رضا الباهي(من مواليد 1947 بالقيروان)، درس علم الاجتماع في باريس، وصنع أفلاما روائية مهمة هي: “شمس الضباع” عام 1977 الذي حاول من خلاله أن يتحدث عن ضعف الثقافة في مواجهة أخطبوط المال والأعمال، (عندما يشتري صيادو الأسماك السردين، فالدنيا ليست بخير) هذه هي مقولة الفيلم الأساسية، حيث يتوجه رضا الباهي مخرج (شمس الضباع) لطبيعة الحياة الاجتماعية والاقتصادية، في عوالم الإنتاج الموسمي تلك التي تعتمد أنماطها الإنتاجية على المواسم (المطر، السياحة)، بحيث سيؤدي ذلك إلى تبعيتها بشكل أو بآخر لعجلة الاقتصاد المتنامي والمتطور بحيث تبقى هي في موضع التابع المحنط والجامد لتلك العجلة، ففي قرية من قرى تونس الساحلية حيث يعيش صيادو الأسماك نجد ( الباهي ) وقد جمعنا بمجموعة كبيرة من الشخوص، تشكل شرائح ذلك الواقع الذي هو في صدد تصويره.
العمدة (الحاج إبراهيم) والأمين المقاتل القديم الذي انتهى مراقباً مذهولاً لما يجري حوله من أحداث، والطاهر البحار الذي يحمل نير التبعية والاستهلاك، ولهذه الشرائح الثلاث صفات تجعل منها العامة المحيطة بها، فالعمدة هو مانشيتات عريضة للتركيبة الاجتماعية واحد من لصوص ما قبل الثورة، ومع انتصار الثورة الوطنية يتحول إلى لص لما بعدها مستمراً في صعوده السلم الاجتماعي - الاقتصادي إلى أن أصبحت عجلة الحياة في تلك القرية مرهونة في قبضته، وهو الآن يملك المراكب ويحكم حياة الصيادين، في حين نجد الأمين وقد تحول إلى بائع صغير في دكان حقير تعيس يعمل إلى جانب البيع بالحدادة ليستطيع الاستمرار بالحياة، في الوقت الذي كان في أثناء الثورة الوطنية واحداً من مقاتليها وصانعيها، وهو الآن يقع في هامش الحياة مكتفياً بتذكير أهل القرية بالتواطآت التي أحاطت بالحاج إبراهيم وكيف استمر فيها إلى أن أصبح عمدة، ولا يزال شاهداً على هوية الاستعمار التي تتلون، وتبقى المحصلة واحدة. ليعود البحار إلى الوقوف في وجه العمدة والحكومة ولكن من خلال وضعه كفرد لا حركة جماعية في سياق النضال الجماعي.
وهكذا يؤكد الباهي مخرج الفيلم على الاختناقات الحتمية التي تتعرض لها هذه النماذج المتفردة من البشر.
في تلك القرية تعيش مجموعات من صيادي الأسماك بعضهم يعمل على مراكب الحاج إبراهيم والبعض الآخر يعمل على مراكبه الخاصة، حيث يحاول الحاج إبراهيم شراء المراكب التي يملكها البحارة الآخرون، قاصداً من وراء ذلك السيطرة الكاملة على البحر؛ حياتهم، ويظل يعيش المحاولة إلى أن تتقدم شركة ألمانية بعرض مفاده أن القرية هي قرية ساحلية، وأن تحويلها إلى فنادق وأماكن عامة للسياحة سيزيد من دخل أهل القرية ويحسن أحوالهم المعيشية، وبعد اقتناع الحاج إبراهيم بهذه المسألة وتأكده من أن له مكاسب شخصية كبيرة من ورائها، يقوم بشراء الأراضي المجاورة ويصبح مديراً للفندق، وتتحول أسماك البحارة إلى وجبات لفندقه مستخدماً (الكارت بلانش)، وهي الوثيقة الحكومية التي تعني الرضا التام عنه من قبل الحكومة، وبذلك يضع يده بيد الوالي والألمان للسيطرة التامة على الحياة في القرية وتعمير الفندق، مثبطاً أي حركة للتجارة في وجه تلك الشركة التي ستحولهم مستقبلاً من بحارة إلى (جراسين) أو بائعي زهور للسياح، غير أن المشروع يتم، وتتحول القرية إلى فنادق فخمة وملاه وكازينوهات، في حين يبقى أهل القرية خارج الشريط مهمتهم التحديق بما حولهم عن أمور مدهشة، وقيادة الحمير للسواح الذين لا يرون في هذه القرية غير الحمير، ولا يلبث الأمين المقاتل القديم أن يخضع ويصبح بائعاً للتحف الشرقية، مرتدياً ملابس المهرج، عوضاً عن ملابس الحداد، ويتحول راعي الغنم إلى صاحب بعير يؤجره للسواح لأخذ اللقطات على ظهره في بلاد النوق والجمال، وتستمر عدسات العاريات الهولنديات في أخذ اللقطات للمصلين أثناء صلاتهم، وبهذا تدمر كل شواهد تلك القرية وتتحول إلى صالة لعرض البشر (المتخلفين) الذين هم أهل القرية، في حين تكبر المأساة وبموازاتها تتسع أملاك العمدة والوالي والشركات الألمانية التي تقوم باستثمار البحر والقرية وساكنيها.
في عام 1984 أخرج فيلم “الملائكة” من بطولة كمال الشناوي ومديحة كامل، الذي يتحدث عن علاقة بين ممثلين شباب ورجل أعمال. ثم توالت أعماله الأخرى مثل “شمبانيا مرة” عام 1988 و«السنونو لا تموت في القدس” عام 1994، ثم فيلم “الذاكرة الموشومة” الذي استعاد فيه جزءاً من الذاكرة التونسية التي تعود إلى الخمسينات من القرن الماضي.. وكلها أشرطة سينمائية ولوحات اجتماعية دقيقة التصوير بعدها يستعيد رضا الباهي طفولته لفهم الحاضر على نحو أفضل، ويتساءل في فيلمه /صندوق عجب/ 2003 حول الزمن الذي ينقضي، وإطار الأمس واليوم الاجتماعي، وعملية الخلق الفني، لملم رضا الباهي ذكريات الطفولة وجمعها في فيلمه الذي يتحدث عن تجربته السينمائية التي تعود إلى الخمسينيات من القرن الماضي. كمحاولة بصرية لاستعادة ذاكرة، وكمسعى فني إلى فهم تفاصيل الخاص والعام. ف(صندوق عجب) مزيج سينمائي جميل بين الماضي من خلال شخصية رؤوف، السينمائي الشاب الذي وجد نفسه، وهو منكبّ على كتابة سيناريو فيلم جديد، في مواجهة الماضي والحكايات والتشعّبات الإنسانية والاجتماعية والثقافية التي رافقت تفتّح وعيه الطفولي على عالم مختلف، في مدينة القيروان، قبل أعوام طويلة. كأنه، بهذا كلّه، يُعيد رسم الذاكرة التي عرفها رضا الباهي نفسه، أو التي عاش بعضا منها في زمن مضى، السيناريو لرضا الباهي والتصوير لبورقوس أرفينتيس والموسيقى للطفي بوشناق، وشارك في التمثيل هشام رستم ولطفي بوشناق وماريان بسلار وعبد اللطيف كشيش. الفيلم يروي قصة مخرج تونسي، يعيش مع زوجته الفرنسية على ذكريات حب مضى، هي ضاقت ذرعاً بالحياة في تونس وتريد العودة إلى عالمها الفرنسي وهو يحاول جاهداً، الإبقاء على سعادة عرفها في أحضانها، وعندما طلبت منها إحدى القنوات التلفزيونية الأوروبية أن يعد شريطاً سينمائياً يتحدث عن علاقته بالسينما حينما كان طفلاً، يتلقى هذا العرض المثير الذي يراجع من خلال كتابته كل التفاصيل الصغيرة التي مرّ بها مذ كان طفلاً. إنها عودة إلى الماضي، عودة إلى ما يتوق، إلى ماضيه كطفل، وكعاشق معاً.
يبدأ الفيلم، في القيروان مسقط رأسه، حيث عاش في كنف والد متشدد وتقليدي، لكنه يهرب من المدرسة ملبياً نداءات خاله الفنية، وهو يعرض أفلاماً سينمائية بعضها حقيقي، والبعض الآخر مفبرك، ولكنها تجتذب جمهوراً واسعاً من الأطفال، وربما يكون رؤوف أبرزهم وأشدهم شوقاً إلى الشاشة الكبيرة، هذا الشوق الجامح إلى السينما فجرّه خاله الذي أهداه بمناسبة ختانه الهدية السحرية (صندوق عجب) والذي لاحظ فيه الطفل رؤوف حركات الحصان البطيئة التي تتغير تبعاً لحركة المقبض الدائرية، لتنتهي به إلى حركات الإغراء النسوية التي تؤديها إحدى الممثلات، وإن الخال هو الذي يفتح أبواباً مشرعة لهذا الطفل الذي بدأ يكتشف نفسه، واكتشاف العلاقة مع الجنس الآخر. لقد تعرض رؤوف إلى قمع شبه متواصل من أبيه الذي كان يفرض عليه حتى شرب الحليب الذي لا يحبه، من جانب آخر، فإن الفيلم يسلط الضوء على العلاقة بين الزوج التونسي والمرأة الفرنسية، ويكشف لنا عن مدى الغربة أو الضياع الذي تعيشه مع زوجها الذي أحبته يوم كانت مجنونة على حد قولها، وركضت خلف نداءات قلبها المستهام بالحبيب الأول الذي باتت لا تطيقه الآن..
يكفي فتح (صندوق عجب) علبة الصور التي تتحرك وعلبة الذكريات المنتفضة التي لا يمكن لمسها، لتتبدى جرأة المخرج وإيمانه العميق بالأحلام القديمة من أجل تقبل أحلام الآخرين.في فيلمه (دايماً براندو) بطل الفيلم الأميركي الذي يصور في تونس يدور في القرية ويحاول اكتشاف الطبيعة ويراقب سكان القرية، وفجأة يتوقف عند رؤية أنيس فيشير إليه محدثا أحد مرافقيه “أنظر إليه، ألا يذكّرك بأحد؟”. “إنه يشبه مارلون براندو”.
ولم يكن هذا الأميركي سوى رجل شاذ كان يسعى بكل هذا الوهم الذي صنعه في مخيلة الشاب التونسي إلى تحقيق رغباته الشخصية. وعندما تضيق السبل أمام “أنيس” في الهجرة إلى أميركا بسبب قلة المال تبيع “زينة” خطيبته جسدها إلى صاحب دكان في القرية يعشقها مقابل توفير المال لحبيبها في السفر بعدما فشلت في ثنيه عن ذلك. وينتهي الأمر بأنيس مع مجموعة من (الحراقة) الحالمين بالهجرة على قارب يتجه إلى إيطاليا فيغرق في البحر مع رفاق الهجرة.محمد عبيدو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق