الاثنين، 19 يونيو 2023

بين الصبا والشيخوخة.. كم مرّت فرصٌ ضائعة؟

 فيصل علوش 



يُعدّ فيلم «YOUTH» / «بين الصبا والشيخوخة.. كم مرّت فرصٌ ضائعة؟ أو الصبا» (2015)، من أبرز أعمال المخرج الإيطالي باولو سورنتينو، الذي استطاع أن يفرض نفسه كواحد من أهمّ المخرجين موهبةً وإبداعاً في السينما الإيطالية المعاصرة. 

وينتمي الفيلم، في نظر أغلب النقاد، إلى «السينما الشعرية»، حيث تتحول الحوارات العفوية بين شخصيات هرمة ونخبوية تتأمل في معنى الحياة والموت والابداع والفن والحرية، إلى ما يشبه نثريات شعرية مُشبعة بخلاصات الحياة والحكمة ومحفزات التأمل. إنه عمل غنيّ متعدّد الأبعاد، يقدّم متعة للعين والأذن والعقل في آن. جمالية بصرية أخاذة، حيث تدور الكاميرا ببراعة لتبهرنا بالصور التي تضجّ بالحيوية والحركات السلسة الرائعة والتكوينات الجميلة. 

ويأخذ عليه بعض النقاد افتقاره إلى قصة متماسكة، وخلوّه من الأحداث المثيرة والمشوّقة. إذ يقوم عوضاً عن ذلك، على تجميع أجزاء مبعثرة، شظايا، صور ولمسات حُلمية سوريالية، ومضات خفيفة وإضاءات كاشفة، ليضمّها جميعاً، كمقطوعات موسيقية مختلفة، لكنها متناغمة في أوركسترا واحدة وهارموني واحد. 

يستعرض المخرج في فيلمه ثيمات عدة، لطالما تكرّرت في السينما، لكنه يترك عليها بصمته الخاصة، وخصوصية وفرادة معالجته لها، من قبيل وجع التذكر والحنين، الإحساس المرير بمرور الزمن، التحسّر على الوقت الضائع والمشاريع المجهضة، الافتقاد إلى الحب والجمال، تلاشي المتع والحرمان، والتوق إلى لذّة الخلق والإبداع. الفرص الضائعة والمحاولات اليائسة لاستعادة الطاقات والرغبات التي ولّى زمانها. مُعتمداً في ذلك على التأمل الثري في ثنائيات؛ الشيخوخة/ الشباب، الحميمية/ العدوانية، الجمال/ القبح، الجاذبية/ النفور، السمو/ التفاهة، الفطنة/ الحماقة. 

منتجع فخم وشخصيات فذة!

تدور أحداث الفيلم داخل منتجع صحّي فخم في منطقة الألب بسويسرا، حيث تلتقي فيه شخصيات الفيلم الرئيسية؛ 

ــ الموسيقار وقائد الأوركسترا «فرد بالينجر» الذى أدى دوره باقتدار عالٍ، مايكل كين، عجوز متقاعد في الثمانين من عمره، اعتزل الموسيقى، ولكنه ظلّ يحنّ إليها، ومع ذلك يرفض عرضاً من ملكة بريطانيا لقيادة الأوركسترا في حفلة بعيد ميلاد الأمير فيليب. كما يرفض كذلك تأليف كتاب يحكي سيرته الذاتية. رجلٌ أضحى بلا طموح، الحياة لم يعد لها معنى بالنسبة إليه، كما لم تعد لمقطوعاته الموسيقية قيمة على رغم حضورها الدائم في أذهان عشاق الموسيقى. يعيش زاهداً، منشغلاً بذكريات الماضي، ولا يكترث بالمستقبل، قبل أن يدرك أخيراً أنه ليس مريضاً، وأنّ ابتعاده عن الموسيقى تضامناً مع زوجته المريضة لن ينفعها ولن يعيدها كما كانت، بل إن اعتزاله أدّى به إلى شيخوخة الروح، وأنّ «الصبا» قد يستمرّ مهما تقدم المرء في العمر!.

ــ «مايك بويل»، التي أداها بنجاح كبير هارفى كيتيل، مخرج وسيناريست يُعدّ لفيلم يحقق فيه ذاته كمبدع، ويكون بمثابة «وصيته الأخيرة» في عالم السينما. وهو صديق قديم لفرد، ولكنه على النقيض منه. فعلى رغم سنّه ومرضه (البروستات)، تطغى عليه روح الشباب. يخوض تجربته السينمائية الجديدة بشغف وروح متدفقة. يعمل مع مساعديه الشباب بصورة تجعلك تظن أنه واحدٌ منهم. 

يتمثّل الزمن بالنسبة إليه في المسافة، ولهذا يسابق الزمن لإنهاء سيناريو فيلمه، ولكن من دون أن يفلح!، إذ تأتيه بطلة الفيلم «بيرندا موريل»، (التي تؤديه الممثلة المخضرمة جين فوندا)، لتخبره بانسحابها من العمل معه وتصارحه بحقيقة قاسية، وهي أنه كلما تقدّم في العمر بات يُقدّم أفلاماً سيئة، وأن حياته المهنية انتهت بالفعل. وذلك في أحد أجمل وأقوى مشاهد الفيلم، الذي يبدأ بالتصوير من بعيد، قبل أن تبدأ الكاميرا بالاقتراب شيئا فشيئاً، لتنقل لنا أدقّ التجاعيد المرتسمة على وجهيّ ويديّ مايك وبيرندا، بالتزامن مع مصارحتها له بحقيقة موقفها من أعماله. 

تصدمه هذه المصارحة القاسية، التي تعني في الوقت نفسه؛ انهيار فيلمه!. فيختلى بنفسه ويستعرض أمامه جميع الشخصيات النسائية التي قدمها في أفلامه، قبل أن يُقدِمَ على الانتحار، هرباً من هذه الحقيقة، و«رعب التقاعد والروتين» الذي ينتظره!.

أداء مايكل كين وهارفي كيتل يفوق الوصف والتقييم، إذ تكاد تشعر أنهما لا يمثلان أبداً. فأنت أمام مايسترو بـ«كلّ وقاره وعظمته»، وكذلك أمام مخرج سينمائي بـ«حق وحقيق». وعبر سلسلة من اللقطات القصيرة، لكن المضيئة، يرصدان ما يدور حولهما بأعين الدهشة والافتتان اللتين يخالطهما الحيرة والحسرة.  يتأملان ما آلت إليه مسيرتهما وحياتهما الشخصية، فهما صديقان حميمان، تجمعهما العديد من الذكريات المشتركة. يتذكران أشياء من الماضي، ما فاتهما من فرص. المنافسة التي احتدمت بينهما ذات مرّة لكسب ودّ امرأة أحبّاها كلاهما. 

ومن خلال هاتين الشخصيتين استطاع المخرج سورنتينو تجسيد وترجمة فكرة الفيلم «شيخوخة الروح وصباها» بعمل ساحر، أشبه بـ«سمفونية درامية تسمو بمشاعرك من فرط متعة الاندماج فيها».

وإلى ذلك، يضمّ الفيلم عدداً من الشخصيات الثانوية، منها شخصية تؤدي دور لاعب كرة القدم الشهير (مارادونا)، الذي يحمل على ظهره وشماً لوجه كارل ماركس. وكأنه يريد أن يقول لنا من خلال هذه الشخصية المزدوجة، أنّ كلاً من ماركس وماردونا، كان في وقت ما أسطورة، لكنه انتهى إلى شخصية مترهلة بكرش ضخم، وبات بحاجة إلى عكاز عندما يمشي، وإلى منفسة حين يتعب!.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق