محمد عبيدو :بعد صولاته وجولاته في العواصم الغربية، وانتزاعه جائزة لجنة التحكيم الخاصة في “مهرجان كان”، عرض فيلم “عمر” للمخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد، هذا الأسبوع، بافتتاح مهرجان دبي السينمائي الدولي.
وتطرق شريط هاني أبو أسعد إلى معاناة الشعب الفلسطيني في ظل الاحتلال الإسرائيلي، والقيود التي تفرض على أبسط الحريات الإنسانية في الأرض المحتلة، ومن خلال تتبع خيوط العلاقة بين ثلاثة شبان أصدقاء منذ الطفولة يواجهون شقاء منبثقا عن قسوة الاحتلال، فيشكّلون فرقة فدائية لقنص جنود الاحتلال الذين يحرسون جدار الفصل العنصري، تنسج خيوط “عمر”، الذي يجسد دوره الممثل آدم بكري، فيما يتوازى مع ذلك قصة حب طرفها شقيقة زميله، حيث يضطر يوميا إلى تسلّق أسوار جدار الفصل للقاء حبيبته، لا تسلم هي الأخرى من مؤامرات المحتل، ليتحول الحب إلى شك وتصورات للخيانة، لا وجود لها إلا في رأس مدبريها، وما بين مقاومة وحب واعتقال، وافتقاد، يرصد هاني أبو أسعد، معاناة “عمر”، التي هي في الأساس معاناة شعب يرزح تحت نير احتلال، لا يعترف بأبسط مقومات حقوق الإنسان. عدا تناول هاني أبو أسعد الخوف من مسألة “العمالة” للاحتلال، بقي الحبّ حاضرا بقوة في “عُمر”، بل هو المحرك الأساسي للقصة. يقول مع هاني أبو أسعد: “بسبب كل هذا الدمار حولنا، يشكّل الحبّ ربما العامل الأساسي للحياة في نظري. إجابتي العفوية الصادقة هي أنّ الحبّ هو الدافع إلى أن يبقى الإنسان قادراً على الحياة. حتى في السينما، كي يستطيع الإنسان أنّ يستمر، فهو بحاجة إلى سرد قصة حبّ”.
فيلم من قلب الصراع، وهو الثالث لمخرجه هاني ابو اسعد الذي ولد في مدينة الناصرة في 11 أكتوبر عام 1961، ويعيش حالياً بهولندا، درس هندسة الطيران واتجه للسينما من بعدها، أول أفلامه عام 1994 روائي قصير بعنوان “بيت من ورق” يحلل بذكاء تفتت البنية الاجتماعية والنفسية للشعب الفلسطيني تحت الاحتلال في ظل غياب الوعي الصائب لدى قياداته.
وفي فيلمه “تحت المجهر” التسجيلي القصير، يختار هاني أبو أسعد موضوعا يبتعد عن المباشرة والشعارات والصراخ وطريقة الاحتجاج الزاعق، لكي يرسم بدقة ووعي ملامح الواقع الذي يعيشه الفلسطينيون تحت الاحتلال، فأتى الفيلم على هيئة شهادات تتقصى مواقف ثلاثة أجيال متتالية من الفلسطينيين الذين يعيشون الآن بوطنهم كمواطنين اسرائيليين، ويعانون التمييز العنصري وإشكالية الهوية.
وفي فيلمه “الناصرة 2000” التسجيلي الطويل (52) دقيقة، يعود هاني أبو أسعد إلى مدينة الناصرة ليقدم فيلما عنها، هو قصة حب من المخرج تجاه مدينته بأماكنها وأهلها قبل أن تكون تاريخا أو إحصاء للأمكنة والناس. منذ البداية كتب على تيترات الفيلم “قصة” ليؤكد تداخل التسجيلي بالروائي أو انبثاق القص الروائي من التسجيلي. صحيح أن الفيلم يتعرض للوضع الفلسطيني، لكنه ليس خطابيا ولا هو مرثاة لحال أو قصيدة وطنية، إنه دراما تسجيلية لمدينة الناصرة، واقع المدينة وواقع الظروف التي تمر بها المدينة، وواقع البشر وتحولاتهم، لقد حاول دمج مستويات عدة من التصوير والمونتاج “شهادات الناس والوثائق السينمائية”، والاستفادة من هذه المستويات قدر الإمكان.
مع حكاية المدينة هناك قصة محورية لعاملي كازية فيها تتقاطع قصتهم مع شهادات عدة، منها شهادات لعائلة المخرج وأسئلة الغربة والعودة لدى ثلاثة أجيال، وشهادة للطبيب الأقدم في المدينة، وشهادة لمؤرخ بالناصرة، وشهادة موسيقية لعازف العود الذي تتقاطع أنغامه مع فضاء المدينة وسمائها، ومونتاج متواز لأحداث شهدتها الناصرة عام 2000، أهمها زيارة البابا وخيبة الأمل منها مع قيود جيش الاحتلال على السكان، وإطلالة على الواقع المسيحي والإسلامي بالناصرة. “الناصرة 2000”، هو فيلم عن مدينة، وعن الغربة والقهر والألم في زمن الاحتلال، عن المواجهة بين الإرادات الإنسانية على أرضية واقع مشترك، عن واقع مقهور حيث الوجع الفلسطيني تحت سماء معزولة عن عدالتها.
فيلمه الروائي الطويل “القدس، يوم آخر” أو “عرس رنا” في عنوان آخر يتناول وضع فتاة اسمها رنا تعيش بالقدس وتريد الزواج من الشاب الذي تحبه (مخرج مسرحي)، وحتى تفعل ذلك عليها أن تبحث عنه وتأتي به إلى والدها قبل الساعة الرابعة بعد ظهر ذلك النهار، إنه الوقت الذي حدده والدها صبيحة ذلك اليوم، حيث سيتوجه بعدها إلى القاهرة في رحلة عمل قد تطول وكان قد أعطاها قائمة: اختاري منها ما تريدين، لكنها تنظر إلى اللائحة ولا تريد منها شيئا.
الضحك يتسلل إلى الفيلم رغم جدية طرحه، يعكس ثقة المخرج في أن المعاناة المفروضة على الشعب الفلسطيني لن تفقد الإنسان هناك رجاحة تفكيره وإقباله على الحياة وتحديه للوضع، فتاة تبحث عن مستقبلها محاولة صنع مصيرها في زمن يحاول فيه الآخرون القبض على هذا المصير ونسجه على المنوال الذي يريدونه.
العائق الأساسي الذي تواجهه هذه الفتاة هو تلك الحواجز الممتدة على مداخل مدينة القدس، “رنا” كونها من المدينة عليها أن تجلب عريسها من رام الله، وتعود به من هناك إلى بيتها، أكثر من حاجز، أكثر من سياج يريد منعها من تحقيق ما ترغب به.
من مشاهد داخلية محكمة أدارها بانضباط وعكس فيها ثقافته الفنية بحدود ما أتيح له، إلى مشاهد خارجية يتركها هاني أبو أسعد تحت الظرف الذي يحكمها في وسط المشاهد الخارجية يأتي المخرج بمفارقة يصور فيها انعكاس الواقع المعاش في ذات بطلته.
بعد ذلك يعود هاني أبو أسعد إلى الفيلم الوثائقي بإخراجه فيلم “فورد ترانزيت”. وفي عام 2003، حصد فيلمه الروائي “الجنة الآن” (90 دقيقة) عام 2006 -وهو أول فيلم يتحدث عن العمليات الانتحارية الاستشهادية وفلسفتها في العمل السياسي- جائزة “غولدن غلوب” وثلاث جوائز في مهرجان “برلين” الخامس والخمسين، وتوزعت الجوائز كالتالي، جائزة “الجمهور” جائزة “أفضل فيلم أوروبي”، وجائزة من منظمة العفو الدولية، وهو من إنتاج هولندي، فرنسي والماني.
فيلم “الجنة الآن” الذي يضاف إلى سجل سينما فلسطينية شابة وحيوية ومتميزة فنيا، بدأت تفرض حضورها بقوة على مهرجانات السينما في العالم، بيد أن الصورة هنا تختلف لأن “الجنة الآن” نفسه فيلم مختلف، مختلف في موضوعه الجديد، مختلف في ديناميكية لغته السينمائية، ومختلف في قدرة مخرجه على إدارة ممثليه بحرفية مدهشة، مختلف حتى بترجمة ردود الفعل التي يجتذبها، فهنا تحت دائرة التعاطف المسبق يجد المتفرج نفسه أمام عمل يجمع الدراما بالتشويق، السياسة بالكوميديا، الواقع بالتأمل الفكري .
يطرح فيلم “الجنة الآن” سؤال الحياة والموت وتغيير الواقع الفلسطيني، ويرسم واقعا فلسطينيا يوميا يعرضه المخرج مستغلا آخر 48 ساعة من حياة الشابين خالد وسعيد اللذين تربطهما صداقة منذ الطفولة، وتدور أحداث الفيلم في مدينة نابلس الفلسطينية ومخيمها، حيث يعمل بطلا الفيلم كميكانيكيين في ورشة تصليح سيارات على تلة تطل على المدينة ولا عزاء لهما فيما تبقى من وقتهما سوى شرب القهوة وتدخين النارجيلة في المقهى، صاحب “الكاراج” يطرد خالد من الشغل في صبيحة اليوم الذي جاء فيه أحد “الأخوان” ليزف إلى سعيد بأنه اختير وخالد للقيام بعملية استشهادية داخل اسرائيل يوم غد. يبدو السيناريو الكلامي في «الجنة الآن» مقتصدا لمصلحة اللغة السينمائية والصورة واللهجة التي تدخل إلى عالم شباب معلق بين الحياة والموت بانتظار اللحظة الحاسمة، حيث تختفي الابتسامة نهائيا حتى عند أخذ صورة تذكارية.
تلك هي حال سعيد وصاحبه خالد اللذين يعرفان بعضهما منذ الطفولة، ويضيق بهما المكان المقفل وسط ضيق الحال وقهر الاحتلال وتصبح العملية الانتحارية أملهما الوحيد بالخلاص من هذا الواقع المر الذي ليس فيه سوى القهر والذل، كما يقول سعيد لمخطط العملية الذي يمتحن صدق نيته بتنفيذها.
وقد اختار المخرج لهذين الدورين ولمعظم الأدوار ممثلين غير معروفين، في حين تلعب هيام عباس دور أم سعيد التي تقول له صباح ذهابه إلى العملية: كم بت تشبه أباك، ونعرف لاحقا من مضمون الفيلم أن أباه كان عميلا للإسرائيليين وأنه قتل بسبب ذلك فيما كان سعيد لا يزال طفلا.
ويطرح الفيلم أسئلة أكثر مما يقدم إجابات عن هذه الرغبة بالموت والانطلاق نحو حياة أخرى، دائما في جو ساخر أسود، ما يتيح تقبل الموضوع الشائك والحساس جدا. يقول خالد لصديقه سعيد حين يصبحان في تل أبيب في الفيلم “تعال نرجع سهى، معها حق لن يتغير شيء بهذه الطريقة” لكن سعيد المسكون بذكرى الأب الذي وصم بالخيانة يمضي في خياره حتى النهاية متجاوزا مشاعره التي بدأت تتبدى نحو سهى.
يتم نقلهما إلى الحدود الإسرائيلية بعد تثبيت القنابل على جسميهما، وقد أقفلت في شكل معقد يجعل من المستحيل على أي كان فكها، ولا يفكها إلا الذي ركبها... ما يجعل مفعولها حتميا... على الأقل بالنسبة إلى الانتحاريين، ومن ثم ينطلقان ويعبران حاجز الشريط الفاصل بين الضفة الغربية وإسرائيل ولكنهما ما أن يعبرا أمتارا قليلة متنكرين في ثياب عرس للتمويه، وقد حلقا ذقنيهما، حتى يجدا نفسيهما في مواجهة دورية إسرائيلية، فيهربان ليتفرقا منذ تلك اللحظة كل في طريق: الصديقان يفقدان بعضهما البعض، ويتوجب على “القنبلتين البشريتين” الآن مواجهة قدرهما وتحمل مسؤولية. النهاية لا تقل تشويقا عن كل الاستعراض السابق من مواقف وأحداث لا تعرف مَنْ مِنَ الصديقين سيفجر نفسه.
حول اختيار موضوع الفيلم المثير للجدل، قال هاني أبو أسعد: “أنا كفلسطيني دائما أبحث عن الرواية الفلسطينية، وهذا الموضوع الذي طرحته من خلال الفيلم، هو أفضل موضوع من الممكن اختياره لما يحمل من تخبطات ونقاشات... إنني قد اعتبرت هذا الواقع دراما تنمو بها شخصيات الفيلم، وقد قمت بسرد هذه الدراما بلغة الفيلم، وكان هذا التباين ضروريا من أجل إدراك ظاهرة القتل وظاهرة الموت في اللحظة ذاتها”.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق