الأحد، 8 مارس 2015

جول داسان و ميلينا ميركوري : ثنائي يساري في السينما والحياة


 محمد عبيدو
جول داسان و ميلينا ميركوري : ثنائي يساري في السينما والحياة
مخرج يساري أُدْرِجَ في القوائم المكارثية السوداء في هوليوود في أوائل الخمسينيّات و قضى باقي حياته في أوروبّا، مات عن عمر يناهز 96 عاما اثر اصابته بنزلة برد فى إحدى مستشفيات اثينا.. جول داسان معروف بعدد من الأفلام البوليسيّة الّتي أخرجها من 1947-1950 لاستوديوهات هوليوود :المدينة و القوّة الجبريّة، المدينة العارية، طريق سريع للصوص و اللّيل ، و ريفيفي ( 1955 ) فيلم بوليسي انجزه أثناء وجوده بالمنفى في فرنسا و عدّة أفلام تألّقت فيها ميلينا ميركوري ( التي أصبحت زوجته )، و تتضمّن أبداً يوم الأحد ( 1960 ) و توبكابي ( 1964) .
كان داسان مخرجا نشيطا بهدوء، كما وصفه النّاقد أندرو ساريس مرّة، لكنّ مثل هذه المصطلحات نسبيّة ، نظرة قصيرة في حياته و مهنته تساعد لتذكر أن داسان و آخرين من جيله في هوليوود ، كانوا أناساً يعيشون الجوهر، عرفوا المشقّة و الصّراع، تحمّلوا الأحداث التّاريخيّة الكبيرة و هذه التّجارب المتنوعة متروكة آثارها المهمّة في مجهوداتهم الفنّيّة . ولد جول داسان في 8 ديسمبر 1911 في ميدلتاون (كونتيكت) والده كان حلاقا، درس الفن المسرحي فى اوروبا قبل أن يهاجر الى الولايات المتحدة الأمريكية حيث ظهر فى اول الامر على مسارح برودواي الشهيرة ، وانضم فترة للحزب الشيوعي، ثم اصبح في عام 1940 مساعد المخرج الشهير "الفريد هتشكوك" الذي أعجب ببواكير داسان السينمائية الفتية، وشجعه على إخراج أول أفلامه في عام 1941 بعنوان "القلب الواضح" عن قصّة قصيرة لإدجار آلان بو... نجاح الفيلم النقدي وفي شبّاك التذاكر مهّد له طريق الدخول الى "مترو غولدوين ماير" هناك، أنجز سبعة أفلام مختلفة سواء على مستوى القيمة أو المضمون، من ضمنها "ثريللر" تجسسي اسمه "عميل نازي"؛ "شؤون مارتا" (كوميديا على طريقة هيتشكوك)؛ "شبح كانترفيل" (من قصة لأوسكار وايلد). انتقاله الى استوديوهات "يونيفرسال" فتح أمامه الآفاق، فصعد صعوداً نموذجياً مع "شياطين الحرية"، عام 1947، المقتبس من ريتشارد بروكس، الذي يقتفي خطا سجين فار ومثل الدور برت لانكاستر، لكن انجذاب الفيلم صوب العنف والقسوة، أثار حفيظة جهاز الرقابة الذي حذف منه وساهم بتشويهه.
بعده بسنة تقريباً، قدّم داسّان في "المدينة العارية " 1948( الذي فيما بعد صار مسلسلا تليفزيونا شعبيًّا في الخمسينيّات ) بورتريهاً اقرب للتسجيلية لمدينة نيويورك على خلفية قيام مجموعة من الشخصيات بالبحث عن وحش. مذاك عرف بأفلام تميل الى واقعية اجتماعية مشبعة بسوداوية، على رغم تضمنها مشهد مطاردة بديعة، أعاد "يونيفرسال" منتجة الفيلم، وهذا ما دفع داسّان الى الانتقال الى شركة "فوكس" حيث أنجز "أحياء فريسكو البائسة" (1948)، وفيه تناول الأقليات المهاجرة بحساسية، وبسبب ميوله اليسارية واجه صعوبات مع شركات الإنتاج الهوليودية الكبرى حتى انه اصطدم وتشاحن كلاميا مع رئيس احد الاستوديوهات الكبرى ( لويس ماير ).
ثم يسافر الى لندن بعد ضمه الى قائمة الشيوعيين الذين طاولتهم الحملة المكارثية حيث اخرج اول افلامه هناك فى عام 1950 بعنوان " اللّيل في المدينة " الّذي يتألّق فيه الممثّل الأمريكيّ ريتشارد ويدمارك و يعتبر الآن علامة لنوع الفيلم البوليسيّ وكان بمثابة القصيدة البصرية التي تغوص في دهاليز العذاب اليومي في اجواء ليلية شاقة لكنها مزنرة بترانيم غنائية على خلفية من الواقع المثقل بأمكنة هامشية . وعاد داسان إلى الولايات المتّحدة وأُدْرِجَ في القائمة السّوداء بهوليوود و اُسْتُدْعِيَ من قبل لجنة النشاطات المعادية لأمريكا بمجلس النواب عام1951 ، بالرّغم من أنه لم يطلب أبداً للشّهادة، مع ذلك، بعد التّسمية من قبل الآخرين، ومنهم إدوارد دميتريك الذي وشى به لدى السناتور ماكارثي، عرف داسان أنّ مهنته في هوليوود صارت منتهية... انتقل إلى فرنسا، حيث لم يجد أيّ عمل لمدّة خمس سنوات، قبل ان يخرج فيلم (خصام بين الرجال) الذي حصل عنه على جائزة افضل اخراج في مهرجان كان عام 1955، فيلم "من الذي  يموت" فى عام 1957 . صرّح داسان أنه كان محظوظاً حيث ان المبدعين السينمائيين لم يستطيعوا أن يعملوا الأفلام ثانية بعد الانتهاء على القائمة، بينما تمكّن من تصوير فيلم بعد خمس سنوات من الفقر .
 فيلم داسان الأوّل في اليونان عام 1957 كان (الّذي يجب أن يموت  )، المأخوذ من كتاب "المسيح يولد من جديد "لنيكوس كازانتزاكي الروائيّ اليونانيّ المشهور . لكن سيكون لديه سبب قريب للعودة إلى اليونان للأبد حيث استقر في اثينا عام 1959 مع زوجته النجمة اليونانية الراحلة ميلينا ميركوري المعروفة بنضالها ضد الديكتاتورية العسكرية فى بلادها. وجّه داسان زوجته في سبعة أفلام، من ضمنها فيلمه (ليس في يوم الأحد )1960 عن أمريكيّ في اليونان يحاول إنقاذ عاهرة طيّبة القلب تستقبل زبائنها في بيتها كل أيام الأسبوع ما عدا يوم واحد هو يوم الأحد فإذا أخطأ ( زبون ) جديد وطرق بابها في ذلك اليوم غضبت بشدة وطردته بعنف فهي في يوم الأحد امرأة أخرى لا ترتكب إثماً ولا خطيئة وإنما امرأة تتمنى لو استطاعت ان تذهب إلى الكنيسة كما يفعل الأتقياء صباح كل أحد .. و حاز الفيلم أوسكار لأفضل أغنية للملحّن مانوس هادجيداكيس ، و جائزة أفضل ممثّلة (ميلينا ميركوري) في مهرجان كان السينمائي ، و يُعْتَبَر أحد أجود الأفلام المعمولة في اليونان. داسان نفسه رُشِّحَ لأفضل مخرج و أفضل سيناريو، بالرّغم من أنّه في النّهاية لم يفز بجائزة أوسكار أبدًا .ثم اخرج فيلم فيدرا 1961 الذائع الصيت والمأخوذ عن الأسطورة اليونانية القديمة . وقدم توبكابي ( 1964 )، وهو فيلم بوليسي و تنويعة جديدة لقصة سلب وسرقة عبر لمسة كوميديّة ساخرة ، لكن تدور الحوادث هذه المرة في اسطنبول ( مع ميركوري و بيتر اوستينوف)، فاز عنه اوستينوف جائزة أوسكار لأفضل ممثّل مساعد.
 ميركوري و داسان لم يخفيا سياستهما اليسارية أبدا، كلاهما كانا نشيطين في مساعدة و تنظيم المقاومة اليونانيّة بين السّياسيّين و الفنّانين المغتربين في باريس ضدّ الحكومة اليمينيّة الّتي حكمت اليونان بين ال1967 و ال1974 . بعد أن تقاعدت ميركوري من صناعة الأفلام دخلت السّياسة، لتكون وزيرة ثقافة اليونان في الثّمانينيّات .
في عام 1978 منحه مهرجان كان السينمائي سعفة ذهبيّة لحلم عاطفة، أحد أفلامه الأخيرة . في سنّ متقدّمة، داسان احتفظ باهتمام بالسّياسة بالرّغم من عمره المتقدم و صحّته المتدهورة، وقال في مقابلة مع صحيفة كاثيميريني اليونانية عام 2002 :" اريد أن اقتل شارون .. وهذا طموحي " . وأضاف " ان لب المشكلة في العالم هو العنف والموت الذي يحكم هذا العالم " وقال " انظروا ما يجري الآن مع الفلسطينيين ..انه وضع مرعب " ... وتابع داسان " أريد ان اقتل شارون انه طموحي .. لقد قلت لابنتي انني الآن عجوز ولو قتلت شارون فماذا سيحدث .. سأذهب الى السجن حيث أواصل القراءة حتى آخر العمر " وخلص داسان الى القول " لا اعرف ما يمكن أن يحدث الآن، شارون عبارة عن آلة عسكرية " .
كان لديه طفلان من زواجه الأوّل مع الموسيقية بياتريس لونر : جولي و جو داسان، المطرب المشهور في سبعينيّات فرنسا الّذي مات من أزمة قلبيّة في عام 1980 . في نيويورك، صدر له كتاب بعنوان "ساحرات هوليوود" في عام 1988.وقد حصل داسان على الجنسية اليونانية الشرفيه بعد وفاة زوجته فى عام 1994 .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق