الجمعة، 9 يونيو 2023

التجسيد السينمائي لأدب دوستويفسكي



محمد عبيدو 

مرت في 11 نوفمبر الماضي 202 عام على ميلاد الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي، الذى توفى فى العام 1881، و عاش معظم حياته في سانت بطرسبورج وتدور معظم أحداث رواياته في هذه المدينة في فترة روسيا القيصرية. وتم القبض على دوستويفسكي وحكم عليه بالإعدام بتهمة انتماءه لجمعه ليبراليه وبعد أن أغمضوا عيناه كي يطلقوا عليه النار، صدر العفو عنه من القيصر الروسي الذي غير حكم الاعدام للنفي مع الاشغال الشاقة لمدة اربع سنوات في سيبيريا. هذه الحادثة ،وسنوات النفي، اثرت في نظرته للحياة وحضرت في روايته ”ذكريات من منزل الأموات“. من أشهر أعماله: ”مذلون مهانون“، ”في قبوي“، ”الشياطين“، ”الأبله“و”رواية الشياطين” و”المراهق”. وقد اشتهرت في العالم بصفة خاصة روايتا “الجريمة والعقاب” و”الأخوة كارامازوف” اللتان عبرتا بأكمل صورة عن فلسفة الكاتب .


حظي بشهرة عالمية واسعة، وقد ترجمت أعماله إلى العديد من اللغات وأصبحت أفكارها وشخصياتها جزءا من تراث البشرية الروحي. بحسب الأديب الألماني ستيفان تسفايج في كتابه “بناة العالم” فإن مهووسي دوستويفسكي يواجهون عقبة كبيرة “لأنه للوهلة الأولى يخيّل للمرء أنه أمام عمل مغلق على ذاته، ثم يكتشف شيئًا لا حدود له، كونًا له أفلاكه الدوّارة الخاصة به، موسيقاه الأخرى التي تتردّد في أجوائه. يصاب العقل باليأس من استقصاء هذا العالم في يوم من الأيام من دون أن تبقى منه بقية، فسحره بالغ الغرابة لدى المعرفة الأولى”. وبالنظر إلى ضخامة روايات دوستويفسكي من حيث الحجم، وما تحتشد به من شخصيات وقضايا ومونولوجات طويلة، فقد تناوب على هذا المعين الأدبي كثيرون من مختلف الجنسيات ويكفي القول بأن إحصائيات قاعدة بيانات الأفلام على الإنترنت (IMDB) تشير إلى أن هناك 223 فيلمًا ومسلسلًا تليفزيوني تم اقتباسهم من أعمال فيودور دوستويفسكي وحده.


تُعد ” الجريمة و العقاب”  من أشهر أعمال الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي، تتحدث عن موضوع الجريمة وقضية الخير والشر التي ترتبط بالجريمة. تعتبر الرواية إحدى قمم الأعمال الإنسانية، إنها ذلك اللغز المفتوح على النفس الإنسانية، وما يدور في أعماقها، والمفتوح على قضايا الوجود، والعذاب، والخير، والشرّ، والحب، والجريمة، والجنون، والأهواء، والمنفعة، والمرض. و هي رواية مبنية على أساس الصراع الداخلي عند الإنسان وخاصةً الرغبة في التعبير عن النفس وإثباتها في مواجهة الأخلاقيات والقوانين التي أوجدها البشر مما يجعلنا نشعر بقلق مضنٍ ونتساءل عن العدالة في هذا العالم وفي الوقت ذاته نتساءل عما إذا كان يحق لنا الاقتصاص من العدالة ومن الأخلاقيات. الرواية تعكس نظرة الكاتب للجريمة كوسيلة من وسائل الاحتجاج ضد الظلم الاجتماعي، كما تعكس أيضا دوافع الجرائم والجذور النفسية لها ومدى استعداد الأفراد للإجرام عندما تتهيأ الظروف؛ وخصوصا في مجتمع تهدر به كرامة الناس .


من أبرز الأعمال السينمائية التي اتخذت من أحداث الرواية مادة لها وحملت عنوانها نفسه، الفيلم الفنلندي “الجريمة والعقاب” للمخرج أكي كاوريسماكي1998، والذي يمثل رائعة سينمائية حاكت وجسدت رونق العمل في قالبه الأدبي بدقة، وتدور أحداث الفيلم في العاصمة الفنلندية هلسنكي، أما الزمان فيختار المخرج الفنلندي كاوريسماكي مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم.


وكانت “الجريمة والعقاب” قد اخرجت مرتين ابان عصر السينما الناطقة ويعتبر الأهم هو الذي أخرجه الألماني روبرت فيني عام 1923 وأطلق عليه اسم ” راسكوفينكوف ” في اطار المذهب التعبيري في السينما الالمانية . وفي عام 1935 تلقفت السينما الناطقة بفلمين اخرج الاول بيير شانيل بفرنسا واخرج الثاني جوزيف فون يترينبرغ بالولايات المتحدة . كما اخرجت بعام 1959 بفلمين ايضا مع دومس ساندرس بالولايات المتحدة  وروبرت بريسون بفيلم بعنوان “النشال ” بفرنسا . وفي عام 1970 اخرج ليف كوليد جانوف الرواية بنفس اسمها في الاتحاد السوفييتي وهذا الفيلم هو اقرب الأفلام الى النص الأدبي وبلغ زمن النسخة الأصلية للفيلم 220 دقيقة


“الاخوة كارامازوف ”  تعتبر تتويجاً لأعماله. و تعتبر من الروايات العالمية الأكثر جدلاً و تأثيراً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بل الأدب العالمي كله عبر التاريخ, و قد قوبلت بالكثير من الشرح و التحليل. التبني السينمائي للرواية كان مغامرة شاقة نجح في إنجازها كفيلم المخرج الأميركي ريشارد بروك 1958 بسبب تعقد تركيبها وتعدد شخصياتها الرئيسية، وكل شخصية في تعقدها وعالمها الخاص والمختلف، من كل نواحي تكوين الشخصية الإنسانية في تشابكها المرير وبالتالي قدرها الإنساني. وتمكن من تكثيف الرواية الطويلة جداً واختصارها بشكل سينمائي ذكي وملخص لفكرة المؤلف، وهو من قلة المخرجين الذين تخصصوا في نقل الأعمال الأدبية الرائعة إلى الشاشة، والفيلم من بطولة الممثل الروسي الأصل يول براينر.


كما تم تجسيد الرواية عام 1969 في نسخة روسية من إنتاج ستوديو موسفيلم بعنوان  Bratya Karamazovy. مدة هذه النسخة ثلاث ساعات في ثلاثة أجزاء، كل جزء ساعة كاملة. اعتمد منتجوا الفيلم على النص بشكل كامل بحيث أصبح الفيلم نسخة طبق الأصل من الرواية. وإن كانت هناك من ميزة فهي في التجسيد الفضائحي للرواية. ولا أقصد بالفضائحي مشاهد إباحية أو شيء من هذا القبيل. ما أقصده بالفضائحية هي الحوارات الصادمة التي تسبب الهرج والمرج.


وهناك  تجسيد مميز لرواية الأخوة كارامازوف في الفيلم التشيكي “كارامازوف” 2008. هنا يسلك مخرج الفيلم “بيتر زيلينكا ” رؤية حداثية للرواية وإعادة رسم خطوطها بحيث يظهر لنا في الأخير أن منتجوا الفيلم لم يفكروا بتجسيد الرواية بقدر ما أرادوا إعادة صياغة النص من جديد وهز اليقين لدى المشاهد. تذهب فرقة مسرحية تشيكية إلى بولندا للمشاركة في تقديم عرض مسرحي عن الأخوة كارامازوف. وعند وصولهم لبولندا يذهبون إلى مصنع للصلب لإقامة بروفات للمسرحية. الممثلون يقومون بعمل بروفات متقطعة للرواية في مكان واحد وقاعة واحدة. ولكن، وهذا الشيء المميز في هذا الفيلم الحداثي، أن في الأوقات الفاصلة بين مشهد ومشهد يتفرق الممثلون عن بعض، كل واحد يذهب لشأنه. وحتى هم مفترقين، يستمرون في أداء بروفات المسرحية ويستمرون بالحوار.


«للقلب البشري حدوده، وقد أقول أن قلب فيودور دوستويفسكي كان بدون أية حدود». هكذا يؤكد أكيرو كيروساوا الذي قدم ،عن رواية دوستويفسكي المعروفة. فيلمه”الأبله “(1951): قصيدة طويلة وحوارات سيكولوجية عميقة حملتها في الأساس الرواية –الأصل، استطاع بعبقرية وشاعرية أن ينقلها للشاشة. إن رسمه لشخصية الأبلة أعطى انطباعاً أن كيروساوا عالم نفس من طراز رفيع وعموماً، فإن أفلمة أعمال ديستويفسكي مهمة شاقة قد لا يحلو لأي مخرج مهما بلغ شأنه أن يتجاسر ويقترب منها، تماماً مثل “هيتشكوك” الذي اكتفى بقراءة “الجريمة والعقاب” فيما تجاسر “كيروساوا” وأخرج الأبلة قائلاً: “إن ديستويفسكي يساعدني على العيش في هذا العالم وأنا أنتمي لابدعاته كلها”.


كما قدّم الفيلم الروسي “منزل واطيء” ( (2001 نظرة مظلمة وكوميدية إلى رواية “الأبله” ، مغلَّفة بعبثية فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي؛ فإن مثل تلك المقاربات “غير تقليدية” تأتي من مبدعين من خارج روسيا بالتأكيد وقد تخفّفوا من الثقل والضغط الثقافيين والوطنيين اللذين ربما يرزح تحتهما أغلب السينمائيين الروس حين يعنّ لهم الاقتراب من عالم دوستويفسكي. يُقتبس “الأبله” هنا، بتوقيع المخرج يوري بيكوف، لكي يعصرنها،  فالأبله هنا إطفائي يحذر السلطات: أحد هذه المباني آيل إلى السقوط. وهنا تندلع مناكفات بين السياسيين والناس الذين لا يحبون أن يُزعجوا. وفي وسط هذه المعمعة يحاول الإطفائي، الأبله في هذه المهزلة الدرامية، أن يسند الجدران واقفاً.


اما فيلم “القرين” من إخراج ريتشارد أيودي المأخوذ عن رواية تحمل نفس الاسم لدوستويفسكي. فتدور أحداثه حول موظف حكومي روسي يقتنع تماماً ان شبحاً يتقمص شخصيته ويسرق اسمه ووجهه وهويته.


كان أول اقتباس سينمائي ناطق لرواية دوستويفسكي ” الليالي البيضاء “(1848) السوفييتي ” ليلة  فيسان بطرسبج “اخراج جريجوري روفال وفيرا ستورفينينا . كم تم اقتباسها من قبل الإيطالي لوكينو فيسكونتي في العام 1957 ، وان حقق الفيلم انطلاقاً من روح القصة، بل حتى حرفيتها، نحا في اتجاه مسرحي رومانسي، قد لا تكون له علاقة كبيرة حتى بعالم دوستويفسكي. ولعل ما ساعده على هذا هو أنه لم يصور مشاهد الفيلم في مدينة سانت بطرسبرغ، أو في أي ديكور طبيعي، بل حرص على أن يبني ديكوراً داخل الأستوديو، إضافة الى حرصه في الوقت نفسه على أن تدور الأحداث في مدينة غير محددة المعالم تماماً. هي مدينة ليلية ضبابية يمكن أن توجد في أي مكان وفي كل مكان، مثلها في ذلك مثل الشخصيات الرئيسة، القليلة العدد، التي هي بدورها قد توجد في أي مكان وفي كل مكان، مع الحرص أيضاً على أن تكون أسماء الشخصيات الرئيسة ماريو… ناتاليا… تعميمية لا تشير الى مكان جغرافي أو الى مجتمع محدد.. أما الفرنسي روبير بريسون فجعل محيط بطله الرسام الشاب جاك في “أربع ليالٍ لحالم” (1971) عقبة أمام إبداعه، بينما حوّلت الحبيبة مارت ليل باريس، الذي تحرسه أغاني موسيقيين جوّالين وقيثاراتهم، إلى ” نَعْوَة ” حداثية لمدينة سياحية خرساء. وعبر 78دقيقة سينمائية يقتبس الكازاخستاني ناريمان توريباييف فيلمه المعنون بـ”المغامرة” حكاية ” الليالي البيضاء ” ، حيث ان إرادة بطلها الدمث مجبولة على تفخيم سعادته العصيّة بظنون أن وَحْشَة شابة طافحة بالحيوية تنتظر، عند زقاق مهجور، موعداً غرامياً ليلياً لن يتم، إنما هو قدر سماوي يملأ خلواته وتأمّلاته، ويستكفي رومانسيته وفتنة أحلامه. في اقتباس توريباييف المنقوص، نتعرّف على حارس ليليّ شاب منطو وكتوم، لكنه عملي. عفيف النَّفس ومقدام، لكنه مجروح الخواطر. لئن جعل دوستويفسكي من عزلة بطله ذريعة لجيلان طويل يمتد على أربع ليال، مرفوقة بحواريات إختزالية، يعبّر فيها عن خواطره المتضاربة. .


“حلم رجل مضحك” فيلم عن قصة “ديستوفسكي” القصيرة بنفس الاسم، والتي تحكي عن رجل، في لحظة تجلي، سبح في أحلامه ليرى أثر اختيارته واقعا على الآخرين.. “فجأة شعرت بأن الكون كله يعتمد علي”، يقول البطل. الفيلم رسوم متحركة مرسوم وملون باليد، من إنتاج عام 1992، رسم وتلوين وإخراج الروسي ألكسندر بتروف.


واقتبست السينما العربية  مجموعة من أعماله، مثل “الاخوة كارامازوف ” بفيلم “الأخوة الأعداء ” (1974) لحسام الدين مصطفى، وفيه نرى اب لديه 4 ابناء ولكنه لا يحبهم ولا يحب كل منهم الأخر علاقتهم ببعض عاديه لا يشوبها الا المصلحة ولكنها تصل الى قمه العداء بين الأب واحد أبناءه لخلافاتهم الماديه الأب دائم السهر ويصرف أمواله على لولا إحدى الباغيات فيحاول الابن ان يصل إليها ليحذرها من الاهتمام بأبيه ولكنه يقع فى حبها يزيد ذللك التنافس بين الأب وابنه ولذلل يعرض الاب على لولا ان تحضر عنده البيت مقابل 3 الاف جنيه يهدد الابن أبوه أمام الجميع بقتله اذا حضرت إليه يستغل حمزه احد الموجودين بالمنزل والذي يعلم بأنه ابن من أبناء الرجل ولكنه ينكره ويستغل الموقف ويقتل الاب ويتهم توفيق فى الجريمة ويحاول شوقى احد أخوته إثبات براءته عن طريق اعتراف حمزه له ولكنه لا يستطيع اثبات ذلك لان حمزه يشنق نفسه ويموت حتى لا يخرج توفيق براءه وعليه يحكم على توفيق بالإعدام امام ذهول الجميع .  و”الأبله”  التي تحولت إلى فيلم “الجريح”، للمخرج مدحت السباعي،كما ان رواية الجريمة والعقاب حول راسكولونيكوف، الذي قتل المرابية، ودخل فى صراع نفسي مع نفسه إلى أن دخل السجن، قد تحولت ثلاث مرات إلى أفلام، منها فيلم بالاسم نفسه لابراهيم عمارة، عام 1957، و”سونيا والمجنون” لحسام الدين مصطفى، و”المعتوه” لكمال عطية عام 1982 . ويعد فيلم “الرجل الذي باع العالم” واحداً من الأفلام المغربية النادرة المقتبسة من الأدب الروسي، وهو مغامرة جريئة لابني المخرج الكبير حكيم نوري، السيناريو مقتبس, كما بين جينيريك الفيلم, عن رواية “قلب ضعيف” لدوستويفسكي .


وتناولت السينما سيرة ديستوفسكي  بعدة افلام منها فيلم ” 26 يوما من حياة دوستويفسكي “عام 1980. حاز جوائز:”الدب الفضي” لمهرجان برلين السينمائي عام 1981،ولقب أفضل ممثل لأناتولي سولونيتسين. خريف عام 1866. كان الكاتب الروسي العظيم دوستويفسكي، وهو يتعرض لمراقبة الشرطة، في حالة مرعبة. وكان عليه أن ينجز في غضون أقل من شهر رواية “المقامر”. وإلا لأصبح على امتداد سنوات عديدة في عبودية مقيتة للناشر. وفي تلك الأيام يجمع القدر بين الكاتب وآنا سنيتكينا الفتية. فتغدو ملهمة طيبة للكاتب ومنقذة ومساعدة، ومن ثم زوجة له.


وايضا فيلم ” دوستويفسكي” من اخراج  فلاديمير خوتينينكو وقد أثار الفيلم انتقادات كثيرة بصفته يسئ الى مكانة كاتب روسيا الكبير في عالم الادب وقد اخرج من اجل تحقيق “هدف ايديولوجي” معين وبأنه ” كوميديا ذات نزعة وطنية” ، بينما رحب به آخرون باعتباره يعطي صورة شاملة عن حياة دوستويفسكي ككاتب وإنسان. وجرت العادة في السينما الروسية لدى إخراج فيلم عن كاتب ما ان يتم التركيز على الجانب الإبداعي من عمله بصورة رئيسية. ويقول خوتينينكو نفسه انه استجاب لطلب ادارة قناة تلفزيون ” روسيا ” لإخراج هذا الفيلم لأن حياة دوستويفسكي تمثل بحد ذاتها رواية مثل رواياته لكونها مترعة بالأحداث المأساوية وغير المتوقعة، كما انه أراد تغيير الصورة “المقولبة” المدرسية عن الكاتب .


محمد عبيدو



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق