محمد عبيدو
جريدة السفير | التاريخ: 1998-08-08 | رقم العدد:8066
لا شك ان السينمائيين السوريين المسكونين بالهم الوطني والهاجس الابداعي التجديدي هم من القلة العربية التي استطاعت ان تجد لها مكانا جيدا في المخيلة السينمائية العالمية في السنوات، سواء بالجوائز التي حصلت في المهرجانات السينمائية العالمية او بدرجة الاهتمام والاحتفاء النقدي والجماهيري الذي حظيت به.. وان كانت فترة السبعينيات قد قدمت لنا أفلاما لمخرجين معروفين مثل نبيل المالح ومروان حداد ومحمد شاهين. وفترة الثمانينيات قدمت محمد ملص وسمير ذكرى وأسامة محمد وعبد اللطيف عبد الحميد. ها هي فترة التسعينيات تقدم مجموعة من المخرجين الشبان بإضافات سينمائية لافتة. فقدم ريمون بطرس (الطحالب 1991) و(الترحال 1997)، وماهر كدو (صهيل الجهات 1993) وغسان شميط (شيء ما يحترق 1993) ورياض شيا (اللجاة 1995). إذن فان فترة التسعينيات قدمت لنا أربعة من المخرجين الجدد مع أفلامهم الأولى.. والفيلم الأول في حياة أي مخرج سينمائي هو الرئة التي يتنفس من خلالها إبداعه وأفكاره ورؤيته. وهو اللقاء الأول بينه وبين الجمهور، وهو التعبير الخاص والرؤية الإبداعية الشخصية المتميزة للمخرج.. ومن هنا أهمية قراءة هذه الأفلام. »الطحالب« فيلم »الطحالب« للمخرج ريمون بطرس يتمتع بقوة شاعرية وشجاعة في طرح موضوعات الساعة في إطار متحرر من قواعد السينما التجارية.. في حماه مسقط رأس المخرج وعلى ضفاف نهر العاصي وأنين النواعير حاول ريمون بطرس اعادة تفاصيل خاصة من ذاكرة المكان والبيئة، حيث المدينة مكسورة الأحلام والنهر الشاهد الدائم على الأحداث والنواعير التي تحول صوتها الى نغمة موسيقية تصب في الاجواء النفسية للشخصيات وتشكل معها موسيقى للروح البشرية المتألمة.. احداث الفيلم تسير عبر خط رئيسي يوحد مجموعة احداث تقدم بانوراما لحياة ومجتمع مدينة حماه.. يتمثل هذا الخط بسيرة (أبو أسعد) أيمن زيدان، الكاتب في محكمة الجنايات الذي يكون شاهدا على انكسار الاحلام وقسوة الواقع الذي يعيشه.. وشاهدا على احداث المحكمة، وشاهدا على تفكك الأسرة وهيمنة الجشع والاستهلاك والذي يتبدى في صراع إخوته حول قطعة الأرض التي ورثوها عن أبيهم. والجشع وخراب النفس البشرية الذي سيطر عليهم والذي أدى الى تطور الصراع بينهم لدرجة قتلهم لبعضهم. وأبو أسعد يعيش قصة حب مستحيل مع (عزيزة) كارمن لبس، التي زُوجت دون إرادتها لشخص لا تحبه وهرب ملاحَقا من الشرطة لجرائم ارتكبها.. أبو أسعد ككل الطيبين في هذا الزمن الطحلبي إنسان منكسر مسحوق بداخله.. يموت بأسى ولوعة، ولكننا نسمع في لحظات الفيلم الاخيرة دقات قلبه نابضة تسير مع مجرى النهر وتمتزج مع أنين النواعير مؤلفة سمفونية للقهر والعذاب ومشكلة الصوت الأخير للفيلم. »الترحال« ها هو العاصي الشاهد الأساسي مرة اخرى في فيلم ريمون بطرس الثاني (الترحال) الذي يعالج قصة (أبي فهد) الذي سافر من بلدته حماه الى صفد بقصد العمل الا انه انضم الى المجاهدين إبان احداث عام 1948، ليعود ويتفاجأ بأن شقيق زوجته قد زوج ابنته غصبا عنها، ويصطدم مع السلطة ومن ثم يتوارى عن الأنظار ويهرب الى لبنان، وتتصاعد أحداث العمل على خلفية الاحداث السياسية التي كانت تعصف بالمنطقة في تلك المرحلة. »صهيل الجهات« منذ اللقطة الاولى لفيلم (صهيل الجهات) نلاحظ عناية المخرج ماهر كدو ومدير تصويره جورج لطفي الخوري بالصورة السينمائية وبالكادر وزاوية التصوير والكاميرا التي تتحرك ببراعة.. واحتفاله الخاص بالمكان وشخوصه عبر لوحة فسيفسائية رسمت ملامح للطبيعة والبشر بأماكن عديدة من أقصى الشمال السوري الى أقصى غربه عبر حركة فتاة تبحث عن لصوص قتلوا والديها وسرقوا جيادهم واغتصبوها.. وتتعرض لمكابدات قاسية في رحلة طويلة تتعرف خلالها على شاب وتنشأ بينهما قصة حب ويرتبط مصيرهما معا في البحث عن حياة اكثر طمأنينة. وفي حركتها المحمومة بحثا عن اللصوص الذين يفقدون ملامحهم الخاصة ليرتفعوا الى التعميم الرمزي فيتماهوا مع من سرق الوطن والحلم تلتقي ببيئات مختلفة وبأناس عديدين.. تمر بمقبرة كبيرة حجمها باتساع المدينة احتاجت الكاميرا لدقائق عدة كي تلم بمساحاتها الشاسعة ثم تلتقي العشيرة البدوية وطقوسها، وشيخها الذي يبسط عليها حمايته ويتعامل معها بكل مشاعر الأبوة، لكنها تهرب من السكينة وقلبها يئن بصرخة الثأر، وكلما مرت بمكان ترى ان اللصوص قد رحلوا تاركين أثرا لهم.. حتى تصل الساحل حيث البحر الذي يبتلع كل شيء بين أمواجه وتبقى على أسئلتها عن اللصوص القتلة الذين غابوا مع الغبار.. وقبل ان ينتهي الفيلم تطل الفتاة المجروحة الباحثة عن ثأرها من فوق الجبل على العاصمة الكبيرة لتضيع صرخاتها مع صمت حجارتها الصماء.. »شيء ما يحترق« يأخذ فيلم »شيء ما يحترق) للمخرج غسان شميط شريحة اجتماعية خاصة جدا، لها تناقضاتها ومشاكلها، وهم نازحون تركوا ديارهم وأحلامهم هناك خلف الشريط حيث تقبع ذكرياتهم التي يتمسكون بها ويحنون إليها كل يوم، فالجولان هو صلب العمل. يأخذ الفيلم شريحة او مجموعة من أهل الجولان الذين شردوا عن ديارهم عام 1967 في ظروف قاسية واستقروا في مناطق ريف دمشق ثم يعود اليهم بعد 20 سنة. عندما شب طفلهم وأصبح الجولان صورة تعلق على الحائط، يعود إليهم ليرصد حياتهم من خلال الأمس لا متطلع الى المستقبل ماذا يجد.. لقد دب الشيب في الرؤوس ومضى العمر الى غير رجعة، وشب الطفل وانحرف عن الطريق.. وقسم كبير منهم يعيش واقعين: واقع الحياة اليومية التي يجب ان تعاش شئنا أم أبينا والواقع الذي يحلم بالعودة.. انه يتأمل بلدته التي تبعد عنه مسافة مئات الأمتار ولا يستطيع الوصول الى بيته الماثل أمام عينيه سوى بلحظات الحلم والتأمل.. فيقرر بناء بيت الحلم الذي يقع ثانية في مكان غير مناسب، ليضيع مرة ثانية الحلم الذي بني في غير وقته، وبمكان غير مناسب.. فيبقى هذا البطل يعيش على أمل يعتقد انه سيتحقق يوما ما. »اللجاة« تدور أحداث فيلم (اللجاة) للمخرج رياض شيا في مكان قاس موحش، وتبدو القسوة ليس فقط في الطبيعة، ولكن في تلك التقاليد والعادات والهواجس والتمائم والأدعية الغامضة التي تحاول فتاة في هذه القرية المنعزلة ان تحطمها فتجد نفسها وقد أصبحت ضحية لها.. اللجاة.. الأرض البازلتية القاحلة.. مكان تراجيدي ينطق برغبات وأشواق حيث الصراع القاسي الذي يصل ذروته بين ما تراكم عبر السنين من أنماط حياة وتشكيلة قيم ومشاعر مكرسة، وبين إرهاصات الجديد الاكثر توقا للانعتاق والذي شكل حالات تناقض وتناغم في آن معا مع ما روكم عبر السنين ويتمظهر هذا الصراع في شخصيتين رئيسيتين من شخصيات الفيلم، صياح الذيب وابنة أخيه المتوفى سلمى حيث تنمو علاقتهما ببعضهما وبالمحيط البشري والمكاني وتأخذ منحى تراجيديا متأتيا من حتمية تغلب التناقض في قيمهما وشخصيتهما على صلة القربى، بل والتعاطف الخفي أحيانا بينهما، هذا التناقض يؤدي حتما الى محاولة نفي الآخر.. ولكن النفي الذي يقوم به صياح لا يقود في النتيجة الى تكريس استمرارية الصراع الذي يأخذ طابعا سرمديا فالمحاولة التي تقوم بها سلمى بمساعدة حبيبها عبد الكريم للتخلص من سلطة الأب/ الرجل تكتسب أهميتها عبر تجسدها في مشاعر وأحاسيس شديدة البساطة والبداهة (الحرية الحب التوق الى حياة اكثر انسانية.. الخ).. وينطلق الخبر المفجع ليمزق صباح القرية ويكسر رتابة النفوس والأبواب التي تفتح وتغلق على الصمت، فيما سلمى تنطلق مع حلمها في كسر جدران الزمن نحو الدنيا الواسعة متجاهلة وقع الفضيحة التي يثيرها حب محرم وخوف المعلم العاشق الذي يطمئنه (حليم) الهارب والمتوحد كذئب في البراري بأمان مفقود لدى الشيخ (أبو نايف). وينتقل العاشقان، لكن تبقى ملاحقة لهم تلك الوحشة والعزلة والقهر، حيث الشرطة ويجرونها من بيت الشيخ أبو نايف متجاهلين كرامته وأعرافا قديمة للمجتمع بحماية الضيف.. لتنتهي الى مصيرها.. وينهي المخرج فيلمه كما بدأه بمأتم وجنازة.. محمد عبيدو (دمشق)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق