افلامي تختزل حياة الشخصية إلى لحظاتها الدرامية القصوى
محمد عبيدو
محمد عبيدو
/المخرج السينمائيّ جيم جارموش يعد من الرواد الكبار في السينما المستقلة الامريكية مشهور بسلوكه المساراتِ الصعبة. منذ فيلمه "أغرب من الجنة" الذي أخرجه عام 1984، وصوّره بالأبيض والأسود ولعب دور البطولة فيه جون لوري، الموسيقيّ ذو الشهرة الواسعة والمنزلة الرفيعة في الأوساط الفنية.
منذ ذلك الفيلم أخذ جارموش يتّبِع بإخراج أفلام لا تلائم أحداً سواه. ّ فهو أكثر المخرجين الأميركيين استقلالية وعناداً. ولد جارموش فى 22 - 1 - 1953 بولاية أوهايو الأمريكية ، وانتقل وهو فى السابعة عشرة إلى نيويورك حيث درس اللغة الإنجليزية وآدابها من جامعة كولومبيا ، ثم درس السينما في جامعة نيويورك. و تابع دراسته بعد ذلك في المعهد السينمائي بباريس. وفى عام 1980 عمل مساعد مخرج فى فيلم "برق على ماء" للمخرجين نيكولاس راي و فيم فيندرز، ثم أخرج فيلمه الأول "أجازة لا تنتهي" عام 1982. والذي رصد لصنعه 15000 دولار فقط لاغير. وبعد جهود ونشاطات متواصلة التقى جيم بمنتج ألماني باسم /أوتو غروكينبرغر/ الذي فسح له المجال ليعمل بمنتهى الحرية ووفر له التحكم الفني الكامل على أعماله السينمائية. كانت النتيجة فيلمه المثير (أغرب من الجنة) الذي صاغه نقلاً عن أغنية سكريمر جي هوكينز (أضع التعويذة عليك) وقد فاز بجائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان كان السينمائي 1984.. ومنذ فوزالفيلم في كان، استطاع جارموش أنْ يحتلّ مكانة في عالم ضمن ضوابط الإبداع والتسويق لا يحلم بها إلاّ القليلون من المخرجين المستقلين.
شارك في عدد من الأفلام سواء بالتصويرأو كتابة الموسيقى أو الإنتاج أو المونتاج أو التمثيل ، لكن عمله الرئيسى تركز في الإخراج وكتابة السيناريو حيث أخرج 15 فيلما كتب السيناريو ل 13 فيلما منها. حصل على 15 جائزة هامة منها الجائزة الكبرى فى مهرجان كان عن فيلم "أزهار محطمة" ، والسعفة الذهبية عام 1986 عن فيلم "سقوط بحكم القانون".
وافلام جارموش تحمل اهتماما واضحا بالثقافات الاصلية القديمة مثل الهندية واليابانية والصينية .: واذا كان جارموش نموذجاً للفنان الهامشي، فإن القدر كان قاسياً على شخصياته ايضاً، الى ان نالت نصيبها من الاستبعاد والاقصاء عن خيرات الدنيا ونعمها. من "رجل ميت" (1994) الى "غوست دوغ" (1999) مروراً بـ"قطار غامض" (1989)، شقّت مسألة البحث عن الهوية طريقها في سينما هذا الخلاّق المنهمك بتفكيك خفايا الطبيعة الانسانية. فشل التواصل هو ما تتفق عليه شخوصه، برغم اختلافها الظاهري وتنوع حوافزها، حتى بعضها يخاطب بعضها الآخر، كل بلغته، ومع ذلك يصل الطرفان الى تفاهم مشترك
تقع أحداث فيلم «الرجل الميت» في الغرب الأميركي في العام 1875، وهو من أفلام رعاة البقر، ولكنه من الأفلام الغريبة من هذا النوع السينمائي. تدور قصة الفيلم حول شاب يدعى وليام بليك يعمل محاسباً في مدينة كليفلاند ويتلقى عرضاً للعمل في مصنع للأدوات المعدنية ببلدة نائية في الغرب الأميركي. وبعد القيام برحلة طويلة ومضنية بالقطار يصل إلى تلك البلدة ليكتشف أن الوظيفة الموعودة له قد أعطيت لغيره. ويتعرف هذا الشاب على شابة جميلة ويقضي الليلة معها دون أن يعلم أنها مخطوبة لابن صاحب المصنع الذي يفاجئهما ويطلق النار عليهما ويقتل الفتاة ويصيب الشاب بطلقة في صدره، ويقوم الشاب بدوره بقتل ابن صاحب المصنع. وبعد ذلك يقوم الشاب بسرقة حصان تابع لصاحب المصنع ويلوذ بالفرار. ويستأجر صاحب المصنع ثلاثة من عتاة المجرمين لمطاردة الشاب الفار وقتله أو إعادته حياً واسترجاع الحصان. وعندما يصحو الشاب من النوم يجد هندياً أحمر يحاول إخراج الرصاصة من صدره. ونعلم أن الهندي الأحمر سبق أن درس في إنجلترا وأنه معجب بالشاعر الإنجليزي وليام بليك، ويعتقد أن الشاب الذي يحمل اسم وليام بليك هو الشاعر نفسه. ويبدأ الاثنان معاً رحلة طويلة تتخللها مجموعة من الشخصيات الغريبة التي تطاردهما والتي يحاولان مراوغتها، ويمر الاثنان بسلسلة من الأحداث التي تجمع بين العنف ومشاعر القسوة والعطف والحنان والإيمان في رحلتهم الجسدية والروحية نحو المجهول. يحاول فيها المخرج أن يسبر أغوار العلاقات الاجتماعية في الغرب الأمريكي النائي، البعيد عن مظاهر التقدم والحضارة الأمريكية.
لعل هذا الفيلم، يمثل المختلف والجديد في السينما الأمريكية، حاملا في مكنونه مأساة الهنود الحمر، من خلال تسليط الضوء على شخصية الهندي الأحمر الضخم، الذي يسرد لبليك طفولته البائسة، المليئة بصخب العنصرية والتفريق العنصري بين الهندي الأحمر والأمريكي الأوروبي.
الموسيقى التصويرية ، أضافت للفيلم عنصر الجذب، والجمال، وما زاد من معجبيه، هو تمكن الممثلين وعلى رأسهم الممثل جوني ديب وجاري فارمر في دور الهندي الأحمر.
فيلمه "قطار غامض" سَبَرَ من خلاله أسطورة مدينة ممفيس وعالم الروك أند رول فيها.. . اما فيلمه "غوست دوغ " فيدور حول امريكي اسود يعمل قاتلا مأجورا لدى رجل مافيا على طريقة واخلاق الساموراي اليابانية ويمزج بين الاسلحة المتطورة وبين تربية الحمام الزاجل واستخدامه في المراسلة مع مستأجريه .. ويصف ويتس افلام جارموش بأنها "تشبه نصوص الهايكو". مثلما يلتمع في الذهن كثيرين من المصورين الفوتوغرافيين الأميركيين العريقين أمثال روبرت فرانك، وويليام إيغلستون، يلتمع كذلك جارموش بوصفه ينظر إلى أميركا بعيني اللامنتمي، جاعلاً بذلك المألوف غريباً، والإعتياديّ مبهماً. وعلاوة على ذلك، يذهب في أفلامه إلى تصوير الذين يتنقلون ويسافرون بلا أيّ هدف ومن أجل دوافع خاطئة، نحو مصائر غير مرسومة سلفاً كما في سينما النمط السائد في هوليوود. "أنني مهتم باللحظات غير الدرامية من الحياة"، يقول جارموش، "ولا يجذبني أنْ أعمل أفلاماً حول الدراما؛ فهي تختزل حياة الشخصية إلى لحظاتها الدرامية القصوى التي يمكن الإمساك بها من سيرة تلك الحياة برمتها، وإذا كان من المفروض أنْ يعطيَنا ذلك صورة لشخص ما فإنني لا أستطيع أنْ أرسم تلك الصورة. كلّ هذا يبدو خطأً بالنسبة لي".
أنّ جارموش استطاع أنْ يظلّ على الدوام رافضاً العُروضَ المالية السخية من قِبَل الإستوديوهات الكبيرة في سبيل الضوابط والمعايير الإبداعية. وهو يحتلّ الآن مكانة متفردة في السينما الأميركية المستقلة بعدما أنجز افلامه بطريقته الخاصة كلياً. العناد الذي يتسم به جارموش قدم العام الماضي عاشر أفلامه "زهور محطمة"، الذي لا يبتعد منذ الوهلة الأولى عن طبيعة افلامه التي لا تخلو من غرابة في شخصياته واجوائه الهادئة. حيث تجد نفسك فيه خلال تذوقك الحوادث الشائقة التي يقدمها جارموش لنا لقطةً لقطة: الانتظار الطويل قبل بلوغ الذروة. فالافتتاح لا يستمد اهميته ودلالاته الا بما نراه في نصف الفيلم، وهذا النصف ايضاً لا يسوّغ وجوده الا التتمة المنتظرة. هذه هي البنية الدرامية التي يعتمدها جارموش: يهندس فيلمه كما لو كان يشيّد كاتدرائية، قطعةً قطعة، الى ان تلتقي اجزاء التحفة في صورتها النهائية المبهرة.. فيلم جارموش يرسم بورتريه لاميركا في دهاليزها ومتاهاتها وعوالمها المختلفة. ازهار العنوان المتكسرة ليست الا اشارة الى الشتات العائلي والاجتماعي، ورمزاً لاستحالة تجميع هذه الازهار في باقة واحدة
جرياً على عادة تكرّست في سينماه، يتمحور " زهور محطمة " على شخصية يتيمة هي بمنزلة الدينامو الذي يشعل محرك العمل. لا حوادث عند غيابه! ً يبدأ كل شيء في مدينة اميركية نائية ومجهولة. ذات صباح عابر بيل موراي الذي يؤدي دور العازب «دون جونسن» شبه المتقاعد الذي أربى على الخمسين، ويعيش هادئاً متأملاً ولم تعد لديه أي رغبة سوى فى الصمت والعيش في حالة سكون صوفى داخل بيته،ولا يكاد يطلب الآن من الدنيا شيئاً بعدما جمع ثروة من عمله في أجهزة الكومبيوتر،. وكشخصيات جارموش السينمائية الاخرى، ليس "دون" من أصحاب الفعل. بل هو ينجرف مع التيار. يعيش الحاضر من دون ايمان بقدرته على تغييره. ليس من موقع يأس¬فشخصياته لا تملك خطاباً¬ انما انطلاقاً من قدر الانسان الذي اعتاد عيش الحاضر وأقصى امانيه الامساك باللحظة. هكذا يسلم بهجر صديقته له من دون ان نعرف السبب سوى انها تنعته بالدونجوان المسن. بعد رحيلها، يقضى نهاراته ولياليه على كنبة اما نائماً او جالساً بدون حراك. هل هي علامات افتقاده لها؟ ولكنه يؤكد لجاره "وينستن" انه لا يعرف اذا كان حزيناً على رحيلها. هل هي اذاً علامات الضجر؟ او الانغماس الشخصي؟ او نوع من الرضى؟ حتى ما يبدو انه سيكون نقطة تحول في حياته. فبينما هو يعيش وحدته اذا برسالة تصله من امرأة لم توقعها، زهرية اللون، مكتوبة على آلة كاتبة. تخبره فيها ان له منها ولداً في نحو العشرين الآن، انطلق ليبحث عن أبيه... أي عنه.. في البداية لايهتم للأمر ، فهو الـ"دون جوان" المتعب الذي يخيّل الينا انه ابكى الكثيرات، يستصعب العودة الى الخلف والمشي على خطى ماضيه "غير المشرّف". ولكن جاره المهووس بحل الالغازفي إشارة واضحة الى تلفزيون الواقع وأفلام الالغاز، ينظم له رحلة لزيارة خمس من عشيقاته في محاولة لاكتشاف من هي صاحبة الرسالة. ويحثه على زيارة كل واحدة منهن وهو يحمل باقة زهور وردية ، ليستشف من استجاباتهن الحقيقة ويعرف من هي أم ابنه. يصطحب دون معه في رحلته قرصاً مدمجاً يحتوي على الأغاني والموسيقا كان قد أخذه من وينستون بهدف الاستماع إليها خلال رحلة البحث عن النسوة الأربع. ويقوده ذلك الى رحلة حول البلاد ليلتقي بنساء ارتبط بهن في يوم ما، ورحلة اخرى في اسرار الماضي المنسي هكذا يتحول الفيلم فيلم طريق ويتخذ كل جزء صفاته الخاصة. كل زيارة الى بيت واحدة من عشيقاته هي بمثابة فيلم قصير. وكل زيارة تؤثر فيهن من دون ان تؤثر فيه. انه هناك فقط من اجل البحث عن ورق رسائل زهري كالذي كتبت عليه الرسالة وآلة كاتبة او اي شيء يدل على ان صاحبة المنزل هي المرسلة. ولكن دوافع "دون" الى القيام بالرحلة تبقى غامضة. فهو حتماً ليس مؤمناً بانه سيجد حلاً للغز لأنه في الأصل غير مؤمن بوجود لغز بعكس جاره. لعله اراد ان يغير موقعه على الكنبة. حى انه لا يبدو محتفظاً بأية مشاعر لنسائه القدامى. ولكنه كما قلنا يمشي مع التيار. وهكذا يتحول الفيلم من بحث فتى عن ابيه، الى بحث الأب عن الأم. او لنقل بالأحرى، بحثه عن ماضيه، من خلال نساء هذا الماضي. ونحن نزور معه كلاً من أولئك النساء ونلاحظ ان لكل منهن اسماً له دلالة: يتنقل "دون " بين نساء ماضيه اللاتي يقابلنه غالبا بابتسامة وترحاب لا يتفقان مع لامبالاته وسكونه الواضح.. يتقدم "بيل موراى" وفى يده باقة زهور وردية فخمة يقدمها للسيدة التى لم يقابلها منذ عشرين عاما وعلى وجهه ابتسامة مترددة ،قلقة. هل يمكن أن يسألها الآن اذا كانت هى أم ابنه ، هل يحدثها عن حمل أثقل به كاهلها منذ عشرين عاما ثم رحل. ينتهى المشهد وينتهى لقاؤه مع السيدة ليعود من جديد ويعيد الكرَّة مع سيدة أخرى. يستمر فى رحلته ، وعند كل واحدة منهن يجد شيئا وردى اللون. عند كل واحدة منهن يجد دليل إثبات ودليل نفي. وعند كل واحدة يتجدد شكه حول هذا الابن الذى ظهر فجأة والذى قد لا يكون له أى وجود حقيقى. فمن امرأة كانت حبيبته لامرأة أخرى يستمر "دون" فى رحلته مكتشفا كم أصبح غريبا عما كانه يوما ، وكم أصبحت كل منهن غريبة عنه وعنها. من امرأة لأخرى تستمر رحلة بحثه عن ابن قد لا يكون له وجود، وعن ذاته التى ما عاد يحفل بها كثيراً.
هكذا ، يبدأ الفيلم وينتهى من غير أن يصل البطل والمشاهد إلى يقين،. كل شيء واضح أمام عيني البطل " دون جونسون" لكنه رغم ذلك لا يرى. لأن عدم الرؤية لا يقبع فى الخارج لكنه يأتى من الداخل، يأتى من رفضه أو من عدم رغبته فى الرؤية. وقد نجح المخرج جيم جارموش حين اختار تنفيذ فيلمه فى كادرات مضيئة بلا ظلال ولا ظلام ، كادرات تبدو كأنها تظهر كل شىء بينما تبقى الحقيقة كما هى فى الحياة الواقعية خفية تحركنا كالموتى فنتناقض بقوة مع سطوع الشمس وجلاء الألوان من حولنا. يجاري "لورا" (شارون ستون)، لها ابنة تدعى لوليتا (ما يحيلنا مباشرة الى رواية فلاديمير نابوكوف وفيلم ستانلي كوبريك المأخوذ عنها) فيقضي الليلة معها وفقاً لرغبتها ليودعها في الصباح ويغادر الى "دورا" (فرانسيس كونروي) (وهي هستيرية التصرف تماماً على شاكلة دورا التي يتحدث عنها فرويد في كتاب له عن الهستيريا) التي انقلبت من هيبية الى مقاولة وزوجة لرجل لا يُحتمل. هناك يجلس إلى مائدة الزوجين من دون ان ينبس بكلمة. اما "كارمن" (جيسيكا لانغ) (على اسم بطلة الأوبرا الشهيرة). وهي محللة إحصائية ذات نمط خاص تبدو مكتفية بحياتها الجديدة وتعكف على دراسة الحيونات الأليفة، وتخفي وراء غرابة أطوارها استقرارا داخليا راسخا في شخصيتها. وأخيراً "بيني" (تيلدا سوينتن) الغاضية الهيبية العنيفة والتي لم تغفر لدون بعد.هجرانها. الخامسة هي "بيبي" التي يزور قبرها. في هذه اللقاءات، يختلط الفرح بالحزن بالكبت بالغضب. وتتجلى قدرات جارموش على قول الكثير من دون ولا كلمة. وضعية اللقاء بين "دون" وإحدى عشيقاته تخبر عن علاقتهما في الماضي. لا عتاب، لا كلام، لا ذكريات... فقط وضعيات وزوايا كاميرا تنبىء بطبيعة التواصل وماضي العلاقة. سؤال أساس قد يطرحه انسان ما على نفسه، ذات لحظة خمسينية من عمره: أين ذهب ماضيّ وأحلامه؟
سيكون مشواره حافلاً بالمشقات والمتاعب، لكن عند عودته سنلتقي رجلاً رجع مهزوماً ومنكّس الرأس: من النساء الخمس اللواتي زارهنّ، المرأة الراحلة وحدها ستملأ قلبه حناناً ودفئاً. مرة جديدة، يصوّر جارموش شخصاً نصف ميت ينتمي الى دنيا الحق أكثر منه الى عالم الاحياء. ونكتشف ذلك في أكثر من مناسبة: من عدم رغبته في الاخذ والرد مع الآخرين، وخصوصاً النساء، واذا ببائعة أزهار تضمد جروحه بعد حادثة تعرّض لها، فلا يجد امراً يحدثها عنه، الا سؤالها عن عنوان مقبرة ينوي زيارتها
في نهاية الفيلم يسأل الابن المفترض دون، عما اذا كان له موقف فلسفي فيكون جوابه "الماضي انتهى، والمستقبل لم يصل بعد. إذاً ليس هناك سوى الحاضر". لقد تحطمت زهور دون جونستون على مذبح رحلة البحث عن ماضيهن. فهل انتهى الماضي هنا... ام اننا، نحن ابناء هذا الماضي، لا نزال نعيشه ونعاني من وطأته؟
ويتمثل جزء كبير من عبقرية المخرج جيم جارموش فى هذا الفيلم فى التركيز بعمله على الممثل حيث يكاد يخلو فيلم "زهور محطمة" من أى تكنيكات مبهرة، بينما تتحقق متعة المشاهدة من هذا التضاد بين أداء بيل موراى الساكن وأداء الممثلات اللاتى لعبت أدوار صديقات الماضى مما يذكرنا طوال الوقت بأنهن متورطات فى الحياة بينما هو ميت فى عزلته وصمته .و ل"بيل موراى" وقع خاص فى النفس. فوجهه العادى يستمد جاذبيته من كونه وجهاً مألوفاً ومن لمحة السخرية التى تراها فى عينيه. وجه يمنح صاحبه خفة تشي بأن هذا الشخص لا يأخذ نفسه على محمل الجد ، شخص ساخر يستخدم سخريته وسيلةً للتحرر من ثقل الحياة.. وعن خياراته للمثلين يقول جارموش. "أخشى أنْ يظن الناس أنني انتهجتُ نهج النمط السائد بسبب عدد من طاقم الفيلم، غير أنه سبق لي أنْ عملتُ مع ممثلين مشهورين مثل جوني دِبْ، ووينونا رايدر، وكيت بلانش. إذن، لاينبغي أنْ نحسب الأمور بهذا الشكل؛ فأنا لم أشرك شارون ستون لأنها نجمة كبيرة في عالم السينما، بل لأنني رسمتُ ملامح الدور الذي ستقوم به في ذهني، فرأيت أنها ستكون أرملة عظيمة وأمّا لابنتها المراهقة التي تحمل ملامح شخصيتها. هذه هي طريقة في العمل. ورسمتُ كذلك دور البطولة لبيل موراي في في ذهني، فبرز الفيلم بأكمله من خلال الشخصية التي صنعتها معه في الذهن"، يقول جارموش في سياق التكهنات التي تقول بإمكانية انسحابه إلى سينما النمط السائد..
فى هذا الفيلم لدينا فقط صورة واضحة وإضاءة ساطعة بلا أى ظلال أو مناطق معتمة. ليس هناك إضاءة شبحية أو ضباب يواري الوجوه. باختصار، لا وجود لتلك التقنيات التى تستخدم للتدليل على الحالة النفسية للشخصية المنعزلة ، فالمخرج جيم جارموش يعبر عن عزلة بطله - فقط - من خلال أداء "موراى" الرائع. وهو اختيار ذكى من جيم جارموش يدلل على مخرج يملك قدر كبير من الوعى مخرج يدرك التناقض بين ثنائية الحياة التى تبدو من الخارج واضحة وضوح الشمس بينما تكمن داخلها وداخلنا تلك الزوايا المعتمة التى يستحيل علينا أن نراها..جيم جارموش، يتابع في«العشاق وحدهم بقوا أحياء» عزلة موسيقي عبر دراما رومانسية تستحضر أجواء الأشباح في تفاصيلها، ، يحكي قصة عاشقين موغلين في الزمن الغابر، فيلم عن الحبّ الذي يستعيد روحه مراراً، كما هي أنفاس أفراد هذه العائلة الفريدة، ونبضات قلوبهم التي يوقفها النهار عن العمل، في انتظار حكاية عشق تتجدّد مع حلول الليل وقمره الساطع. من بطولة توم هيدلستون وتيلدا سوينتون وجون هارت..
شارك في عدد من الأفلام سواء بالتصويرأو كتابة الموسيقى أو الإنتاج أو المونتاج أو التمثيل ، لكن عمله الرئيسى تركز في الإخراج وكتابة السيناريو حيث أخرج 15 فيلما كتب السيناريو ل 13 فيلما منها. حصل على 15 جائزة هامة منها الجائزة الكبرى فى مهرجان كان عن فيلم "أزهار محطمة" ، والسعفة الذهبية عام 1986 عن فيلم "سقوط بحكم القانون".
وافلام جارموش تحمل اهتماما واضحا بالثقافات الاصلية القديمة مثل الهندية واليابانية والصينية .: واذا كان جارموش نموذجاً للفنان الهامشي، فإن القدر كان قاسياً على شخصياته ايضاً، الى ان نالت نصيبها من الاستبعاد والاقصاء عن خيرات الدنيا ونعمها. من "رجل ميت" (1994) الى "غوست دوغ" (1999) مروراً بـ"قطار غامض" (1989)، شقّت مسألة البحث عن الهوية طريقها في سينما هذا الخلاّق المنهمك بتفكيك خفايا الطبيعة الانسانية. فشل التواصل هو ما تتفق عليه شخوصه، برغم اختلافها الظاهري وتنوع حوافزها، حتى بعضها يخاطب بعضها الآخر، كل بلغته، ومع ذلك يصل الطرفان الى تفاهم مشترك
تقع أحداث فيلم «الرجل الميت» في الغرب الأميركي في العام 1875، وهو من أفلام رعاة البقر، ولكنه من الأفلام الغريبة من هذا النوع السينمائي. تدور قصة الفيلم حول شاب يدعى وليام بليك يعمل محاسباً في مدينة كليفلاند ويتلقى عرضاً للعمل في مصنع للأدوات المعدنية ببلدة نائية في الغرب الأميركي. وبعد القيام برحلة طويلة ومضنية بالقطار يصل إلى تلك البلدة ليكتشف أن الوظيفة الموعودة له قد أعطيت لغيره. ويتعرف هذا الشاب على شابة جميلة ويقضي الليلة معها دون أن يعلم أنها مخطوبة لابن صاحب المصنع الذي يفاجئهما ويطلق النار عليهما ويقتل الفتاة ويصيب الشاب بطلقة في صدره، ويقوم الشاب بدوره بقتل ابن صاحب المصنع. وبعد ذلك يقوم الشاب بسرقة حصان تابع لصاحب المصنع ويلوذ بالفرار. ويستأجر صاحب المصنع ثلاثة من عتاة المجرمين لمطاردة الشاب الفار وقتله أو إعادته حياً واسترجاع الحصان. وعندما يصحو الشاب من النوم يجد هندياً أحمر يحاول إخراج الرصاصة من صدره. ونعلم أن الهندي الأحمر سبق أن درس في إنجلترا وأنه معجب بالشاعر الإنجليزي وليام بليك، ويعتقد أن الشاب الذي يحمل اسم وليام بليك هو الشاعر نفسه. ويبدأ الاثنان معاً رحلة طويلة تتخللها مجموعة من الشخصيات الغريبة التي تطاردهما والتي يحاولان مراوغتها، ويمر الاثنان بسلسلة من الأحداث التي تجمع بين العنف ومشاعر القسوة والعطف والحنان والإيمان في رحلتهم الجسدية والروحية نحو المجهول. يحاول فيها المخرج أن يسبر أغوار العلاقات الاجتماعية في الغرب الأمريكي النائي، البعيد عن مظاهر التقدم والحضارة الأمريكية.
لعل هذا الفيلم، يمثل المختلف والجديد في السينما الأمريكية، حاملا في مكنونه مأساة الهنود الحمر، من خلال تسليط الضوء على شخصية الهندي الأحمر الضخم، الذي يسرد لبليك طفولته البائسة، المليئة بصخب العنصرية والتفريق العنصري بين الهندي الأحمر والأمريكي الأوروبي.
الموسيقى التصويرية ، أضافت للفيلم عنصر الجذب، والجمال، وما زاد من معجبيه، هو تمكن الممثلين وعلى رأسهم الممثل جوني ديب وجاري فارمر في دور الهندي الأحمر.
فيلمه "قطار غامض" سَبَرَ من خلاله أسطورة مدينة ممفيس وعالم الروك أند رول فيها.. . اما فيلمه "غوست دوغ " فيدور حول امريكي اسود يعمل قاتلا مأجورا لدى رجل مافيا على طريقة واخلاق الساموراي اليابانية ويمزج بين الاسلحة المتطورة وبين تربية الحمام الزاجل واستخدامه في المراسلة مع مستأجريه .. ويصف ويتس افلام جارموش بأنها "تشبه نصوص الهايكو". مثلما يلتمع في الذهن كثيرين من المصورين الفوتوغرافيين الأميركيين العريقين أمثال روبرت فرانك، وويليام إيغلستون، يلتمع كذلك جارموش بوصفه ينظر إلى أميركا بعيني اللامنتمي، جاعلاً بذلك المألوف غريباً، والإعتياديّ مبهماً. وعلاوة على ذلك، يذهب في أفلامه إلى تصوير الذين يتنقلون ويسافرون بلا أيّ هدف ومن أجل دوافع خاطئة، نحو مصائر غير مرسومة سلفاً كما في سينما النمط السائد في هوليوود. "أنني مهتم باللحظات غير الدرامية من الحياة"، يقول جارموش، "ولا يجذبني أنْ أعمل أفلاماً حول الدراما؛ فهي تختزل حياة الشخصية إلى لحظاتها الدرامية القصوى التي يمكن الإمساك بها من سيرة تلك الحياة برمتها، وإذا كان من المفروض أنْ يعطيَنا ذلك صورة لشخص ما فإنني لا أستطيع أنْ أرسم تلك الصورة. كلّ هذا يبدو خطأً بالنسبة لي".
أنّ جارموش استطاع أنْ يظلّ على الدوام رافضاً العُروضَ المالية السخية من قِبَل الإستوديوهات الكبيرة في سبيل الضوابط والمعايير الإبداعية. وهو يحتلّ الآن مكانة متفردة في السينما الأميركية المستقلة بعدما أنجز افلامه بطريقته الخاصة كلياً. العناد الذي يتسم به جارموش قدم العام الماضي عاشر أفلامه "زهور محطمة"، الذي لا يبتعد منذ الوهلة الأولى عن طبيعة افلامه التي لا تخلو من غرابة في شخصياته واجوائه الهادئة. حيث تجد نفسك فيه خلال تذوقك الحوادث الشائقة التي يقدمها جارموش لنا لقطةً لقطة: الانتظار الطويل قبل بلوغ الذروة. فالافتتاح لا يستمد اهميته ودلالاته الا بما نراه في نصف الفيلم، وهذا النصف ايضاً لا يسوّغ وجوده الا التتمة المنتظرة. هذه هي البنية الدرامية التي يعتمدها جارموش: يهندس فيلمه كما لو كان يشيّد كاتدرائية، قطعةً قطعة، الى ان تلتقي اجزاء التحفة في صورتها النهائية المبهرة.. فيلم جارموش يرسم بورتريه لاميركا في دهاليزها ومتاهاتها وعوالمها المختلفة. ازهار العنوان المتكسرة ليست الا اشارة الى الشتات العائلي والاجتماعي، ورمزاً لاستحالة تجميع هذه الازهار في باقة واحدة
جرياً على عادة تكرّست في سينماه، يتمحور " زهور محطمة " على شخصية يتيمة هي بمنزلة الدينامو الذي يشعل محرك العمل. لا حوادث عند غيابه! ً يبدأ كل شيء في مدينة اميركية نائية ومجهولة. ذات صباح عابر بيل موراي الذي يؤدي دور العازب «دون جونسن» شبه المتقاعد الذي أربى على الخمسين، ويعيش هادئاً متأملاً ولم تعد لديه أي رغبة سوى فى الصمت والعيش في حالة سكون صوفى داخل بيته،ولا يكاد يطلب الآن من الدنيا شيئاً بعدما جمع ثروة من عمله في أجهزة الكومبيوتر،. وكشخصيات جارموش السينمائية الاخرى، ليس "دون" من أصحاب الفعل. بل هو ينجرف مع التيار. يعيش الحاضر من دون ايمان بقدرته على تغييره. ليس من موقع يأس¬فشخصياته لا تملك خطاباً¬ انما انطلاقاً من قدر الانسان الذي اعتاد عيش الحاضر وأقصى امانيه الامساك باللحظة. هكذا يسلم بهجر صديقته له من دون ان نعرف السبب سوى انها تنعته بالدونجوان المسن. بعد رحيلها، يقضى نهاراته ولياليه على كنبة اما نائماً او جالساً بدون حراك. هل هي علامات افتقاده لها؟ ولكنه يؤكد لجاره "وينستن" انه لا يعرف اذا كان حزيناً على رحيلها. هل هي اذاً علامات الضجر؟ او الانغماس الشخصي؟ او نوع من الرضى؟ حتى ما يبدو انه سيكون نقطة تحول في حياته. فبينما هو يعيش وحدته اذا برسالة تصله من امرأة لم توقعها، زهرية اللون، مكتوبة على آلة كاتبة. تخبره فيها ان له منها ولداً في نحو العشرين الآن، انطلق ليبحث عن أبيه... أي عنه.. في البداية لايهتم للأمر ، فهو الـ"دون جوان" المتعب الذي يخيّل الينا انه ابكى الكثيرات، يستصعب العودة الى الخلف والمشي على خطى ماضيه "غير المشرّف". ولكن جاره المهووس بحل الالغازفي إشارة واضحة الى تلفزيون الواقع وأفلام الالغاز، ينظم له رحلة لزيارة خمس من عشيقاته في محاولة لاكتشاف من هي صاحبة الرسالة. ويحثه على زيارة كل واحدة منهن وهو يحمل باقة زهور وردية ، ليستشف من استجاباتهن الحقيقة ويعرف من هي أم ابنه. يصطحب دون معه في رحلته قرصاً مدمجاً يحتوي على الأغاني والموسيقا كان قد أخذه من وينستون بهدف الاستماع إليها خلال رحلة البحث عن النسوة الأربع. ويقوده ذلك الى رحلة حول البلاد ليلتقي بنساء ارتبط بهن في يوم ما، ورحلة اخرى في اسرار الماضي المنسي هكذا يتحول الفيلم فيلم طريق ويتخذ كل جزء صفاته الخاصة. كل زيارة الى بيت واحدة من عشيقاته هي بمثابة فيلم قصير. وكل زيارة تؤثر فيهن من دون ان تؤثر فيه. انه هناك فقط من اجل البحث عن ورق رسائل زهري كالذي كتبت عليه الرسالة وآلة كاتبة او اي شيء يدل على ان صاحبة المنزل هي المرسلة. ولكن دوافع "دون" الى القيام بالرحلة تبقى غامضة. فهو حتماً ليس مؤمناً بانه سيجد حلاً للغز لأنه في الأصل غير مؤمن بوجود لغز بعكس جاره. لعله اراد ان يغير موقعه على الكنبة. حى انه لا يبدو محتفظاً بأية مشاعر لنسائه القدامى. ولكنه كما قلنا يمشي مع التيار. وهكذا يتحول الفيلم من بحث فتى عن ابيه، الى بحث الأب عن الأم. او لنقل بالأحرى، بحثه عن ماضيه، من خلال نساء هذا الماضي. ونحن نزور معه كلاً من أولئك النساء ونلاحظ ان لكل منهن اسماً له دلالة: يتنقل "دون " بين نساء ماضيه اللاتي يقابلنه غالبا بابتسامة وترحاب لا يتفقان مع لامبالاته وسكونه الواضح.. يتقدم "بيل موراى" وفى يده باقة زهور وردية فخمة يقدمها للسيدة التى لم يقابلها منذ عشرين عاما وعلى وجهه ابتسامة مترددة ،قلقة. هل يمكن أن يسألها الآن اذا كانت هى أم ابنه ، هل يحدثها عن حمل أثقل به كاهلها منذ عشرين عاما ثم رحل. ينتهى المشهد وينتهى لقاؤه مع السيدة ليعود من جديد ويعيد الكرَّة مع سيدة أخرى. يستمر فى رحلته ، وعند كل واحدة منهن يجد شيئا وردى اللون. عند كل واحدة منهن يجد دليل إثبات ودليل نفي. وعند كل واحدة يتجدد شكه حول هذا الابن الذى ظهر فجأة والذى قد لا يكون له أى وجود حقيقى. فمن امرأة كانت حبيبته لامرأة أخرى يستمر "دون" فى رحلته مكتشفا كم أصبح غريبا عما كانه يوما ، وكم أصبحت كل منهن غريبة عنه وعنها. من امرأة لأخرى تستمر رحلة بحثه عن ابن قد لا يكون له وجود، وعن ذاته التى ما عاد يحفل بها كثيراً.
هكذا ، يبدأ الفيلم وينتهى من غير أن يصل البطل والمشاهد إلى يقين،. كل شيء واضح أمام عيني البطل " دون جونسون" لكنه رغم ذلك لا يرى. لأن عدم الرؤية لا يقبع فى الخارج لكنه يأتى من الداخل، يأتى من رفضه أو من عدم رغبته فى الرؤية. وقد نجح المخرج جيم جارموش حين اختار تنفيذ فيلمه فى كادرات مضيئة بلا ظلال ولا ظلام ، كادرات تبدو كأنها تظهر كل شىء بينما تبقى الحقيقة كما هى فى الحياة الواقعية خفية تحركنا كالموتى فنتناقض بقوة مع سطوع الشمس وجلاء الألوان من حولنا. يجاري "لورا" (شارون ستون)، لها ابنة تدعى لوليتا (ما يحيلنا مباشرة الى رواية فلاديمير نابوكوف وفيلم ستانلي كوبريك المأخوذ عنها) فيقضي الليلة معها وفقاً لرغبتها ليودعها في الصباح ويغادر الى "دورا" (فرانسيس كونروي) (وهي هستيرية التصرف تماماً على شاكلة دورا التي يتحدث عنها فرويد في كتاب له عن الهستيريا) التي انقلبت من هيبية الى مقاولة وزوجة لرجل لا يُحتمل. هناك يجلس إلى مائدة الزوجين من دون ان ينبس بكلمة. اما "كارمن" (جيسيكا لانغ) (على اسم بطلة الأوبرا الشهيرة). وهي محللة إحصائية ذات نمط خاص تبدو مكتفية بحياتها الجديدة وتعكف على دراسة الحيونات الأليفة، وتخفي وراء غرابة أطوارها استقرارا داخليا راسخا في شخصيتها. وأخيراً "بيني" (تيلدا سوينتن) الغاضية الهيبية العنيفة والتي لم تغفر لدون بعد.هجرانها. الخامسة هي "بيبي" التي يزور قبرها. في هذه اللقاءات، يختلط الفرح بالحزن بالكبت بالغضب. وتتجلى قدرات جارموش على قول الكثير من دون ولا كلمة. وضعية اللقاء بين "دون" وإحدى عشيقاته تخبر عن علاقتهما في الماضي. لا عتاب، لا كلام، لا ذكريات... فقط وضعيات وزوايا كاميرا تنبىء بطبيعة التواصل وماضي العلاقة. سؤال أساس قد يطرحه انسان ما على نفسه، ذات لحظة خمسينية من عمره: أين ذهب ماضيّ وأحلامه؟
سيكون مشواره حافلاً بالمشقات والمتاعب، لكن عند عودته سنلتقي رجلاً رجع مهزوماً ومنكّس الرأس: من النساء الخمس اللواتي زارهنّ، المرأة الراحلة وحدها ستملأ قلبه حناناً ودفئاً. مرة جديدة، يصوّر جارموش شخصاً نصف ميت ينتمي الى دنيا الحق أكثر منه الى عالم الاحياء. ونكتشف ذلك في أكثر من مناسبة: من عدم رغبته في الاخذ والرد مع الآخرين، وخصوصاً النساء، واذا ببائعة أزهار تضمد جروحه بعد حادثة تعرّض لها، فلا يجد امراً يحدثها عنه، الا سؤالها عن عنوان مقبرة ينوي زيارتها
في نهاية الفيلم يسأل الابن المفترض دون، عما اذا كان له موقف فلسفي فيكون جوابه "الماضي انتهى، والمستقبل لم يصل بعد. إذاً ليس هناك سوى الحاضر". لقد تحطمت زهور دون جونستون على مذبح رحلة البحث عن ماضيهن. فهل انتهى الماضي هنا... ام اننا، نحن ابناء هذا الماضي، لا نزال نعيشه ونعاني من وطأته؟
ويتمثل جزء كبير من عبقرية المخرج جيم جارموش فى هذا الفيلم فى التركيز بعمله على الممثل حيث يكاد يخلو فيلم "زهور محطمة" من أى تكنيكات مبهرة، بينما تتحقق متعة المشاهدة من هذا التضاد بين أداء بيل موراى الساكن وأداء الممثلات اللاتى لعبت أدوار صديقات الماضى مما يذكرنا طوال الوقت بأنهن متورطات فى الحياة بينما هو ميت فى عزلته وصمته .و ل"بيل موراى" وقع خاص فى النفس. فوجهه العادى يستمد جاذبيته من كونه وجهاً مألوفاً ومن لمحة السخرية التى تراها فى عينيه. وجه يمنح صاحبه خفة تشي بأن هذا الشخص لا يأخذ نفسه على محمل الجد ، شخص ساخر يستخدم سخريته وسيلةً للتحرر من ثقل الحياة.. وعن خياراته للمثلين يقول جارموش. "أخشى أنْ يظن الناس أنني انتهجتُ نهج النمط السائد بسبب عدد من طاقم الفيلم، غير أنه سبق لي أنْ عملتُ مع ممثلين مشهورين مثل جوني دِبْ، ووينونا رايدر، وكيت بلانش. إذن، لاينبغي أنْ نحسب الأمور بهذا الشكل؛ فأنا لم أشرك شارون ستون لأنها نجمة كبيرة في عالم السينما، بل لأنني رسمتُ ملامح الدور الذي ستقوم به في ذهني، فرأيت أنها ستكون أرملة عظيمة وأمّا لابنتها المراهقة التي تحمل ملامح شخصيتها. هذه هي طريقة في العمل. ورسمتُ كذلك دور البطولة لبيل موراي في في ذهني، فبرز الفيلم بأكمله من خلال الشخصية التي صنعتها معه في الذهن"، يقول جارموش في سياق التكهنات التي تقول بإمكانية انسحابه إلى سينما النمط السائد..
فى هذا الفيلم لدينا فقط صورة واضحة وإضاءة ساطعة بلا أى ظلال أو مناطق معتمة. ليس هناك إضاءة شبحية أو ضباب يواري الوجوه. باختصار، لا وجود لتلك التقنيات التى تستخدم للتدليل على الحالة النفسية للشخصية المنعزلة ، فالمخرج جيم جارموش يعبر عن عزلة بطله - فقط - من خلال أداء "موراى" الرائع. وهو اختيار ذكى من جيم جارموش يدلل على مخرج يملك قدر كبير من الوعى مخرج يدرك التناقض بين ثنائية الحياة التى تبدو من الخارج واضحة وضوح الشمس بينما تكمن داخلها وداخلنا تلك الزوايا المعتمة التى يستحيل علينا أن نراها..جيم جارموش، يتابع في«العشاق وحدهم بقوا أحياء» عزلة موسيقي عبر دراما رومانسية تستحضر أجواء الأشباح في تفاصيلها، ، يحكي قصة عاشقين موغلين في الزمن الغابر، فيلم عن الحبّ الذي يستعيد روحه مراراً، كما هي أنفاس أفراد هذه العائلة الفريدة، ونبضات قلوبهم التي يوقفها النهار عن العمل، في انتظار حكاية عشق تتجدّد مع حلول الليل وقمره الساطع. من بطولة توم هيدلستون وتيلدا سوينتون وجون هارت..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق