الاثنين، 10 مارس 2014

( تمارين العزلة ) لمحمد عبيدو : الشعر على أنقاض الحياة والسيرة الذاتية



يمارس محمد عبيدو الصحافة والنقد السينمائي والفني كفعل متابعة يومية تتطلبها طبيعة المهنة ، لكنه يمارس الشعر كفعل حياة ، علاقة مع الروح والأشياء والناس .
تأتي مجموعة محمد عبيدو الثالثة ( تمارين العزلة ) الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بعد مجموعتين شعريتين ( وقت يشبه الماء 1987 ، والغياب ظلك الآخر 1995 ) .
وفي ديوانه الجديد يمارس عبيدو شغفه الجميل بالحديث عن انكسارات الروح وعزلتها ، عن اليوميات التي تنهك الجسد وتقترب من هاوية الهلاك والرحيل ، عن رائحة المرأة الغائبة وعبق تفاصيلها ، عن استعادة الروح تألقها في حضورها ، عن شرود اليأس في ثنايا الروح في غيابها ( أبتكر يأساً لرحيلك الشاسع حيث عطر جسدك ، نشيد أردده صوتاً للغياب ،) عن تلك الرغبة العصية في التقاط لحظة التماهي والانسياب مع حبق الروح في مقابل الوحشة والعزلة ( متبعاً آثار خطواتك في القلب ... أطل من نافذة الروح .. تذكرني الريح الهوجاء بوحشة الشوارع من دونك ..) تطرح القصيدة أسئلتها وتبقى على عوالمها ، تكون القصيدة ، وتعبر عن نفسها باللغة ، بالكلام ، وكما يبدو لي فإن السؤال الذي تطرحه القصيدة ليس سؤالاً عن تركيبتها وشكلها أو فرادتها أو ببعدها عن الشعر التقليدي ، ولا حتى بطبيعتها ولا كذلك بالمعنى الذي ترغب أن تنقله إلينا ، لكنها معنية بالأساس بنوعيتها بوجود أو عدم وجودها الشعري بداية ، مما يعني كونها لغة تكتشف بلا توقف بالكتابة أو الكلام أو القراءة ، هذا يعني أن اللغة تفرض نفسها على المضمون وعلى الكاتب وعلى القراءة ، وهي تأخذ معاني مختلفة حسب أفكار الشاعر ، ليس فقط بالنسبة للشعر وإنما بالنسبة للإنسان والعالم . لا يهرول محمد عبيدو وراء ابتكار وأشكال لغوية أو كلمات غريبة ، ما يعنيه تماماً هو كون تلك الكلمة في نسقها الشعري عبرت عما يريد في تأكيده على الحالة ، إن التقاط جوهر الحالة الداخلية والغوص عميقاً في براري الروح وبساتين الجسد وسوق القصيدة إلى نهاية نقطف منها زهوة الوصول إلى المراد ، وبكلمات بسيطة ، عادية ، بعضها من المتداول واليومي ، هو ما يعنيه بالدرجة الأولى .
فكلمات مثل ( غبار ، خوف ، رغبة ، جسد ، عزلة ، شارع ، فضاء ، حجر ، ذكرى ، صمت ، عتمة ، سام ، انتظار ... الخ ) نجدها تغلف ثنايا القصائد ، وتقودنا إلى خاصية الشاعر من خلال طبيعة لغته الشعرية .
ولأن كل شكل للغة وبالتحديد أكثر للقصيدة يبقى انتاجاً للشخص الذي ينتجه ويعطيه شكله الخاص ويعطيه صفته الخاصة ضمن نظام الجمالية والمعنى في آن ( روحي متروكة لصحرائها .. والجسد طاعن في هلاكه ) ( راعياً عزلتي الغامضة أحاور الفراغ المنكسر الحلم انكسر قبل أن نحلمه ) .. مرتبكاً ويائساً أوسع خطاي المتكسرة على الرصيف ، الجسد حزين والحب أشد برودة من الموت ، شاحباً كالدمع ، شفافاً كالعشاق ، مقهوراً كالشعراء ، يائساً كالأوطان ) يستخدم محمد عبيدو صيغتين للسرد ، فتارةً يعتمد ( أنا ) أو ( ياء المتكلم ) وتارةً يستخدم لغة وصفية غير بعيدة لغة الأنا ، لكنها تبدو هنا وكأنها مضمرة أو مختبئة خلف تعابير الجملة الشعرية ، إذ يبدو أن ما تسمعنا إياه القصيدة ليس الكلمة وإنما ما يسبق الكلمة ، الصمت ، وأحياناً كثيرة تتركنا في عالمها لا نكاد نغادرها أو تغادرنا .
محمد عبيدو في ديوانه ( تمارين العزلة ) يحاور الشعر والحياة بلغة نثرية تلامس وجعاً ذاتياً قوامه اليوميات المنهكة وذبول الروح والوحشة والعزلة في مناخات تتسع لتلامس عوالم الآخرين وتجد لها صدى فيها .

                                                          علي العقباني
جريدة الثورة الثقافي العدد : 10897 – في 9 / 6 / 1999

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق