محمد عبيدو
لا توجد مدينة أو حي آخر بالجزائر، يسهل تمييزه على شاشة السينما العالمية أو الجزائرية، بقدر حي القصبة، وهو الذي تحفل فضاءاته، ومعالمه بعشرات المئات من الأفلام، منذ دخول الفن السابع أرض الجزائر المستعمرة إلى اليوم .
شكلت قصبة الجزائر، منذ عشرينيات القرن الماضي، مادة دسمة للسينما الكلونيالية، إما بوصفها حيزا جغرافيا وطبوغرافيا شرقية بمنظور استشراقي، وإما سياقا زمكانيا لأحداث الفيلم.
في عام 1922 اتخذ المخرج "لوي ميركانتون" مدينة الجزائر وميناءها فضاء لفيلم “المرعب ساراتي” المقتبس عن رواية لـ “جان فينون”، وهو الفيلم الذي أعاد إخراجه، في 1937، مخرج فرنسي مولود بالجزائر هو “أندري هوغون”، لكنه صور معظم مشاهده في الاستديوهات الباريسية.
وفي 1934 زار المخرج الفرنسي "جوليان دو فيفيي" الجزائر العاصمة على رأس كوكبة من الممثلين المعروفين (جان غابان، هاري بور، إدويغ فويير)، ومعه إمكانيات ضخمة لتصوير فيلم "غولغوتا"، واتخذ من القصبة ديكورا لبيت المقدس لتصوير فيلم عن جزء من حياة المسيح. وأوحى حي القصبة لجوليان دو فيفيي بفيلم ستدور كل أحداثه داخل حي القصبة هو فيلم “بي. بي الموكو”.
معركة الجزائر يتناول الصراع من اجل السيطرة على القصبة
السينمائي الايطالي جيلو بونتيكورفو الذي أمضى حياته في تحقيق أفلام لا تخلو من البُعد "السياسي النضالي"، الذي غلّفه بجانب إنساني بحت. ذلك أن اختياره المواضيع يمزج، برهافة بصرية وحساسية فنية واضحتين، البؤس الفردي بالمناخات السياسية والاجتماعية التي أفضت إلى هذا البؤس. و سوف يظل خالدا في تاريخ السينما العالمية بفضل فيلمه "معركة الجزائر" الذي ظل عرضه محظورا في فرنسا قرابة الابعين عاما بسبب ما اثاره من جدل. عُرف "جيلو بونتيكورفو" كواحد من اكبر المخرجين الايطاليين لفترة ما بعد الحرب.
فكر جيلو بونتيكورفو الذي تأثر بحرب الجزائر ايما تأثر ، في ان يخرج فيلما مطولا عن الصراع ، لكن هذا الفيلم لم ير النور الا بعد مرور ثلاث سنوات على انتهاء الحرب عندما اقترح عليه ياسف سعدي احد القادة العسكريين في جبهة التحرير الوطني بالجزائر العاصمة ، فكرة انجاز فيلم عن معركة الجزائر استوحى احداثها من ذكرياته الخاصة عن المعارك.
معركة الجزائر" هذا الفيلم الذي صوره المخرج بممثلين غير محترفين (باستثناء "جون مارتين" ، في دور "ماثيو" على رأس المظليين الفرنسيين) يتناول مسألة الصراع من اجل السيطرة على حي القصبة العتيق في قلب الجزائر العاصمة ، العام 1957 ، ما بين المظليين الفرنسيين ورجال جبهة التحرير الوطني ، مع استعمال التعذيب من جهة ، والعمليات العسكرية العمياء من جهة اخرى. وليس في الفيلم قصة مخترعة أو مؤلفة من الخيال. وإنما يصوغ السيناريو - في أسلوب نصف تسجيلي - تلك الأحداث الحقيقية للثورة الجزائرية الشاملة على الاستعمار الفرنسي, الذي تمكن من البلاد قرابة مائة وثلاثين عاما (1830 - 1961) حتى تمكن الشعب - بقيادة جبهة التحرير الوطني - من طرده واقتلاع جذوره من أرض الوطن. وقد وضعت الدولة تحت إمرة المخرج مدينة الجزائر كلها - بأحيائها وشوارعها وميادينها - لكي تكون مسرحا لما يخرجه من أحداث يعيد بها بناء التاريخ القريب للثورة الجزائرية.. فجاء الفيلم قطعة فنية رائعة, ووثيقة تسجيلية من صلب الواقع… هذا الفيلم الذي مُنع في فرنسا في البداية عُرض في النهاية العام 1971 ،. لم يعد للظهور من جديد في فرنسا الا العام 2004 اي بعد مرور اربعين عاما على اخراجه.
ويعود المخرج مالك بن اسماعيل من جانبه من خلال فيلم وثائقي بعنوان "معركة الجزائر فيلم في التاريخ" حول فيلم المخرج الايطالي جيلو بونتيكورفو. و من قصبة الجزائر الى روما و من باريس الى الولايات المتحدة اعتمادا على عديد الشهادات و الوثائق الارشيفية يعود بنا الفيلم الجديد لمالك بن اسماعيل بعد 60 سنة الى ماضي ممتع حول فيلم جمع بين التاريخ و الاسطورة للمخرج الايطالي.
يتناول الفيلم الوثائقي "ثوار القصبة"، انتاج عام 2017، ظروف مقتل أربعة محاربين جزائريين داخل منزل بحي القصبة بالعاصمة الجزائر، إبّان الثورة التحريرية ضد المستعمر الفرنسي (1954-1962). ويرصد العمل الذي أخرجه مراد أوزناجي، (52 دقيقة) ظروف مقتل أربعة ثوار بعد تفجير الجيش الفرنسي لمنزلهم وهم: علي لابوانت (ولد في 14 مايو 1930)، محمود بوحاميدي، وعمر ياسف، المدعو عمر الصغير (ولد بالقصبة بالعاصمة الجزائر عام 1945)، وحسيبة بن بوعلي (ولدت في 18 جانفي بولاية الشلف غرب البلاد). وفجر الجيش الفرنسي منزل الفدائيين الأربعة في 8 أكتوبر عام 1957، بالمنزل رقم 5 شارع كانون بالقصبة. واستغرق إنجاز الفيلم سنتين ونصف السنة، جرى خلالها تسجيل 18 شهادة مع أفراد من عائلات الشهداء الضحايا، ومتخصصين ومؤرخين وإعلاميين. وانطلق تصوير الفيلم من الطفل عمر الصغير، لإبراز العلاقة بين الطفل والثورة، لكن صعوبات واجهت المخرج في تسجيل الشهادات المتعلقة به اضطرته لتحويل الموضوع من الحديث عن شهيد إلى الحديث عن الشهداء الأربعة. ويسلط المخرج كاميراته على كل واحد من الأبطال الأربعة بداية من بوحاميدي الذي احتضن منزله الأبطال الأربعة لمدة ستة أشهر دون أن يصل إليهم الفرنسيون، وحسيبة بن بوعلي رمز لنضال المرأة الجزائرية، وعلي لابوانت، الشاب الذي قاوم الاستعمار بشدّة، حيث رفض تسليم نفسه للمستعمر، وكذلك عمر الصغير (عمره 13 سنة وقتها) صاحب الدور الكبير في نقل المعلومات إلى الثوار.
وحضرت احياء القصبة بفيلم المخرج الجزائرى موسى حداد، «أبناء نوفمبر»، والذى يحكى عن العمليات البطولية التى قام بها المجاهدون الجزائريون، والتى أثمرت عن ثورة التحرير الوطنى الجزائرى التى اندلعت فى الفاتح نوفمبر 1954 ، وحاولت حكومة "منداز فرانس" سجن كثير من أبطالها فى محاولة فاشلة لإحباطها. ولعل ما يُميز هذا الفيلم عن غيره من الأفلام التى وثقت للثورة الجزائرية، أن بطله المجاهد الذى وقف صلبًا أمام جنود الاحتلال كان طفلًا لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره إلا أنه ضرب مثلا يحتذى به فى التضحية للدفاع عن بلاده، ومحاولة تطهيرها من عُهر الاحتلال، وهو عن قصة حقيقية للمجاهد «مراد بن صافى»، والذى كان واحدًا من فتيان الجزائر الذين انضموا لصفوف المقاومة وهم فى سن صغيرة، وجسد دوره الفنان الراحل "عبدالقادر حمدي".
تدور أحداث الفيلم منذ البداية حول الفتى الصغير "مراد" الذى يعانى من مرض بالصدر، إلا أنه ورغم مرضه يعمل بائعًا للجرائد فى شوارع وطرقات القصبة العتيقة بالجزائر العاصمة، ليعيل والده المريض وأمه المتقدمة بالعمر، فتى مغمور كتب له أن يُسطر اسمه بين العظماء بحروف من ذهب، وأن يُصبح حديث العاصمة فى طرفة عين، بسبب حصوله على أوراق مهمة تخص المجاهدين، ومطلوبة لدى البوليس السرى الفرنسي. فيتحول مراد من مجرد طفل صغير يبيع الجرائد، لمجرم مطلوب لدى البوليس السري، ولفدائى وبطل كبير لدى أبناء الجزائر، فبينما يطوف مراد شوارع العاصمة بحثًا عما يعيل به أسرته جراء بيعه للجرائد، يُكسر نعل حذائه البالى فيذهب إلى «عم العربي» الإسكافى لإصلاحه، وبينما يجلس مع العربى يدور بينهما حديث مقتضب عن أسرة «مراد» ومرض والده ومن ثم يتطرق الحوار للسياسة فيقول له مراد: «هذه الجرائد لا تخصنا، ولا تخض أحوالنا وأحوال بلادنا، وإنما هى للفرنسيين يكتبونها لأنفسهم، ويكتبون بها ما يحلو لهم "ماهياش مخدومة لينا"، وكأن الطفل الصغير كان يعلم أنه على موعد مع القدر ليكون واحدًا من أبطال المقاومة. يشكر "مراد" عمه "العربي" لإصلاح حذائه.
قبل أن ينطلق ليواصل سعيه فى شوارع القصبة العتيقة يقول له "العربي": "مراد يا وليدى كون راجل"، وفى هذه الأثناء وبينما يجتمع رجال المقاومة ليتحدثوا عن الأوراق التى بحوزة زميلهم المجاهد "العربي" وما لها من أهمية، والتى سيسلمها إلى "الطباخ"، ومن ثم سيذهب له أحد رجال المقاومة ليستلمها منه؛ يغلق العربى محله من الداخل ويستخرج الأوراق المهمة ويخفيها بين طيات ملابسه، ويختبر سلاحه قبل أن يخرج من المحل متجهًا إلى "الطباخ"، إلا أن أحد الخونة والذى يُدعى "مروان" ويعمل بأحد الحانات كان قد وردت إليه معلومات بخصوص الأوراق المهمة وقام بإبلاغ البوليس السرى الذى داهم "العربي" لحظة خروجه من محله، ولتبدأ المطاردة المسلحة فى شوارع وطرقات القصبة العتيقة، فيصاب العربى بطلقة نارية فى قدمه. يسمع "مراد" صوت الرصاص فيتوقف وهو فى حالة خوف، إلا أن فضوله يدفعه ليعرف من المُطارد، وفجأة يكتشف أنه "العربي"، فيقترب منه وهو يصيح بصوت خافت "عمى العربي"، ويساعده على الحركة تحت أمطار الرصاص الفرنسي، وبعدما يتأكد "العربي" أنه غير قادر على الحركة تمامًا يستخرج الأوراق ويوصى "مراد" أن يصل بها إلى "الطباخ" ويسلمها له يدًا بيد، ثم يُسلم نفسه للبوليس السرى الفرنسى بعد أن آمن هروب المجاهد الصغير الذى تحول فى لحظة من مجرد طفل إلى بطل فى صفوف المقاومة.
يفتح الفيلم الوثائقي الطويل (71 دقيقةً)،قصبة الجزائر: "البهجة" 2004 للمخرج الجزائري المقيم في فرنسا (نصر الدين بن عالية). نافذةً عريضة ومتنوّعة على هذا الحي العريق المصنف ضمن التراث العالمي، وذلك من خلال أعين عشاقه ومحبيه والعارفين بقيمته المعمارية والحضارية.
ويعرض الكثير من المواقع والأزقة والثكنات، التي ترمز إلى الطابع المعماري المتميّز للقصبة، كما يتطرق إلى التاريخ العريق للقصبة، وكل المراحل التاريخية التي عرفتها، وكذا وضعيتها إبّان الاحتلال ومقاومة سكانها، وذلك من خلال شهادات مختصين بالتراث والتاريخ، وأعضاء جمعيات ومؤسسات حماية القصبة وأصدقائها، وأيضاً شهادات بعض سكانها الأصلاء الذين ما زالوا يقيمون فيها.
ويُسلّط المخرج الأضواء على الوضعية المأساوية التي آل إليها هذا المعْلَم، وكل الأخطار التي تحدق به، وذلك من خلال تقديم صور عن الأضرار الكبيرة التي لحقت بالمساكن، التي انهار الكثير منها جراء الإهمال، وسوء التسيير، وانعكاسات العوامل المناخية والزمنية.
فيلم "قوسطو" لصافيناز بوصبيعة، إنتاج خاص، بتمويل ايرلندي ـ فرنسي، ويتحدث عن مسار أغنية الشعبي في حي القصبة، منذ نشأتها إلى بداية الثورة ثم بعد الاستقلال، ويتطرق على مدار ساعة و28 دقيقة إلى التلاقي بعد طول غياب دام حوالي خمسين عاما- بين موسيقيين من الجزائرالعاصمة يهود ومسلمين كانوا فيما مضى تلاميذ لعميد الأغنية الشعبية الشيخ امحمد العنقى. وكان لقاء هؤلاء الفنانين في 2006 قد أعطى فيلم “الغوسطو” الذي يعد جوقا من 42 موسيقيا تم جمعهم على خشبة المسرح الوطني الجزائري بالجزائر العاصمة من أجل معايشة أجواء موسيقى الشعبي التي ظهرت بقصبة الجزائر في أواسط العشرينيات من القرن الماضي حيث انطلقت المخرجة من تصوير أول مجموعة موسيقية أسسها المرحوم الحاج محمد العنقى في القصبة، التي تضم إلى جانب الجزائريين يهودا.
وتتطرق فيه صافيناز إلى مسار حياة أعضاء هذه الفرقة وبعض جوانب تاريخ الجزائر بداية من انطلاق أول شرارة لحرب التحرير، وتأثيرها على فناني أغنية شعبي ومجموعة العنقى التي انفصلت عن بعضها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق