمّاتٍ مُبهمة - يعبُرُ في النهارِ ظِلُّهُ الأزرق - وفي الليلِ بريقُ جَناحَيهِ - على وجوهِ الموتى - فيرمِشونَ بعيونِهم - رَمشةً - يلمحونَهُ بها - بينما تفتَرُّ شِفاهُهم اليابسة - ببُطءٍ - على شكلِ ابتسامة.
ـــــــــــ
48-العِظةُ الفظةُ
لا تطلُبَ منّي أن أخبِرَك - العِبرةَ من اختلاقِ هذه الرواية - أحبُّ أن أكتُبَ الشعر - بداعِ المِزاحِ لا غير - رافضًا أوامرَ - آلِهةِ الشعرِ الجهِمة - التي اصطفَتني وأرسلَتني - لأحمِلَ مزاجَها الكئيب -إلى أخوتي البشر
منذ الساعةِ التي أبرقَ حولي - نورٌ من السماء - فسقَطتُ مُغشيًّا عليّ
لا أدري أينَ منَ الأرض - لا أدري كم منَ الوقت
حتى سمِعتُ رَعدًا قال لي - قُمْ
فقُمتُ ووجهي مُعفَّرٌ بالتُراب - ومضيتُ
مردِّدًا تعاليمَها في كلِّ خَطوةٍ - داعيًا لسُبُلِها في كلِّ كلمةٍ - زارعًا وصاياها على الرملِ والصخرِ - بانيًا كنائسِها على مفارِقِ - وعندَ نهاياتِ الطُرُقِ
أحمِلُها على ظهري - فتلفُّ ساقَيها كالنِطاقِ حولَ خَصري - وتشُدُّ بكفَّيها كالعِصابةِ - فوق عينَيّ
غارزةً أنيابَها في عُنُقي - تلكَ العِظةُ الفَظَّةُ"
(المعنى أولا ثم المُتعة - أنتَ الإنسان).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مجموعة: (الصدى الذي أخطأ)
49-تفَوَّقتَ علَيَّ في كلِّ شيءٍ دونَ أن تقومَ به
كُلُّ ما تستنِدُ إليهِ بمِرفقِكَ - يتداعى ويقعُ
كتبتَ أنتَ ذلكَ مرَّةً - وها أنذا أقولُهُ - وكأنَّهُ من اختِراعي.
/
ثُمَّ إن كُنتَ تذكرُ - قصيدتَكَ تلكَ عنِ الفتاةِ الَّتي سجنَتكَ - لمجردِ تركِها البابَ مفتوحًا - يا اللَّه … كم تمنيتُ ذلكَ لنفسي - القصيدةَ والفتاةَ والبابَ معًا - لكنَّكَ مزَّقتَ القصيدة - وتركتَ الفتاةَ لوحدِها - وأغلقتَ البابَ - وخرَجت.
/
أربعُ قصائدَ أو خمسٌ - كانت كافيةً - لتكشِفَ لكَ كم في الشِعرِ - من ادعاءٍ - وكم في الكلماتِ من حذلقة
وقبلةٌ واحدةٌ - كانت كافيةً ذاتَ فتاةٍ - لأن تزهَدَ - في كلِّ ما يطمَعُ بهِ الآخرون - من حُبٍّ - ومن شَهوة.
/
وبينما عُرِفتُ أنا - كما أفسحتَ لي لأبدو - شاعرًا - إلى هذهِ الدرجةِ من السوءِ
وعاشقًا - إلى هذا الحدِّ من النذالةِ
بقيتَ أنتَ - نبيًّا - ألقى نُبوءتَهُ - على رؤوسِ قِلَّةٍ من الأشهاد - وصعدَ الجبلَ - دونَ أن يلتفِتَ إلى أحد
أو مَلِكًا - تنَحَّى عن العرشِ - لواحدٍ من عامةِ الشعب
أو بطلًا مشهورًا باحتقارِهِ - للشِهرة
مُتفوِّقًا علَيَّ في كلِّ شيء - دونَ أن تقومَ به
عائدًا من حيثُ ألهثُ - كي أصِل - دونَ أن تُغادرَ مَطرحَك..
ـــــــــــ
50-تاجُ أشواكِ المَسيح
إلى (محمّد خير علاء الدين – الدسوقي 1948-2017): "آه.. هكذا إذن يُكتب الشِعر".
سوفَ تحتاجُ في الأمَدِ القَريب إلى أصيصٍ أكبَرَ حَجمًا فقد طالَ فَرعاها وانتَشرا ولا رَيبَ أنَّها بعدَ حينٍ ستُنبِتُ فُروعًا أُخرى ولكن ... حتَّى السنةِ القادِمة هذا الأصيصُ الصغيرُ سيبقى مُلائمًا.
/
في الصيفِ سوفَ تحتاجُ لقليلٍ منَ العِنايةِ لا أكثرَ من إبعادِها - ما أمكنَ - عن أقدامِ الأطفالِ وكُراتِهم - ورَيِّها - حينَ يتبقَّى شيءٌ منَ الماءِ في دَلوِ السِقاية
أمَّا في الشِتاء - فإنَّ بَردَهُ - وبعضَ قطراتِ المطَرِ الَّتي ستُصيبُها - وهيَ في أقصى الشُرفةِ - سوفَ يُساعِدُ على إهمالِها.
/
احذَري - إذا رغَبتِ يومًا بتَذكُّري - أن تجرَحي أحدَ أصابعِكِ - وأنتِ تنزعينَ عنها أوراقَها اليابِسة - أو تفُكِّينَ تَشابُكَ بعضِ فُروعِها - ذلِكَ أنَّهُ من طَبعِها - كَي تُجاري حُبَّنا - أن تُحيلَ بعضَ أوراقِها - إلى أشواكٍ - قَريبًا مِنَ الأزهار.
/
يومًا لم تكُن نَبتتَكِ المُفضَّلة - فقد رَغبتِ دائِمًا بالتَخلُّصِ منها - وإعطائها - لكُلِّ مَن أبدى إعجابًا - ولو قليلًا بها - وخطَرَ لهُ من بابِ المُجاملة - أن يُتمتِمَ كلِمةً أو كلِمتَينِ - إطراءً لها
ولكن - لأجلي - لأجلِ ما سمِعتِني أُردِّدُهُ مِرارًا - دونَ طائل - لأجلِ ما رأيتِني أنكَبُّ عليهِ سنواتٍ طويلةً - دونَ يأسٍ - ودونَ أمَل
أبقِها حيثُ هيَ - ولا تفعَلي شيئًا أكثرَ من أن تَمُرِّي عليها - من حينٍ إلى آخَر - بنظرتِكِ
نعم - أظُنُّ هذا سيكونُ كافيًا - لأنَّها رُبَّما لا تحتاجُ
لأيَّةِ عِناية..
ـــــــــــ
51-قطَفَ التُفَّاحةَ وصنَعَ مُربَّى
يأكُلُ البَطِّيخَ والقَمحَ والبَطاطا - مُزاحِمًا الخِرافَ والأبقار - لا بَل - يأكُلُ الخِرافَ والأبقار - مُزاحِمًا الذِئابَ والضِباع
الإنسان... انظُر إلى المِرآة - لَديهِ أنياب.
/
لأنَّهُ يستَطيعُ فِعلَ كُلِّ شَيء -يفعَلُ كُلَّ شَيء - لأنَّهُ فَقَط يستَطيع
يفعَل.
/
ينخُرُ الجِبال - وبالحِجارةِ يرفَعُ الجُدران ليقطَعَ طَريقَ الرِّيح -ويلوي عُنقَ النَّهر - يُحَطِّبُ الشَّجَر ويوقِدُ النار ليدفأَ ويسهُلَ عَليهِ بَلعُ اللَّحم - فيدُلُّ على وجودِهِ تَصاعُدُ الدُخان
الماءُ لم يروِ ظَمأه - فعصَرَ ضُروعَ الماشية ومَصَّ روحَ الكَرمة
بساقَيهِ يشُدُّ على ظُهورِ الدَواب - والثيرانُ من خَياشيمِها يجُرُّ بالسلاسِلِ
لَديهِ عَشرُ أصابِعَ - ليِّنةٌ وقصيرة - فالتقَطَ عَصًا وضرَبَ بِها
وكَي تكونَ ثقيلةً - ربَطَ طَرَفَها بحَجَر - ودبَّبَ رأسَها كشَوكةٍ
كَي تَكونَ جارِحة.
/
سَرقَ سِرَّ النار
حَلَّ لُغزَ المَطَر
شَقَّ طَريقَهُ بَينَ النُجوم - على يَمينِهِ الميزان - وعلى يَسارِهِ العَذراءُ والعَقرَب
كَشَفَ ألاعيبَ القَمَر
عَرَفَ من أينَ تُشرِقُ - وإلى أينَ تَغرُبُ الشمس
ولأنَّ الأشرِعةَ - آخِرُ ما يغيبُ في الأُفُقِ - عرَفَ أنَّ البَحرَ مُحدَّبٌ
والأرضَ كُرةٌ - وأنَّهُ إذا مَضى بذاتِ الاتِّجاهِ - سيعودُ حَتمًا- إلى حيثُ بدأ.
/
نادى المَخلوقاتَ بِأسمائها - وأدخَلَها الحَظائر
الجنَّةُ لم يكُن بها راضيًا - قطَفَ التُفَّاحةَ وصنَعَ مُربَّى
الأرضُ وجدَها ناقصة - فراحَ يكُدُّ ويشقى - ليجعَلَ منها - جنَّتَه.
/
بلسانِهِ أعطى لنفسِهِ - وَعدًا
وبقلبِهِ - أوفى بوَعدِهِ
وبيدِهِ - أخَذ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مجموعة (الشاي ليس بطيئًا)
"الشاي ليسَ بطيئًأ- نحنُ سريعون"
58- (ريلكه) أنا.. (منذر مصري) شَخصٌ آخَر
هوَ.. هوَ - كما في حُلمٍ قَديمٍ - يتكَرَّر.
/
في كُلِّ ما يُبقيهِ ماثِلًا - اللَّغوِ الَّذي يقودُهُ - إلى تَمامِ -فَحواه.
/
لَكِنَّ ذَلِكَ لَن يعني - لَمسَهُ باليَد - ولا حتَّى - القُدرَةَ على وَصفِه
لأنَّهُ - يُمكِنُ الجَزم - عِندَما لَم يقِرّ لهُ قَرار - مُستَغرِقًا - كُلَّ ما أُعطيَ من وَقت - وهو يُحاوِلُ اتِّخاذَ الهَيئَةِ المُناسِبَة - كانَ قَد ضَيَّعَ
احتِمالَ صُورتِه.
/
مُؤَكِّدًا كونَهُ - نُسخَةً طِبقَ الأصلِ عن نَفسِهِ - راحَ يغسِلُ فمَهُ - من أقوالِه
وقَد أدَّى إفراطُهُ في الحُبِّ - إلى إثارَةِ - كُلِّ عاطِفَةٍ لازِمَة - للقِيامِ بعَمَلٍ جَماعي - يُساهِمُ بهِ - حِرصًا على إنجازِهِ - بأفضَلِ وَجه - نِساءٌ - لَم يرتَدِينَ الثِّيابَ قَطّ - حُرِّمَت عَلَيهِنَّ - مُغادَرَةُ الأسِرَّةِ - إلَّا لقَضاءِ بَعضِ الحاجات
ومَلائكةٌ - من أصنافٍ شَتَّى - يتَنَقَّلُونَ حامِلينَ عَدوى أوبِئَتِهِم المُقَدَّسَة
وآلِهَةٌ ظَهَرَت لهُ مِرارًا - وقالَت لهُ شَيئًا -فلم يُعِرها انتِباهَه
وذَلِكَ لتَبديدِهِ في مَصيرٍ - أشدَّ مَحوًا من تَعاقُبِ - اللَّيلِ والنَّهار.
/
مُظَلِّلًا عَينَيهِ - من بَريقِ عُيونِ الآخرين - يغُذُّ السَيرَ - نَحوَ كُلِّ ما ينأى ويزوغ - ولا يجِدُ لنَفسِهِ مَوضِعًا
مُداويًا دَوارَه - بتَثبيتِ نَظرِهِ إلى نِقطةٍ ما أمامَه - حتَّى إنَّهُ حَسِبَ
الحائطَ - في ثَباتِهِ - طَريقًا.
/
الأُغنِياتُ - لَم تمنَحهُ الطُمَأنينَة - مُحافِظًا على ارتيابِهِ - بكُلِّ ما يُفصِحُ عن داخِلِه - في ذَلِكَ الانزِواء - الَّذي يُشبِهُ - يَدَ المَوتِ الفَارِغَةَ منَ الحَنينِ - ينمو ذاهِلًا - كعُشبٍ سامِقٍ - بينَ - حِجارَةِ الخَرائب.
/
بَعدَ أن استُقبِلَ بحَفاوةٍ شَديدة - التَفَتَ ولَم يجِد في البَيت - أحَدًا من أُولَئكَ الَّذينَ احتَشدوا في انتِظارِه
وبإصبَعِهِ المِروَحيَّةِ - رَسَمَ حُدودًا - في الفَضاءِ بينَهُ وبينَهُم - ثُمَّ راحَ يعَضُّ - على الهَواء - بأسنانِه.
/
لأنَّهُ - لَن يكونَ أبَدًا مَرئِيًّا - إلَّا بَعدَ انفِجاراتٍ ضَوئيَّةٍ - مُتَكَرِّرَةٍ كهذهِ
تبدو وكأنَّها سوفَ تستَنفِدُ - كُلَّ مادَّتِه
حينَ تتَلاشى مَعَ الأيَّام - قُدرَةُ صَلَواتِه - على شِفاءِ الآخَرين - حتَّى
من - مَرَضِه..
ـــــــــــ
53-أطعَنُهُ ولا أُريدُ قَتلَه
مُحيطًا بساعِدَيَّ عُنقَه - وبِساقَيَّ خَصرَه
دُونَ هذا - ولَو للَحظَةٍ - ما كُنتُ أستَطيعُ - التَعَلُّقَ به.
/
يختَرِعُ وَجهًا - لكُلِّ نَظرَة
وجِسمُهُ يُبَدِّلُهُ - بلَمسَة.
/
جِلدُهُ - أُحِسُّهُ - تارَةً رِيشًا - وتارَةً وَبرًا - وتارَةً حَراشِفَ.
/
اتَّصَلتُ بكِ البارِحَة - أجابَت على الهاتِف - أفعى
يا اللَّه الآن أذكُر - كُنتُ نِصفَ نائمٍ - حينَ سَمِعتُ فَحيحًا - وأنتِ تزحَفينَ - مُنسلَّةً - منَ السَرير.
/
بأُمِّ عَيني رَأيتُه - مساءَ دَعَوتِني إلى وَجارِكِ - فصَعِدتُ الدَرَجَ مُتَخَفِّيًا - كي لا يعرِفَني أحَد - لَكِنَّ قِطًّا أسوَدَ - كان يلحَقُني - حَريصًا أن يشُمَّ - بخَيشُومِهِ اللاَّمِعِ الدَقيق - موقِعَ كُلِّ خُطوةٍ من خُطُواتي - ثُمَّ يحُكَّهُ بمَخلبِهِ
وعِندَما دَخَلتُ منَ الباب - الَّذي ترَكتِهِ لي مُوارَبًا - تسَلَّلَ خَلفي - وبعدَ هذا اختَفى - وظَهَرتِ أنتِ.
/
يا اللَّه الآنَ أذكُر- كُنتُ كُلَّما ولَجتُكِ - تمُوئين.
/
دَمُكِ حَليبٌ - ولَحمُكِ تُفَّاح - لكنِّي يَومًا لَمَحتُ
تحتَ نَظرتِكِ - أنياب.
/
وإذا سَنَحَت لي فُرصَةٌ - وقَفَزتُ على ظَهرِهِ - أبغي - على غَفلَةٍ مِنهُ
رُكوبَه - بَعدَ هَزَّةٍ أو هَزَّتَين - يقلِبُني - وبِحَوافِرِه - يدوسُني.
/
وإذا أطعَمتُهُ بيَدي - يأكُلُ ويعَضُّ يَدي
وإذا خَطَرَ لي - أن أُلَقِّمَهُ الطَّعامَ بفَمي - يفتَحُ فمَهُ وينهَشُ - فمي.
/
كيفَ أُفهِمُكِ هذا؟
مرَّةً استَلَلتُ - سِكِّيني - ورُحتُ أطعَنُه - وأنا أقولُ لنَفسي - حتَّى وإن طَعَنتُهُ - وطَعَنتُهُ - وطَعَنتُهُ - فإنِّي لا أعني - حَتمًا - أنِّي أريدُ قتلَه..
ـــــــــــ
54-أجري خلف كلِّ شيءٍ يجري
أخافُ أن يأتي أحَدٌ - ويُجَنِّبَني هذهِ الحَرب - لأنِّي أحمِلُ اسمًا ميِّتًا
وقُوَّتي عاريَةٌ منَ - الأوراق.
/
أخافُ أن يأتي أحَدٌ - ويقولَ لي: "دَعِ المَوتَى يدفنونَ موتاهُم
واتبَعني"
أتبَعُهُ - مُجَرجِرًا موتاي في قَلبي.
/
يمضي وهوَ يُغنِّي: "لَم أُخلَق لأتبَعَ أحَدًا"
فأتبعُهُ وأنا أُغنِّي: "لَم أُخلَق لأتبعَ أحدًا".
/
لأنَّهُ ينقَصُني كُلُّ شَيء - أسُفُّ مطحونَ وَرَقِ الغَار - وفي كُلِّ مرَّةٍ
أنسى إذا أكَلتُ مِنهُ - يومًا ما سأموتُ .
/
أخافُ أن يأتي أحَدٌ - يعرِفُني من ظَهري بينَ الوُجوه - فيُناديني باسمِي ولَقَبي - ويمنَعُني أن أمضي - إلى حَيثُ "ثِيابي تُلائمُ الطَّقس".
/
قالَ إنَّهُ سيقطَعُ طَريقي - وأنا نَفسي - لا أعرِفُ طَريقي!
/
أذهَبُ - معَ - الهَواء.
/
أخافُ أن يأتي أحَدٌ - ويُمسِكَني من كُمِّ قَميصي - أو يتَعَلَّقَ بي من ساقي - فلا أستَطيعُ أن أجري - خَلفَ - كُلِّ شَيءٍ - يجري..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مجموعة: (من الصعب أن أبتكر صيفًا)
- عِندما كتبَ في أوَّلِ صفحةٍ من مُفكِّرتِهِ السنَويَّة: "تحتَ وَطأةِ إغواءٍ شديدٍ أن أكونَ حقيقيًّا"، وضعَت بالقلمِ الأحمرِ خطًّا مائلًا (/) بعدَ (أكونَ)، وكتبَت فوقَهُ (حَيوانًا).
55- على فَخذَيكِ كَدَماتٌ غامِضة
كيفَ لي أن أُسمِّيَكِ بينَ الطَرائد - وتَفوحُ منكِ رائحتانِ مُضادتانِ
كُلٌّ منهما تمضي إلى فُـتحةِ أَنف
وعلى فَخذَيكِ - كَدَماتٌ غامِضَة.
/
عِندما علِقتِ في شِراكي - الَّتي نصَبتُها على الدربِ الَّذي يأخُذُ اتِّجاهًا مُعاكِسًا لبيتي - كَي لا يخطُرَ ببالِ أحدٍ - أنَّها شِراكي
مُغمِّسًا رؤوسَ أوتادِها بالدمِ - ومُدلِّيًا من سُقوفِها - لَحمًا حيًّا - وفاكِهةً طازجة
ليسَ لكِ وحدَكِ - بل للجميعِ دونَ تَفرقة
لستُ أنا مَن يُمَيِّز.
/
افهَمي هذا بشُعورٍ مُرهَف - كظلامٍ يسيرُ على يَدَيه - في قاعٍ عَكِرٍ
لا قُدرةَ لي بِمَلَكاتِيَ الطبيعيَّة - على رَصدِه - أو مُلاحقةِ تغيُّراتِه
وهوَ يحَوِّلُ أظافِرَكِ - إلى شِفاه - إذا رَغِبتِ - أو بالعكس -
حينَ يتَبدَّلُ عُضوُكِ - من وَردَةٍ تَخجَلينَ منها - إلى شَوكةٍ تُدمي.
/
ترُشِّينَ مِلحًا فوقَ كُلِّ طبَقِ طعامٍ يُوضَعُ أمامَكِ - قَبلَ أن تذوقي طَعمَه - فما بالُكِ - بعدَ أن لَحَستِ جُرحي - واستغربتِ - حَلاوةَ دَمي..
ـــــــــــ
كلامٌ تقولُهُ لتسويقِ سمكِكَ الفاسِد
غالبًا ما ينتهي الأمرُ بتَردادِنا الكلَماتِ ذاتَها - وذلكَ لأنَّنا - بحُسنِ نيَّة
نظنُّ أنَّهُ شيءٌ يحتاجُ الآخرونَ لسماعِهِ.
/
يراودني قلقٌ أخرقُ - بأن ينقُلَ لي أحدُهُم خبرًا سيئًا عنكِ - بأنَّكِ غدوتِ عمياء - بسببِ مرضٍ لا يُصيبُ - عادةً - سِوى العجائزِ
أو أنَّكِ انزلقتِ بماءٍ مدلوقةٍ على بَلاطِ شُرفتِكم - ووقعتِ من الطابقِ الرابعِ - على إحدى عرَباتِ باعَةِ الخُضارِ - الَّذين يتجمَّعونَ أسفلَ بيتِكِ - عندَ زاويةِ الرصيفِ العريض- قبلَ انطلاقِهم إلى شوارعِ المدينةِ - فلم ينتُج عن هذا سِوى كَسرٍ بسيطٍ في الساقِ
ولأنِّي لا أذكر أيَّ ساقٍ - اليُمنى أمِ اليُسرى - فهذا كانَ دليلاً على أنِّي لستُ مُهتمًّا بما جرى لكِ - تصدِّقينَ - وتريدينَ منِّي أن أُصدِّقَ هذا عنِّي.
/
وقتَها - كم ستكونينَ بعيدةً عنِّي - عندما أحتاجُ لرُؤيةِ - كَم أنتِ قريبةٌ منَ الكمال.
/
"لم آتِ لأسمعَ منكَ كلامًا تقولُهُ لتسويقِ سمَكِكَ الفاسد" قالت بطلةُ الفيلم.
/
ما يتطلَّبُهُ الأمرُ هوَ أن أتوقَّفَ عن صباغِ الكلماتِ بالأسى - والاعتقادِ - بأنَّ الناسَ الَّذينَ يُسعِدُهم كونُهمُ مُجرَّدَ أحياءٍ - ليسوا سِوى حمقى
والعكوفُ على قراءةِ (ريلكة) في الفِراش - وتحليلُ الجُملِ وأشباهِها - وما إذا كانَ من المُحتمِ أنَّهُ يُصدِّقُ بوجودِ الملائكة - حتَّى يتوجَّهَ بكلامِهِ لها - وكأنَّها على مرمى حجَرٍ منهُ
ومن ثَمَّ أقومُ بكتابِةِ ما يعُجُّ بالتفاهات - على أملِ أن لا يقرأَهُ أحد.
/
تقولينَ إنَّ الحبَّ شيءٌ رخيص - بسببِ توفُّرِهِ في الأسواقِ - بكمَّياتٍ تفيضُ عن الحاجة - وتزيدُ عن الطلبِ
ولكن هذا يطرحُ السؤال: "كيفَ كانَ لنا في هذا الصخبِ الشديدِ أن سمِعنا - رنينَ الأغلالِ - وهي تنزِلُقُ خُلسَةً من معاصِمِنا؟".
/
سأبقى ما حَييتُ - نادِمًا على اختصاري آخرَ عِناقٍ بينَنا - ودَفعِكِ لمُغادرةِ المكانِ بأسرعِ ما يُمكن
وكأنَّهُ صحيحٌ - صحيحٌ تمامًا - ما كنتِ مهووسةً به دائمًا - بأنِّي على عَلاقةٍ مع امرأةٍ أُخرى - تنتظِرُ وراءَ البابِ
ما إن تخرُجي - حتَّى تدخُل..
ـــــــــــ
56-أنا وأنتِ شخصانِ مُختلِفان
أنا وأنتِ شَخصانِ مُختلِفان
أنتِ لا تنامينَ إلَّا والنافِذةُ مُشرَّعة
وأنا لا أستطيعُ النومَ إلَّا وكلَّ النوافذِ والأبوابِ مغلقة
أنا وأنتِ شَخصانِ مُختلِفان
أنتِ تكرهينَ الأقفاصَ والقُضبانَ
وأنا لا أستطيعُ العيشَ دونَ روحٍ صادحةٍ في القفص - أو مربوطةٍ من أحدِ قائميها بخيطٍ رفيعٍ عندَ رأسِ القصبة
أنا وأنتِ شَخصانِ مُختلِفان
أنتِ فَصلُكِ المفضَّلُ الصيفُ حيثُ الشمسُ والرمالُ والبحر
وأنا فَصليَ المفضَّلُ الشتاءُ فصلُ الأمطارِ والريحِ والبردِ
أنتِ تُفضِّلينَ الملابِسَ الخفيفةَ والزاهية الألوان
وأنا إذا مللتُ من ملابِسي الرَماديَّةِ أرتدي ملابِسي السَوداء
أنا وأنتِ شَخصانِ مُختلِفان
أنتِ تحتاجينَ بشدِّةٍ لفنجانِ قهوةٍ سوداءَ تبدأينَ بهِ نهارَك
أنا أطلبُ من النادلِ الشايَ بالحليبِ على الفطور
أنتِ تُحبِّينَ اللُحومَ - والمِلحَ الظاهرَ في الطعام
وأنا أُحِبُّ المُعجَّناتِ - وأعيشُ على تناولِ الحلوى والمرطَّبات
أنا وأنتِ شَخصانِ مُختلِفان
أنتِ تُسعِدُكِ النُزُهاتُ في الطبيعة
وأنا خُلِقتُ للتسَكُّعِ في الشوارعِ والجلوسِ في المقاهي لا أنتظِرُ أحدًا
أنا وأنتِ شَخصانِ مُختلِفان
أنتِ ترينَ أنَّ الحُبَّ حُرِّيَّةٌ وأجنِحةٌ وفيضٌ وعافية
أنا أرى أن الحُبَّ سَقمٌ وضعفٌ وحاجةٌ عاطفيَّة
أنا وأنتِ شَخصانِ مُختلِفان
أنت تُحبِّينَ القِطط
أنا أُحِبُّ الكلاب
أنا وأنتِ شَخصانِ مُختلِفان
أنتِ تُحبِّينَ السَفَرَ وتعتبرينَ البقاءَ في مكانٍ واحدٍ أشبهَ بالنُزولِ دَرَجةً إلى القبرِ
أنا أُسافرَ إلى أيِّ مكانٍ في الأرضِ جالسًا في مكانيَ لا أحُرِّكُ ساكِنًا - دونَ أن أتكلَّفَ أيَّ مالٍ أو جهد
أنا وأنتِ شَخصانِ مُختلِفان
أنتِ مولَعةٌ بـ(مارلون براندو) ولم تسمعي يومًا باسمِ (ستيف ماكوين)
أنا لا أكرَهُ (مارلون براندو) ولكِنِّي أُحِبُّ (همفري بوغارت) و(بول نيومان) وكأُمِّي أُحِبُّ (عمر الشريف)
أنا وأنتِ شَخصانِ مُختلِفان
أنتِ تُحبِّينَ التُفَّاحَ الأحمر
أنا أُحِبُّ التُفَّاحَ الأبيض
أنا وأنتِ شَخصانِ مُختلِفان
أنتِ تُحبِّينَ الرجالَ وتكرهينَ النِساءَ ما عدا أُمَّكِ - حتى إتَّكِ
وأنا أُحِبُّ النساءَ جميعَهنَّ ولا أرافقُ الرِجالَ إلَّا مُضطرًّا
أنا وأنتِ شَخصانِ مُختلِفان
أقولُ لكِ أُحِبُّ المُعاقينَ والمساكين
ترُدِّين: "إذا كُنتَ حقًّا تُحِبُّ المُعاقين والمساكين - لماذا لا تكونُ واحدًا منهم؟"
أنا وأنتِ شَخصانِ مُختلِفان
أنا أقولُ: "الحَسَناتُ تمحو السيِّئات"
أنتِ تقولينَ: "سيئةٌ واحدةٌ تمحو جميعَ الحسنات"
أنا وأنتِ شَخصانِ مُختلِفان
أنت ترينَ الغاياتِ تبرِّرُ الوسائل
أنا أرى الوسائلَ تبرِّرُ الغايات
أنا وأنتِ شَخصانِ مُختلِفان
أنا أقولُ: "الثورةُ من أجلِ الناس"
أنت تقولينَ: "الناسُ والملائكةُ والجانُ
جميعُهم
من أجلِ الثورة"..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مجموعة (قصائد من الحفرة)
57- الرجلُ الذي اسمُهُ (موسى)
"موسى المَصري ابنُ الماء، موسى السوري ابنُ النار"
قالَ الرجلُ الذي اسمُهُ (موسى)، إنّه رأى أفيالاً حديديَّةً يمتطيها مَرَدةٌ برؤوسٍ ذواتِ قرون، يقتحِمونَ أسوارَ المدينةِ، ويدخلونها من كلِّ طرَف، وقالَ إنَّهُ هبَطَ من مؤخِّراتِ الأفيالِ ضفادعُ خضراءُ مُبرقعة، ملأت الشوارعَ والأزِقَّة، وراحت تصعَدُ سلالمَ الأبنية، بقفزاتٍ مُتتالية، كلَّ خمسِ درَجاتِ أو ستٍّ، بقفزةٍ واحدة. ثم أنَّها ولجت البيوتَ من الفراغاتِ الضيِّقةِ في أسفلِ أبوابِـها، وشُقوقِ نوافذِها، وحتّى من عيونِ أقفالِها، وأخرجت جميعَ قاطنيها، بمن فيهم من الخَدمِ والبوابين، وصنعت أعشاشَها داخلَ غُرفِها وفوقَ أسرَّتها. وقال: إنَّ أُناساً عديدينَ خرّوا صرعى، يتخبَّطون في دمائهم، على مَبعدةِ أمتارٍ منه، وإنَّهُ رأى جُثثاً ملقاةً على حافَّاتِ الأرصفة، وأخرى غاطسةً في حاوياتِ القُمامة، ورغمَ أنَّهُ لم يرَ مِن قتلَهُم، لكِنَّهُ رأى بأمِّ عينِهِ، عنكبوتاً كبيرةً، ترمي أُنشوطةً من لُعابِها اللزجِ على صبيين، كانا يحاولانِ عُبورَ الشارعِ، من رصيفٍ إلى آخر، وبعدَ أن أحاطتهُما بشَبكةٍ كثيفةٍ من الخُيُوطٍ الحريريَّة، كالشَرنقة، بلعتهُما، وعبأتهُما في جَوفِها.
/
وقالَ الرجلُ الذي اسمُهُ (موسى)، إنَّهُ عادَ إلى المدينةِ، ثلاثَ عشَرَةَ مرَّة، بناءً على رجاءٍ من أقاربِه، ليتفقَّدَ أولئكَ الذين لم يستطيعوا اللَّحاقَ بهم، فرأى أُناساً يهرُبونَ صوبَ الجبالِ المُحيطة، ويلوذونَ بالكُهوفِ والمغاورِ أو ينتشرونَ في بساتينِ الزيتون، يقتاتونَ على السحالي والأعشابِ وأوراقِ الأشجار، ويشرَبونَ من جُورٍ صغيرةٍ موحِلة، تترقرقُ فيها مياهٌ أسِنة.
/
وقالَ موسى: إنَّ المدينةَ باتت مهجورة، وشوارِعُها مقفرة، حتَّى إنَّ القِططَ والكلابَ عافتها، وإنَّ الذينَ لم يستطيعوا الخروجَ من المدينة، إمّا قتلوا أو أخِذوا، نِصفَ عراةٍ، مُقيَّدي الأيديَ والأرجُل، ومَعصوبي الأعين، إلى أماكنَ لا يعرِفُها أحد. وقال موسى، إنَّهُ، أثناءَ عبورِهِ النهرَ، رأى دماً طافياً وسمكاً ميِّتاً يعومُ على ظهرِهِ فوقَ مياهِه، وطبقةً سوداءَ من سائلٍ لزجٍ تلتصقُ على الصخورِ والأعشابِ النابتةِ عندَ ضِفَّتَيه، وإنَّهُ تنتشرُ في الجوِّ رائحةٌ لم يشُمّ مِثلَها من قبل، رائحةٌ، زنخة، عفنة، خليطُ، موتٍ طازج، وموتٍ ينتُن.
/
الرجلُ الذي اسمُهُ (موسى) قال: إنَّ أهلَهُ، اليومَ، غُرباءٌ في مطارحَ غريبة، عالقونَ في فَجٍّ من الأرض، أرضٌ جرداءُ ذاتُ وِهادٍ وقِباب، ووُديانٍ وحُفرٍ، لو وجدوا فيها نَبتاً مُتناثراً، يكونُ شوكاً وحنظلاً، أهلُها يتكلَّمونَ بلسانٍ من حجر، يأتونَ لنا بالقليلٍ من الماءِ والطعام، وهم واقفونَ على مَبعدةٍ مِنَّا، وكأننا، يقولُ، نَـجِسونَ، أو مصابونَ بمرضٍ مَلعونٍ، قابلٍ للانتقالٍ والعَدوى.
/
يقتربُ منهم أُناسٌ، يدفعُهم الفُضول، وعدَمُ التصديق، ليروا الرجلَ الذي اسمُهُ (موسى)، وليسمعوا ما يقولُ، ويلمُسوه، ليلمُسوا كَتِفَه، أو راحتَه، أطرافَ أصابعِه، وإن لم يستطيعوا، فإنَّهُ يكفي أن يمدَّوا أيدِيَهُم، المفتوحةَ أصابِعُها إلى أقصاها، ويلمُسوا ذَيلَ ثوبِه.
يصيحُ (موسى) السوري، بعينَينِ جاحظتينِ تقدحانِ شرراً، وبصوتٍ من برقٍ ورعد:
"يا ربَّ الذُباب - يا ربَّ الضفادع - يا ربَّ الدَّم - يا ربَّ الجوع - يا ربَّ الحرب - يا ربَّ الوعد - يا ربَّ الرحمة ...
دع شعبي يحيا"..
ـــــــــــ
58-الشارعُ سَحَّابُ بِنطالِ الحاكم
ليسَ صحيحاً ما يقولُهُ (سليم بركات) في مقالِهِ: (تشريدُ المكانِ عن أسمائه): "السَّاحةُ شَبَحُ الحاكم". السَّاحة، وكلُّ التماثيلِ الجَصِّيةِ المدهونةِ بالنُحاسِ الأحمر، التي تقفُ في مركزِها تماماً، وكأنَّها سُرَّة، تشهَدُ بأنَّها.. بطنُ الحاكم، ومَعِدَتُهُ هيَ الأقبية، تخترقُ المجاريرُ سُقوفَها وجُدرانَها، التي هيَ أمعاؤه، تلُفُّ وتدورُ وتتمدَّدُ وتتقلَّصُ وتَـمَصُّ لهُ دمَ كلِّ شيء، ورُوحَ كلِّ شيء.
/
وليسَ صحيحاً أيضاً، أنَّ الشارعَ أزرارُ سُترةِ الحاكم، كيفَ لشاعرٍ يتمتعُ بمثلِ هذهِ السُمعةِ اللُغويَّةِ المُستطيرة، أن يُشبِّهَ الشارعَ الذي يتَّصِفُ بالاستطالةِ والامتدادِ والتواصلِ، بالأزرارِ التي لها شكلُ النِقاطِ والدوائر، صغُرت أم كبُرت!. الشارعُ.. يا شاعري، سِحَّابُ بِنطالِ الحاكم، انتبه لدِقَّةِ التشبيه، سِحَّااااب بِنطاااال الحاااااكم. لأنَّهُ مُنذُ زمنٍ بعيد، ما عادَ يصحُّ القولُ عن أيِّ حاكمٍ مُحترمٍ على وجهِ الأرض، إنَّهُ فكَّ أزرارَ بنطالِهِ وأخرجَ خُرطومَهُ العظيمَ وبالَ على الجماهير. أو لماذا المبالغة، أخرجَ خُرطومَهُ المتوسطَ الحجم، وبالَ، فقط، على رؤوسِ ثُلَّةٍ من المواطنين، سمحَ لهم رِجالُ الأمنِ أن يقترِبوا من المنَصَّةِ ويقِفوا على مسافةِ مُحدَّدةٍ لهم، وذلكَ ضمنَ الإعدادِ المسرحيِّ للمشهد، حيثُ أنَّهم بتوقيتٍ واحد، سلّموا اللافتاتِ التي كانوا يحمِلونَها إلى من كانوا يقِفون وراءَهم، وأشعلوا قُبَّعاتِـهم بعدَ أن رشُّوا عليها بعضَ الكحولِ الإيثيلي من الحوجلات البلاستيكيةِ البيضاءِ الصغيرةِ التي زوَّدوهم بها مُسبقاً. وقد أظهرت اللقطاتُ التلفزيونيةُ المُقرَّبةُ كيفَ راحَ المواطنونَ الصالحونَ يتزاحمونَ لوضعِ رؤوسِهم وهيَ تشتعل، ويخرُجُ منها اللهبُ الأزرقُ تحتَ شلَّالِ بولِ الحاكم، ليسَ بغايةِ إطفائها، كما قد يُـخيَّلُ لبعضِنا، بل لتتباركَ ببولِهِ، الذي، بأعجوبة، لم يتوقَّف، ولم يُوهَن، وظلَّ ينبعُ بنفسِ الغزارة، حتّى أطفأ الرؤوسَ المشتعلةَ على آخرِها، وخرَجَ الخبرُ، دونَ كثيرِ زخارف، أنَّ الحاكمُ سكبَ ما كانَ يحتويهِ إبريقُ الماءِ الكبيرِ الذي كانَ على المَنَصَّةِ، وأطفَأ حريقاً شبَّ بالصُّدفة بينَ الجماهير، والكلّ يعلمُ أنَّهُ لا عودَ ثُقابٍ واحدٍ يُمكنُ لهُ أن يشتعلَ بالصُّدفةِ تحتَ قُبَّعةِ الحاكم.
/
وهكذا ترى أنّي لا أجدُ مانِعاً من موافقتِك، بأنّ الدولةَ، برُمَّتِها، سماءً وأرضاً وبحراً، ومنَ النافلِ القولُ، حكومةً وشعباً، هي قُبَّعتُه. وبأنّ الأسماءَ والألقابَ والمناصبَ، لا أكثرَ من فُتاتِ خبزٍ يابسٍ يرمي بها إلى عصافيرِ الزمن، على حدِّ تعبيرِك.
/
ولكنْ.. عصفورُ ماذا؟ عصفورُ من!؟
...
عُصفورُهُ هوَ وحدُه - عُصفورُه - هوَ
الزمن..
ـــــــــــ
59-الشعبُ يريدُ الصعود إلى السماء
توقِظُني صيحةٌ، أحدٌ ما يصرخ: [الشعبُ يريدُ الصعود إلى السماء]. من يُصدِّق؟. أنا لا. لا بُدَّ أنَّني أحلُم. أو أنَّ الصوتَ قد دخَلَ من النافذة، لا ليسَ من النافذة، في بيتي ثلاثُ نوافذ، موصَدةٌ الآن جميعُها بسببِ الإصلاحات. زَوجتي تُقلِّبُ كعادتِها مَـحطَّاتِ التلفزيون، مَـحطَّةً تِلوَ الأخرى، لا أدري عمّاذا تبحث، وهيَ نفسُها لا تدري، تتوقَّفُ بُرهةً، لسببٍ ما، عندَ مَحطَّة ما، ثم تتابعُ تقليبَها، فلا ريبَ أنَّ الصيحةَ قد خرَجت من إحداها، بمحضِ الصُدفة.
/
أرنو إلى العُصفورِ الذي ابتعتُهُ مُنذُ فَترةٍ وجيزة، وهذا يعني أنني لستُ على وشكِ أن أسافر، وأصغي إلى تغريدِهِ المُتقطِّع، آملاً أن أجِدَ بهِ ما يسلوَ عنّي مُقابلَ كلِّ هذا الكدر، ويا لهُ من تشبيهٍ ساذجٍ، هذا الذي يخطُرُ على باليَ الآن، وهوَ أنَّني، في أفضلِ أحوالي، أنا هذا العصفورُ، وأنَّ بلدي، في جميعِ أحوالِهِ، هوَ هذا القفص. لكنَّ العُصفورَ، فجأةً، يُفسِدُ علي تأمُّلاتي، وأسمعُهُ يصيح: [الشعبُ يريدُ الصعود إلى السماء]. انظروا.. إلى أيّ حدٍّ من السذاجةِ يُمكنُ أن أصل.
/
أسألُها، فقط لأُزيلَ الشكَّ من رأسي، ما إن كانت قد سمعِت صيحةَ العصفور: [الشعبُ يريدُ الصعود إلى السماء]؟. تُـجيبُني دونما إبطاء، ليسَ بلا وليسَ بنعم، بل: "وماذا تريدُ من عُصفورٍ في القفصِ أن يصيح!؟".
/
أنحني فوقَ مَغسلةِ حَمَّامِ الغسيل، حيثُ تقبَعُ الغَسّالةُ المُضطربةُ عقلياً، مُنذُ أُسبوعٍ لم أغسِل وجهي، فلا صديقٌ ينتظِرُني، ولا مكانٌ قريبٌ أو بعيدٌ لأذهبَ إليه، إلاّ أنَّ هُناكَ من اتَّصلَ بي، وقال إنَّهُ سيزورُني، وسيشرَبُ عِندي فُنجانَ قهوة! مع أنَّهُ معروفٌ عنِّي تفضيلي الشاي دائماً، أسمعُ صوتاً كالحشرجة: [الشعبُ يريدُ الصعود إلى السماء]. أتراهُ اندلقَ من فُوَّهةِ صَنبورِ المَغسلةِ، أم من فُتحةِ البالوعة؟ لا يوجدُ فمٌ آخرُ في هذا الحَمَّام!. أم أنَّ الغَسَّالةَ التي لا تتوقفُ عن الدوران، مُطلِقةً من جُرنِها المجنونِ صيحاتِها الصاخبةَ، وهي تتظاهرُ بأنَّهُ لا علاقةَ لها بكلِّ ما يحصل. ولكن.. مَن تظُنُّ نفسَها تخدع؟.
/
أنا لا أريدُ شيئاً، لستُ في حاجةٍ لشيء، حققتُ في حياتي كلَّ أطماعي، أحببت، وتزوَّجت، وأنجبتُ أطفالاً، وعمِلتُ في وظيفةٍ حكوميةٍ مُحترَمةٍ ثلاثينَ عاماً، ورسمتُ وكتبتُ كلَّ ما مرَّ في خاطري من أفكارٍ تافهةٍ في أغلبِ الأحيان، وفي أحيانٍ نادرةٍ، عظيمة، لابدَّ أن أعترف، لأنَّه منَ الطبيعي، أن يكونَ هُناكَ من بينِ أُلوفِ الأفكار، ثلاثُ أفكارٍ أو فِكرتانِ أو فِكرةٌ واحدةٌ على الأقل، تبدو للبعضُ منَ الناس، أنَّها عظيمة، وأصدرتُ كلَّ ما كانَ في استطاعتي من المجموعاتِ الشعرية، الفنُّ الوحيدُ الذي لا أصيبُ ولا أخطئ إلاّ فيه، واسترحت. ماذا عسايّ أريدُ أكثر، أنا لا أريد إلاّ ما يريدُ الشعب، وقد سمِعتُهُ بكُلتا أُذُنَي، يصيحُ بملءِ شِدقِيه: [الشعبُ يريدُ الصعود إلى السماء].
/
بالنسبةِ لي، كشاعر، لا علاقةَ لهُ بالسياسة، ولم ينتمِ لحزبٍ من الأحزابِ في حياتِه، موالياً كان أم معارضاً، كما أنَّني لستُ عضواً في نقابةِ الفنّانين، ولا في اتِّحادِ الكتّاب، أقولُ لكُم إنّي، حقيقةً، لا أدري معنى هذهِ الصرخةِ، أو جدواها، لكنِّي، أعلمُ أنها جاءت بعدَ كلَّ تلكَ الصرخات: [حرية حرية حرية]، و[الشعب السوري ما بينذل]، و[ما في خوف بعد اليوم].. صرخةٌ واحدةٌ حصدتها كلَّها، صرخةٌ واحدةٌ حزمتها وشدّت عليها بقبضتِها، صرخةٌ واحدةٌ وكأنَّها أُمُّ كلِّ الصرخات، صرخةٌ واحدةٌ صرخَها الشعبُ، خرجت، كما يقولُ أولئكَ الذينَ يُحبّونَ التشبيهاتِ الشعرية، من فُرنِ القلب، ومرَّت في سبطانةِ الحُنجرة، صلَّبَتها وصكَّتها الأسنان، ثم دهنَتها ومسحتها بالرَضابِ الشِّفاه، ثم خرجت واضحةً كطلقةِ مسدسٍ من فُوَّهةِ الفم. وها أنذا واقفٌ على الشرفة، تُخفيني ظُلمةٌ دامسة، أسمعُ صيحةَ رجُلٍ لا أعرِفُ مَن هوَ، ولا أستطيعُ تمييزَ ملامِـحِه، لأنّهُ حتّى اليومَ ما يزالُ يختبِئُ خائفاً في داخلي: [الشعبُ يريدُ الصعود إلى السماء]..
مجلة ادب ونقد