المخرج داني بويل الذي كان قد قدم عام 1996 فيلمه الرائع Trainspotting مع ايوان ماغريغور، الشاب الباحث عن مخرج لحالة الإدمان الشديدة التي يعيشها، قدم بعده افلاما حققت نجاحاً فنياً وحظيت بقبول النقاد والجماهير وهي "حياة أقل روتيناً" 1997، "الشاطئ" 2000، وفيلم الإثارة والرعب "بعد 28 يوماً" ، عام 2002، ثم فيلم الكوميديا الفانتازي Millions، عام 2004، وبعدها عام 2007 فيلم الخيال العلمي "ضوء الشمس" .. قبل أن يأتي ليقدم فيلمه الأفضل حتى الآن Slumdog Millionaire «المليونير المتشرد»او «مليونير العشوائيات» فنال سبع جوائز اوسكارية لسنة 2008 ، إضافة الى أفضل فيلم وأفضل إخراج: أفضل سيناريو مقتبس، أفضل تصوير، أفضل توليف، أفضل موسيقى (للمؤلف أ. ر. رحمان، الذي نال كذلك جائزة أفضل أغنية وهي «جاي هو» في الفيلم نفسه)، أفضل مكساج صوت... وحصد قبلها جوائز الغولدن كلوب والبافاتا البريطانية . بهذا يعد فيلم «المليونير المتشرد» من الأفلام المهمة التي يجب تأملها وقراءتها بعمق.
ينتمي فيلم "المليونير المتشرد " إلى نوع من الأعمال التي تخاطب روح البشر وتهزها بعنف، وتصيب مشاهديها بحالة الدهشة والإعجاب والسحر التي تمتلك نفوسهم، وتأسرها طوال زمن مشاهدتهم للفيلم ،لقدرته على مزج السياسة بالاقتصاد، والتربية بالنزاعات الدينية، والفوضى الإدارية والأمنية بتنامي سطوة المافيات (مستقبل الهند)، والتلاعب الإعلامي بسطوة الصورة على المجتمع والناس؛ وهذا كلّه بلغة سينمائية فيها الكثير من الجماليات والحرفية المميزة .
إن المتتبع لفيلم المليونير المتشرد يُستلب تماماً بتقنية السرد الآسرة التي ينحوها السيناريو، ويؤخذ بطريقة حكي القصة غير التقليدية والتي لا تروى بمسار افقي تتابعي، فالزمن طوال الفيلم يروح ويجيء بين الماضي والحاضر، بايقاع سريع ركبت عليه موسيقى بروح هندية تم تأليفها خصيصاً للفيلم، فلم تغرّبه عن بيئته، وأكثر ما يلفت الانتباه هو استخدام تقنية السرد هذه في قصة حب إنسانية من الدرجة الأولى تحكي عن عالم المهمشين وتغوص فيه بإمعان، بكاميرا مجددة في ابتكار الجماليات، حين يمتزج الإبداع السردي الإخراجي بحميمية القصة وواقعيتها المفرطة، فاستطاع المخرج ان يرسم له صورة لافتة، وخطى درامية ممتعة، وكوميدية متقنة. لقد كانت قفشاته التي يخرج بها بين الفينة والأخرى متنفساً لدى المشاهد الذي يتابع قصة تشكلت من احداث مأساوية ومؤلمة. السيناريو صاغه "سيمون بيوفوي" الذي سبق ورشح لجائزة الأوسكار في العام 1997، وقد اقتبسه عن رواية "سؤال وجواب" الذائعة الصيت للروائي والدبلوماسي الهندي "فيكاس سوارب" والتي كانت الأكثر مبيعاً في العديد من الدول وترجمت إلى 36 لغة، وحازت العديد من الجوائز الأدبية والثناء النقدي .
يبدأ الفيلم بـ«جمال مالك» ( يؤدي الدور ديف باتل) – عمره 18 سنة- وهو يصل إلى السؤال الأخير من المسابقة، ويدهش مضيفه المذيع «برم» ( يؤدي الدور أنيل كابور) والجمهور، كيف تسنى لهذا المتشرد من أطراف بومباي المهمشة التي تطحن ساكنيها في دوامة الحياة اليومية ولهاثها خلف أمل العيش أو وهمه، والذي توظف مؤخراً كعامل تنظيف في مركز للاتصالات أن يصبح على وشك الفوز بعشرين مليون روبية؟ ويظن «برم» المتصابي الغاضب بأنه غشاش ويسلمه إلى الشرطة فيخضع لتحقيق قاس بدعوى الغش في البرنامج فيضربونه ويعذبونه ويعرضونه إلى الصدمات الكهربائية، بعد أن وصل وهو الشاب الفقير الأمي لهذا المستوى المتقدم.
لكن جمال يصمد وأثناء يوم من التحقيق معه يسبق رجوعه إلى ستوديو «من يربح المليون؟» يعاد عرض البرنامج في مركز الشرطة ويروي جمال قصة حياته إلى المفتش (يؤدي الدور عرفان خان) الذي لا يصدقه لكنه يتعاطف معه شيئاً فشيئا.
ومن خلال ثلاثة أزمنة، وكثير من الأمكنة، وبتداخل مدهش وسلس، يسرد الفيلم قصة الشاب المتنافس في البرنامج منذ الطفولة، وحتى اللحظة التي يفوز فيها في البرنامج بعشرين مليون روبية، متحدياً بإرادة صلبة شتى أصناف القهر التي تمارس عليه، ويواجه الموت عدة مرات بسلاح واحد هو إصرار الحب، ومن خلاله تظهر صورة مجتمع الهامشيين الهندي وأوضاعه الاقتصادية وانقساماته الطائفية والقوى المتحكمة فيه، وتبدلاته خلال سنوات عمر هذا الشاب. وبانتقال الفيلم بين غرفة التحقيق وستوديو التلفزيون وعقد من حياة جمال من سن السابعة حتى الثامنة عشرة ( يؤدي الدور ثلاثة ممثلين) ، يكشف بصور مضحكة وقاسية ومأساوية أن كل إجابة عرفها في السؤال كانت ترتبط بقصة أو حادثة كان قد عاشها منذ طفولته،و كيف التقط جمال قليل المعلومات التي مكنته من الإجابة عن الأسئلة ونرى الأقدار تأخذ الاخوين الى تاج محل، فيعملان دليلين سياحيين، في المكان التاريخي الذي يبدي حضوراً في الفيلم، جمال يتحول الى دليل سياحي يقدم رحلة وحقائق مزيفة عن المعلم لسياح لا يهتمون بالحقائق التاريخية لكن بالتقاط الصور أمامه، و يجني جمال أول مئة دولار له، ومنها يستطيع الإجابة على سؤال عن أي الرؤساء الأمريكيين يظهر على ورقة المئة دولار. ولأن أخاه يتحول الى رجل عصابات، فهو يستطيع أن يعرف الاسم المسجل لأحد أنواع المسدسات. حتى عندما يعجز عن الإجابة عن أحد الأسئلة، يوهمه مقدم البرنامج أنه يساعده بإعطائه الإجابة، لكنه بحدسه الفطري، يحس بحقده الطبقي بعدما سخر منه طوال البرنامج، فيختار إجابة أخرى، ويربح. وكيف بلغ السؤال الأخير بالاتصال بصديق كونه حبل النجاة الوحيد.إنها فكرة غاية في الذكاء أضيفت بشكل بارع ونحن نشاهد جمال الخجول والحساس وأخاه المشاكس المتمرس بالصعاب سليم وهما يتعلمان فن البقاء في عالم قاس. وهما دائما في حالة هروب: من الشرطة، من الهندوس في اضطرابات طائفية تؤدي إلى موت أمهما ومن عصابات مجرمة للخطف تخطط لتحويل جمال الصغير إلى متسول أعمى.
مع كل سؤال من أسئلة البرنامج نتعرف على حياة جمال في الماضي والحاضر، ونتابع طموحه الشديد للفت نظر معشوقته لاتيكا التي يعرف انها تتابع البرنامج، ويريد ان يحررها من قبضة رجل العصابة ويعيش معها في وضع مادي ميسور. لكن مقدم البرنامج (نجم بوليوود انيل كابور) لا يتعاطف مع الشاب مستكثراً عليه، وهو القادم من بيئة تعسة جداً، ان يكون ناجحاً ومتفوقاً وغنياً، فيرمي تعليقات أثناء البرنامج تسخر من اصول الشاب وعمله صبي شاي. وهو امر يعكس موقف المجتمع عموماً من سكان الاحياء العشوائية المعدمة.. ثم يؤكد في النهاية انه لم يكن ليشترك في البرنامج لولا رغبته بأن تشاهده الفتاة التي أحبها منذ طفولته وفقدها منذ فترة
يقتنع المحقق بتفسيرات جمال ويطلق سراحه ليعود الى البرنامج كي يكمل السؤال الاخير، سؤال العشرين مليون روبية، وسط ترقب المشاهدين له على نطاق واسع. السؤال الاخير يذكره بطفولته، عندما منح هو واخوه نفسيهما اسمين مستمدين من رواية (الفرسان الثلاثة) لالكسندر دوما المقررة عليهما في المدرسة. وعندما قررا الموافقة على ضم لاتيكا الصغيرة الى مكان نومهما وهي تقف تحت المطر، منحاها اسم الفارس الثالث، وهو السؤال الذي كان مطلوباً اجابته. يتوقع جمال الذي نسي الإجابة ان يساعده شقيقه سليم في تذكر الاسم، ولكن الهاتف الجوال الخاص بسليم أعطاه للاتيكا التي هرّبها من بيت رجل العصابة لتلحق بجمال. ترد لاتيكا على الهاتف، تصمت قليلاً محاولة ان تتذكر الاسم ولكنها لا تعرف الاجابة، فيعلو ضجيج الجمهور المتحمس داخل الاستوديو وخارجه، وقد تجمع الناس في الشوارع ليتابعوا الحلقة، لم ينسحب جمال، ويقرر ان يجيب وتكون الإجابة صحيحة. تعم الفرحة الجمهور المتماهي في غالبيته مع شخص مثله فقير ومعدم ويحلم بالحصول على الملايين بطريق مشروع. ويختتم الفيلم برقصة فرحة داخل محطة القطارات شارك فيه جمال ولاتيكا، في خاتمة سعيدة، وربما اراد المخرج من خلالها، ان يوجه التحية للسينما الهندية، وجمهورها.
تتمثل جمالية الفيلم في اختيار المخرج البريطاني لمجموعة من الممثلين الهنود المغمورين، الذين برعوا في تمثيل الحالة البائسة للمهمشين في الهند، فكان أداء الممثلين العفوي المتدفق متوهجاً الى أعلى درجات الصدق الفني . وفي اختياره أماكن التصوير، وحرية تحريك الكاميرا في التقاط المشاهد السريعة المتتابعة، كما تتمثل في توليده رؤية فيلمية جديدة تتجلى في تجاور الفلاشابكات زمنياً، في مراحل متداخلة مع قطع هذه الفلاشاباكات والعودة بها إلى الزمن الرئيسي للفيلم وهو حضور البطل في برنامج: «من سيربح المليون»، عبر هذه الخطوط المتداخلة بتقنية سرد مبتكرة يتم الانتقال فيما بينها زمانيًّا ومكانيًّا برشاقة شديدة لا تخلق أي التباس في ذهن المشاهد، يلتقط فيلم "المليونير المتشرد " تفاصيل إنسانية صغيرة تضيء الواقع الكبير، وتبحث في ثناياه عن مساحة للحب واكتشاف فرص وإمكانيات أجمل للحياة. ويقدم صورة ذاتية لشخصياته، وصورة عامة للهند الخلفية التي تجري فيها الأحداث وتتحرك داخلها الشخصيات ، يعكس خلالها معادلة الكرامة والانسانية، ودور الحلم في مواجهة البؤس والانسحاق اليومي في عالم يسيطر عليه الأقوياء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق