الاثنين، 9 مارس 2015

(مذاقات القصر) للمخرج كريستيان فنسنت.. طباخة خاصة في قصر الإليزيه


علينا أن لا نقع في خطأ الذهاب إلى السينما مع معدة فارغة، لأن (مذاقات القصر)، الفيلم الفرنسي الذي عرض ضمن أيام الفيلم الأوربي بالجزائر، هو إستعراض مغري من روائح الأطعمة المتخيلة، سيجعلنا جائعين بكل حواسنا مع كل طبق تعمل على إنشائه بطلته “كاترين فرو” ويحمل شهية الماضي.
(مذاقات القصر) يبعث على الحنين إلى أنواع من الطعام ونكهات الماضي ووصفات الطبخ القادمة من سحر السنين العتيقة، وقد اقتبس المخرج، قصته من الحياة الحقيقية لـ«دانييل ديلبوش”، الطباخة الخاصة للرئيس الأسبق فرانسوا ميتران، في ولايته الثانية، بالذات في المرحلة الأخيرة من فترة رئاسته، التي تركت القصر بعد ثلاث سنوات من العمل فيه لتمضي للعمل في قاعدة بحرية علمية نائية قريبة من القطب الشمالي.
الأفلام المبنية على قصة حقيقية هي مشكلة بالضرورة، ولا سيما عند محاولة تغطية الحياة البشرية على مدى بضع ساعات، والضغط عليها في الروي. هناك حلول، رغم ذلك، هذا الفيلم يجد ما يمكن أن يكون أفضل مزيج ممكن: هو يغطي فترة صغيرة من الوقت، و يركز على معنى اللحظات بدلا من معنى الحياة، و يتيح للمشاهدين تفسير وإحساس ما يرونه، بدلا من فرض خطابات عاصفة. وفوق كل ذلك، يعطي لأبطاله أسماء خيالية، ليكون واضحا أن المقصود هو أولا وقبل كل شيء إعتباره رواية حول البشر، وليس إصدار مشوه للتاريخ. كل هذا يرقى إلى نهج مبدئي، ذكي، لكنه أيضا وصفة لما أنه فيلم دافئ وممتع.(مذاقات القصر) الذي أخرجه “كريستيان فنسنت”، الذي سبق له أن فاز بجائزة “السيزار” عام 1990 عن فيلمه الروائي الأول (المتكتم)، يتمحور حول الطعام وولع الرئيس الفرنسي ميتران به.. حيث يقوم بتعيين “هورتانس لابوري” وهي طاهية شهيرة لتكون طباخته في قصر الإليزيه لكي يحظى بفرصة تذوق وجبات الطعام البسيطة كالتي كانت تعدها جدته.. وفي كوميدية بإيقاع سريع نتابع أحداث هذا الفيلم.
بعد بضعة مشاهد سريعة في مطبخ محطة البحوث، حيث الطباخة هورتنس لابوري (كاترين فرو)، إمرأة فرنسية جذابة في خمسينيات العمر، تتقن صنع الطعام بشكل مذهل، ونحن نمضي في الفلاش باك، يجري نقلها من مزرعتها الخاصة  للكمأة في عمق الريف الفرنسي في سيارة الحكومة، لركوب القطار إلى باريس.
شخص ما في الحكومة يريد طاهيا، ولكن على وجه التحديد من يكون، ظل غامضا، ليخبروها فيما بعد أن الأمر جرى تلبية لرغبة الرئيس ميتران بطباخة خاصة له ولأسرته ولضيوفه المقربين، تعمل في مطبخها الصغير بموازاة فريق طباخي القصر، في المطبخ الرسمي.
قبلت هورتنس العمل على مضض، وتركت مزرعتها وعمها المريض كي تتفرغ لخدمة الرئيس، فإذا بها تجد نفسها في عالم من التحديات ومواجهة المصاعب، ولكن بمجرد أن التحقت بمطبخ الرئاسة الذي يهيمن عليه الذكور، لتعمل بقلبها وروحها وخبرتها لتقرن الطبخ الفرنسي بالأصالة والتجدد الرصين، السلمون والكمأ في أوراق الملفوف، على البخار ومقطع إلى شرائح أنيقة مع كريم الصلصة، بطة مطبوخة مع الخضار بدقة، علاج الجبن الذي يتطلب جهدا من خلال شبكة معينة مصنوعة من العشب.. وفطيرة الزنجبيل والتفاح وحبيبات الكاكاو، يبدو كل ذلك تفصيلا لذيذا ومثيرا، لكن يعود هذا إلى حد كبير لعمل الطبيعة.
مع مساعد لها الشيف نيكولاس (آرثر دوبونت)، تحاول أن تعمل ثورة في مصادر الطعام، بإتباع أسلوب المزرعة الطبيعية والريف في المائدة، إنطلاقا من حياتها الخاصة التي أمضتها في المزارع. و تستطيع أن تفرض نفسها كشيف للطهاة لأول مرة من الإناث بفضل قوة شخصيتها وروحها التي لا تقهر، على الرغم من أنها تثير غيرة رئيس الطهاة، وتقع بورطة مع البيروقراطية في القصر، حيث المحاسب لم يفهم سبب ارتفاع الميزانية في طلبات مواد الطبخ، تعلن رفضها تقديم تنازلات في الطبخ وفي الأنواع النادرة والمكونات النقية التي تشكل أفضل ما قدمته المزارع والحقول في القرى الفرنسية.
ففي أروقة السلطة، هناك العديد من العقبات، كما أن الخلفية للحدث الأساسي، تظل تنبض بالرصد الواضح للوضع السياسي والإقتصادي والصراعات التي كانت تحيط بقصر الإليزيه في تلك الأيام.
في نهاية المطاف، فيلم (مذاقات القصر) يأخذك برحلة طويلة إلى الطعم الحقيقي، حيث الطعام أمامك هو أكثر من مجرد سراب الشاشة الكبيرة، هنا رحلة كوميدية لطيفة مع خفوت الصراع الدرامي، تستحضر المطبخ الفرنسي.. وتقاليد الطبخ والضيافة الرفيعة، عبر حكاية إمرأة ستبقى ذكراها نابضة بالإرادة.
قام بكتابة السيناريو “أيتن كومر” بالتعاون مع المخرج “كرستيان فنسنت”، فيما تنساب الموسيقى التصويرية للفيلم التي وضعها الموسيقار الفرنسي اللبناني الأصل “غابرئيل يارد” بعذوبة لتتناسق مع الصورة الجذابة والمتميزة بكاميرا “لوران ديلان” أحد أبرز مدراء التصوير في فرنسا.
وتتظافر الحوارات البسيطة واللماحة الذكية مع الأداء التمثيلي التلقائي الرائع لعدد من نجوم الفيلم، حيث نرى في أول تجربة تمثيل له، الصحافي والروائي والفيلسوف المعروف “جان دورميسون” يؤدي في الفيلم دور متيران ويتقمص شخصيته، رغم انعدام الشبه بينهما، ببراعة مذهلة.
وتلفتنا تلك الحميمية وخفة الدم والطرافة الفائقة لدى “كاترين فرو” القادمة من مسار مسرحي وسينمائي لافت لها في السينما أفلام «فوضى»2001 و«التشابه العائلي» 1996 و«لعبة العشاء» 1998 و«من يقلب الصفحات» 2006 وبداياتها تعود إلى عام 1975 من خلال المسلسل التلفزيوني «سحر الصيف».
محمد عبيدو

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق