( ترجمة عيسى العاكوب، راجعه محمد عبيدو)
المؤلف: ريد هربرت
الشعر الذي ينساب من الروح الى الروح سيظل أبدا راية خفاقة بالدم واضطرام نبض القلب، وإيقاع الجسد والكون. فالعالم بلا شعر أقل احتمالا وأقل انسانية، صحيح ان التقنية الحديثة والتطور التكنولوجي قد قصرا المسافات بين البشر، ولكن من الواضح ايضا ان الجدران بين القلوب قد تدعمت بشكل مخيف، ورفعت الأسوار بين الانسان والحقائق المصيرية حول سير الأرض والبشر إلى خرابهم.. ويبقى الشعراء مع حلمهم بإعادة تأسيس الأرض وتأثيثها من جديد واستعادة اللهب المنطفئ وإطلاق المتخيَّل من عقاله لتشكيل الحياة، قادرين على الدوام، بواسطة الشعر، على ترميم شروخ الحقيقة المتصدعة، وينتشلون وردة المعنى من بين الخراب. وكتاب »طبيعة الشعر« الصادر حديثا عن وزارة الثقافة السورية لمؤلفه هربرت ريد ومترجمه د. عيسى العاكوب، يدور حول سؤال الشعر وماهيته، فمؤلفه فيلسوف وأحد أعلام النقد الفني والجمالي الانجليزي في القرن العشرين ويعرف أكثر من غيره ان الجواب عن ماهية الشعر ممتنع.. ولكنه يعرف أيضا ان البشرية لا تطرح حقا على بساط البحث إلا المشكلات التي تتحداها.. الكتاب عبارة عن ثماني مقالات مرتبة كلاسيكيا بالمعنى التعليمي، فتصنيف الكتاب للقضايا منطقي: الأداء الشعري طبيعة الشعر بنية القصيدة التجربة الشعرية ودور كل من الأسطورة والحلم في احداثها، ويطرح المسألة التي طالما أربك الجواب عنها الشعراء وشراحهم عن »الغموض في الشعر«. وعن منهجيته في هذا الكتاب يذكر هربرت ريد في المقدمة: »ليس لزاما ان يكون المزاج العلمي لعصرنا ذلك المزاج الذي يحتاج الفنان والناقد بوصفه ممثلا للفنان الى ان يتصالح معه، ولقد كان الفن والعلم دائما منهجين مستقلين لاكتشاف الحقيقة وتقديمها، لكن ما ان أرسيت قواعد دائرة من دوائر العلم يكون العقل موضوعها حتى ظهر الى الوجود وضع جديد لأن العالم لم يستطع لأمد طويل ان يسير بهذا الحقل من دون ان يكون على صلة ومن دون ان يلتزم بالتكيف بتلك النتاجات التي أبدعها عقل البشرية، هذه التي ندعوها أعمالا فنية، يعني هذا ان علم النفس يصطدم مباشرة بحمى الناقد الأدبي، يغير عليه وينتهبه ويتركه مخزنا من الأحكام القبلية اللاشعورية. لقد كانت مناقشتي لتأكيد انه في هذه الحالة ينبغي على الناقد ان يثأر وينتزع من علم النفس امضى اسلحته وقد استدرجت شيئا فشيئا نحو نمط نفسي من النقد الأدبي لأنني قد استيقنت من ان علم النفس وخاصة منهج التحليل النفسي في مقدوره ان يقدم تفسيرات لعدد من الإشكالات التي تتصل بشخصية الشاعر وتقنية الشعر وتقدير جماليات القصيدة«. لكنه يعود ليؤكد في نهاية مقدمته انه لم يجعل المنهج النفسي في النقد المنهج الوحيد وإنما أراد فقط إبراز أهميته والتدليل على انه على هدى منه ينبغي ان تتقدم معظم أحكامنا الأدبية نحو محكمة التنقيح. ويدرس في أولى مقالاته شخصية الشاعر التي على أساس طبيعتها ينهض شكله الشعري وذلك بدراسة الطبيعة الذاتية للشخصية الفعل الذي تؤديه في عملية الكتابة ما ينبغي ان ندعوه باختصار الوظيفة الإبداعية للشخصية، وعن ذلك يقول: »ليس في استطاعتنا ان نؤمل بالوصول الى تحديد للشخصية دونما تعد منا الى حد ما، وأحسب ان النقد لا ينبغي ان يشغل نفسه بالعمل الفني في ذاته فقط وإنما أيضا بعملية الكتابة وبالحال العقلية للكاتب، وهو يتلقى الإلهام أقصد الى ان النقد لا ينبغي ان يشغل نفسه بالعمل الفني بعد خلقه فحسب وإنما أيضا بمنتج العمل ونشاطه العقلي وبأدواته«. وبعد اقتباس طويل لأقوال فرويد حول الواعي وقبل الواعي أو غير الواعي المكبوت يقول: »تصاغ الموهبة في العزلة، أما الشخصية الخلقية فتصاغ في تيار العالم« والشخصية الخلقية ينبغي ان توضع مقابل الشخصية الموهبة التي هي القاسم المشترك لوجداننا وعواطفنا، والحق ان تلكم المعارضة هي ما أريد ان اؤكده، وحين مضيت الى أبعد من ذلك فذهبت الى ان الشعر كله بما فيه الدوافع العاطفية والحماسية جميعا، نتاج الشخصية ولذلك كتبت في شخصية خلقية«. ويذكر هربرت ريد ان بروست كان منشغلا جدا بمشكلة الشخصية وأعطى اهتماما كبيرا للمدى الذي تعول فيه الشخصية على الذاكرة وخاصة على ذاكرة الأحاسيس، على ان ثمة تذييلا مشهورا يقع في منتصف أثر بروست الملحمي الطويل بالضبط تقريبا، وهو يشكل مفتاحا لفلسفة المؤلف في الفن والحياة جملة.. وقد روى بروست بصراحة كيف تأتي في لحظة انهيار بدني كامل ان يرى بفعل عملية تذكر غريزي الصورة الحية لجدته وأنه في هذه اللحظة فقط وغب دفنها بأكثر من سنة غدا مدركاً انها متوفاة، وهذا ما يجعل بروست يتساءل عن مسألة »في أية لحظة نقدر قيمة طبيعتنا الروحية تكون القيمة الكلية لها خيالية تقريبا، وعلى الرغم من قائمة الجرد الطويلة لكنوزها فإن أياً من هذه الكنوز لا يمكن ان يحول الى نقد في بعض الاحيان سواء أكنا ندرس الكنوز الفعلية ام كنوز الخيال«. ضد الشعر الصرف ويلاحظ هربرت ريد اتفاق تحليل بروست بقوة مع تحليل فرويد وأن ظاهرات العقل في قسميه الواعي واللاواعي وحتى حالات ما قبل الوعي للكبت والرقابة هي التي يصفها بروست بكلمات ليست بعيدة عن المفردات العلمية للتحليل النفسي. وفي مقالة عن الأداء الشعري يحاول المؤلف ان يدحض نظرية الشعر الصرف، وطبيعي ان الكلمات صوتها، وحتى مظهرها المجرد، هي كل شيء بالنسبة الى الشاعر. فالاحساس بالكلمات له تداعيات تحمل العقل وراء الصوت الى صورة مرئية وفكرة مجردة، والشاعر حتى حين يغدو واعيا للكلمات في عملية التأليف يشعر بها وهي تصبغ وعيه ليس فقط بالصوت بل باللون والضوء والقوة ايضا، ولنقل باختصار انها تصبغه بالمعنى، ولا يعتمد الشعر على جرس الكلمات فحسب وإنما على ترجيعاتها العقلية أيضا. إن شيئا واحدا في المناقشة الأزلية حول الإيقاع يقيني ثابت، وهو ان الشعر تاريخيا وإبداعيا يكتسب شكله من حيث هو تسلسل إيقاعي بعيدا عن أي تفكيك الى تفعيلات وأوزان، يأتي الشاعر أولاً ثم يأتي بعده العروضي«. ويلاحظ المؤلف ان ثمة اختلافا بين القصيدة القصيرة والقصيدة الطويلة، لكنه ليس اختلافا بين الطول بقدر ما هو اختلاف في الجوهر، ويرى ان الاختلاف يعتمد على مسألة الغنائية »فنحن غالبا ما ندعو القصيدة القصيرة قصيدة غنائية وتعني هذه أساسا قصيدة قصيرة الى القدر الذي يكفي لأنه تعد للموسيقى وتغني ابتغاء امتاع سريع، وان بالإمكان من وجهة نظر الشاعر ان تحدد القصيدة الغنائية بوصفها القصيدة التي تجسد موقفا عاطفيا مفردا او بسيطا، القصيدة التي تعبر مباشرة عن حال ذهنية مسترسلة او إلهام. أما القصيدة الطويلة، وسيأتي هذا نتيجة طبيعية، فهي القصيدة التي توحد من خلال البراعة عددا او كثيرا من مثل هذه الأمزجة العاطفية على الرغم من ان البراعة ههنا قد تنطوي على فكرة مهيمنة مفردة يمكن ان تكون نفسها وحدة عاطفية«. فالشعر الميتافيزيقي عند المؤلف »ريد« مجرد لأنه على غرار الميتافيزيقيا يتعامل مع المفاهيم، لكنه من حيث هو شعر ليس أقل انفعالية من الشعر الغنائي ويشير الى عدد من التصورات الخاطئة ومنها ان الشعر الميتافيزيقي او التعليمي نظم للميتافيزيقا او العلم في اسلوب شعري. ان الشاعر نتاج عصره، فإنه لم يظهر الى الوجود تحت ضغط اجماعية محددة بل الراجح انه يقف داخل محيطه ويتشرب المشهد الذي يحيط به، وان الصلب في هذا المعنى بمثابة موجهة الصوت الجيدة للفكر على غرار اية حال اكثر ايجابية للمجتمع، وأيا كانت درجة تفاهة حياتنا الاجتماعية فإنه لا تزال ثمة قلة ذكية ذات نشاط كبير ومآثر حقيقية، أشير خاصة الى الفيزيائيين المعاصرين الذين يبدو عملهم قادرا على تقديم نظام كامل للفكر والصور المجازية معد للإخصاب في عقل الشاعر.. ويرى ان العلم قد أقام مقدارا كبيرا من الظاهرات لكن هذه الظاهرات تظل مفتقرة الى الترابط وهي تحتاج الى وحدة تركيبية. وقد تعمل الفلسفة الميتافيزيقية في وجهة واحدة لإقامة هذه الوحدة، ولعل الشعر الميتافيزيقي العامل في وجهة مغايرة يستطيع وليس هذا ادعاءً ان يبلغ الغاية نفسها. دفاعاً عن الغموض ويدافع المؤلف عن الغموض في الشعر معتبرا إياه الصدى الداخلي للمعنى، وأنه لا يمكن ان يُعد الغموض في الشعر صفة سلبية او إخفاقا في تحقيق حال من الوضوح التام ليس غير انه قيمة ايجابية لكنه فوق ذلك مجموعة كاملة من مثل هذه القيم.. ينبغي ان يخترع الشاعر الكلمات وأن يبدع الصور ابتغاء ان يظل وفيا لشكل اللغة الداخلية، وينبغي ان يبتدع وذلكم مبعث تسمية الشاعر مبدعا.. ويرى ان من الخطأ ان نسأل الشاعر ان يشرح، فلا يمكن لهذه الوحدة الانفعالية التي هي مبرر وجود كل قصيدة ان تقاس بأدوات عقلية وإلا فإنه سيكون من الأسهل التعبير عنها نثرا. وحول الاسطورة والحلم يذكر اننا نلاحظ في الوقت نفسه انه كلما أوغل العلم في غموض الحياة عاد ليكون عالما اسطوريا »اذ ان الأساطير التي عفا عليها الزمان هي الآن تنبعث من جديد ويأتي حين تعود فيه الآلهة والأبطال القدماء جميعا، هؤلاء الذين جمعوا إليهم الناس وأشبعوا رغبة عقولهم لقرون عديدة ويستأنفون وظائفهم الرمزية«. ان شيئا من البحث سيكشف رموز الحياة والموت في كل ناحية منا منظومة في نسيج تاريخنا وأساطيرنا في شعرنا ورسمنا وفي أحلامنا وكلامنا.. ويمكن ان تهيمن هذه الرموز في نقاط دقيقة على الحياة الشخصية جميعا، وسيكون ممكنا فقط إثبات مثل هذه الفرضية في أية حال عادية بوساطة التحليل النفسي. وثمة دائما حالات محددة ليست عادية، ثمة خاصة حال الشاعر يختلف عن أي نقال للمعرفة، وهو عالم بقدر ما يفيد العالم من الكلمات اي ان الشاعر إنسان يبدع أساطيره الخاصة به. ويصل الى خلاصة ان الاسطورة بالمعنى الصريح هي الصورة التي تصنع القصيدة وتعمل طاقتها الأسطورية الفعالة بوصفها مادة بين الجزئيات المنطوقة المعطلة، وتتكشف تماما كتلك الجزئيات التي تغطي الصورة في غلالة من الكلمات اكثر تألقا. ولهذا السبب صار ينظر الى الشعر بوضوح اكثر منه في أي وقت مضى بوصفه وسيطا بين الحلم والحقيقة، وان الخيال هو القوة التي نستطيع بواسطتها ان نلم بالشروط المتناقضة لتجربتنا، ومن ثم نأتي بأوسع التعارضات داخل بؤرة واحدة وتحت ضياء يجمعها في كل التحام في تكامل محسوس ومشكل هو العمل الفني، تلك الأعجوبة التي هي البينة الوحيدة في حوزتنا لأدوات شمولية وسرمدية يحظى بها الشعر في حياتنا اليومية. محمد عبيدو
من أرشيف جريدة "السفير"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق