فيصل علوش
في مجتمع الصيادين إما أن تكون صيادا أو طريدة. وقد تكون أنت نفسك صياداً في لحظة، وفريسة في أخرى. فيلم «The Hunt»، وعنوانه بالإنجليزية يعني الصيد والمطاردة معاً، يترك المشاهد فريسة لسؤال مؤرق لا ينفك يلاحقه؛ إلى أيّ مدى علينا أن نصدّق الأطفال؟ وكيف بوسعنا حمايتهم من دون إجحاف بحق من هم حولهم، أو يقومون برعايتهم؟
لوكاس مدرس أربعيني يعيش في بلدة صغيرة، وهو عضو فاعل يحظى بمحبة واحترام مجتمعه القروي المترابط. نراه منذ اللحظات الأولى للفيلم يتصرف بنبل وشهامة مع الآخرين؛ ينزل في جو بارد جداً إلى البحيرة لإنقاذ صديقه، يتعامل برضا ومرح مع الأطفال في دار الحضانة التي يعمل بها، وبعد طلاقه، يودّ ابنه أن يعيش معه، بدلاً من أمه التي نستنتج بأنها «عدوانية»، بالنظر إلى هياج الكلبة كلما ذكر اسمها أمامها.
لكن، وعلى رغم الصفات النبيلة التي يتمتع بها، يحدث له ما ينزع عنه كل احترام أو تقدير، وذلك إثر اتهامه زوراً بالتحرش من قبل ابنة صديقه المُقرب ثيو، الطفلة كلارا التي يعاملها لوكاس بطيبة ولطف أبوي، ويمشي معها حتى يوصلها إلى منزل أسرتها حين يتأخر والداها عن الحضور لاصطحابها، ولم يخطر بباله يوماً أنّ كذبة منها ستؤدي إلى تدمير حياته وسمعته!.
أسرة كلارا تتنازعها المشاكل وتعيش وسط حالة من الفوضى، (والدها مدمن على الكحول، وأخوها الأكبر تورستن المراهق يعرض عليها، باستهتار، مشهد قضيب منتصب على هاتفه المحمول)، وتبدو الطفلة محبطة جرّاء هذه الحال. ولكنها علاوة على ذلك، تعاني مما يسمّى «اضطراب الوسواس القهري»، (لا يمكنها أن تطأ الخطوط الفاصلة على الأرض، وعندما تخرج من المنزل فإنها لا تستطيع العودة إليه مجددا).
وقد تمكّن المخرج توماس فينتربيرغ، بعد بحث، من إيجاد الشخصية الملائمة لتأدية دور الطفلة، بنظراتها التي تجمع بين براءة الأطفال وألاعيب الكبار، وبين العبث الطفولي والتخطيط المسبق لتحقيق مأرب لها.
وقد وجدت كلارا في أستاذها وصديق العائلة لوكاس «تعويضاً» عن عدم قيام والدها بدوره الأبوي المفترض تجاهها. ولكن هذا التعويض يعبّر عن نفسه بطريقة خاطئة، إذ أنها تعلقت به كحبيب مفترض وليس كأب فقط. وعندما لا يتجاوب مع ميلها العاطفي هذا، تحنق عليه وتفكر بالانتقام منه، فتعلن أولاً أنها تكرهه، ثم تلفق الاتهام الظالم بحقه، «مُثرثرةً» أمام مديرة الروضة بأنه «كشف لها عن قضيبه المنتصب»، خالطة بين ما رأته على هاتف أخيها وبين تهيؤاتها التخيلية المتعلقة به.
وقد أوّلت المديرة حديث كلارا على أنه تحرش. ومع أنّها أكدت في البداية أن «الفتاة لديها خيال خصب»، وذكرت بأنها «لا تريد القفز إلى استنتاجات»، لكنها ومن منطلق حرصها على أطفال الروضة تسارع لاستدعاء طبيب نفسي للأطفال، يطرح بدوره على الطفلة، أو بالأحرى يحاصرها بحزمة من «الأسئلة الإرشادية» المحدّدة، اكتفت غالباً بهزّ رأسها كجواب عليها. هذه الأسئلة ساهمت بنسج حكاية التحرش، كما افترضها الطبيب وتخيلها الكبار وليس الطفلة، قبل أن يجري تبليغ الشرطة.
«كذبة صغيرة»!
لم تدرك كلارا أو تتخيل ما سيترتب على كذبتها (تهمتها)، التي رمتها جزافا، من انعكاسات وتداعيات. ولقد كانت على وشك نسيان ما قالته تقريبا، وحاولت غير مرة سحب أقوالها، لكن المجتمع المحيط صدقها، وبدا كأنه يرفض تراجعها عن اتهامها، مما دفعها إلى المضيّ فيه.
تُسرُّ لأمها قائلة: «لقد قلت شيئاً سخيفاً (بحق لوكاس). الآن كلّ الصبية يتحدثون». وبعد غمغمتها ببضع كلمات تجيب الأم:
«عقلك يفضّل ألا يتذكر ما حدث»، (مع أنّ العكس هو الصحيح. فلو حدث اعتداء جنسي عليها، لما استطاعت نسيانه أو تجاهله، حتى لو حاولت ذلك!). ثم تضيف: «إنه أمر بغيض التفكير في ذلك. لكنه حدث، أليس كذلك كلارا؟».. فيكون جواب الطفلة هو الصمت فحسب!
ولم يقتصر الأمر على كلارا، بل لقد حذا بقية الأطفال حذوها، وسردوا قصصاً مشابهة عن تحرش لوكاس بهم. وهكذا اتسعت دائرة الاتهام أكثر فأكثر، وأخذت الكذبة تنتشر وتتدحرج لتكبر مثل كرة الثلج المندفعة على منحدر، جارفةً معها لوكاس وسمعته إلى الحضيض في عالم القرية الضيق والمحدود، وذلك في ظلّ اقتناع الآباء بأن لوكاس تحرش بأطفالهم، واعتقادهم الراسخ بأن «الأطفال لا يكذبون»، وما يقولونه هو الحقيقة.
«محكمة الشعب» غير العادلة!
وهكذا ينجرف أهالي البلدة مع سيل الـ«هستيريا» العاصف الذي سيطر عليهم، ويتحَوّل الرجل البريء اللطيف المحبوب الذي يفيض نُبلا وشهامة، فجأة، إلى «رجل شرير» يُهدّد المجتمع ويستوجب عزله ونبذه ومحاربته، كأنه فيروس مُعدٍ يجب تحاشيه والتخلص منه؛ يُطرد من عمله، ويُطعن في كبريائه وكرامته ونزاهته، ويُطلب حتى من ابنه عدم التحدث إليه، وترفض المحلات التعامل معه، ويضربه الجزار بعنف ووحشية، وتُرمى الحجارة على نافذته، وتُقتل كلبته.. الخ.
وفي سياق الموقف «القطيعي» هذا، المنفلت من أية ضوابط منطقية وعقلية، يرفض الأهالي الحكم القاضي بعدم توجيه أي اتهام إلى لوكاس؛ نظراً إلى عدم وجود سندٍ قانوني من جهة، ولتناقض حديث الأطفال مع الوقائع، من جهة ثانية، إذ تحدثوا عن أن لوكاس كان يصطحبهم إلى قبو منزله، وأجمعوا على وصف موحد للقبو؛ «ورق الجدران، لون الأريكة.. الخ»، ليتبيّن بعدها أن لا وجود أصلا لهذا القبو المزعوم!.
هنا يجدر التوقف لنقول أن ثيو كان لاحظ أن «عيني لوكاس ترتعشان عندما يكذب»، وذلك عندما سأله في بداية الفيلم عن ابنه وزوجته السابقة، ويكتفى لوكاس بالقول: «كل شيء على ما يرام». ولكن ثيو لا يلجأ إلى خبرته هذه في اختبار صديقه ومعرفة صدقه من كذبه؟ ويستمر على موقفه حتى الدقائق الأخيرة من الفيلم، عندما يسمع ابنته تعتذر عما حصل، في وقت كانت تخلد فيه إلى النوم، وفي ظنّها أنها تخاطب لوكاس وليس والدها، خالطة مرة أخرى بينهما. وعندما يُنبهها والدها إلى وجوده، تخبره بأنّ «لوكاس لم يفعل أيّ شيء»، فيتأكد ثيو من براءة صديقه، ويقوم بزيارته في منزله آملاً أن يسامحه ويصفح عنه.
وقبل ذلك بقليل، كان لوكاس واجه ثيو في الكنيسة، (عشية عيد الميلاد، وبعد الصلاة ومناجاة الرب بأن يفتح لهم قلبه، ليتعلموا الندم على خطاياهم والإيمان بالمسيح.. )، على مرأى ومسمع من الجميع، صابّاً جام غضبه عليه، فشتمه وضربه وطالبه بأن ينظر ملياً في عينيه ليرى إن كان فيهما شيء مما يُتهم به؟
بعد مرور سنة على الحادثة، يتهيأ لنا أنّ الأمور قد عادت إلى طبيعتها، إذ يتم قبول ابن لوكاس في مجتمع الصيادين، وتعود روابط الصداقة التي تجمعه مع بعض أبناء البلدة، كما يعاود ممارسة الصيد من جديد مع رفاقه. ولكنه يتعرض فجأة إلى طلق ناري يوشك أن يصيبه ويقتله، في رسالة مؤداها أنّ هناك من يتربص به، وبأنّ «الوصمة الاجتماعية» ما زالت تلاحقه ولن تمّحي بسهولة، بل وقد يدفع حياته في أية لحظة ثمناً لها!
هذه باختصار قصة فيلم «الصيد» والقضية التي يطرحها. فماذا يريد صنّاعه من خلالها أن يقولوه لنا؟ لا ريب أنّ أولى العبر التي نستخلصها، هي أنّ الأطفال ليسوا دائما أبرياء وصادقين؟ قد يقول الأطفال الحقيقة في غالب الأحيان، ولكن ليس دائما! فعندما اتفق الأطفال جميعهم على قول الأشياء ذاتها، هل كان هذا من محض خيالهم؟ أم أنهم كانوا يتناقلون ما يتداوله الكبار في شأن لوكاس؟
في الماضي كان يقال بأن الطفل يمكن أن يسرق أو يكذب، إلا أنّ الطروحات المعاصرة، (في ضوء انتشار الحركات والجمعيات الحقوقية المدافعة عن حقوق الأطفال وغيرهم)، تطرّفت في دفاعها عن الطفولة وتنزيهها لها، وباتت تنظر إليها على أنها «نقاءٌ خالص»، وغدت حتى الكلمات والمصطلحات المستخدمة تنفي الصفات غير الحميدة عن الأطفال، فتشير، مثلاً، إلى كون «الأطفال يتخيلون ولا يكذبون»، وذلك منعا لصبغ الطفولة بأية صفات مذمومة أو شريرة.
وإلى ذلك، يريد صنّاع الفيلم أن يقولوا لنا أيضاً أنّ المجتمع منافق ومزيف، يمكنه أن يؤخذ بالأوهام والشائعات والأحكام المسبقة؟ ويمكن لمواقفه وقناعاته ومشاعره أن تنقلب وتتحول بلمح البصر إلى النقيض؛ من العطف والمحبة والثقة التي كان يحظى بها لوكاس، مثلاً، إلى الكراهية والحقد والعداء! وبأنّ وحدة الجماعة ضد فرد ما، بدعوى إزالة الشر، قد تفضي إلى شر أعظم وأشدّ ظلما ومرارة!!
................................................................................................
«الصيد»: إخراج توماس فينتربيرغ، وتأليف مشترك بين توبياس ليندهولم وفينتربيرغ. بطولة مادس ميكلسن وتوماس بو لارسن، والطفلة أنيكا ويديركوب.
أداء ميكلسن المميز في الفيلم كان وراء حصوله على جائزة أفضل ممثل في مهرجان كان السينمائي لعام 2012. ورشّح الفيلم لجائزة أفضل فيلم بلغة أجنبية في حفل الأوسكار الـ86. كما رُشّح لنفس الجائزة في دورة الغولدن غلوب لعام 2013.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق